info@daheshism.com
النبيّ ل جبران خليل جبران

النبيّ

ل جبران خليل جبران

Table of Contents:

عودة سفينته

الْمِطْرَة

الزواج

الأبناء

العطاء

الغذاء

العمل

الفرَح والتَّرَح

المساكن

الثياب

البيع والشراء

الجرائم والعقوبات

الشرائع

الحرية

العقل والعاطفة

الألم

معرفة النَّفْس

التعليم

الصداقة

الحديث

الزَّمان

الخير والشَّر

الصَّلاة

اللذَّة

الجَمال

الدِّين

الموت

الوداع

 

عودة سفينته

 

وظلَّ المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرًا لذاته، يترقَّب عودة سفينته في مدينة أورفليس اثنتي عشرة سنة؛ ليركبها عائدًا إلى الجزيرة التي وُلد فيها.

وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد إلى قنة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تَمْخر عباب البحر مغمورة بالضَّباب.

فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحًا، فأغمض عينيه، ثمَّ صلَّى في سكون نفسه.

•••

غير أنَّه ما هبط عن التَّلة حتى فاجأته كآبة صمَّاء، فقال في قلبه:

كيف أنصرف من هذه المدينة بسلام، وأسير في البحر من غير كآبة؟ كلَّا! إنَّنِي لن أبرح هذه الأرض حتى تسيل الدماء من جراح روحي؛

فقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها، وأطول منها كانت ليالي وحدتي وانفرادي، ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غير أن يتألم في قلبه؟

كثيرةٌ هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذه الشوارع، وكثيرٌ هم أبناء حنيني الذين يمشون عُرَاة بين التلال، فكيف أفارقهم من غير أن أثقل كاهلي وأضغط روحي.

فليس ما أفارقه بالثوب الذي أنزعه عني اليوم ثمَّ أرتديه غدًا، بل هو بشرة أمزِّقها بيدي.

كلا، وليس فكرًا أُخلفه ورائي، بل هو قلب جمَّلته مجاعتي، وجعله عطشي رقيقًا خفوقًا.

•••

بيد أنَّنِي لا أستطيع أن أُبْطِئ في سفري.

فإنَّ الْبَحر الذي يدعو كل الأشياء إليه يستدعيني، فيجب عليَّ أنْ أَرْكب سفينتي وأسير في الحال إلى قلبه.

ولو أقمت الليلة ها هنا، فإنني — مع أنَّ ساعات الليل ملتهبة — أجمد وأتبلور وأتقيد بقيود الأرض الثقيلة.

وإنني أودُّ لو يُتاح لي أن يصحبني جميع الذين ها هنا، ولكن أنَّى يكون لي ذلك؟

فإن الصوت لا يستطيع أن يحمل اللسان والشفتين اللواتي تسلحن بجناحيه؛ ولذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاء.

أجل، والنسر، يا صاح، لا يحمل عشه بل يطير وحده محلقًا في عنان السماء.

وعندما بلغ المصطفى سفح التلة التفت ثانية إلى البحر، فرأى سفينته تدنو من المرفأ، وأبناء بلاده يروحون ويجيئون على مقدمتها.

فهتف لهم من صميم فؤاده وقال:يا أبناء أمتي الأولى، أَيُّهَا الراكبون متون الأمواج المذللون مَدَّها وجَزْرها!

 

 

كم من مرة أبحرتم في أحلامي! وها قد أتيتم ورأيتكم في يقظتي التي هي أعمق أحلامي.

إنَّنِي على أَتَمِّ الأهبة للإبحار، وفي أعماقي شوقٌ عظيمٌ يترقَّب هبوب الرياح على القلوع بفارغ الصبر.

ولكنني أودُّ أن أتنفَّس مرةً واحدةً في هذا الجو الهادئ، وأن أبعث بنظرة عطف واحدة إلى الوراء.

وحينئذٍ أقف معكم، ملَّاحًا بين الملاحين.

أما أنت أَيُّهَا البحر العظيم، أَيُّهَا الأم الهاجعة!

أنت أَيُّهَا البحر العظيم الذي فيك وحدك يجد النهر والجدول سلامهما وحريتهما.

فاعلم أنَّ هذا الجدول لن يدور إلا دورة واحدة بعد، ولن يسمع أحد خريره على هذا المعبر بعد اليوم، وحينئذٍ آتِي إليك، نقطة طليقة إلى أوقيانوس طليق.

وفيما هو ماشٍ رأى عن بُعد رجالًا ونساءً يتركون حقولهم وكرومهم، ويهرولون إلى أبواب المدينة.

وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل، مردِّدين اسمه وكلٌّ منهم يحدِّث رفيقه بقدوم سفينته.

•••

فقال في نفسه:

أيكون يوم الفراق يوم الاجتماع؟

أم يجري على الأفواه أنَّ مسائي كان فجرًا لي؟

وماذا يجدر بي أنْ أُقدِّم للفلاح الذي ترك سِكَّتَهُ في نصف تَلَمِهِ، وللكرَّام الذي أوقف دولاب معصرته؟

أيتحوَّل قلبي إلى شجرة كثيرة الأثمار فأقطف منها وأعطيهم؟

أم تفيض رغباتي كالينبوع فأملأ كئوسهم؟

هل أنا قيثارة فتلامسني يد القدير، أم أنا مزمار فتمر بي أنفاسه؟

أجل، إنَّنِي هائم أنشد السَّكِينَة، ولكن ما هو الكنز الذي وجدته في السَّكِينَة لكي أوزعه بطمأنينة؟

وإن كان هذا اليوم يوم حصادي، ففي أية حقول بذرت بذاري، وفي أي فصل من الفصول المجهولة كان ذلك؟

وإن كانت هذه هي الساعة التي يجدر بي أن أرفع فيها مصباحي واضعًا إياه على منارتي، فإن النور الذي يتصاعد منه ليس مني؛

لأنني سأرفع مصباحي فارغًا مظلمًا،

ولكن حارس الليل سيملؤه زيتًا، وسينيره أيضًا.

قال هذا معبِّرًا عنه بالألفاظ، ولكن كثيرًا مثل هذا حفظه في قلبه من غير أن يعلنه؛ لأنه هو نفسه لم يقدر أن يوضح سره العميق.

•••

وعندما دخل المدينة استقبله الشعب بأسره، وكانوا يهتفون له مرحبين به بصوت واحد.

فوقفه شيوخ المدينة وقالوا له:

بربك لا تفارقنا هكذا سريعًا؛

فقد كنت ظهيرةً في شفقنا،

وقد أوحى شبابك الأحلام في نفوسنا،

وأنت لست بالغريب بيننا، كلا، ولا أنت بالضيف، بل أنت ولدنا وقسيمُ أرواحنا الحبيب؛

فلا تجعل عيوننا تشتاق إلى رؤية وجهك.

ثمَّ قال له الكُهَّان والكاهنات:

لا تأذن لأمواج البحر أن تفصل بيننا، فتجعل الأعوام التي قضيتها بيننا نسيًا منسيًّا؛

فقد كنت فينا روحًا محيية، وكان خيالك نورًا يشرق على وجوهنا.

قد تعشَّقتك قلوبنا، وعلقتك أرواحنا،

ولكن محبتنا تقنَّعت بحجب الصمت، فلم نستطع أن نعبِّر عنها،

بيد أنَّها تصرخ إليك الآن بأعلى صوتها، وتمزق حجبها بيديها لكي تظهر لك حقيقتها؛

فإنَّ الْمَحبَّة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.

ثمَّ جاء إليه كثيرون متوسلين متضرعين، فلم يردَّ على أحد جوابًا، ولكنه كان يحني رأسه، وكان الواقفون حوله ينظرون عبراته تتساقط بغزارة على وجنتيه وصدره.

وظل يمشي مع الشعب حتى وصلوا إلى الساحة الكبرى أمام الهيكل.

Return to the Top

 

الْمِطْرَة

الْمِطْرَة

وحدث إذ ذاك أن امرأة عرَّافة خَرَجت من المقدس، اسمها الْمِطْرَة.

فنظر إليها نظرةً ملؤها الحب والحنان؛ لأنها كانت أول من سعى إليه وآمن به مع أنه لم يكن له إلا ليلة وضحاها في مدينتهم.

فحيته باحترام وقالت له:

يا نبي الله، قد طالما كنت تسعى وراء ضالتك المنشودة، مفتِّشًا عن سفينتك التي كانت بعيدة عنك.

وها قد وصلت سفينتك، ولم يبقَ من بُدٍّ لسفرك.

عظيمٌ هو حنينك إلى أرض أحلامك وتذكاراتك، ومواطن الفائقات من رغباتك؛ ولذلك فإن محبتنا لا تقيدك، وحاجتنا إليك لا تُمسك بك،

ولكننا واحدة نسألك قبل أن تفارقنا:

أن تخطب فينا وتعطينا من الحق الذي عندك،

ونحن نعطيه لأولادنا، وأولادنا لأولادهم وحفدتهم، وهكذا يثبت كلامك فينا على ممر العصور.

ففي وحدتك كنت ترقب أيامنا، وفي يقظتك كنت تصغي إلى بكائنا وضحكنا في غفلتنا؛

لذلك نضرع إليك أن تكشف مكنوناتنا لذواتنا، وتخبرنا بكل ما أُظْهِرَ لك من أسرار الحياة من المهد إلى اللحد.

فأجاب قائلًا:

يا أبناء أورفليس، بماذا أحدِّثكم إن لم أُظهر لكم ما يختلج في نفوسكم وتتحرك به ضمائركم حتى في هذه الساعة؟

 

 

المحبة

حينئذٍ قالت له الْمِطْرَة: هات لنا خطبة في المحبة.

فرفع رأسه ونظر إلى الشعب نظرة محبة وحنان، فصمتوا جميعهم خاشعين، فقال لهم بصوت عظيم:

المحبة.

إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها،

وإن كانت مسالكها صعبة متحدِّرة.

وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها،

وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.

وإذا خاطبتكم المحبة فصدِّقوها،

وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعًا صفصفًا.

•••

لأنه كما أن المحبة تكللكم، فهي أيضًا تصلبكم.

وكما تعمل على نُمُوِّكم، هكذا تعلِّمكم وتستأصل الفاسد منكم.

وكما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس،

هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب وتهزُّها في سكينة الليل.

•••

المحبة تضمُّكم إلى قلبها كأغمار الحنطة،

وتدرسكم على بيادرها لكي تُظهر عريكم،

وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم،

وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج،

وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا،

ثمَّ تعدُّكم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزًا مقدَّسًا يقرَّب على مائدة الرب المقدَّسة.

•••

كل هذا تصنعه المحبة بكم، لكي تدركوا أسرار قلوبكم، فتصبحوا بهذا الإدراك جزءًا من قلب الحياة.

غير أنَّكم إذا خفتم، وقصرتم سعيكم على الطمأنينة واللذة في المحبة،

فالأجدر بكم أن تستروا عريكم وتخرجوا من بيدر المحبة إلى العالم البعيد حيثما تضحكون، ولكن ليس كل ضحككم، وتبكون، ولكن ليس كل ما في مآقيكم من الدموع.

المحبة لا تُعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها.

المحبة لا تَمْلك شيئًا، ولا تريد أن يملكها أحد؛

لأنَّ المحبة مكتفية بالمحبة.

أما أنت إذا أحببت فلا تقل: «إنَّ الله في قلبي»، بل قُل بالأحرى: «أنا في قلب الله

ولا يخطر لك البتَّة أنك تستطيع أن تتسلط على مسالك المحبة؛ لأن المحبة إن رأت فيك استحقاقًا لنعمتها تتسلط على مسالكك.

والمحبة لا رغبة لها إلا في أن تكمل نفسها.

ولكن إذا أحببت، وكان لا بدَّ من أن تكون لك رغبات خاصة بك، فلتكن هذه رغباتك:

أن تذوب وتكون كجدول متدفق يشنِّف آذان الليل بأنغامه.

أن تخبر الآلام التي في العطف المتناهي.

أن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبة في حبة قلبك، وأن تنزف دماؤك وأنت راضٍ مغتبط.

أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق، فتؤدي واجب الشكر ملتمسًا يوم محبة آخر.

أن تستريح عند الظهيرة وتناجي نفسك بوجد المحبة.

أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكرًا؛

فتنام حينئذٍ والصلاة لأجل من أحببت تتردد في قلبك، وأنشودة الحمد والثناء مرتسمة على شفتيك.

Return to the Top

 

الزواج

 

ثمَّ قالت له المِطْرة ثانية: وما رأيك في الزواج أيها المعلم؟

فأجاب قائلًا:

قد وُلدتم معًا، وستظلون معًا إلى الأبد،

وستكونون معًا عندما تبدد أيامَكم أجنحةُ الموت البيضاء.

أجل، وستكونون معًا حتى في سكون تذكارات الله.

ولكن، فليكن بين وجودكم معًا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات فيما بينكم.

أحبُّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متموِّجًا بين شواطئ نفوسكم.

ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه، ولكن لا تشربوا من كأس واحدة.

أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه، ولكن لا تأكلوا من الرغيف الواحد.

غنوا وارقصوا معًا، وكونوا فرحين أبدًا، ولكن فليكن كلٌّ منكم وحده،

كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده، ولكنها جميعًا تخرج نغمًا واحدًا.

•••

ليعطِ كلٌّ منكم قلبه لرفيقه، ولكن حذارِ أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ؛

لأنَّ يد الحياة وحدها تستطيع أن تحتفظ بقلوبكم.

قفوا معًا ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيرًا؛ لأن عمودَي الهيكل يقفان منفصلَيْن،

والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها.

Return to the Top

 

الأبناء

 

ثمَّ دنت منه امرأة تحمل طفلها على ذراعيها، وقالت له: هاتِ حدِّثنا عن الأولاد.

فقال:

إنَّ أولادكم ليسوا أولادًا لكم.

إنَّهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.

ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكًا لكم.

أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكن لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم؛ لأن لهم أفكارًا خاصة بهم.

وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم،

ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم؛

فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه ولا في أحلامكم.

وأنَّ لكم أنْ تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم،

ولكنكم عبثًا تحاولون أن تجعلوهم مثلكم؛

لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس.

أنتم الأقواس، وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم.

فإن راميَ السهام ينظر العلامة المنصوبة على طريق اللانهاية، فيلويكم بقدرته لكي تكون سهامه سريعة بعيدة المدى؛

لذلك فليكن الْتواؤكم بين يدي رامي السهام الحكيم لأجل المسرَّة والغبطة؛

لأنه كما يحبُّ السهم الذي يطير من قوسه، هكذا يحبُّ القوس التي تثبت بين يديه.

Return to the Top

 

العطاء

 

ثمَّ قال له رجل غني: هاتِ حدِّثنا عن العطاء.

فأجاب قائلًا:

إنك إذا أعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتك.

ولكن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءًا من ذاتك؛ لأنه أي شيء هي ثروتك؟

أليست مادة فانية تخزنها في خزائنك، وتحافظ عليها جهدك خوفًا من أن تحتاج إليها غدًا؟

والغد، ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ الفطنة الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة، وهو يتبع الحُجَّاج إلى المدينة المقدسة؟

أوَليس الخوف من الحاجة هو الحاجة بعينها؟

أوَليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غُلَّته؟

•••

من النَّاس من يعطون قليلًا من الكثير الذي عندهم، وهم يعطونه لأجل الشهرة، ورغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة تُضيع الفائدة من عطاياهم.

ومنهم من يملكون قليلًا ويعطونه بأسره.

ومنهم المؤمنون بالحياة وبسخاء الحياة، هؤلاء لا تفرغ صناديقهم، وخزائنهم ممتلئة أبدًا.

ومن الناس من يعطون بفرح، وفرحهم مكافأة لهم.

ومنهم من يعطون بألم، وألمهم معمودية لهم.

وهنالك الذي يعطون ولا يعرفون معنًى للألم في عطائهم، ولا يتطلَّبون فرحًا، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الرَّيْحَان عبيره العَطِر في ذلك الوادي.

بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض.

جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه،

ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته، فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء يكون فرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه والاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسه.

وهل في ثروتك شيء تقدر أن تستبقيه لنفسك؟

فإن كل ما تملكه اليوم سيتفرق ولا شك يومًا ما؛

لذلك أعطِ منه الآن؛ ليكون فصل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتك.

وقد طالما سمعتك تقول متبجِّحًا: «إنَّنِي أحب أن أعطي، ولكن المستحقين فقط

فهل نسيت، يا صاح، أن الأشجار في بستانك لا تقول قولك، ومثلها القطعان في مراعيك؟

فهي تعطي لكي تحيا؛ لأنها إذا لم تعطِ عرَّضت حياتها للتَّهْلُكة.

الحقَّ أقول لك، إن الرجل الذي استحقَّ أن يقتبل عطية الحياة ويتمتع بأيامه ولياليه، هو مستحق لكل شيء منك.

والذي استحق أن يشرب من أوقيانوس الحياة يستحق أن يملأ كأسه من جدولك الصغير؛

لأنه أي صحراء أعظم من الصحراء ذات الجرأة والجسارة على قبول العطية بما فيها من الفضل والمنة؟

وأنت، من أنت، حتى إن الناس يجب أن يمزقوا صدورهم ويحسروا القناع عن شهامتهم وعزة نفوسهم؛ لكي ترى جدارتهم لعطائك عارية وأَنَفتهم مجردة عن الحياء؟

فانظر أوَّلًا هل أنت جدير بأن تكون معطاءً، وآلة العطاء؛

لأن الحياة هي التي تعطي للحياة، في حين أنَّك — وأنت الفخور بأن قد صدر العطاء منك — لست بالحقيقة سوى شاهد بسيط على عطائك.

 

 

العطاء.

أما أنتم، الذين يتناولون العطاء والإحسان — وكلكم منهم — فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل؛ لئلا تضعوا بأيديكم نِيرًا ثقيل الحمل على رقابكم ورقاب الذين أعطوكم،

بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه؛

لأنكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدَّين، فإنكم بذلك تظهرون الشك والريبة في أريحية المحسن الذي أُمُّه الأرض السخية، وأبوه الرب الكريم.

Return to the Top

 

الغذاء

 

وبعد ذلك جاء إليه فُنْدُقِيٌّ شيخ، وقال له: هاتِ حدِّثنا عن المأكل والمشرب.

فأجاب قائلًا:

أودُّ لو أنك تقدر أن تعيش على عبير الأرض،

تكتفي بالنور كنباتات الهواء.

غير أنك مضطر أن تَقْتُل لتعيش، وأن تسرق المولود الصغير من حضن أمه مختطفًا حليبها لتبريد ظمئك؛

لذلك فليكن عملك مظهرًا من مظاهر العبادة،

ولتكن مائدتك مذبحًا تقرَّب عليه التقادم النقية الطاهرة من الحقول والسهول ضحية لما هو أكثر منها نقاوة في أعماق الإنسان.

•••

وإذا ذبحت حيوانًا فقل له في قلبك:

«إنَّ القُوَّة التي أمرت بذبحك، ستذبحني نظيرك،

وعندما تحين ساعتي سأحترق مثلك؛

لأنَّ الشَّريعة التي أسلمتك إلى يديَّ ستسلمني إلى يدي من هو أقوى مني،

وليس دمك ودمي سوى عصارةٍ قد أُعدَّت منذ الأزل غذاءً لشجرة السماء

•••

وإذا نهشت تفاحةً بأسنانك فقل لها في قلبك:

«إنَّ بذوركِ ستعيش في جسدي،

والبراعم التي ستخرج منكِ في الغد ستزهر في قلبي،

وسيتصاعد عبيرك مع أنفاسي،

وسأفرح معكِ في جميع الفصول

•••

وإذا قطفت العنب من كرومك في أيام الخريف، وحملته إلى المعصرة، فقل له في قلبك:

«أنا كرمة مثلك، وستجمع أثماري وتُحمل إلى المعصرة، وسيضعونني كالخمر الجديدة في زقاق جديدة

وعندما تستقي الخمرة من زقاقها في أيام الشتاء، أنشد في قلبك أنشودة لكل كأس تشربها.

وليكن لك من أناشيدك أجمل التذكارات لأيام الخريف وللكرمة وللمعصرة.

Return to the Top

 

العمل

 

ثمَّ جاء إليه فلاح وقال له: هاتِ حدِّثنا عن العمل.

فأجاب قائلًا:

إنَّكم تشتغلون لكي تجاروا الأرض ونفس الأرض في سيرها؛

لأن الكسول غريب عن فصول الأرض، وهائم لا يسير في موكب الحياة، السائرة بعظمة وجلال في فضاء اللانهاية إلى غير المتناهي.

•••

فإذا اشتغلت فما أنت سوى مزمار تختلج في قلبك مناجاة الأيام، فتتحول إلى موسيقى خالدة.

ومن منكم يودُّ أن يكونَ قصبةً خرساء صماء، وجميع ما حولها يترنَّم معًا بأنغام متفقة؟

قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة، والشغل نكبة ومصيبة.

أما أنا فأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءًا من حلم الأرض البعيد، جزءًا خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم.

فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة؛

لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها، وتُدنيه من أبعد أسرارها.

•••

ولكن إذا كنتم وأنتم في الآلام تدَّعون الولادة كآبة، ودعامة الجسد لعنة مكتوبة على جباهكم، فإنني الحقَّ أقول لكم، إنه ما من شيء يستطيع أن يمحو هذه الكتابة ويغسل جباهكم من آثارها سوى سعيكم وجهادكم.

وقد ورثتم عن جدودكم القول إن الحياة ظلمة، فرحتم في عهد مشقتكم ترددون ما قاله قبلكم جدودكم المزعجون.

فالحقَّ أقول لكم، إن الحياة تكون بالحقيقة ظُلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة،

والحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة،

والمعرفة تكون عميقة سقيمة إن لم يرافقها العمل،

والعمل يكون باطلًا وبلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة؛ لأنكم إذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون أنفسكم وأفرادكم بعضها ببعض، ويرتبط كل واحد منكم بربه.

•••

وما هو العمل المقرون بالمحبة؟

هو أن تحوك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك، مفكِّرًا أن حبيبك سيرتدي ذلك الرداء.

هو أن تبني البيت بحجارة مقطوعة من مقلع حنانك وإخلاصك، مفكِّرًا أن حبيبك سيقطن في ذلك البيت.

هو أن تبذر البذور بدقَّة وعناية، وتجمع الحصاد بفرح ولذة، كأنك تجمعه لكي يقدَّم على مائدة حبيبك.

هو أن تضع في كل عمل من أعمالك نسمة من روحك،

وتثق بأن جميع الأموات الأطهار محيطون بك يراقبون ويتأملون.

•••

وكثيرًا ما كنت أسمعكم تناجون أنفسكم، كأنكم في نوم عميق، قائلين: «إن الذي يشتغل بنحت الرخام، فيوجِد مثالًا محسوسًا لنفسه في الحجر الأصم هو أشرف من الفلاح الذي يحرث الأرض،

والذي يستعير من قوس قُزَح ألوانًا يُحوِّل بها قطعة النسيج الحقيرة إلى صورة إنسان، هو أفضل من الإسكاف الذي يصنع الأحذية لأقدامنا

ولكنني أقول لكم، لا في نوم الليل، بل في يقظة الظهيرة البالغة، إن الريح لا تخاطب السنديانة الجبارة بلهجة أحلى من اللهجة التي تخاطب بها أحقر أعشاب الأرض.

والعظيم العظيم ذلك الذي يحوِّل هينمة الريح إلى أنشودة تزيدها محبته حلاوة وعذوبة.

•••

أجل، إنَّ العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة.

فإن لم تقدر أن تشتغل بمحبة وكنت متضجرًا ملولًا، فالأجدر بك أن تترك عملك وتجلس على درجات الهيكل تلتمس صدقة من العملة المشتغلين بفرح وطمأنينة؛

لأنك إذا خبزت خُبزًا وأنت لا تجد لك لذة في عملك، فإنما أنت تخبز علقمًا لا يُشْبِع سوى نصف مجاعة الإنسان.

وإذا تذمرت وأنت تعصر عنبك، فإن تذمرك يدسُّ لك سُمًّا في الخمرة المستقطرة من ذلك العصير.

وإن أنشدت أناشيد الملائكة، ولم تحب أن تكون منشدًا، فإنما أنت تصمُّ آذان الناس بأنغامك عن الإصغاء إلى أناشيد الليل وأناشيد النهار.

Return to the Top

 

الفرَح والتَّرَح

الفرَح والتَّرَح

ثمَّ قالت له امرأة: هات لنا شيئًا عن الفرَح والتَّرَح.

فأجاب قائلًا:

إن فرحكم هو تَرَحكم ساخرًا.

والبئر الواحدة التي تستقون منها ماء ضحككم قد طالما مُلئت بسخين دموعكم.

وهل في الإمكان أن يكون الحال على غير هذا المنوال؟

فكلما أعمل وحش الحزن أنيابه في أجسادكم، تضاعف الفرح في أعماق قلوبكم؛

لأنه أليست الكأس التي تحفظ خمرتكم هي نفس الكأس التي أُحرقت في أتون الخزَّاف قبل أن بلغت إليكم؟

أم ليست القيثارة التي تزيد في طمأنينة أرواحكم هي نفس الخشب الذي قُطع بالمُدَى والفئوس؟

فإذا فرحتم فتأملوا مليًّا في أعماق قلوبكم تجدوا أن ما أحزنكم قبلًا يفرحكم الآن.

وإذا أحاطت بكم جيوش الكآبة، فارجعوا ببصائركم ثانيةً إلى أعماق قلوبكم وتأملوا جيِّدًا، تروا هنالك بالحقيقة أنكم تبكون لما كنتم تعتقدون أنه غاية مسرَّاتكم على الأرض.

•••

 

 

الفرح والترح.

ويُخيَّل إليَّ أن فريقًا منكم يقول: «إنَّ الفرح أعظم من التَّرح.» فيعارضه فريق آخر قائلًا: «كلا، بل التَّرح أعظم من الفرح

أمَّا أنا فالحقَّ أقول لكم، إنَّهما توءمان لا ينفصلان، يأتيان معًا ويذهبان معًا، فإذا جلس أحدهما منفردًا إلى مائدتكم، فلا يغرب عن أذهانكم أنَّ رفيقه يكون حينئذٍ مضطجعًا على أَسِرَّتكم.

•••

أجل، إنَّكم بالحقيقة معلقون ككفتي الميزان بين ترحكم وفرحكم،

وأنتم بينهما تتحركون أبدًا، ولا تقف حركتكم إلا إذا كنتم فارغين في أعماقكم؛

فإذا جاء أمين خزائن الحياة يرفعكم لكي يزن ذهبه وفضته، فلا ترتفع كفة فرحكم ولا ترجع كفة ترحكم، بل تثبتان على حالة واحدة.

Return to the Top

 

المساكن

 

حينئذٍ دنا منه بنَّاء وقال له: هات حدِّثنا عن البيوت.

فأجاب وقال:

ابنِ من خيالك مظلَّة في الصحراء قبل أن تبني بيتًا في داخل أسوار المدينة؛

لأنه كما أن لك بيتًا مقبلًا في شفق حياتك، كذلك للغريب الهائم فيك بيت كبيتك.

إن بيتك هو جسدك الأكبر.

ينمو في حرارة الشمس وينام في سكينة الليل، وكثيرًا ما ترافق نومه الأحلام، أفلا يحلم بيتك؟ وهل يترك الحلم المدينة ويسير إلى الغابة أم إلى رأس التلة؟

أوَّاه، لو أستطيع أن أجمع بيوتكم بيدي، فأبددها في الأحراج والرياض كما يبذر الزارع زرعه في الحقول.

أودُّ لو كانت الأودية شوارع لكم، ومسالك التلال الخضراء أزقَّة تطرقها أقدامكم عوضًا عن أزقتكم وشوارعكم القذرة، ويا ليتكم تنشدون بعضكم بعضًا بين الدوالي والكروم ثمَّ تعودون حاملين عطر الأرض في طيات أثوابكم.

ولكن هذه جميعها تمنيات لم تَحِنْ ساعتها بعد؛

لأن آباءكم وجدودكم إذ خافوا عليكم الضياع والضلال جمعوكم معًا لكي تكونوا قريبين بعضكم من بعض، وسيبقى هذا الخوف مجمعًا لكم زمنًا بعد، وستظل أسوار المدينة فاصلة مواقدكم عن حقولكم، ولكن إلى حين.

بربكم أخبروني، يا أبناء أورفليس، ماذا تملكون في هذه البيوت؟ وأي شيء تحتفظون به في داخل هذه الأبواب الموصدة؟

هل عندكم السلام، وهو القوة الصامتة التي تظهر ذاتكم الشديدة العزم المستترة في أعماقكم؟

هل عندكم التذكارات، وهي القناطر اللامعة التي تصل قنن الفكر الإنساني بعضها ببعض؟

هل عندكم الجمال، الذي يرتفع بالقلب من مصنوعات الخشب والحجارة إلى الجبل المقدس؟

بربكم أخبروني، هل عندكم كل هذا في بيوتكم؟

أم عندكم الرفاهية فقط، والتحرق للرفاهية الممزوج بالطمع، الرفاهية التي تدخل البيت ضيفًا، ثمَّ لا تلبث أن تصير مضيفًا، فسيِّدًا عاتيًا عنيفًا؟

ثمَّ تتحول إلى رائض جبار يتقلد السوط بيمينه والكُلَّاب بيساره متخذًا رغباتكم الفضلى ألعوبة يتلهَّى بها.

ومع أن بنان هذه الرفاهية حريريُّ الملمس، فإن قلبه حديديٌّ صلد؛

فهي تهدئ من حدتكم لكي تناموا، ثمَّ تقف أمام أَسِرَّتكم هازئة بكم وبجلال أجسادكم.

تضحك من حواسِّكم المدركة، وتطرح بها بين الأشواك كأنها أوعية سهلة الانكسار؛

لأن التحرق للرفاهية ينحر أهواء النَّفْس في كبدها فيرديها قتيلة، ثمَّ يسير في جنازتها فاغرًا شدقيه مُرْغيًا مُزْبِدًا.

أمَّا أنتم، يا أبناء الفضاء، العائشين في الراحة والنعيم وغير المستريحين، فإنكم لن تؤخذوا بالأشراك، ولن يقدر رائض على ترويضكم؛

لأن بيتكم لن يكون مرساة ولكنه سيكون سارية.

كلا، ولن يكون غشاءً برَّاقًا تُغطى به الجراح، بل جفنًا تحفظ به العين.

وأنتم لن تطووا أجنحتكم لكي تستطيعوا أن تدخلوا من الأبواب، ولن تحنوا رءوسكم لئلا تنطح السقف، كلا، ولن تخشوا أن تتنفسوا خوفًا من أن تقوَّض أساسات الجدران وتسقط على الأرض.

أجل، ولن تقطنوا في القبور التي بناها أبناء الموت لأبناء الحياة.

ومع كل ما يزين منازلكم من الجلال والجمال، فإنها لن تستطيع أن تحتفظ بسركم أو أن تئوي حنينكم؛

لأن غير المحدود فيكم يقطن في منزل السماء، الذي بوابته سحابة الصباح ونوافذه سكون الليل وأناشيده.

Return to the Top

 

الثياب

 

ثمَّ قال له الحائك: هات حدِّثنا عن الثياب.

فأجاب قائلًا:

إن ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم، ولكنها لا تستر غير الجميل.

ومع أنكم تنشدون بثيابكم حرية التستر والانفراد، فإنها تقيدكم وتستعبدكم.

ويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس والريح بثياب بشرتكم عِوَضًا عن ثياب مصانعكم؛

لأن أنفاس الحياة في أشعة الشمس، ويد الحياة تسير مع مجاري الرياح.

يقول بعضكم: «إن الريح الشمالية دون غيرها قد حاكت الثياب التي نلبسها

وأنا أقول لكم: «نعم، إن الريح الشمالية قد فعلت ذلك، ولكن العار كان نَوْلًا لها، ولدونة العضلات كانت لها خيطًا.

وعندما فرغت من عملها ضحكت منكم وهي تعصف في قلب الغاب.

ولكن لا يغرب عن أذهانكم أن الحشمة هي ترسٌ منيعٌ متينٌ للوقاية من عيون المدنسين.

فإذا زال المدنسون من الوجود، أفلا تصير الحشمة قيدًا للفكر وتلويثًا له في حمأة العبودية؟

لذلك ضعوا نُصْب عيونكم أن الأرض تبهج بملامسة أقدامكم العارية، والرياح تَتُوق إلى ملاعبة شعوركم المسترسلة

Return to the Top

 

البيع والشراء

 

ثمَّ دنا منه تاجر وقال له: هات حدِّثنا عن البيع والشراء.

فأجاب وقال:

إنَّ الأرض تُقدِّم لكم ثمارها، ولو عرفتم كيف تملئون أيديكم من خيراتها لما خبرتم طعم الحاجة في حياتكم؛

لأنَّكم بغير مبادلة عطايا الأرض لن تجدوا وفرًا من الرزق ولن يشبع جشعكم؛

فيجدر بكم أن تتموا هذه المقايضة بروح المحبة والعدالة، وإلا فإنها تؤدي بالبعض منكم إلى الشراهة وبغيرهم إلى الطمع والمجاعة.

•••

وإذا ذهبتم إلى ساحة المدينة أَيُّهَا الدائبون في خدمة البحر والحقول والكروم، فاجتمعوا بالحاكة والخزَّافين وجامعي الحنوط والطيوب،

واضرعوا في تلك الساعة إلى الروح المتسلطة على الأرض، أن تحلَّ عليكم وتبارك مقاييسكم وموازينكم التي تعيِّنون بها مقدار ما تجري عليه مقايضاتكم،

ولا تأذنوا لذوي الأيدي العقيمة من ذوي البطالة أن يشتركوا في معاملاتكم؛ لأنه لا شيء لهم يتاجرون به سوى أقوالهم التي يبيعونها لكم بأعمالكم،

بل قولوا لأمثال هؤلاء:

«تعالوا معنا إلى الحقل، أو فاذهبوا مع أولادنا إلى البحر وألقوا هنالك شباككم؛

لأن الأرض والبحر يجودان عليكم، متى عملتم، كما يجودان علينا

•••

وإن جاءكم المغنون والراقصون والعازفون،

فاشتروا من عطاياهم ولا ترفضوهم؛

لأنهم يجمعون الأثمار والعطور نظيركم، ومع أن ما يقدمونه لكم مصنوع من مادة الأحلام، فإنه أجمل كساء وأفضل غذاء لنفوسكم.

•••

وقبل أن تبرحوا ساحة المدينة، انظروا ألا ينصرف أحد منها فارغ اليدين؛

لأن الروح السيدة في الأرض لا تنام بطمأنينة وسلام على تموجات الرياح حتى تشاهد بعينها أن الصغير فيكم قد نال كالكبير بينكم كل ما هو في حاجة إليه.

Return to the Top

 

الجرائم والعقوبات

 

حينئذٍ وقف أحد قضاة المدينة وقال له: «هات لنا خطبةً في الجرائم والعقوبات

فأجاب وقال:

عندما تسير أرواحكم هائمة فوق الرياح،

وتمسون منفردين، ليس لكم من يقيكم طوارئ السوء، حينئذٍ تقترفون الإثم ضد غيركم وضد أنفسكم.

ولأجل ذلك الإثم الذي تقترفونه يجب أن تقرعوا برهةً وتنتظروا على بوابة القدوس.

•••

فإن ذاتكم الإلهية بحرٌ عظيم،

كانت نقية منذ الأزل، وستظل نقية إلى آخر الدهور.

وهي كالأثير لا ترفع إلا ذوي الأجنحة.

أجل، إن ذاتكم الإلهية كالشمس،

لا تعرف طرق المناجذ،١ ولا تعبأ بأوكار الأفاعي؛

غير أنها لا تقطن وحيدة في كيانكم؛

لأن كثيرًا منكم لا يزال بشرًا، وكثيرًا غيره لم يَصِر بشرًا بعد، بل هو مسخ لا صورة له يسير غافلًا في الضباب وهو ينشد عهد يقظته.

فلا أودُّ أن أُحدِّثكم الآن إلا عن هذا الإنسان فيكم؛

لأن هذا الإنسان — دون ذاتكم الإلهية، ودون المسخ الهائم في الضباب — هو الذي يعرف الجرائم والعقوبات على الجرائم في كيانكم.

قد طالما سمعتكم تتخاطبون فيما بينكم عمن يقترف إثمًا كأنه ليس منكم، بل غريب عنكم ودخيل فيما بينكم.

ولكنني الحقَّ أقول لكم، كما أن القديس والبارَّ لا يستطيعان أن يتساميا فوق الذات الرفيعة في كلٍّ منكم،

هكذا الشرير والضعيف لا يستطيعان أن ينحدرا إلى أدنى من الذات الدنيئة التي في كل واحد منكم.

وكما أن ورقة الشجرة الصغيرة لا تستطيع أن تحوِّل لونها من الخضرة إلى الصفرة إلا بإرادة الشجرة ومعرفتها الكامنة في أعماقها،

هكذا لا يستطيع فاعل السوء بينكم أن يقترف إثمًا بدون إرادتكم الخفية ومعرفتكم التي في قلوبكم؛

فإنكم تسيرون معًا في موكب واحد إلى ذاتكم الإلهية.

أنتم الطريق وأنتم المطرقون.

فإذا عثر أحدٌ منكم فإنما تكون عثرته عِبرة للقادمين وراءه، فيجتنبون الحجر الذي عثر به.

أجل، وتكون عثرته توبيخًا للذين يسيرون أمامه بأقدام سريعة ثابتة؛ لأنهم لم ينقلوا حجر العثار من طريقه.

وإليكم يا أبناء أورفليس هذه الكلمة التي، وإن حلَّت ثقيلة على قلوبكم، فهي الحقيقة بعينها:

إن القتيل ليس بريئًا من جريمة القتل،

وليس المسروق بلا لوم في سرقته.

لا يستطيع البار أن يتبرأ من أعمال الشرير،

ولا الطاهر النقي اليدَيْن بريء الذمة من قذارة المدنسين.

كثيرًا ما يذهب المجرم ضحية لمن وقع عليه جرمه،

كما يغلب أن يحمل المحكوم عليه الأثقال التي كان يجب أن يحملها الأبرياء وغير المحكومين؛

لذلك لا تستطيعون أن تضعوا حدًّا يفصل بين الأشرار والصالحين، أو الأبرياء والمذنبين؛

لأنهم يقفون معًا أمام وجه الشمس، كما أن الخيط الأبيض والخيط الأسود يُنسجان معًا في نَوْل واحد.

فإذا انقطع الخيط الأسود ينظر الحائك إلى النسيج بأسره ثمَّ يرجع إلى نوله يفحصه وينظفه.

•••

لذلك، إذا جاء أحدكم بالزوجة الخائنة إلى المحاكمة، فليَزِنْ أوَّلًا قلب زوجها بالموازين، وليَقِسْ نفسه بالمقاييس.

وكل من شاء أن يلطم المجرم بيمينه يجدر به أوَّلًا أن ينظر ببصيرة ذهنه إلى روح من أوقع الجرم عليه.

وإن رغب أحد منكم في أن يضع الفأس على أصل الشجرة الشريرة باسم العدالة، فلينظر أوَّلًا إلى أعماق جذورها.

وهو لا شك واجد أن جذور الشجرة الشريرة، وجذور الصالحة، وغير المثمرة، كلها مشتبكة معًا في قلب الأرض الصامت.

أما أنتم أَيُّهَا القضاة الذين يريدون أن يكونوا أبرارًا، أي نوع من الأحكام تصدرون على الرجل الأمين بجسده السارق بروحه؟

أم أي عقاب تُنْزِلون بذلك الذي يقتل الجسد مرة ولكن الناس يقتلون روحه ألف مرة؟

وكيف تطاردون الرجل الذي مع أنه خدَّاع ظالم بأعماله، فهو موجع القلب ذليل مُهان بروحه؟

•••

أجل، كيف تستطيعون أن تعاقبوا الذين لهم من توبيخ ضمائرهم، وهو أعظم من جرائمهم، أكبر قصاص على الأرض؟

أليس توبيخ الضمير هو نفسه العدالة التي تتوخاها الشريعة التي تتظاهرون بخدمتها؟

فأنتم لا تستطيعون أن تسكبوا بلسم توبيخ الضمير في قلوب الأبرياء، كما أنكم لا تقدرون أن تنزعوه من قلوب الأشقياء؛

فهو يأتي لذاته في ساعة من الليل لا ننتظرها، داعيًا الناس إلى النهوض من غفلتهم، والتأمل بحياتهم وما فيها من التعديات والمخالفات.

وأنتم، أَيُّهَا الراغبون في سَبْر غَوْر العدالة، كيف تقدرون أن تدركوا كنهها إن لم تنظروا إلى جميع الأعمال بعين اليقظة في النور الكامل؟

في مثل هذا النور تعرفون أن الرجل المنتصب والرجل الساقط على الأرض هما بالحقيقة رجل واحد واقف في الشفق بين ليل ذاته الممسوخة ونهار ذاته الإلهية.

وأن حجر الزاوية في الهيكل ليس بأعظم من الحجر الذي في أسفل أساساته.

Return to the Top

 

الشرائع

 

ثمَّ قال له مُشْتَرِع: وماذا تعتقد بشرائعنا أَيُّهَا المعلم؟

فأجاب قائلًا:

إنكم تستلذون أن تضعوا شرائع لأنفسكم،

بَيْدَ أنكم تستلذون بالأكثر أن تكسرُوها وتتعدَّوْا فرائضها؛

لذلك أنتم كالأولاد الذين يلعبون على الشاطئ، يبنون أبراجًا عظيمةً من الرمل بصبر وثبات، ثمَّ لا يلبثون أن يهدموها ضاحكين صاخبين.

فعندما تبنون أبراجكم الرملية يأتي البحر برمال جديدة إلى الشاطئ.

وعندما تهدمون أبراجكم يضحك البحر منكم في نفسه؛ لأن البحر يضحك من الأبرياء أبدًا.

•••

ولكن، ماذا أقول في من ليست الحياة بحرًا في عقيدتهم، بل ليست الشرائع التي تسنها حكمة الإنسان البالغة أبراجًا من الرمال فحسب.

أولئك الذين يحسبون أن الحياة صخرة صلدة، وأن الشريعة إزميل حادٌّ يأخذونه بأيديهم لكي ينحتوا هذه الصخرة على صورتهم ومثالهم؟

وماذا أقول في المُقعدين الذين يكرهون الراقصين؟

وفي الثور الذي يحب نِيرَه ويتهم الوعل والإبل والظبي أنها حيوانات متمردة ناشزة؟

وفي الأفعى العتيقة الأيام التي لا تستطيع أن تخلع جلدها؛ ولذلك تنبري مُتهِمة جميع الحيوانات بالعري وقلة الحياء؟

وفي ذلك الذي يسبق غيره إلى وليمة العرس، وعندما يملأ جوفه من الأطعمة ويبلغ حده من النهم والشراهة يترك الوليمة ويذهب في طريقه قائلًا: إن جميع الولائم مخالفة للناموس وجميع الذين يجتمعون إليها متعدُّو الشريعة؟

•••

ماذا أقول في أمثال هؤلاء؟ إنهم كجميع الناس يقفون في أشعة الشمس، ولكنهم يُوَلُّون الشمس ظهورهم؛

فهم لذلك لا ينظرون سوى ظلالهم، وظلالهم هي عند التحقيق شرائعهم المقدسة.

وهل الشمس في اعتقادهم سوى منشأ الظلال؟

وهل اعترافهم بالشريعة سوى أنهم ينحنون ويطأطئون رءوسهم لكي يستقصوا ظلالهم على الأرض؟

أما أنتم، الذين يمشون وهم يحدقون إلى الشمس بأجفان غير مرتعشة، فهل في الأرض من صورة تستطيع أن تستوقفكم هنيهة؟

وأنتم، المسافرين مع الريح، أية صفحة من الصفحات الدالة على مجاري الرياح تقدر أن تقودكم في مسالككم؟

وما هي الشريعة البشرية التي تفيدكم إذا كنتم لم تحطموا نِيرَكم على باب سجن من سجون الإنسان؟

وأية شرائع ترهبون إذا كنتم ترقصون، ولكنكم لا تعثرون بقيد من قيود العالم الحديدية؟

ومن هو الرجل الذي يستطيع أن يأتي بكم إلى المحاكمة إذا مزقتم أثوابكم، ولكنكم لم تضعوها في طريق أحد من الناس؟

•••

أجل يا أبناء أورفليس، إنكم تستطيعون أن تخمدوا صوت الطبل، وتحلوا أوتار القيثارة، ولكن مَن مِن أبناء الإنسان يستطيع أن يمنع قُبَّرة السماء عن الغناء؟

Return to the Top

 

الحرية

 

ثمَّ قال له خطيب: هات حدِّثنا عن الحرية.

فأجاب قائلًا:

قد طالما رأيتكم ساجدين على رُكَبكم أمام أبواب المدينة، وإلى جوانب المواقد تعبدون حريتكم.

وأنتم بذلك أشبه بالعبيد الذين يتذللون أمام سيدهم العَسُوف الجبار، يمدحونه ويُنشدون له، وهو يُعْمِل السيفَ في رقابهم.

نعم، وفي غابة الهيكل، وظِل القلعة، كثيرًا ما رأيت أشدكم حرية يحمل حريته كنِيرٍ ثقيل لعنقه وغُلٍّ متين ليديه ورجليه.

رأيت كل ذلك، فذاب قلبي في أعماق صدري، ونزفت دماؤه؛ لأنكم لا تستطيعون أن تصيروا أحرارًا حتى تتحول رغبتكم في السعي وراء الحرية إلى سلاح تتسلحون به، وتنقطعوا عن التحدث بالحرية كغايتكم ومحجَّتكم.

•••

إنكم تصيرون أحرارًا بالحقيقة إذا لم تكن أيامكم بلا عمل تعملونه، ولياليكم بلا حاجة تفكرون بها، أو كآبة تتألمون لذكراها.

بل تكونون أحرارًا عندما تمنطق هموم الحياة وأعمالها أحقاءكم بمنطقة الجهاد والعمل، وتثقل كاهلكم بالمصاعب والمصائب، ولكنكم تنهضون من تحت أثقالها عراةً طليقين؛

لأنكم كيف تستطيعون أن ترتفعوا إلى ما فوق أيامكم ولياليكم إذا لم تحطِّموا السلاسل التي أنتم أنفسكم في فجر إدراككم قيدتم بها ساعة ظهيرتكم الحرة؟

ألا إن ما تسمونه حرية إنما هو بالحقيقة أشد من هذه السلاسل قوة، وإن كانت حلقاته تلمع في نور الشمس وتخطف أبصاركم.

•••

وماذا يجدر بكم طرحه عنكم لكي تصيروا أحرارًا سوى كِسَر صغيرة رَثَّة في ذاتكم البالية؟

فإن كانت هذه الكِسَر شريعة جائرة وجب نسخها؛ لأنها شريعة سطَّرتها يمينكم وحفرتها على جبينكم.

بيد أنكم لا تستطيعون أن تمحوها عن جباهكم بإحراق كتب الشريعة التي في دواوينكم، كلا، ولا يتم لكم ذلك بغسل جباه قضاتكم، ولو سكبتم عليها كل ما في البحار من المياه.

وإن كانت طاغية تودُّون خلعه عن عرشه فانظروا أوَّلًا إن كان عرشه القائم في أعماقكم قد تهدَّم؛

لأنه كيف يستطيع طاغية أن يحكم الأحرار المفتخرين، ما لم يكن الطغيان أساسًا لحريتهم، والعار قاعدة لكبريائهم؟

وإن كانت همًّا ترغبون في التخلص منه، فإن ذلك الهم إنما أنتم اخترتموه ولم يضعه أحدٌ عليكم.

وإن كانت خوفًا تريدون طرده عنكم فإن جرثومة هذا الخوف مغروسة في صميم قلوبكم وليست في يدي من تخافون.

الحقَّ أقول لكم، إن جميع الأشياء تتحرك في كيانكم متعانقة على الدوام عناقًا نصفيًّا، كل ما تشتهون وما تخافون، وما تتعشقون وما تستكرهون، ما تسعون وراءه وما تهربون منه؛

جميع هذه الرغبات تتحرك فيكم كالأنوار والظلال.

فإذا اضمحل الظل ولم يبقَ له من أثر، أمسى النور المتلألئ ظلًّا لنور آخر سواه.

وهكذا الحال في حريتكم، إذا حلَّت قيودها أمست هي نفسها قيدًا لحرية أعظم منها.

Return to the Top

 

العقل والعاطفة

 

ثمَّ طلبت إليه العرافة ثانيةً قائلةً: هات حدِّثنا عن العقل والهوى.

فأجاب وقال:

كثيرًا ما تكون نفوسكم ميدانًا تسير فيه عقولكم ومدارككم حربًا عَوَانًا على أهوائكم وشهواتكم.

وإنني أودُّ أن أكون صانع سلام في نفوسكم،

فأحوِّل ما فيكم من تنافر وخصام إلى وحدة وسلام.

ولكن أنَّى يكون لي ذلك، إذا لم تصيروا أنتم صانعي سلام لنفوسكم، ومحبين جميع عناصركم على السواء؟

•••

إنَّ العقل والهوى هما سُكَّان١ النَّفْس وشراعها، وهي سائرة في بحر العالم.

فإذا انكسر السكان أو تمزق الشراع فإن سفينة النَّفْس لا تستطيع أن تتابع سيرها، بل تُرغم على ملاطمة الأمواج يَمْنَة ويَسْرَة حتى تقذف بكم إلى مكان أمين تحفظون به في وسط البحر؛

لأن العقل إذا استقلَّ بالسلطان على الجسد قيَّد أهواءه، ولكن الأهواء إذا لم يرافقها العقل كانت لهيبًا يتأجج ليُفنيَ نفسه.

فاجعل نفسك تسمو بعقلك إلى مستوى أهوائك، وحينئذٍ ترى منها ما يطربك ويشرح لك صدرك.

وليكن لك من عقلك دليل وقائد لأهوائك، لكي تعيش أهواؤك في كل يوم بعد موتها، وتنهض كالعنقاء٢ متسامية فوق رمادها.

وأرغب إليكم أن تُعنَوْا بالعقل والهوى عنايتكم بطيفين عزيزين عليكم.

فإنكم — ولا شك — لا تكرمون الواحد أكثر من الثاني؛ لأن الذي يعتني بالواحد ويهمل الآخر يخسر محبة الاثنين وثقتهما.

•••

وإذا جلستم في ظلال الحور الوارفة، بين التلال الجميلة، تشاطرون الحقول والمروج البعيدة سلامها وسكينتها وصفاءها، فقولوا حينئذٍ في قلوبكم: «إنَّ الله يستريح في العقل

وعندما تعصف العاصفة، وتزعزع الرياح أصول الأشجار في الأحراج، وتعلن الرعود والبروق عظمة السموات، فقولوا حينئذٍ في أعماق قلوبكم متهيبين خاشعين: «إنَّ الله يتحرك في الأهواء

وما دمتم نسمةً من روح الله، وورقة في حرجه، فأنتم أيضًا يجب أن تستريحوا في العقل وتتحركوا في الأهواء.

١  سُكَّان السفينة: ما يُعرف بالدفة.

٢  العنقاء: مؤنث أعنق، وهو طائر معروف باسمه مجهول بجسمه، وفي الخرافات المصرية أنَّه طائر مقدس كان يأتي من بلاد العرب مرة في كل سنة إلى هليوبوليس، فيحرق نفسه على المذبح، ثمَّ لا يلبث أن ينهض من وسط الرماد المحترق حيًّا جميلًا كما كان؛ ولذلك كان عندهم رمزًا إلى الخلود.

Return to the Top

 

الألم

 

ثمَّ نهضت من بين الجمع امرأة وقالت له: هات حدِّثنا عن الألم.

فأجاب وقال:

إنَّ ما تشعرون به من الألم هو انكسار القشرة التي تغلف إدراككم.

وكما أنَّ القشرة الصلدة التي تحجب الثمرة يجب أن تتحطَّم حتى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمس.

هكذا أنتم أيضًا يجب أن تحطم الآلام قشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة؛ لأنَّكم لو استطعتم أنْ تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقها من التأمل والدَّهشة، لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة من أفراحكم.

بل كنتم تقبلون فصول قلوبكم كما قد قبلتم في غابر حياتكم الفصول التي مرَّت في حقولكم.

وكنتم ترقبون وتتأملون بهدوء وسكون شتاء أحزانكم وآلامكم.

•••

أنتم مخيرون في الكثير من آلامكم.

وهذا الكثير من آلامكم هو الجرعة الشديدة المرارة التي بواسطتها يشفي الطبيب الحكيم الساهر في أعماقكم أسقامَ نفوسكم المريضة؛

لذلك آمِنوا بطبيب نفوسكم وثقوا بما يصفه لكم من الدواء الشافي، وتناولوا جرعته المرة بسكينة وطمأنينة؛

لأنَّ يمينه وإن بدت ثقيلة قاسية، فهي مقودة بيمين غير المنظور اللطيفة، والكأس التي يقدمها إليكم، وإن أحرقت شفاهكم، فهي مصنوعة من الطين الذي جبلته يدا الفخاري الأزلي بدموعه المقدسة.

 

 

الألم ماء مُحْيٍ.

Return to the Top

 

معرفة النَّفْس

 

ثمَّ قال له رجل: هات حدِّثنا عن معرفة النَّفْس.

فأجاب قائلًا:

إنَّ قلوبكم تعرف في السَّكِينَة أسرار الأيام والليالي.

ولكن آذانكم تتشوق لسماع صوت هذه المعرفة الهابطة على قلوبكم.

غير أنكم تودُّون لو تعرفون بالألفاظ والعبارات ما تعرفونه بالأفكار والتأملات.

وتتوقون إلى أن تلمسوا بأصابعكم جسد أحلامكم العاري.

•••

وحسن أنَّكم تتوقون إلى جميع ذلك.

فإنَّ الينبوع الكامن في أعماق نفوسكم سيتفجَّر يومًا ما ويجري منحدرًا إلى البحر.

والكنز المطمور في أعماقكم غير المتناهية سيُنقب في ساعة لا تعلمونها وتفتح أبوابه أمام عيونكم.

ولكن حذارِ أن تأخذوا معكم موازينكم لكي تَزِنوا بها كنزكم غير المعروف.

كلا، ولا تسبروا غور معرفتكم بقياس محدود أو حبل مشدود؛ لأن الذات بحر لا وزن ولا قياس له.

•••

أجل، ولا تقل في ذاتك: «قد وجدت الحق»، بل قل بالأحرى: «قد وجدت حقًّا

ولا تقل: «قد وجدت طريق النَّفْس»، بل قل بالأولى: «قد رأيت النَّفْس تمشي على طريقي

لأنَّ النَّفْس تمشي على جميع المسالك والطرق.

النَّفْس لا تمشي على حبل أو خيط، كلا، ولا هي تنمو كالقصبة.

النَّفْس تطوي ذاتها، كالبشنين١ ذي البتلات التي لا يُحصى عديدها.

Return to the Top

 

التعليم

 

ثمَّ قال له معلم: هات لنا كلمة في التعليم.

فقال:

ما من رجل يستطيع أن يعلن لكم شيئًا غير ما هو مستقر في فجر معرفتكم وأنتم غافلون عنه.

أمَّا المعلم الذي يسير في ظل الهيكل مُحاطًا بأتباعه ومريديه، فهو لا يعطي شيئًا من حكمته، بل إنَّما يعطي من إيمانه وعطفه ومحبته؛

لأنَّه إذا كان بالحقيقة حكيمًا فإنه لا يأمركم أن تدخلوا بيت حكمته، بل يقودكم بالأحرى إلى عتبة فكركم وحكمتكم.

فإن الفلكي يستطيع أن يقصَّ عليكم شيئًا من معرفته لنظام السماء، ولكنه لا يقدر أن يعطيكم معرفته.

والموسيقي يستطيع أن ينشدكم أجمل ما في العالم من الأناشيد والأنغام، ولكنه لا يستطيع أن يمنحكم الأذن التي تضبط النظام في النغم، ولا الصوت الذي يوجِد الألفة في الألحان.

والرياضي النابغ في ضبط الأرقام يستطيع أن يوضح لكم عدد الموازين والمقاييس وخصائص كلٍّ منها، ولكنه لا يستطيع أن يمنحكم معرفته؛

لأن الوحي الذي يهبط على رجل ما لا يعير جناحيه لغيره.

وكما أن لكلٍّ منكم مقامًا منفردًا في معرفة الله إياه، هكذا يجب عليه أن يكون منفردًا في معرفته لله وفي إدراكه لأسرار الأرض.

Return to the Top

 

الصداقة

 

ثمَّ قال له شاب: هات حدِّثنا عن الصداقة.

فأجاب وقال:

إنَّ صديقك هو كفاية حاجاتك،

هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر،

هو مائدتك وموقدك؛

لأنَّك تأتي إليه جائعًا، وتسعى وراءه مستدفئًا.

•••

فإذا أوضح لك صديق فكره فلا تخشَ أن تُصرِّح بما في فكرك من النفي، أو أن تحتفظ بما في ذهنك من الإيجاب؛

لأنَّ الجبل يبدو للمتسلق له أكثر وضوحًا وكبرًا من السهل البعيد.

وإذا صمت صديقك ولم يتكلم فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه؛

لأنَّ الصداقة لا تحتاج إلى الألفاظ والعبارات في إنماء جميع الأفكار والرغبات والتمنيات التي يشترك الأصدقاء بفرح عظيم في قطف ثمارها اليانعات.

وإن فارقت صديقك فلا تحزن على فراقه؛

لأنَّ ما تتعشقه فيه، أكثر من كل شيء سواه، ربما يكون في حين غيابه أوضح في عينَي محبتك منه في حين حضوره.

 

 

الصداقة.

ولا يكن لكم في الصداقة من غاية ترجونها غير أن تزيدوا في عمق نفوسكم؛

لأنَّ المحبة التي لا رجاء لها، سوى كشف الغطاء عن أسرارها، ليست محبة، بل هي شبكة تُلقى في بحر الحياة ولا تُمسك إلا غير النافع.

وليكن أفضل ما عندك لصديقك،

فإن كان يجدر به أن يعرف جَزْر حياتك،

فالأجدر بك أيضًا أن تُظهر له مَدَّها؛

لأنه ماذا ترتجي من الصديق الذي تسعى إليه لتقضي معه ساعاتك المعدودة في هذا الوجود؟

فاسْعَ بالأحرى إلى الصديق الذي يُحيي أيامك ولياليك؛

لأن له وحده قد أعطي أن يكمل حاجاتك، لا لفراغك ويبوستك، وليكن ملاك الأفراح واللذات المتبادلة مرفوعًا فوق حلاوة الصداقة؛

لأنَّ القلب يجد صباحه في الندى العالق بالصغيرات، فينتعش ويستعيد قوته.

Return to the Top

 

الحديث

 

ثمَّ قال له عالم: هات حدِّثنا عن الكلام.

فأجاب وقال:

إنَّكم تتكلمون عندما توصد دونكم أبواب السلام مع أفكاركم.

وعندما تعجزون عن السكنى في وحدة قلوبكم، تقطنون في شفاهكم والصوت يلهبكم ويسليكم.

وفي الكثير من كلامكم يكاد فكركم يقضي ألمًا وكآبةً؛

لأنَّ الفكر طائر من طيور الفضاء، يبسط جناحيه في قفص الألفاظ ولكنه لا يستطيع أن يحلق طائرًا.

إنَّ بينكم قومًا يقصدون الثرثار المهذار، ضجرًا من الوحدة والانفراد؛

لأنَّ سكينة الوحدة تبسط أمام عيونهم صورة واضحة لذواتهم العارية، يرتعدون لدى رؤيتها فيهربون منها.

ومنكم الذين يتكلمون، ولكنهم عن غير معرفة، وبدون سابق قصد، يُظهرون حقيقة لا يدركونها هم أنفسهم.

ومنكم الذين أُودِع الحق قلوبهم، ولكنهم يأبون أن يلبسوه حلة اللفظ، وفي أحضان هؤلاء تقطن الروح في هدوء وسكون.

•••

فإذا رأيت صديقك على جادَّة الطريق، أو جمعتك به ساحة المدينة، فدع الروح التي فيك تحرك شفتيك وتدير لسانك،

افسح المجال للصوت الذي في أعماق صوتك فيخاطب أذن أذنه؛

لأن نفسه تحتفظ بسر قلبك كما يتذكر فمه طعم الخمرة الطيبة، وإن نسيَ الفكر لونها وتحطمت الكأس التي حملتها.

Return to the Top

 

الزَّمان

 

ثمَّ قال له فلكي: أَيُّهَا المعلم، ماذا تعتقد بالزمان؟

فأجابه قائلًا:

أنت تريد أن تقيس الزمان غير المحدود، الذي لا قياس له،

وتودُّ أن تطبق سلوكك وتعين مسالك روحك على مقتضى الساعات والفصول.

بل أنت تريد أن تجعل الزمان جدولًا تجلس إلى حافته وتراقب انسجام مياهه وتصغي إلى خريرها.

•••

بيد أن غير المقيَّد فيك بالزمان يعرف حقيقة أن الحياة لا تعرف حدود الزمان،

وأن ليس أمس سوى ذكرى اليوم، وليس الغد سوى حلم اليوم،

وأن القوة التي تترنم وتتأمل فيك لا تزال قاطنة ضمن حدود تلك الثانية الأولى التي فرَّقت الكواكب في الفضاء.

وهل بينكم رجل لا يشعر أن قوته على المحبة فائقة الحدود؟

بل من هو الذي لا يشعر بتلك المحبة، غير المحدودة، المحصورة في صميم كيانه، ولا ينتقل من فكر محبة إلى فكر محبة، ومن أعمال محبة إلى أعمال محبة غيرها؟

والزمان، أليس الزمان كالمحبة، لا ينقسم ولا يُستقصى؟

•••

ولكن إذا شئتم أن تقسموا الزمان إلى فصول مختلفة في أفكاركم، فاجعلوا كل فصل من فصوله يحيط بجميع الفصول الأخرى،

واجعلوا الحاضر يعانق الماضي بالتذكارات، والمستقبل بالحنين والتشوقات.

Return to the Top

 

الخير والشَّر

 

ثمَّ قال له أحد شيوخ المدينة: هات حدِّثنا عن الخير والشَّر.

فأجاب قائلًا:

إنني أستطيع أن أُحدِّثكم عن الخير، لا الشَّر الذي فيكم؛

لأنه أليس الشَّر هو بعينه الخير المتألم آلامًا مبرحة من تعطُّشه ومجاعته؟

فإني الحقَّ أقول لكم، إن الخير إذا جاع سعى إلى الطعام ولو في الكهوف المظلمة، وإن عطش فإنه يشرب حتى من المياه الراكدة المنتنة.

أنت صالح، يا صاح، إذا كنت واحدًا مع ذاتك،

وإذا لم تكُ واحدًا مع ذاتك، فأنت لست بالشِّرير؛

لأن البيت المنقسم على ذاته ليس مغارة لِلُّصوص، ولكنه بيت منقسم على ذاته لا أكثر ولا أقل،

والسفينة التي تضيع سكانها وتهيم في البحار بين الجزائر تحدق بها الأخطار من كل جهة، ولكنها لا تغرق إلى قعر البحر.

أنت صالح، يا صاح، إذا جاهدت لكي تعطي الناس من ذاتك، ولكنك لست بالشرير إذا سعيت وراء منفعة نفسك؛

لأنَّك في سعيك وراء منفعة نفسك تشبه جذر الشَّجرة الذي يريق دموعه على الأرض، ثمَّ يمتص الحليب من ثدييها.

الحقَّ أقول لك، إنَّ الثَّمرة لا تستطيع أن تقول للجذر: «كن مثلي ناضجًا، جميلًا، جوادًا، يبذل كل ما فيه لأجل غيره

لأنَّ العطاء حاجة من حاجات الثمرة لا تعيش بدونها، كما أن الأخذ حاجة من حاجات الجذر لا يحيا بغيرها.

•••

أنت صالح، يا صاح، إذا كنت تبلغ كمال يقظتك في خطابك.

بيد أنك لست بالشرير إذا نمت وكان لسانك يهذر من غير مرمًى؛ لأن الكلام، وإن كان مجلبة للعثرات، لا بدَّ أن يشدد لسانًا ضعيفًا.

•••

أنت صالح، يا صاح، إذا كنت تسير إلى محجتك راسخ العزم ثابت الخُطى.

غير أنك لست بالشرير إذا كنت تمشي إلى محجتك متلكئًا؛ لأن العُرْج أنفسهم لا يسيرون إلى الوراء.

ولكنك، وأنت صحيح القدم قوي الجسد، أَنظَر ألا تعرج أمام العُرْج وأنت تحسب ذلك رقةً وظُرفًا!

أنت صالح بطرق عديدة يا صاح. وإذا لم تكن صالحًا فإنك لست بالشرير، بل أنت كسول متراخٍ.

ويا ليت الظباء تستطيع أن تعلِّم السلاحف البطيئة السرعة والرشاقة!

•••

أجل، إن الخير الذي فيك إنما هو في حنينك إلى ذاتك الجبارة، وهذا الحنين فيكم جميعكم،

غير أنه يشبه في البعض منكم سيلًا جارفًا يجري بقوة منحدرًا إلى البحر، فيحمل معه أسرار التلال والأودية وأناشيد الأحراج والجنان.

وهو في غيرهم أشبه بجدول صغير يسير في منبسط من الأرض، يريق ماءه في الزوايا والمنعرجات؛ ولذلك يطول به الزمان قبل أن يصل إلى الشاطئ.

ولكن لا يَقُلْ ذو الحنين الكثير إلى ذي الحنين القليل: «لماذا أنت كسيح بطيء؟»

لأن الصالح الصالح لا يسأل العُراة: «أين ثيابكم؟» ولا الغرباء: «أين منازلكم؟»

Return to the Top

 

الصَّلاة

الصلاة

ثمَّ قالت له الكاهنة: هات حدِّثنا عن الصلاة.

فأجاب وقال:

إنَّكِ تُصلين في ضيقتكِ وفي حاجتك،

ولكن حبذا لو أنك تصلين في كمال فرحكِ ووفرة خيراتك!

وهل الصلاة غير اتساع ذاتكِ في الأثير الحي؟

فإذا كنتِ تتعزين في أن تسكبي كأس ظلمتكِ في الفضاء، فإنك ولا شك تفرحين في أن تسكبي فيه فجر فؤادك.

وإذا كنت لا تستطيعين أن تمسكي عن البكاء عندما تدعوك نفسك إلى الصلاة، فالأجدر بنفسك أن تنخسك بمنخس حاد مرة بعد مرة، على رغم الدموع المتساقطة على وجنتيك، لكي تأتي إلى الصلاة فرحة باسمة.

وإذا صليت فإنك ترتفعين بروحك لكي تجتمعي في تلك الساعة بأرواح المصلين، الذين لا تستطيعين أن تجتمعي بهم بغير الصلاة؛

لذلك فلتكن زيارتك لذلك الهيكل غير المنظور مدعاةً للهيام السماوي والشركة الروحية السعيدة؛

لأنك إذا دخلت الهيكل ولا غاية لك سوى السؤال، فإنك لن تنالي شيئًا. وإن دخلت الهيكل لكي تُظهري وفرة اتِّضاعك وخشوعك فإنك لن تجدي رفعة.

بل لو جئتِ الهيكل وأنتِ ترجين أن تلتمسي خيرًا لغيركِ من الناس، فإنكِ لن تجابي إلى سؤالك؛

لأنه يكفيك أن تدخلي الهيكل من غير أن يراك أحد.

 

 

الصلاة.

لا أستطيع أن أعلمك الصلاة بالألفاظ؛

لأنَّ الله لا يصغي إلى كلماتك ما لم يضعها تعالى اسمه على شفتيك وينطق بها بلسانك.

ولا أقدر أن أعلمك صلاة البحار والأحراج والجبال، بيد أنك — وأنت ابنة الجبال والأحراج والبحار — تستطيعين أن تجدي هذه الصلاة محفورة على صفحات قلبك.

فإذا أصغيت في سكينة الليل سمعت الجبال والبحار والأحراج تصلي بهدوء وخشوع:

«ربنا وإلهنا، يا ذاتنا المجنحة،

إننا بإرادتك نرى،

وبرغبتك نرغب ونشتهي.

بقدرتك تُحول ليالينا، وهي لك، إلى أيام هي لك أيضًا.

إننا لا نستطيع أن نلتمس منك حاجة؛

لأنك تعرف حاجاتنا قبل أن تولد في أعماقنا.

أنت حاجتنا، وكلما زدتنا من ذاتك زدتنا من كل شيء

Return to the Top

 

اللذَّة

 

حينئذٍ دنا منه ناسك يزور المدينة مرةً في السنة، وقال له: هات حدِّثنا عن اللذة.

فأجاب وقال:

اللذة أنشودة سحرية،

ولكنها ليست حرية بذاتها.

اللذة زهرة رغباتكم،

ولكنها ليست ثمرة لها.

اللذة عمق ينشد علوًّا،

ولكن لا هي بالعمق ولا هي بالعلو.

اللذة جناحٌ قد أفلت من قفصه،

ولكنها ليست فضاءً حُرًّا طليقًا.

أجل، إن اللذة بالحقيقة أنشودة الحرية.

وإنه ليطربني أن تترنموا بها في أعماق قلوبكم، ولكنني لا آذن لكم أن تستسلموا بقلوبكم للفناء.

•••

إن فريقًا من أحداثكم يسعون وراء اللذة سعيهم وراء كل شيء؛ ولذلك يُحكم عليهم بالقصاص والتأديب.

أما أنا فلا أدينهم، ولا أحكم عليهم، ولكنني أسألهم أن يفتشوا وينقبوا؛

لأنهم سيجدون اللذة في تفتيشهم، ولكنهم لن يجدوها وحدها فقط،

فإن لها سبع شقيقات، أحقرهن أوفر جمالًا منها.

وأنتم، ألم تسمعوا بذلك الرجل الذي كان يحفر الأرض لكي يستخرج الجذور من أعماقها فوجد كنزًا عظيمًا؟

•••

وفريقٌ آخر من شيوخكم يتذكرون لذَّات شبابهم آسفين، كأنما هي جرائم اقترفوها في أوقات السكر والجهالة.

ولكن الأسف هو بالحقيقة غمامة تغمُّ الفكر ولا تؤدبه؛

ولذلك يجدر بهم أن يتذكروا لذاته بالحمد والثناء كما يتذكرون حصاد الصيف.

ولكن إذا كان الأسف يعزيهم فلا بأس أن يتعزوا به.

وهنالك فريق ثالث ممن ليسوا بالأحداث لكي يجاهدوا مفتشين عن لذات جديدة، ولا بالشيوخ لكي يتذكروا لذات شبابهم،

ولكنهم لشدة خوفهم من عناء الجهاد في التفتيش والألم في التذكارات يُعرضون عن جميع اللذات، لئلا يهملوا الروح أو يجدفوا عليها.

غير أن لهم من هذا الإعراض بعينه لذة لأنفسهم؛

ولذلك فهم أيضًا يجدون كنزًا لذواتهم مع أنهم يحفرون لأجل الجذور بأيدٍ مرتعشة.

ولكن هل لك أن تخبرني — وأنت الناسك الحكيم — من هو الذي يستطيع أن يُكدِّر على الروح صفوها.

أيستطيع البلبل أن يعكر صفو سكينة الليل، أم الحباحب نور السماء؟ وهل يقدر لهيب نارك أو دخانها أن يثقل كاهل الريح؟

أم هل تعتقد أن الروح بركة هادئة وفي استطاعتك كلما خطر لك أن تزعج هدوءها بعصاك؟

كلما أنكرت على ذاتك التمتع بلذة ما تغلق بيديك على تلك اللذة في مستودعات كيانك.

ومن يدري هل تعود اللذة التي ترفضها اليوم فتترقب عودتك إليها في الغد؟

لأن جسدك يعرف حاجاته الضرورية وميراثه الحقيقي، فلا يستطيع أحد أن يخدعه.

أجل، إن جسدك هو قيثارة نفسك،

وأنت وحدك تستطيع أن تُخرج منها أنغامًا فتانةً أو أصواتًا مشوشة مضطربة.

•••

ولعلك تسأل في قلبك قائلًا: «كيف نستطيع أن نميز بين الصالح والشرير من اللذات؟»

فاذهب إلى الحقول والبساتين، وهنالك تتعلم أن لذة النحلة قائمة في امتصاص العسل من الزهرة،

ولكن لذة الزهرة أيضًا تقوم بتقديم عسلها للنحلة،

والنحلة تعتقد أن الزهرة ينبوع الحياة،

والزهرة تؤمن بأن النحلة هي رسول المحبة المحيية،

والنحلة والزهرة كلتاهما تعتقدان أن اقتبال اللذة وتقديمها حاجتان لا بدَّ منهما وافتتان لا غنى للحياة عنه.

أجل يا أبناء أورفليس، كونوا في لذاتكم كالنحل والأزهار.

Return to the Top

 

الجَمال

 

ثمَّ قال له شاعر: هاتِ لنا شيئًا عن الجَمال.

فأجابه قائلًا:

أين تفتش عن الجمال، وكيف تقدر أن تهتدي إليه ما لم يكن هو نفسه طريقًا لك ودليلًا؟

وكيف تستطيع أن تتحدث عن الجمال ما لم ينسج لك ثوبًا لائقًا بخطابك؟

•••

فالحزين المتألم يقول: «الجمال رقة ولطف، وهو يمشي بيننا كالأم الفتية الحيية من جلالها

والغَضوب يقول: «كلا، بل الجمال قوة وبطش، فهو كالعاصفة يهزُّ الأرض تحت أقدامنا والسماء فوق رءوسنا

والتَّعِب الْمَلُول يقول: «إن الجمال لطيف المناجاة، يتكلم في أرواحنا ويتموج صوته في سكون أذهاننا كما يرتعش النور الضئيل خوفًا من الظل الظليل

غير أن القَلِق المضطرب يقول: «قد سمعنا الجمال يصيح بأعلى صوته بين الجبال،

يرافق صوته وقع الحوافر، وخفقان الأجنحة وزمجرة الأسود

وعند انتصاف الليل يقول حارس المدينة: «سيبزغ الجمال مع الفجر من المشرق

وعند الظهيرة يقول العمال وعابرو السبيل: «قد رأينا الجمال يطلُّ على الأرض من نوافذ المغرب

•••

وفي الشتاء يقول جامعو الثلوج: «سيأتي الجمال مع الربيع وهو يقفز على التلال

وفي الصيف يقول الحصَّادون: «قد رأينا الجمال يرقص مع أوراق الخريف، وشاهدنا كومة من الثلج على رأسه

كل هذا سمعتكم تقولونه في الجمال،

غير أنكم في الحقيقة لم تقولوا فيه كلمة، وإنما تحدثتم بحاجاتكم غير المكملة، والجمال ليس بالحاجة غير المكملة، بل هو انشغاف وافتتان.

أجل، وليس الجمال فمًا متعطِّشًا أو يدًا ممدودة،

بل هو قلب ملتهب، ونفس مفتونة مسحورة.

وليس بالصورة التي ترغبون في رؤيتها أو الأنشودة التي ترجون سماعها،

بل هو صورة تبصرونها ولو أغمضتم عيونكم، وأنشودة تسمعونها ولو أغلقتم آذانكم.

وليس بالعصارة الجارية في عروق الأشجار، ولا بالجناح المتعلق بالمخالب، بل هو بستان تزينه الأزهار إلى الأبد، وجوقة من الملائكة ترفرف بأجنحتها إلى منتهى الدهور.

•••

نعم يا أبناء أورفليس، إن الجمال هو الحياة بعينها سافرة عن وجهها الطاهر النقي.

ولكن أنتم الحياة وأنتم الحجاب.

والجمال هو الأبدية تنظر إلى ذاتها في مرآة، ولكن أنتم الأبدية وأنتم المرآة.

Return to the Top

 

الدِّين

 

ثمَّ دنا منه كاهن شيخ وقال له: هات حدِّثنا عن الدِّين.

فأجاب قائلًا:

وهل تكلمت اليوم في موضوع آخر غير الدين؟

أليس الدين كل ما في الحياة من الأعمال والتأملات؟

أليس الدين كل ما في الحياة مما ليس هو بالعمل ولا بالتأمل، بل غرابة وعجب ينبعان من جداول النَّفْس أبدًا، وإن عملت اليدان في نحت الحجارة أو إدارة الأنوال؟

من يستطيع أن يفصل إيمانه عن أعماله، وعقيدته عن مهنته؟

من يستطيع أن يبسط ساعات عمره أمام عينيه قائلًا:

«هذه لله، وهذه لي، هذه لنفسي، وهذه لجسدي؟»

فإن جميع ساعات الحياة أجنحة ترفرف في الفضاء منتقلة من ذات إلى ذات.

وإن من ينظر إلى فضيلته نظرته إلى أفضل حلة يلبسها، فالأجدر به أن يسير بين الناس عاريًا؛

لأن الريح والشمس لا تمزقان بشرته.

وكل من يقيد سلوكه وتصرفه بقيود الفلسفة والتقليد إنما يحبس طائر نفسه الغريد في قفص من حديد؛

لأن أنشودة الحرية لا يمكن أن تخرج من بين العوارض والقضبان.

وكل من يعتقد أن العبادة نافذة يفتحها ثمَّ يغلقها فهو لم يبلغ بعد هيكل نفسه المفتوحة نوافذه من الفجر إلى الفجر.

•••

إنَّ حياتكم اليومية هي هيكلكم وهي ديانتكم.

خذوا السكة والكور والمطرقة والطنبور، وكل ما لديكم من الآلات التي صنعتموها رغبة في قضاء حاجاتكم أو سعيًا وراء مسراتكم ولذاتكم؛

لأنَّكم لا تستطيعون أن ترتفعوا بتأملاتكم فوق أعمالكم، ولا تقدرون أن تنحدروا بتصرفاتكم إلى أدنى من خيباتكم.

وليرافقكم جميع معارفكم من أبناء الإنسان؛

لأنَّكم لا تستطيعون في عبادتكم أن تحلِّقوا فوق آمالهم، ولا أن تضعوا ذواتكم إلى أحقر من يأسهم.

•••

وإنْ شئتم أن تعرفوا ربكم فلا تُعنَوْا بحل الأحاجي والألغاز،

بل تأملوا ما حولكم تجدوه لاعبًا مع أولادكم،

وارفعوا أنظاركم إلى الفضاء الوسيع تبصروه يمشي في السحاب، ويبسط ذراعيه في البرق، وينزل إلى الأرض مع الأمطار.

تأملوا جيِّدًا تروا ربكم يبتسم بثغور الأزهار، ثمَّ ينهض ويحرك يديه بالأشجار.

Return to the Top

 

الموت

الموت

ثمَّ قالت له المِطرة: نودُّ أن تُحدِّثنا الآن عن الموت.

فقال لها:

إنكم تريدون أن تعرفوا أسرار الموت،

ولكن كيف تجدونها إن لم تسعَوْا إليها في قلب الحياة؟

لأن البومة التي لا تفتح عينيها إلا في الظلمة، البومة العمياء عن نور النهار، لا تستطيع أن تنزع الحجاب عن أسرار النور.

فإذا رغبتم بالحقيقة في أن تنظروا روح الموت، فافتحوا أبواب قلوبكم على مصاريعها لنهار الحياة؛

لأنَّ الحياة والموت واحد، كما أنَّ النَّهر والبحر واحد أيضًا؛

ففي أعماق آمالكم ورغباتكم تتكئ معرفتكم الصامتة لما وراء الحياة.

وكما تحلم الحبوب الهاجعة تحت الثلوج بالربيع، هكذا تحلم قلوبكم بربيعها؛

لذلك فلتكن ثقتكم عظيمة بالأحلام؛ لأن بوابة الأبدية مختفية فيها.

أما خوفكم من الموت فهو أشبه بارتعاش الراعي الواقف أمام الملك الذي يريد أن يرفع يمينه فوقه لكي يكرمه وينعم عليه بوسام الرضى والفخر.

أفلا يفرح الراعي مع ارتعاشه لأن مليكه يقلده وسام الشرف والرضى؟ ولكن ألا يشعر مع ذلك بارتعاشه وخفقان قلبه؟

وهل موت الإنسان هو أكثر من وقوفه عاريًا في الريح وذوبانه في حرارة الشمس؟

أم هل انقطاع التنفس غير تحرير النَّفْس من دورانه المتواصل، لكي يستطيع أن ينهض من سجنه ويحلق في الفضاء ساعيًا إلى خالقه من غير قيد ولا عائق؟

•••

إنكم لا تستطيعون أن تترنموا بالأناشيد حتى تشربوا من نهر الصمت.

ولا تستطيعون أن تباشروا الصعود إلى الجبال حتى تبلغوا قننها.

ولن تقدروا أن ترقصوا حتى تتسلم الأرض جميع أعضائكم.

 

 

الموت.

Return to the Top

 

الوداع

 

وكان المساء.

فقالت العرافة الْمِطْرة: مُبارك هذا اليوم وهذا المكان الذي جمعنا بك، ومباركة روحك التي خاطبت أرواحنا.

فأجاب وقال: «وهل أنا الذي تكلمت؟ ألم أكن أنا سامعًا نظيركم؟»

•••

ثمَّ نزل عن درجات الهيكل ومشى، فتبعه الشعب بأسره.

وظل يجدُّ في سيره والشعب يلحق به حتى وصل إلى المرفأ، فصعد إلى سفينته ووقف على ظهرها.

حينئذٍ رفع صوته والشعب ينظر إليه وقال لهم:

يا أبناء أورفليس، إن الريح تأمرني أن أفارقكم.

ومع أنني لست كالريح عجولًا، فإنني مرغم أن أطيع أوامرها؛

لأننا نحن الهائمين، الذين ينشدون أبدًا أشد الطرق وحدةً، لا نبدأ أعمال نهار ما عندما نفرغ من نهار غيره، ولا يجدنا شروق شمس حيث تركنا الغروب الذي تقدمه؛

لأننا وإن نامت الأرض، مستيقظون نوالي مسيرنا.

•••

نحن بذور نبات غريب عجيب، وفي بلوغنا واكتمال نمو قلوبنا قد وُهبنا منحة للريح، فتفرقنا على وجه الأرض.

•••

قليلة كانت أيامي بينكم، وأقل منها كلماتي التي تركتها لكم، ولكن إذا تلاشى صوتي في آذانكم، وزالت محبتي من قلوبكم، فحينئذٍ آتي إليكم سريعًا،

وأخاطبكم ثانيةً بقلب أوفر عطفًا من قلبي، وشفتين أجزل إثمارًا للروح من شفتيَّ.

أجل، إنني سأرجع مع المد.

فإن حجبني الموت عنكم الآن وضمني الصمت العظيم بين طيات سكينته، فإنني سأنشد إدراككم مرة أخرى، ولن تذهب أتعابي في ذلك الحين عبثًا.

فإن كنت قد خاطبتكم اليوم بالحق الصريح، فإن هذا الحق سيُظْهِر ذاته لكم في ذلك اليوم بصوت أنقى من صوته اليوم، وبكلمات أقرب إلى أفكاركم من كلماته اليوم.

•••

إنَّنِي ماضٍ مع الرِّيح، يا أبناء أورفليس، ولكنني لن أهبط إلى العالم السفلي، إلى الفراغ المرعب.

فإذا لم يكن هذا اليوم قد أكمل حاجاتكم وأفعمكم من محبتي، فليكن موعدًا ليوم آخر.

فإن حاجات الإنسان تتبدَّل، ولكنَّ محبته لا تتغيَّر ومثلها رغبته في أن تُشْبِع المحبة حاجاته.

فاعلموا إذن أنني سأرجع إليكم من عالم الصمت والسَّكِينَة؛

لأن الضباب الذي يفارق الأرض عند بزوغ الفجر من غير أن يترك سوى قطرات صغيرة من الندى في الحقول، إنما يرتفع في الجو لكي يتجمع هنالك، فيؤلف السحاب الذي لا يلبث أن يعود إلى الأرض مطرًا غزيرًا.

وقد كنت بينكم مثل هذا الضباب؛

ففي سكينة الليل كنت أمشي في شوارعكم، وكنت أدخل بروحي إلى أعماق منازلكم،

وكانت نبضات قلوبكم تتردد في قلبي وسحائب لهاثكم تنتشر على وجهي، وقد عرفتكم بِعُجَرِكُمْ وبُجَرِكُمْ.

نعم، قد عرفت فرحكم وحزنكم، وفي هجوعكم كانت أحلامكم أحلامًا لي،

وكثيرًا ما كنت بينكم بحيرة بين الجبال.

فكانت ترتسم على صفحات مرآتي قننكم الشاهقة ومنحدراتكم المتعرجة، حتى قطعان أفكاركم ورغباتكم العابرة عليها.

وكان ضحك أولادكم يجري إلى سكينتي مع مياه الجداول، وكان حنين شبانكم وشاباتكم يأتي إليَّ مع مجاري الأنهار.

ومع أنَّ الجداول والأنهار كانت تبلغ أعماقي، فإنَّها لم تكن تنقطع البتة عن الغناء.

ولكن هنالك ما هو أحلى من الضحك وأعذب من الحنين بين من جاء إليَّ منكم،

ألا وهو الكائن غير المحدود فيكم،

الإنسان البالغ العظمة فيكم الذي لستم سوى أنسجة وعضلات في كيانه، والمرنِّم الذي ليس غناؤكم أمام غنائه سوى اختلاج وهينمة.

وأنتم لا تعرفون العظمة إلا بهذا الإنسان العظيم الذي فيكم،

وعندما رأيته رأيت حقيقتكم، وأحببتكم؛

لأنه هل في الوجود علوٌّ أو بُعدٌ تصل إليهما المحبة ولا يحيط بهما في دائرة كيانه العظيمة الاتساع؟

أم هل هنالك تصورات أو تمنيات أو أحلام تستطيع أن تسمو فتبلغ أقصى ارتفاعه؟

أجل، إن هذا الإنسان العظيم هو بالحقيقة كالسنديانة الجبارة المغطاة ببراعم التفاح الجميلة؛

فقدرته تقيدكم بالأرض، وشذاه يرفعكم إلى أعالي الفضاء، وفي عزمه وصبره على عواصف الطبيعة أنتم خالدون.

قد أخبرتم فيما مضى أنكم كالسلسلة، ضعفاء كأضعف حلقة في كيانكم.

غير أن هذا إنما هو نصف الحقيقة، فأنتم أيضًا أقوياء كأقوى حلقة من سلسلتكم؛

لأننا إذا حكمنا عليكم بأصغر أعمالكم كُنَّا كمن يحكم على قوة البحر بما في زَبَده من الضعف وسرعة الزوال.

وإن حكمنا عليكم بخيبتكم كُنَّا كمن يلوم الفصول لتعاقبها وعدم ثباتها.

•••

أجل، إنَّكم بالحقيقة كالأوقيانوس العظيم؛

فمع أنَّ سفنًا عظيمةً تنتظر مَدَّ البحر وجَزْرَهُ على شواطئكم، فأنتم كالأوقيانوس، لا تستطيعون أن تعجلوا مَدَّكم وجَزْرَكم.

وأنتم كالفصول أيضًا يا أبناء أورفليس؛

فإنَّكم تنكرون ربيعكم في شتائكم،

ولكن الربيع لا ينكركم، بل يبتسم لكم في غفلته، من غير أن يغضب أو يتعكر صفوه.

ولا يخطر لكم أني أقول لكم هذا لكي أحملكم على أن تهمسوا بعضكم لبعض قائلين: «قد أجاد في مديحنا والثناء علينا، ولم يرَ سوى الصالح فينا

فإنني أنقل إليكم بألفاظي ما تدركونه أنتم بأفكاركم.

وهل المعرفة اللفظية سوى ظل للمعرفة غير اللفظية؟

لأنَّ أفكاركم وكلماتي ما هي عند التحقيق إلا أمواج تقذف بها بحيرة الذاكرة المختومة التي تحتفظ بدواوين ماضينا ومجرياته،

وحوادث الأيام المتصرمة عندما لم تكن الأرض تعرفنا، وكانت تجهل ذاتها أيضًا،

وأحلام الليالي عندما كانت الأرض خربة خاوية خالية.

قد جاءكم الحكماء قبلي لكي يقدموا لكم من حكمتهم، أما أنا فقد أتيت إليكم لكي أغرف من مَعِين حكمتكم.

وها أنا ذا قد وجدت ما هو أعظم من الحكمة، قد وجدت روحًا ملتهبةً فيكم، ما برحت تستزيد جمع مبعثرات ذاتها، غير أنكم كنتم وما زلتم غافلين عن اتِّساعها وتعاظمها، تنوحون وتبكون على أيامكم الزائلة.

فإن الحياة تفتش عن الحياة في أجسام الذين يخافون القبور.

•••

ولكن لا قبور ها هنا؛

لأنَّ هذه الجبال والسهول إنما هي بالحقيقة سرير ومرقاة، فإذا قادَتْكم خطواتُكم إلى الحقل الذي وضعتم فيه أسلافكم، فتأمَّلوا جيِّدًا جميع جهاته، تروا ذواتكم ترقصون مع أولادكم جنبًا إلى جنب.

فإنَّنِي الحقَّ أقول لكم، إنَّكم كثيرًا ما تفرحون وأنتم لا تعرفون.

وآخرون جاءوا إليكم وعللوكم بالمواعيد الذهبية التي تبنون عليها صروح إيمانكم، فوهبتم لهم ثروة وقوة وعظَمة.

أما أنا فقد أعطيتكم أحقر موعد، ولكنكم أظهرتم نحوي أريحية لم تُظهروها لسواي؛

فقد أعطيتموني تعطشي الشديد للحياة.

فإنَّنِي أصارحكم القول إنه ما من عطية في هذا العالم أجزل فائدة للإنسان من العطية التي تُحوِّل كل ما في كيانه من الميول والرغبات إلى شفتين محترقتين عطشًا، وتجعل حياته جميعها ينبوعًا حيًّا باقيًا.

وهو ذا فخري وأجري.

في أية ساعة جئت الينبوع متعطِّشًا أجد الماء الحي المتدفق من فم الينبوع متعطِّشًا أيضًا،

فيشربني هذا الماء كما أشربه.

وقد خَيَّلَ إليَّ البعض منكم أنني عَيوفٌ حييٌّ، فلا أقبل عطية من عطاياكم.

على أنني بالحقيقة أكره قبول الأجور، ولكنني لا أرفض العطايا.

وإنه غير خافٍ عليكم أنني كنت أتقوَّت بأثمار العليق والتوت بين التلال، في حين أنكم كنتم ترغبون في أن أجالسكم حول موائدكم.

وكنت أنام في رواق الهيكل في حين أن كلًّا منكم كان يفرح لو يتاح له أن يُئْوِيني في بيته.

ولكن أليست محبتكم الشديدة الممزوجة بدموع العناية بأيامي ولياليَّ هي التي جعلت الطعام حُلوًا في فمي، وحفَّت نومي بالوحي والأحلام؟

•••

لأجل هذا أبارككم من أعماق قلبي؛

لأنَّكم تُعطون كثيرًا ولا تعرفون أنَّكم تُعطون شيئًا.

الحقَّ أقول لكم، إنَّ اللطف الذي ينظر إلى ذاته في مرآة ينقلب حجرًا، والعمل الصالح الذي يسمي نفسه بأسماء جميلة يصير والدًا للعنة كريهة.

وقد دعاني فريقٌ منكم متوحدًا ثملًا بمحبة وحدتي.

أما أنتم، فقلتم بعضكم لبعض: لا تبالغوا في عذله وملامته، فإنه يحب أن يؤلف مجلسه من أشجار الأحراج، وليس من أبناء الإنسان وهو يستلذُّ الجلوس على رءوس التلال والنظر إلى مدينتنا.

وإنني بالحقيقة قد تسلقت التلال ومشيت في أراضٍ بعيدة جِدًّا؛

لأنَّه كيف أمكنني أن أراكم من غير أن أكون في علو شاهق أو بُعد شاسع؟

أو كيف يستطيع أحدٌ أن يكون قريبًا ما لم يكن بعيدًا؟

•••

وغيركم من كان يناديني، ولكن بغير الألفاظ، ويقول لي:

«أيُّها الغريب، أيُّها الغريب المتعشق ما لا يبلغ من الشاهقات، لماذا تقطن بين قنن الجبال حيثما تبني النسور أعشاشها؟

لماذا تسعى إلى ما لا سبيل للحصول عليه؟

أي نوع من العواصف تريد أن تصطاد لشَبَكتك؟

وما هي الطيور البخارية التي تفتش عنها في السماء؟

هَلُمَّ إلينا، وكن واحدًا مِنَّا،

اهبط من علوك، وسكِّن حدة مجاعتك بخُبزنا، وأَخْمِدْ لظَى عطشك بلذيذ خمرتنا

قالوا هذه الأقوال كلها في وحدة نفوسهم.

ولو كانت وحدتهم أعمق مما هي لأدركوا أنني لم أكن أسعى إلا إلى إدراك سر أفراحكم وآلامكم.

ولم أكن أصطاد سوى ذواتكم الكبرى السائرة نحو السماء.

ولكن الصياد قد صار صيدًا؛

لأن كثيرًا من سهامي لم تترك قوسي إلا لكي تسعى إلى صدري.

والطائر قد صار زحافة؛

لأنَّنِي عندما بسطت جناحي في الشمس، صار ظلهما على الأرض سلحفاة.

وأنا المؤمن صرت مرتابًا؛

لأنني كثيرًا ما وضعت إصبعي في جنبي رجاء أن أبلغ كمال إيماني بكم ومعرفتي لحقيقتكم.

•••

وبهذا الإيمان وهذه المعرفة أقول لكم:

إنَّكُم لستم محصورين في سجون أجسادكم، كلا، ولستم مقيدين بجدران بيوتكم وحدود حقولكم.

فإن الذات الخفية التي تمثل حقيقتكم تقطن فوق الجبال وتهيم مع الرياح؛ لأنها لا تدبُّ إلى الشمس مستدفئة ولا تتلمس طريقها في الظلمة مستنجدة، بل هي روح حرة طليقة تغلف الأرض وتركب دقائق الأثير.

•••

وإنْ جاءت كلماتي هذه غامضة على أفهامكم، فلا تسعَوْا وراء إيضاحها، فإن الغموض والسديم هما بداءة كل شيء لا نهايته.

وإنَّنِي بملء الرغبة أودُّ أن تتذكروني كبداءة.

والحياة، وجميع الكائنات الحية إنَّما تتصور أوَّلًا في الضباب وليس في البلور.

ومن يدري أنَّ البلور لم يكن ضبابًا متجمِّدًا؟

•••

وهذا ما أودُّ أن تحتفظوا به مع ذكراي:

إنَّ ما يبدو لكم ضعيفًا فيكم هو أقوى وأثبت ما في كيانكم؛ لأنه أليس لهاثكم هو الذي يقيم بنيان عظامكم ويشدده؟

بل أليس الحلم الذي لم يحلم به أحد منكم قط هو الذي بنى مدينتكم وعمل كل ما فيها؟

فلو كان لكم أن تنظروا مجاري ذلك اللهاث لما كانت لكم حاجة إلى أن تنظروا شيئًا آخر غيرها.

ولو استطعتم أن تسمعوا مناجاة ذلك الحلم لما كنتم تزعمون في سماع أي صوت آخر في العالم.

ولكنكم لا تنظرون ولا تسمعون، وحسنًا تفعلون.

فإن الحجاب المسدول على عيونكم سترفعه اليد التي حاكَتْه.

والطين الذي يسد آذانكم ستنتزعه الأصابع التي جبلته.

وحينئذٍ تبصرون.

وحينئذٍ تسمعون.

بَيْدَ أنكم لن تتحسروا على أنكم كنتم عُميًا أو صُمًّا؛

لأنكم في ذلك اليوم ستعرفون المقاصد الخفية في كل شيء،

وستباركون الظلمة كما تباركون النور.

وعندما قال هذا نظر حَوالَيْهِ، فرأى ربان سفينته منتصبًا أمام السكان، وهو ينظر تارة إلى الأشرعة وطورًا إلى البحر.

فقال:

إنَّ رُبَّان سفينتي واسع الصدر جزيل الصبر؛

فإنَّ الرِّيح تهب بعنف، والأشرعة مضطربة،

حتى إنَّ السُّكان نفسه يحتاج إلى من يديره،

ومع كل هذا فإن رُبَّان سفينتي ينتظر سكوتي،

وهؤلاء الملاحون رفقائي، الذين سمعوا جوق المنشدين في البحر الأعظم، قد أصغوا إليَّ بطول أَناة.

ولكنهم لن ينتظروا ثانية واحدة بعد.

فإنني على أتم الأهبة للسفر.

فقد وصل الجدول إلى البحر، وأُتيح للأم العظيمة أن تضم ابنها إلى صدرها مرة ثانية.

•••

فالوداع الوداع يا أبناء أورفليس،

قد غربت شمس هذا اليوم،

وأغلق علينا أبوابه كما تغلق زنبقة الغور أوراقها على غدها.

فكل ما أعطينا ها هنا سنحتفظ به،

وإذا لم يكن كافيًا لسد حاجاتنا، فإننا نأتي ثانية إلى هذا المكان، ونمدُّ أيديَنا معًا لمن أعطانا.

ولا تنسَوْا أنني سآتي إليكم مرةً أخرى؛

فلن يمرَّ زمن قليل حتى يشرع حنيني في جمع الطين والزبد لجسد آخر.

قليلًا ولا ترونني، وقليلًا وترونني؛

لأنَّ امرأة أخرى ستلدني.

•••

أودعكم وأودع الشباب الذي قضيت بينكم.

فإننا في الأمس قد اجتمعنا كما في حلم.

قد أنشدتم لي في وحدتي، وبنيت لكم من أشواقكم بُرجًا في السماء،

ولكن عهد النوم قد انقضى، والحلم قد مضى، ولسنا الآن عند بزوغ الفجر؛

لأن الظهيرة ترقص فوق رءوسنا، ويقظتنا قد تحوَّلت إلى نهار كامل، فيجدر بنا أن نفترق.

فإذا جمعنا شفق الذكرى مرة أخرى، فإننا حينئذٍ نتكلم معًا، وحينئذٍ تنشدون لي أنشودة أوقع في النَّفْس من أنشودة اليوم.

وإن اجتمعت أيدينا في حلم ثانٍ فهنالك سنبني برجًا آخر في السماء.

وعندما قال هذا أشار إلى الملاحين إشارة تُؤْذِن بالسفر، فرفعوا مرساة السفينة في الحال، وحلوا حبالها، وساروا نحو الشرق.

فصرخ الشَّعْبُ كله بصوت عظيم كأنَّه صادر من قلب واحد، وتعالى صراخهم في الشفق فحملته دقائق الهواء فوق البحر كأنَّه صوت بوق عظيم.

أما الْمِطْرة العَرَّافة فكانت صامتة وحدها، تُشيِّع السفينة بنظرها حتى توارت في الضباب.

ثمَّ تفرق الشعب كلٌّ في سبيله، بَيْدَ أنها ظلَّت وحدَها واقفة على شاطئ البحر تردد في قلبها كلمات المصطفى الأخيرة:

«قليلًا ولا ترونني، وقليلًا وترونني؛

لأنَّ امرأة أخرى ستلدني

Return to the Top