info@daheshism.com
السيرة الذاتيَّة للدكتور داهش

٢   -مولد الدكتور داهش وطفولته 


 

في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية، وفي بلدة إسفس،الواقعة على السفح الشرقي من "طور عابدين"، شمالي بلاد ما بين النهرين، ولد موسى إلياس أليشي (نسبةً إلى أليشع النبي) في عائلةٍ تنتمي إلى الطائفة السريانية الأرثوذكسية، تلك الطائفة التي تتكلم الآرامية , لغة المسيح , حسب كثيرين من المؤرخين . وأنشأ مدرسة في مسقط رأسه انصرف فيها الى تعليم الناشئة بنفسه. وكانت شمونة، إبنة حنا مراد كانون، والتي ولدت في عام ١٨٨٧ في بلدة آزخ المجاورة في عائلة انتمت ايضاً إلى الطائفة السريانية الأرثوذكسية، إحدى تلميذاته، وقد اجتذبت نظره باستقامتها وذكائها , فمال قلبه اليها , و اقترن بها  وإعتنقا البروتستانتية الإنجيلية.

 

في عام ١٩٠٦، أراد موسى زيارة القبر المقدّس القائم في مدينة القدس الفلسطينية. والمسافة شاسعة بين بلاد ما بين النهرين وبين فلسطين، وليس ثمة من وسيلة للسفر سوى عربات الخيول، والنوق والبغال. ورغماً عمّا يقوم بوجه موسى من عقبات، وبالرغم من نصائح والدته الحكيمة، وبالرغم من مرارة الهجران، فلقد أصرّ الرجل على زيارة قبر السيد المسيح حامل النور إلى العالم الكثيف الظلام. 

 

وكانت امرأته تشاركه هذه الرغبة النبيلة، فسارت برفقته إلى الأراضي الفلسطينية حيث يتباركان بترابها المقدس. 

 

ووصلا بعد عناءٍ طويل. وطافا في مدينة القدس المقدسة، وراقتهما تلك الآثار الخالدة ووقفا خاشعين أمام قبر المسيح وركعا يقبلان التراب في خشوع وتقوى. وأعجب موسى بالمدينة المقدسة، ورغب في المكوث بين تلك الآثار الخالدة. فانبرى يقول لامرأته: "شمونه، سنقيم هنا حيث ظهر مخلّص الإنسان ومنقذ البشر، هنا حيث لاح الأمل لإبن الخطيئة". فاجفلت شمونه وقالت: "وأهلنا يا موسى، وأرضنا وأملاكنا الواسعة أنهجرها جميعاً؟ أننأى عن بلادنا لنقيم في بلاد الناس؟ ". قال: "اني لأتوق إلى بلادي يا شمونه، أجل إني لأرغب في العودة إلى ما بين النهرين، ولكن بعد أن أقيم في البلاد المقدسة ردحاً من الزمن, فالحياة تطيب لي، هنا إلى قرب آثار يسوع الناصري". وأبى العودة إلى بلاده وطابت له الحياة في فلسطين. وقد سكنا في بيت لحم قبل أن ينتقلا منها إلى مدينة القدس. و في فلسطين , حرّف اسم العائلة من (أليشي) الى (العشي) .

 

وعاشا على أحسن حال ورزقا بثلاث بنات. 

 

وفي ١ حزيران ١٩٠٩، في حي باب العامود في مدينة القدس، ولد لهم صبيٌو تشاورا في ما يسميانه ,فقرّ

 رأيهما على ان يفتح الوالد الكتاب المقدس , عفوياً , و يضع إصبعه , دونما نظر , على احدى الصفحتين .و اذا بأنمله على عبارة وردت في العهد القديم : " فولدت ابناً , فدعاه سليمان , و أحبه الرب"  ( سفر صاموئيل الثاني ١٢: ٢٤) . فسمّيا طفلهما سليمان , ثم خفّفا اسمه , فصار (سليم).

 

وفي هذه الأثناء أحسّ موسى بالحاجة إلى العمل فالمال أصبح نذيراً بين يديه، وبحث عن عمل فوُفّق ودخل عاملاً في المستشفى الألماني في مدينة القدس، وظل يعمل في ذلك المستشفى ممرضاً إلى عام ١٩١١. وفي أوائل ذلك العام وردته رسالة من والده يدعوه فيها للحضور إلى بلاده إذ أنه حس بدنوّ الأجل وخاف أن يموت وولده موسى بعيد عنه، فأرسل يدعوه إليه. وأسرع موسى لتلبية دعوة والده الشيخ، فحمل حقائبه وسار برفقة عائلته إلى بلاده، إلى ما بين النهرين. وما كاد يصل إلى بيروت، الولاية العثمانية في ذلك الحين، حتى اصيبت إحدى بنات موسى وشموني بمرض، فأُخذت إلى إحدى أطباء البعثة الأميركية. وأثناء فترة التعافي، وصل إلى موسى خبر وفاة والده. فقرّر البقاء فترةً في بيروت، حيث سكنوا في حي المصيطبة , بملك جرجي ناصيف.

 

في عام ١٩١٤، اندلعت الحرب العالمية الأولى، ورأى موسى أن يمكث في بيروت ريثما تنتهي الحرب، لا سيّما والأقوال المتضاربة تشير إلى أن الحرب لن تطول أكثر من شهور قليلة. غير أن الحرب طالت، والمال ينذر بالنضوب والجوع يهدد صغاره، والجند يبحثون عمن يضمونه إلى الفيالق التركية المشتركة في القتال إلى جانب الدولة الألمانية. وبحث موسى عن مكان يختفي فيه عن أعين رجال الدولة العثمانية، وعن عمل يدفع به شبح الموت عن إمرأته وأطفاله. ووُفّق إلى عمل في المطبعة الأميركية في بيروت. 

 

وذات ليلة فيما موسى يخرج من المطبعة، إذا بصوتٍ أجشّ يتعالى: "قف مكانك". ووقف مكانه، واقترب صاحب الصوت فإذاه جندي عثماني، وقاد الجندي موسى إلى المجلس التركي الأعلى. واجبروه على إرتداء الثوب العسكري واوفدوه إلى ميادين القتال. وناحت إمرأته وبكى أطفاله، فالزوج والوالد توارى عنهم. غير أن الحرب كانت على أهبة الإنتهاء فلم تطل، ولم يلبث أن عاد إلى تلك الأسرة وعاد إلى عمله في المطبعة الأميركية. 

 

أصيب موسى بداء السل وتوفي في ٢٥ كانون الأول عام ١٩٢٠، ودُفن في مصح هملن بالشبّانية في لبنان.  

 

واحتارت أرملة موسى في أمرها بعد موت عميد أسرتها. فأرسلت ابنتيها وديعة واليصابات إلى خالتهما في القدس، وبعثت بولدها سليم وبإبنتها أنطوانيت إلى ميتم في بلدة غزير في لبنان، تابع للإرسالية الأميركية، وسارت برفقة ابنتها الكبرى جميلة إلى طرابلس حيث ادخلتها إلى مدرسة البنات الأميركية.  

 

في أواخر عام ١٩٢١، ترك سليم الميتم بسبب انحراف في صحته. وقد نصح الأطباء والدته بنقله إلى منطقةٍ جبلية. وهكذا لم تستغرق إقامته في الميتم سوى بضعة أشهر. 

 

في عام ١٩٢٢، ارسلته والدته إلى القدس ليقيم عند شقيقتها. فدخل هناك المدرسة، ولكن سوء صحته منعه من مواصلة الدراسة. وأمضى معظم سنة ١٩٢٣ بين المنزل والمستشفى بسبب سوء حالته الصحية التي قاربت حدّ الموت، لكن العناية الالهية حمتْه وسمحت بشفائه من مرضه. 

 

وفي ٧ آذار ١٩٢٣، حصل سليم على الجنسية اللبنانية، بعد أن حازتها والدته قبل عامين وفق معاهدة لوزان التي رسمت حدود الدولة التركية الحديثة.