info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "الخوارق الداهشيَّة في عشرين عاماً " الجزء  الأول "

 

 

تمهید

في الأول من حزيران عام ١٩٠٩، شـهدت مدينة القـدس ولادة طفل أطلق عليه اسـم «سـليم». لم يكن في ولادته أمر غير عادي، لا في نظر أسرته المتواضعة، ولا عنـد الذين سمعوا بها. أما في عين السماء المهيمنة المراقبة، فقد كانت حدثا جللاً؛ إذ لم يكـن يخفى عليها أن رسالة إلهية ستقوم على كاهل ذلك الطفل، ولذلك فقـد أيدتـه بالمعجـزات في معظـم مراحل طفولته، بـل منذ كان جنينـا، الأمر الذي استرعى انتباه أسـرته ومعارفه، وأثار عجبهم، من غير أن يفقهوا سـرّ ذلك وأسباب حدوثه.

ولما كان الطفل في عامه الثاني انتقلت أسرته إلى لبنان حيث اكتسبت، عام ۱۹۲۱، الجنسية اللبنانية أسـوة بجميع سكان لبنان الذين كانوا يعتبرون حتى ذلك الحيـن مـن الرعايا العثمانيين. وكبر الطفل، وشـب عن الطـوق، وتنقل ما بين لبنان فلسطين، ترافقه المعجزات، ولا تفارقه، في حله وترحاله إلى أن بات سليم موسى العشي معروفا باسم الدكتور داهش. ثم اتجه إلى مصر، فأقام فيها عدة أشهر جرت فيهـا أخبار خوارقه على كل شـفة ولسان، وعلى صفحات الصحف والمجلات المصرية حتى أصبح موضع إعجاب عدد كبير من أمراء الأسرة الحاكمة وأميراتها، ومحط اهتمامهم. ومن الذين اعتنقوا رسالته في فلسطين، آنذاك، الشاعر الفلسطيني مطلق عبد الخالق، صاحب ديوان «الرحيل»، والوجيه السيد توفيق العسراوي. وفي خلال تلك المرحلة، أصدر كتابه الشهير «ضجعة الموت أو بيـن أحضان الأبدية»(١٩٣٦) في حلة فنية جميلة.

وفي ٢٣ آذار ١٩٤٢، أعلن في لبنان الرسالة التي انتدبته السـماء لنشرها، فعرفت باسـم «الرسالة الداهشية». وكان في عـداد المؤمنين بها الأديب يوسـف الحاج، والشـاعر حليم دموس، والأديبة الفنانة ماري حداد، وقرينها السيد جورج حداد، وسائر أفراد أسرتهما، فضلا عن عن صهرهما السيد جوزف حجار. كما كان في عدادهـم الطبيـب البارع الدكتور جورج خبصا، والدكتور فريد أبو سليمان، مؤلف هذا الكتاب. ولقد لمسوا جميعا القوة الروحية الجبارة التي زود بها الدكتور داهش، وتيقنوا من صحة المعجزات التي تجري على يديه إثباتا لوجود الله، وخلود الروح، وحقيقة العالم الثاني، وسواها من الحقائق الروحية؛ تيقنوا منها بطريقة ملموسة محسوسة لا تقبل الشك.

وبعيـد إيمان الشاعر العملاق حليم دموس بالرسالة، كلـف روحيا بتدوين الوقائع الداهشية، وأطلق عليه لقب «مؤرخ الرسالة الداهشية». وتشمل الوقائع، في ما تشمل، المعجزات التي كان يجترحها الدكتور داهـش أمام زائريه، والتعاليم والشـروح الروحية التي كانـت تنزلهـا الأرواح العلوية في الجلسات الروحية أو خارجهـا، وتفاصيل الأحداث التي تمر بها الرسالة ومؤسسها والمؤمنون بها في خلال مسيرتها.

ولقـد دأب الشـاعر على التدوين حتى في مرحلـة الاضطهاد الذي تعرض له الدكتـور داهش والداهشيون على يد بشـاره الخـوري، رئيس الجمهورية اللبنانية (١٩٤٣-١٩٥٢)، بمؤازرة رجال الدين الكاثوليك وأجهزة السلطة الأمنية وعصابة مـن القتلة ينتمون إلى أحـد الأحزاب اللبنانية؛ الأمر الذي أدى إلى تجريد الدكتور داهش من جنسيته اللبنانية وسجنه ونفيه إلى الحدود السورية التركية من دون أية مسوغات قانونية محقة، ومن دون إخضاعه لمحاكمة عادلة يتاح له فيها الدفاع عن نفسـه. كمـا أدى إلى سجن معظم الداهشيين، وفيهم مؤلف هذا الكتـاب والأديبة ماري حداد، شقيقة زوجة بشاره الخوري, وأدّى، أيضا، إلى اندلاع الحرب القلمية الطاحنة الطويلة الأمد التي أشعلها الدكتور داهش في وجه مضطهديه من مقر إقامته القسري بعد عودته سرا من منفاه، وذلك انتقاما منهم، ودفاعا عن حقوقه المغتصبة، ودفعا للتهم الكاذبة التي الصقوها به وبقضيته العادلة.

وبالرغم من ذلك الاضطهاد الشـرس، لم يتوقف الشـاعر الداهشي عن عمله التأريخي للوقائع الداهشية إلا حين وافته المنية في السابع والعشرين من أيلول ١٩٥٧، فانطلق إلى ديار الخلد التي طالما صدحت أشعاره بالحنين إليها. حينذاك، فقط، سـقط القلم من يمينـه، وتوقف عن العطاء حزنًا وأسى على رحيل من خلّف للأجيال المقبلـة والعوالم الأخرى إرثـا روحيا خالدا لا يفنى وإن فنيت الحياة في دنيانا.

وفي أوائل عام ١٩٦٠، كُلف الدكتور فريد أبو سليمان بمتابعة ما باشره رفيق جهـاده، الشـاعر حليم دمـوس، فجعل يؤرخ تلـك الوقائع بقدر ما تسمح له تبعاته الداهشية الأخرى الكثيرة وممارسته لمهنة الطب. يومذاك، كان كابوس الاضطهاد قـد زال بعد أن ثار الشعب اللبناني ثورته الكاسحة على الرئيس الخوري، وأنهى عهده الذي استشرى فيه الفساد والجريمة، وذلك في ١٨ أيلول ١٩٥٢. وقد أعيدت إلى الدكتور داهش، في أوائل عام ١٩٥٣، جميع حقوقه المسلوبة. بيد أن إطلالته الأولى على الصحافة كانت في الأرجح عام ١٩٥٨، إذ تابع مسيرته الروحية التي سعى المتآمرون جاهدين لإيقافها حتى أصبحت ظاهراته الروحية وتعاليمه حديث الخاصة والعامة في لبنان.

بعـد خروج الدكتور داهـش من محتجبه القسري، وفي أجـواء انفتاحه ثانية على الناس والصحافة – وقد بلغ ذروته في الستينيات من القرن المنصرم - أصبح الدكتـور فريد أبو سليمان صلة الوصـل بينه وبينهم، فباتت عيادتُه القائمة في قلب بيروت مقصدا، لا للمرضى فحسب، بل للتواقين إلى التعرف بمؤسس الداهشية ومشاهدة خوارقه أيضا؛ وكان فيهم عدد كبير من رجـال الصحافة اللبنانية والعربية والغربية.

قلتُ: كان المؤلف صلة الوصل بين الدكتور داهش وكثيرين من زواره، إذ كان على تواصل شـبـه دائـم معه. فكان يرافقهـم، غالبا، في زياراتهـم لـه أو يلتقيهم عنـده في منزل السيد جورج حـداد الذي أصبح «منزل الرسالة الداهشية»؛ الأمرالذي جعله شـاهدا لأكثر المعجزات التي أوردها في كتابه، كما كان يُسمح له، بإذن روحي، بحضور بعض الجلسات الروحية مع الذين كانت تُعقد من أجلهم، وذلك ليكـون مرشـدا لـهـم في أثنائهـا. وقد أتاح له ذلك أن يشـهد، في خلال الجلسة، ما تجترحه الأرواح العلوية التي كانت تحتل جسد الدكتور داهش من ظاهرات روحية عظيمة. كما أتاح له أن يخاطب تلـك الأرواح، وأن يغتنم فرصة حضورها، فيطرح عليها أسئلة مهمة متعلقة بشـؤون الحياة وما بعدها، أو يسألها المساعدة الروحية
في أمور معينة. وكان يصغي بانتباه إلى تعاليمها وتوجيهاتها، ويسعى، على الفور، لتنفيذها بالحرف.

ولـم يكـن شـهـود تلك المعجزات ينتمون إلى فئة معينة من الناس، بل كانوا من مختلف طبقات المجتمع وطوائفه. كان فيهم الأمراء ورؤساء الوزارة والوزراء ورؤساء المجالس النيابية والنواب والأطباء والشعراء والكتاب والمحامون ورجال الدين والتجار والضباط ورجال الأمن والشـرطة... كما كان فيهم المتعلم والأمي، الغني والفقير، الشيخ والشـاب، المـرأة والطفل. فالدكتور داهش لم يكن يستثني أحدا من مشاهدة ظاهراته، ولم يكن اجتراحه لـهـا محصورا بين جدران منزله. فقد كـانـت تحصل سـواء في السيارة أو الطائرة أو المطعم أو المتجـر... كانت الروح تحتله حيثما كان، فتخاطب مرافقيه وتجري أمامهم شتى الخوارق، وتساعدهم في أمور كثيرة؛ فهي قادرة على كل شيء، في كل مكان وزمان.
إلا أن الراغبيـن فـي التعـرف بالدكتور داهـش لـم يكـونـوا جميعهم مدفوعين بغايـة مجردة هي التحقق مـن صحة المعجزات التي يجريها والاطلاع على التعاليم الروحية التي ينادي بها. فقد كان كثيرون منهم مدفوعين إلى ذلك بأغراض حياتية أو أمور خاصة أو غايات مادية فحسب، يرجون تحقيقها بفضل القوة الروحية التي كان يتمتع بها. وبالرغم من أن هدف تلك الأعمال والتعاليم
هدف روحي محض يريد خير الإنسان ورقيه الروحي، فإن الدكتور داهش كان يجيب سؤال بعض السائلين في أمورهم الخاصة لـكـي يثبت لهم أن القوى الروحية التي يتمتع بها قادرة على أن تنيلهم ما يتمنون، ولكي يسـاعدهم تدريجيا على تفهم الغاية الحقيقية من وجودها وأعمالها، والإقلاع لاحقا عن طلب كل ما من شأنه تسخيرها لأغراض خاصة.

والمعجزات التـي حفل بها هذا الكتاب جمة يصعب حصـر أنواعها لكثرتها وتشعبها. وهي تراوح، في ما تتناوله، بين أبسـط أمور الحياة وأشيائها إلى أعلاها شـأنا، فمن تحويل مادة إلى مادة مغايرة أو قرن شيء بشيء ثم فصل بعضهما عن بعض، إلى تحويل أوراق بيضاء عادية إلى أوراق نقدية من فئات مختلفة، أو تحويل قطع نقدية نحاسية إلى قطع نقدية ذهبية؛ إلى نقل أشـياء، بلمح البصر، من مكان إلى آخر، مهما نقـل وزنها أو بعدت المسافة؛ إلى تحويل أوراق يانصيب خاسرة إلى أوراق رابحة؛ إلى معرفة مكان الأشياء الضائعة أو المسروقة، وإعادتها. ومن مضاعفـة الأشـياء بمجـرد لمسها أو بدون لمسها، إلى إخفاء أشـياء موجـودة، ثم إظهارهـا برفـع الـحجـب عنها؛ إلى نبـوءات بوقائع قبـل أيام وأسابيع من حدوثها؛ إلى تجسّـد شـخصيات تاريخية بارزة؛ إلى الشفاء من أمراض عارضة أو مستعصية، وذلك بنسـبة استحقاق أصحابها؛ إلى معرفة ما يدور من الأحاديث خلف الأبواب المغلقة، مهما بعد مكانها وبكل تفاصيلها؛ إلى معرفة الخفايا والنوايا والأفكار؛ إلى افتضـاح الـكاذب مع تبيان كذبه بتفاصيله؛ إلى كشـف مرتكب الإثـم مع ذكر دقائق ارتكاباته المستترة وتحذيره من تكرار الوقوع فيها ونصحه بضرورة الاستقامة في سلوكه. ومن الأجوبة الروحية التي تكتب، بقوة إعجازية، تحت أسئلة موضوعة في قبضة السائل، إلى المساعدات الروحية التي تُمنح لمستحقيها لتجنيبهم الحوادث الخطرة أو الأمراض أو الموت نفسه، محيلة المستقبل القاتم زاهيا مشرقا؛ إلى أرواح الأنبياء والعظماء والرسل والصحابة التي تهبط في الجلسات الروحية، فتأتي أعظم المعجزات، وتسـدي الإرشـادات والنصائح، أو تشير إلى أحداث تاريخية شارحة أسبابها وأسـرارها، أو تفصح عن تقمصات من تخاطبهم، سـواء أكانوا داهشيين أم غیر داهشيين، وتشرح كيفية تأثر حياتهم الحاضرة بأعمالهم في التقمصات السابقة وتأثيرهـا في تقمصاتهم اللاحقة، موضحة بذلـك حقيقة الثواب والعقاب الإلهيين، وكيف تجري العدالة الإلهية على سائر الكائنات، الأرضية منها وغير الأرضية...

معجزات ومعجزات... وخـوارق وخوارق... بل قل: سيل من الأعاجيب لم ير الدهر مثيلاً له منذ نشـوء الحياة على كرتنا الأرضية، يقدمه هذا الكتاب شهادة حق للدكتور داهش، بل للقوى الإلهية التي تؤيده دعما لرسالته المقدسة. كما زود الكتاب بما استطاع المؤلف جمعه من وثائق متعلقة بتلك الظاهرات إثباتا لصحتها. منها «رموز» داهشية كتبهـا أصحابها مؤرخة وموقعة بأيديهـم، ثم أحرقوها وذروا رمادها، فإذاها تُبعث من جديد، وتعود مثلما كانت. ومنها أجوبة كتبت روحيا تحت أسئلة أصحابها، ورسائل روحية هبطت من عالم الروح. ومنها مقابلات صحافية مصـورة أجراهـا صحافيون مع الدكتور داهـش، بحضور المؤلف أحيانا، فتحدثوا فيها عن مشاهداتهم.

والمؤلف، وإن لم يفرد في كتابه فصلاً مستقلاً للتعاليم الداهشية يفصلها فيه بأسلوب تقريـري تعليمي، فإنّه كثيرا ما يشير إليها في أثناء سـرده للمعجزات عند اقتضـاء الحاجـة. وكثيرا ما كان يكشـف لـه عـن أسـرار كونية عظيمة، مجهولة كل الجهل عند البشـر كافة، كما كان يعطى، سـواء في الجلسات الروحية أو خارجها، شروحا روحية مهمة لبعض المعضلات، فيبادر إلى إدراج ذلك كله في كتابه.

وبحسبي، ههنا، التعليق على ما تقدم، فأقول إن تلك المعجزات وما تحمله فـي طياتهـا مـن عبـر تضع مشـاهديها أمـام مسـؤولياتهم. فبحضور الـروح العلوي وأعمالـه، تتعاظـم التبعات، وتسقط كل الحجج. فلا نزاعات الأديان، بعد، حجة للهـرب من نور اليقين المنسكب من عـل، ولا تخرصات رجال الديـن مدعاة إلى إغفـال الحقيقـة والنظر فيها والاقتداء بها. الناطق ههنا هو نفسـه مـن أوحى الأديان وأنزلهـا في أوج إشـراقها. إنّه مرافق الأنبياء طرا؛ مرافـق علوي قدوس تتهاوى أمام جبروته خزعبلات الممسكين بزمام الأديان وأضاليلهم السوداء.

النـاس جميعا، على تفاوت طبقاتهم ومستوياتهم، هـم بـإزاء الدكتور داهش والـروح العلوي الذي يحتله كأنهم في حضـرة الحقيقة العارية المنزهة عن الدنس، لأنها حقيقـة روحيـة علوية لا شـأن فيهـا للمـادة وما ينجـم عنها من فسـاد وزيف وإسفاف. وأمام الحقيقة العارية، كل له موقفه. ثمة من يرى نورها ويدرك جوهرها، فيفيء إليها، ويبادلها عطاياها وهداياها السماوية روحه ودمه وكل ما ملكت يمينه؛ وثمة من تعمى بصيرته عن رؤيتها، فيبادلها الهداية عداء، والمحبة كراهية؛ وثمة من يقابلها بالفتور، فيفوت على نفسه اغتنام الفرصة العظيمة الوحيدة.

ولا شـك فـي أنّ مؤلف الكتاب هو من أولئك الذين أهّلتهم نفوسهم رؤية الحق الآتي من البعيد، فملأ عينيه بشعاعات نوره المتدفق، وحمل لواءه المقدس، ونبذ خلفه كل الأضاليل. حسبه هذا السفر الضخم الذي كتبه بلغة الصدق والأمانة، حاملا إليه بعضا من غلال العوالم العلوية وخيراتها التي فاضت على يدي الدكتور داهش، مزينا صفحاته المشرقة بكل ما لملمته يمينه، بصبر وأناة، من كنوز السـماء الفريدة ومصابيحها الأبدية النور، مؤمّلاً أن يكون فيه عبرة لمن شاء أن يعتبر.

وسواء تحققت آماله أم لم تتحقق، فإنّ له الفضل، كل الفضل، بأن خلّف سفرا خالدا ذا لغة جديدة فريدة هي بحق لغة السماء. وحسبه أنه أدى الأمانة، ومشى!

٢٥ كانون الأول ٢٠٠٤
ماجد مهدي