info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة الخامسة عشرة "

 

 

قلَّ في الأُدباء من استطاع، كالدكتور داهش، أن يطرق شتى الأنواع الأدبيَّة، وأن يبرع فيهـا كافّةً. طرقَ الرواية والقصة والأسطورة والمُقطَّعة الأدبيَّة وأدبَ الرحلة وأدبَ الخاطرة والقصيدة المنظومة والمُرسلة والسيرة الذاتية . . . فلم يسفَّ له في أيٍّ منها جناح حتى ليكاد يكون في الأدباء ، ولا غلوَّ، نسيجَ وحدِه !

 

رجـلٌ فذٌّ، قويٌ بالـروح، اتَّصف منـذ نعومة أظفاره، بمواهبٍ فائقة وظـاهـرات خارقة شغـل بـهـا المجتمع العربي ردحاً طويلا من الزمن . إضطهدته الدولة اللبنانية في عهد غاشم اتَّسم بالمظالم وتقييد الحريَّات ١٩٤٣ - ١٩٥٢)، وذلك بسبب آرائه الإصلاحية السامية التي نادى بها في دعوته الإنسانية الروحية؛ فسخَّرت ضدَّه جميع أجهزتها ووسائل الإعلام فيها، واغتصبت منـه جنسيتـه اللبنانيَّة، وشرَّدته خارج البلاد. لكنه لم يصمت، بل حاربها بقلمه البتَّار، وانتصر عليها، واستردَّ ما اغتُصب منه ولا أحسب أنَّ في الدنيا من يستطيع أن يقاوم وحده دولة عاتية، ويصمد في وجهها . . . ثم يكون الفوز في النهاية حليفه .

 

عايشته سنين طويلة، ورافقته في رحلات متعدِّدة إلى بلدان مختلفة في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا، ومنها هذه الرحلة ذات السَّفرات الثلاث : سفرتين إلى اليونان، وسفرة إلى مصر، وذلك في خلال عامي 1979 و 1980. وإنه ليغمرني شعـور غبطة واعتزازٍ لا يوصف كلَّما استعدتُ أويقاتي في رفقته . وجملة القول، في خبرتي معه، إنَّه رجلٌ من غير طينة الرجال !

 

أول ما يحضـرني، وأنـا أستعيد ذكرياتي في رفقته، عشقـه الفنّ الأصيل . فهو ينقّب في شغفٍ عن المصنوعات الفنيّة، سواء منها اللوحات والتماثيل والتاپيسري . . . فلا يعروه ملال، ولا يقعده مرض أو وهن عن طلبها في مواطنها. كم متاجرَ فنية وصالات عرض ولجناها، فكنت تراه يُكِبُّ على اللوحة، ينظر إليها نظرة فنَّان أصيل، يتملأها بعينيه فيدنو منها ويبتعد، ثم يتفحّصها بيديه راسخ اليقين بما هو في اللوحات فنّي ، وما هو غير فنّي . إنك، إذ تصحبه، تنتقل من عالم الأرض، عالم الكـذب والخداع، إلى عالمه الفتَّان، عالم الحقيقة الخالصة . ومنه تتعلّم كيف تنزل القيم منازلها، وتقدّر الأشياء حقّ قدرها . ومما يحضرني أيضاً، وأنا أستذكر رحلاتي في رفقته، افتتانه بجمال الطبيعة : الجبال فيها والسهول، والبحيرات والأنهار، والأطيار والأزهار. أذكر أنَّنا، في هذه الرحلة، كنّا في طريقنا من أثينا إلى معبد دلف الشهير، فإذا به يشاهد مرجاً فسيحاً تغطيه شقائق النعمان الحمراء، فيقول لنا بعجبٍ وحماسة : «قفوا انظروا هذا المرج الحافل بشقائق النعمان! الله ما أجمله!» فما كان منَّا إلا أن توقَّفنا وترجَّلنا . . . وجعل الدكتور داهش يتمشّى في ذلك المرج الأرجواني والسرور بادٍ على مُحياه كأنَّه اكتشف كنزاً مفقوداً! وقد التقطت له بضع صور فوتوغرافية تذكارية . ثم ما لبث أن جلسَ على صخرة صغيرة، وكتب قطعة أدبية تدور على جمال المشهد، وأثره في نفسه.

وأذكر أننا مررنا في أحد الأيام، في أثناء رحلتنا في اليونان، بجبالٍ عظيمة شاهقة، فالتفت الدكتور داهش إليَّ، وقال لي : «انظر هذا الجبل الأشم . ما أروعه!» ونظرت، فإذا به جبل البرناس الشهير في الميثولوجيا اليونانية وقد غطَّت سفوحه الغابات الخضراء. والحقُّ إن منظره كان مهيباً رائعاً.

 

 

ولا تقتصر الرحلة الداهشية على المتعة الفنيّة أو السياحيّة فحسب، بل تتعدَّاها إلى الفوائد التاريخيّة والاجتماعيّة. ... من ذلك، مثلا، أنه عند بلوغنـا مدينة كورنثوس التاريخيَّة، جوَّلتُ أنا والمؤلّف بين الأطلال فيها، وإذا به يستوقفني ويقول لي : «في هذه الساحة الفسيحة بشَّر بولس الرسول بالدين المسيحيّ . » ولم يُخفِ إعجابه بذكاء بولس وسرعة خاطره في جوابه عن سؤال الأثينيين : «عمن تُحدثنا؟» فقد التفت إلى مذبح نقش عليه «إلى الإله المجهول»، وقال لهم : «هذا الإله الذي تعبدونه، وأنتم تجهلونه، هو الذي أبشركم به . إنَّه الله خالق العالم وما فيه . . وهو لا يسكن في هياكل شادتها أيدي بشر. » ثم انتحى الدكتور داهش جانباً، وكتب قطعة أدبية .

ومن ذلك، أيضاً، ما كشفه لنا، في هذه الرحلة، من أسرار معبد دلف، ولاسيمـا ما يتعلق منهـا بأساليب التـدجيل وطـرق الاحتيال التي اعتمدها الكهنة في العصور القديمة. وأرى أن أحيل القارئ على ما دونه المؤلف بهذا الصـدد في الكتاب، لأن فيه فائدة وعبرة، وبخاصة لدى مقارنته بأساليبهم في أيامنا هذه .

وإن أنسَ لا أنسَ شغف الدكتور داهش، في خلال رحلاته، بمطالعة الكتب الأدبية والفنية والتاريخية، ومطالعة الصحف والمجلات العربيَّة .

فكأنه يخشی أن تذهب هدراً من عمره دقيقة واحدة . ومما أُثِرَ عنه أنه قليل النوم . وعندما يستيقظ، سرعان ما يعمد إلى مطالعة كتاب أو صحيفة، أو تأليف قطعة أدبيَّة، أو تدوين وقائع اليوم الفائت من أيام رحلته . وهو، في تدوينه، دقيق الوصف، مشوق الأسلوب، سَلِسَه .

 

وقد يستوقفه، في رحلته، ما يدعوه إلى إطلاق أحكام قاسية ـ لكنّها عادلـة ـ على التردّي الأخلاقي الذي آلت إليه البشرية، والذي يهدِّدها بأفجع مصير.

 

ولا يُؤخذنَّ على الغلوُّ في القول إن الدكتور داهش هو رجل الحقيقة الروحيَّة المنشـودة في دنيانا. يعمـر صدره الإيمان بالله، وينمُّ أدبه عن روحانيّة مُثلى ما أشدَّ حاجة هذا العالم المُغرِق في الماديَّة إليها. فلولاه لما عرفت الحقيقة الروحيَّة. ولولاه لما تسنَّى لي تمييز الصواب من الخطأ في كثير من الأمور. ويقيني الراسخ، من خلال معايشتي إيَّاه واطلاعي على آرائه ومراميه، أنَّ لحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله أبعاداً روحيَّة . ذلك أنه يدرك ما بين الأشياء والماجريات من وشائج خفيَّة يعصى على الآخرين إدراكها . ولا سبيل إلى فهم ذلك كلّه إلا بالاستناد إلى رأيه في السيَّالات الروحيَّة، نسيج الكون وجوهره، وتفسيره للعدالة الإلهية والتقمص والاستحقاق ...

 

على أنَّني أؤثرُ ـ وأنا في معرض التقديم لكتاب له ـ ألاَّ أخوض في فلسفتـه، وتأثيرها في نفسي وحياتي ؛ فإنَّ لي معها شأناً شأناً آخر. حسبي اعتزازاً أني رافقتُه في كثيرٍ من رحلاته، ونعمتُ معه بأويقاتٍ لا أجدى ولا أمتَع . وقد حان الوقت لأن أدع القـارئ يرافقه في رحلته، ويستمتع بها كما استمتعتُ، ويستفيد منها كما استفدت .

 

نقولا ضاهر

نيويورك، 6 آب 1991

 

۷ حزیران ۱۹۷۹

 

نهضت من فراشي في الساعة الثالثة إلا ربعاً فجراً، ودخلت إلى غرفة مكتبي ، وابتدأت بتدوين ما لم أدوِّنه أمس . ثم باشرت قراءة ما لم أطالعه من مجلاَّت أمس وما قبله، فطالعتُ منها تسعاً. الساعة السادسة، وصلت صحف الصباح، فقرأتها، كما طالعتُ ، مجلات اليوم .

 

مخابرة من أمريكا

 

في الساعة السادسة والنصف قرع جرس الهاتف، وكانت المتحدثة (هـ) من أمريكا، فأعلمتني أن والدتها وشقيقتها عادتا من واشنطن، وأنّ السيدة هديَّة وصلت الآن إلى منزلهم . وقد تحدَّثت مع فوته وكريمتها الكبرى . واستغرقت المخابرة ٢٥ دقيقة .

 

الاستعداد للسفر

 

في الساعة الثامنة وصل رياض مع نقولا ضاهر، فتناولنا الفطور. في الساعة التاسعة توجَّه إيليا إلى المطبعة، كما ذهب نقولا ليصرف عملة لبنانية بدراخما يونانية . وبعد ساعتين ونصف، رجع نقولا، وكنتُ قد رتَّبت حقيبتي تمهيداً للسفر.

 

في الساعة الحادية عشرة والربع وصل طوني شعشع وخليل زعتر، وقد أحضر خليل معه توتاً زحليِّا أبيض .

 

إلى مطار بيروت

 

في تمام الساعة الواحدة والنصف غادرت منزل الرسالة في بيروت، بعـدمـا ودَّعت الإخـوة والأخـوات : غازي براكس ، ماجد مهدي ، طوني شعشع، خليل زعتر، يمامة الرسالة زينا حداد، إلين ضاهر، سميرة ضاهر، كلير زوجة الاخ فريد فرنسيس .

صعدت إلى سيارة الأخ نقولا ضاهر، وجلست على المقعد الورائي ترافقني نجوى سلام . وجلس رياض إلى جانب نقولا كما صعد إيليا حجار بسيارة ماجد مهدي يرافقه الأخ شكري شكور.

وقبل مغادرتي المنزل، كانت بزيارتي توفيقة حمدان وابنها حسن ومنى قبيسي . وقد ودَّعوني في الساعة الواحدة قبل مغادرتي المنزل، وكذلك ليلى خوري وقرينها جوزف ودَّعاني في الواحدة.

توجَّهت بنا السيارة نحو المطار، وكان الازدحام هائلا، فوصلنا إليه بعد٢٢ دقيقة، أي في الساعة الثانية إلا 8 دقائق .

غادرنا السيارة، وأخذ نقولا لي بضع صور بآلة الپولاروييد، وصُورُها تظهر فور التقاطها .

 

إلى الطائرة

 

أنـجـزنـا معـاملات الأمن العام، وصعدنا إلى الأوتوبيس الساعة في