٣ -نشأته والمعجزات الأولى:
منذ عام ١٩٢٠ ، وعندما كان يبلغ من العمر ١١ عامًا ، بدأ سليم يميل نحو الأمور الروحية وتجلّت لديه قوّةً روحية خارقة للطبيعة. على سبيل المثال ، كان يخبر صديقًا أن والدته ستأتي لرؤيته في تاريخٍ معين وإذا بالنبؤة تتحقّق، أو أنه كان يتلو الدرس للمعلم حتى قبل قرائته . ومع ذلك ، لم يكن يعرف المصدر أو الهدف من هذه الموهبة الروحية الغامضة.
وكان سليم شغوفاً بالمعرفة ؛ لكنّ وضع أسرته الإقتصاديّ لم يسمح له بمتابعة دروسه في مدرسة كبيرة , ولا بابتياع الكتب . فما ان تحسنت صحته مع بداية عام ١٩٢٤ , حتى أخذ يستأجر الكتب من المكتبات , فيطالعها و يطيل السهر عليها .
ما ان بلغ الفتى العجيب الرابعة عشرة من عمره , حتى أخذ يشفع خوارقه التي يصنعها , في مدن فلسطين , بتقريعه رجال الدين على انحرافهم عن تعاليم المسيح , و اتّجارهم بتعاليمه المقدسة , وبفضحه سلوكهم الشائن و أعمالهم الخفية المنكرة, داعياً الصبية الكثيرين الذين كانوا يلتفون حوله , الى عدم الإنخداع بأقوالهم ؛ حتى بلغ ذروة حملته عليهم , في بيت لحم , سنة ١٩٢٧؛ فضجّ الكهنة منه , و استعدوا عليه رجال السّلطة، و كان رجال الدين يتهدّدونه في كنائس بيت لحم , و يتوعّدون كل من يتردد اليه , محذّرين الشعب منه . لكن خوارقه كانت تزداد , و نفوذه في الناس كان يتعاظم , على صغر سنّه , لأن الله أيّده بسلطانه .
ومن بين المعجزات التي رواها شهود عيان على أفعاله الخارقة في طفولته وشبابه ما يلي:
كان الطفل ما يزال في المهد , عندما أصابه مرض عضال . فقلق عليه والده الذي كان يعمل في مطبعة الجامعة الأميركية ببيروت, واتصل بطبيب أمريكي اسمه الدكتور سميث . فحضر, ووجد الطفل في غيبوبة ؛ فعالجه بالعقاقير حتى يسترد وعيه ؛ لكنه فشل . و إذ بدأ اليأس يتسرب الى نفس الأم , و همّ الطبيب بالإنصراف , نهض الطفل فجأة , و قد شفي بصورة عجائبية , و أخذ يتحدث الى الطبيب الأمريكي , بالإنكليزية التي يجهلها تماماً, ذاكراً له الدواء الذي كان عليه ان يعالجه به . فكان عجب الطبيب أعظم من عجب الأم , و راح يحدث معارفه بما رأى و سمع .
حدّثني (عن لسان الدكتور غازي براكس) رجال مسنون كانوا يعيشون , في محلة المصيطبة ببيروت , قبيل الحرب العالمية الأولى , و بينهم السيد انطوان بارود , أنه بينما كانوا واقفين في تلك المحلة يتحادثون , اذا برجل غريب يمرّ, فيطرح عليهم أسئلة بلغة لم يفهموها , فيلتف الناس حوله, يحاولون التفاهم معهم , دونما جدوى .
و اذا بصبيّ في حوالي الخامسة من عمره, يدخل بينهم , متقدماً الى الرجل الغريب الزيّ واللسان , و يروح يحدثه بطلاقة باللغة نفسها التي كان يتكلّم بها . و تبدو علامات السرور على وجه الغريب , فيشكر الطفل , و يمضي في سبيله , بينما تأخذ الدهشة الناس ؛ فيسألون الطفل كيف استطاع ان يتفاهم معه , و بأية لغة ؟ فيجيبهم :
-كان يتحدث بإحدى لغات الهند , و قد سألني عن وجهة يقصدها , فبينتها له .
و يسأل الناس المدهوشون الصبي عن اسمه , فيعرفون انه سليم العشّي .
روى لي (عن لسان الدكتور غازي براكس) السيد أنطوان بارود انه , بعيد الحرب العالمية الأولى , قصد شاطئ بيروت , صباحاً , يبتغي صيد السمك . فأمضى ساعات وهو يلقي شبكته , في البحر , ثم يخرجها فارغة .
و فيما هو يهم بالعودة الى منزله , يائساً , اذا بصبي في حوالي الحادية عشرة من عمره , يقفز على رمال الشاطئ , متقدّماً اليه . فنصحه بأن يلقي شباكه في مكان عيّنه له ؛ لكن الصياد رفض , مؤكداً أنه ألقى شباكه في المكان نفسه مراراً, و لم يظفر بشيء . و اذ ألحّ الصبي عليه , ألقى الصيد بارود شبكته , ثم جذبها ؛ فإذا هي مثقلة بالسمك . وأعاد الكرة , مراراً , فكان يخرج بصيد وافر , كل مرة , حتى استولت عليه الدهشة . و لم يلبث ان عرف ان الصبي هو جاره في محلة المصيطبة , و انه هو نفسه الذي كلّم الهندي , منذ بضع سنوات .
فيما كان المسيحيون من أهالي محلة المصيطبة يحتفلون بعيد مار الياس ( إيليا النبي) سنة ١٩٢٠ , اذا بأحد الصبية يذهب و يجيء بسرعة , على دراجة , بين الناس , في الشارع . و فجأة يحدث له اصطدام , فيسقط أرضاً , و يُجرح , و تصاب دراجته بالتواءات ؛ فيأخذ بالعويل .
و بينما كانوا الناس يتجمّعون حوله ليساعدوه , و قد علا نواحه , شق الطفل الخارق زحام الجموع الى الصبي الجريح , ووضع يده عليه قائلاً :
- قم , واذهب الى بيتك بسلام . شفيت جروحك بإذن الله .
و تلتئم جراحه في الحال .
ثم يضع الطفل العجيب يده الثانية على الدراجة فتختفي منها الإلتواءات و الكسور.
و يتحدث سكان المحلة بهذه المعجزة في حيرة و بلبلة من أمر قوة الطفل العجائبية.
ذات ليلة من عام ١٩٢٥ , أطال الفتى العجيب سهره , في منزل خالته بالقدس , و هو يطالع أحد الكتب المقدسة . فما كان من خالته الأميّة الاّ ان اسرعت و اطفأت قنديل الكاز الذي يستضيء به , ودعته الى النوم حرصاً على صحته و على زيت الإنارة .
إمتثل الفتى لرغبتها . لكن , لم يمض هزيع من الليل حتى استيقظت الخالة , فرأت نوراً يضيء زاوية الغرفة , و الفتى جالس يقرأ. فنهضت مغضبة , و في نيتها اطفاء القنديل و إخفاؤه , وأيقظت زوجها , ليؤدبا معاً الفتى العاصي .
لكنهما سرعان ما تسمرا في الأرض مشدوهين , مذعورين ؛ اذ كان القنديل غير مضاء , و نور ساطع غريب يشع من عينيّ الفتى العجيب .
لم يفهما من الأمر شيئاً , ولم يحصّلا منه الا الخوف , فاتّصلا , عند الصباح , ببعض رجال الدين المسيحيين , و شرحا لهم ما حدث للفتى . فأكّد رجال الدين لهما ان " مسّاً شيطانيّاً " قد أصابه , و ان الكتاب الذي يطالعه قد يكون تلبسه روح شرّير .
عادت المرأة و زوجها الى المنزل , و الفتى غائب , فبادرا الى الكتاب الذي كان يطالعه , و أحرقاه في إحدى زوايا المنزل .
و ما ان عاد الفتى حتى طالبهما بالكتاب ؛ فأنكرا ان يكونا على علم به . فتوجّه غاضباً الى حيث آثار الرّماد , و ضرب بيده عليها ؛ فإذا الرماد يتكوّن كتاباً كما كان.
و شاع الخبر في الجوار , زارعاً في نفوس الناس الجاهلين الخوف من الفتى الخارق.
بدءاً من سنة ١٩٢٦, أخذت عجائبه تتكاثر , و يزداد شهودها . و في عيد مار الياس, من هذا العام , صنع خوارق كثيرة , أمام جمع غفير , في بيروت , حتى أصبحت أخبار معجزاته موضوعاً يومياً في أحاديث الناس.
ثم انتقل الى بيت لحم . وذات يوم كانت ضفاف برك النبيّ سليمان التي تقوم قرب المدينة التي شهدت ولادة المسيح , تغصّ بالروّاد و المتنزهين , و فيهم كثيرون من السريان , بينهم السيّد كوريّة ملكي عبد الله . و كان الفتى المعجز حاضراً. فذكر أحدهم مشي المسيح على الماء ؛ فقال الفتى الخارق :
- ماذا تقولون عني , اذا مشيت فوق ماء البحيرة , ذهاباً وأيّاباً؟
فاستعظموا الأمر , و استبعدوه .
و على التوّ , بدأ يسير على صفحة الماء رويداً رويداً كأنما يسير على الأرض , حتى اجتاز البحيرة كلها , ثم عاد أدراجه الى نقطة انطلاقه .
و فحص الشهود المشدوهين الكثيرون حذاءه , فوجدوه غير مبلّل ؛ فإزداد عجبهم . و سأله كوريّة عبد الله كيف حصل ذلك ؟ فأجابه :
- أنا أسير فوق المياه كما أسير على اليابسة .
وفي ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٦٤، أجرى الشاهد المذكور) السيّد كوريّة ملكي عبد الله( مقابلة مع مجلّة بيروتية "اللواء" شهد فيها على ما رآه ، وذكر أسماء عدد من الشهود الآخرين الذين شاهدوا المعجزة معه.