info@daheshism.com
" شهادة الأستاذ ماجد مهدي "

" شهادة الأستاذ ماجد مهدي "

 

 

في هذه الشهادة ، يصف السيد ماجد مهدي كيف أصبح مؤمنًا بالداهشية والصعوبات التي أوجدتها له مع والده الذي كان صاحب مدرسة خاصة في ضواحي زحلة بلبنان. بينما كان ماجد مهدي يدرس الطب في فرنسا ، تلقى والده رسالة تفيد بأنه يوعظ الأصدقاء بعقيدته الجديدة. ونتيجة لذلك ، أوقف كل الدعم المالي لابنه. كتب السيد فارس زعتر والدكتور غازي براكس رسائل تشجيعية للسيد مهدي.  في محاضرة ألقيت في 20 أبريل 1974 في مدرسة النهضة العلمية بعنوان كيف آمنتُ بالدهشية ، يقول الأستاذ ماجد مهدي:

 

 

فقد كتب لي الأخ المحامي فارس زعتر حديثاً دار بينه وبين صديق لي في لبنان قال له :" إنّ ماجد لن يسكت في هذه الحياة . سيبيع الحياة من أجل ما هو أغلى منها . إنّ الحكمة تقضي بتهدئة الوضع بينه وبين أبيه . ولكن لا بدّ في النهاية وفي هذا الصيف عل ما أعتقد أن يظهر كلُّ شيء . حينها إمّا أن يتقبّل هذا الوالد أنوار الحقيقة الكبرى وإمّا أن يبقى وشأنه . إمّا أن يستمرّ في تحمّل مصاريف ابنه وإمّا أن يتخلّى . وفي هذه الحال سوف نتحمّل نحن مصاريف تعليمه . ما عدنا بحاجة إليه ولا إلى أحد . نحن سنتكفّل ببعضنا وليكن ما يكون ..."

أمّا الأخ الدكتور غازي براكس فقد كتب لي في بعض رسائله :" فرحي لجهادك في فرنسا لا يوصف . إنّك تعيد أيها الحبيب حياة الترسّل المضيئة ، وتبعث أيّام المجاهدين الأبرار .

أولئك الذين غيّروا مجرى التاريخ في العالم القديم . فاستمرّ في نشر كلمة الحقّ غير متقاعس أو هيّاب ، فحسبك رضى الهادي الحبيب وعون الله عزّ وجلّ . دع زعانف اللبنانيين يزحفون على بطونهم وحلِّقْ في سماء فرنسا عالياً عالياً . فالحشرات طعامها التراب . أمّا أنت فخبزك من عجين الآلهة . تابع شقّ طريق النور وإن وحدك ولست وحدك . وكن مغتبطاً وأشكر الله لأنّه اختارك لتكون بين الذين يُبلغون صوت الحقّ سواء سمع الناس أم كانوا صمّاً . وأعلم أنّ أمامك طريقاً طويلاً ، طريق مجد وشوك ، وفرح وحزن ، إنّما طريق انتصار ".

ورويداً رويداً أصبحت الداهشيّة تدخل البيوت والجامعات والمكتبات ، فقد تناولت جريدة SUD-OUEST كتاب "مذكّرات دينار" بالبحث وكتبت عنه أعجاباً فقالت :" هذا الكتاب هو للدكتور داهش . لقد كتب خلال بضعة أيّام بإلهام روحيّ . والدكتور داهش ، منذ صغره ، مزوّد بقوّة روحيّة عظيمة ، وتحصل على يديه معجزات باهرة تدهش جميع الناس ". باختصار ، أخذت الداهشيّة تفرض نفسها بالحجّة الحاسمة وبصفاء المبادئ .

 

انتهى العام الدراسي 70-71 ، وكان عليّ أن أعود إلى لبنان لقضاء عطلة الصيف ، وكانت المياه قد عادت إلى مجاريها بيني وبين الوالد ، بعد أن تصرّفت معه بطريقة حكيمة . عدتُ إلى لبنان بتاريخ 18 تمّوز 1971 . انقضت الأيّام الأولى بسلام تامّ . وكانت زيارتي للدكتور داهش يوم الأحد 25 تمّوز 1971 . وهنا أذكر لكم تفاصيل ما حدث : حين كنتُ أُغادر منزل الهادي الحبيب ، خرج كعادته لوداعي عند أوّل الدرج ، فخاطبني قائلاً : " أبقى سمّعنا خْبارك" ثم كرّرها عدّة مرّات . ولدى عودتي مررتُ بالقرية قبل ذهابي إلى المنزل في ريّاق ، فأسرع الأقارب إليّ بأخبار المنزل السّيئة . فالوالد قد تضايق من خروجي ، وأعتقد أنّني ذهبت للقاء الدكتور داهش والداهشيّين ، فضرب إخوتي انتقاماً ، وبدأ يرمي أثاث المنزل إلى الطريق العام ، تعبيراً عن نقمته الصارخة . ونصحني الأقارب بعدم العودة إلى المنزل والبقاء عندهم فرضيت ، ولكن بعد أن قضيتُ الليل بأكثره هائماً على وجهي وسط الحصاد في السهول . سرت فيها متأمّلاً نجوم السماء ، مستمطراً غيث الرحمة الإلهيّة لتُطلقني من قيود العبوديّة الرهيبة إلى سماء الحريّة . فما الذي تفرضه الحكمة أنّ أفعاله حيال هذا الوضع ، وهل يمكن أن أكون مسيّراً كالطفل ، في الوقت الذي قطعت فيه سنّ الرشد ، وبتّ أميّز بين ما هو صالح وما هو سيّء ؟!

 

صباح اليوم التالي قرّرت الاتّصال بالدكتور داهش لإعلامه بما حصل (وإسماعه أخباري) كما طلب . ولكنّني تأخّرت حتّى مساء اليوم نفسه . وما كدت أرفع الهاتف حتّى بادرتني الأخت زينة حدّاد الموجودة في منزل الدكتور داهش بقولها : " الدكتور منتظر تلفون منك من الصبح وهو الآن غير موجود ".

واتّصلتُ مجدّداً بعد ساعة وأخبرت الدكتور داهش بما جرى فأجابني :" كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام . الحرب خدعة . استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان ". أجبتُ الهادي الحبيب قائلاً :" هل أقول لهم بأنّني سأبقى داهشيّاً حتّى وإن طُردت من المنزل ؟" – إذ كان ذلك في الحقيقة مجالاً للخلاص من الجوّ المؤلم الذي أعيش فيه . ولكن حينذاك ، وعكس ما توقّعت ، يجيبني صوت الروح العليّ عبر الهادي الحبيب ، باللغة الفصحى ، وبنبراته القدسيّة :

" لا ، لا تَقُل حتّى تأزفَ الساعة ".

لم أفهم معنى هذا الجواب . وكذلك لم يفهمه أحد من الإخوة . وعدت إلى البيت متحمّلاً جميع أنواع الإهانات والضغوط . وفي اليوم التالي والذي تلاه ، كنت كلّما زرت الهادي الحبيب ، يسألني :" ما هو عمر والدك ؟" فأُجيبه في كلّ مرّة :" خمسون عاماً"، حتّى عجبت من تكرار السؤال في أوقات متقاربة .

وفي هذه الفترة ، حضر الدكتور غازي براكس لزيارتنا برفقة بعض الإخوة الداهشيّين ، ليُطلعوا والدي على حقيقة الداهشيّة ، لعلّه يرعوي عن موقفه المعادي لي ، ويعود السلام إلى المنزل الذي انقلب جحيماً لا يُطاق العيش فيه . ذكّره الدكتور براكس بالإمام عليّ ، حين كان في كنف النبيّ ، ولمّا يبلغ الحلم . فحين دعاه الرسول للإيمان بالرسالة ، استمهله حتّى يشاور والده أبا طالب . ثم عدل عن استشارته بعد صراع عنيف لازمه الليل بأكمله ، وأجاب دعوة رسول الله قائلاً : " لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب ، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله ".

لقد وعى الإمام عليّ ، بسموّ نفسه العظيمة ، في سنّ مبكرة ، مبدأً مطلقاً كرّسته القوانين الحديثة باسم "حريّة المعتقد ". ثم ارتضى إيماناً غمر نفسه وأضاء بصيرته . واندفع في عقيدته كالليث ، لا يخاف فيها لومة لائم ، ولا يهاب من أجلها حدّ الصوارم . فعلاقة الإنسان بخالقه هي علاقة تتمّ عبر الضمير ، وبالتالي فهي علاقة شخصيّة فرديّة ، لا يجوز فيها التدخُّل بالإكراه والإلزام . أوَلم يؤكّد القرآن الكريم أن :" لا إكراه في الدين" (سورة البقرة ، الآية 256).

 

حاول الدكتور براكس أن يلفت والدي إلى أنّني لست صغيراً ، وأنّ الذي يدرس الطبّ في جامعات فرنسا ، مؤهّل لتكوين قناعته الشخصيّة في أمر دينه ودنياه ، وأنّ تصرّفاته معي لا تتناسب مع سنّي وثقافتي .

 

بالإضافة إلى ذلك ، فقد أوضح الدكتور براكس لوالدي ، أنّ مخاوفه وهواجسه لا مبرّر لها إطلاقاً ، وحاول أن يُفهمَه كيف أنّ الداهشيّة إنّما جاءت لتعيد البشر إلى أديانهم المُنْزلة .

جاءَت لتعيد المسلم إلى إسلامه الصحيح وتعاليم قرآنه ، والمسيحيّ إلى مسيحيّته الحقّة وتعاليم إنجيله . كما جاءَت لتزيل الفوارق بين البشر والطوائف ، ليحيا الجميع إخوة في ظلّ ربّ واحد وإله واحد ، خالق السماوات وفاطر الأرض ....

ونبّه الدكتور براكس والدي إلى أنّ الاضطهاد لا يمكنه أن ينالَ من إيمان الداهشيّ ، لأنّ هذا الإيمان مبنيٌّ على الصخر ، " وأبواب الجحيم لا تقوى عليه". وضرب له مثلاً ، ما لاقاه كبار الداهشيّين كالدكتور خبصا ، والأديبة ماري حدّاد ، والشاعر الكبير حليم دمّوس ، والدكتور فريد أبو سليمان وغيرهم ، وكيف أنّ الاضطهاد أضرم إيمانهم بدل أن يخمده ، وكيف أنّ الطاغية بشارة الخوري ، ارتدّت السهام التي أطلقها في وجه الداهشيّة إليه ، فزلزلته ووصمته وزبانيّته بعار أبديّ . أوضح الدكتور براكس لوالدي كيف أنّ الداهشيّة هي كالشمس الساطعة في وجه خفافيش الليل ، وكالنار الصاهرة على المعتدين ، وكالجبال الراسخة أمام قبضات المصارعين . لقد انتشر لواؤُها ، واندفع إليها الواعون المخلصون من أرجاء العالم كافّة . أمّا أعداؤها فمصيرهم جميعاً إلى زوال .

 

انتهت الزيارة بسلام ، ولكنّني لم أسلم من نتائجها . فما أن غادر الإخوة المنزل حتى قامت قيامة والدي عليّ ، وانبرى يمطرهم بالسباب والشتائم ، ويهدّدني إذا استمرّيت في إيماني . وفي مساء اليوم نفسه ، قويت المشادّة ، فشملت والدي من جهة ، وإخوتي وبعض أقاربي من جهة أخرى . فالشرح لم ينفع ، والتنبيه لم يردع ، والحيلة قد ضاعت ، وعليّ أن أسلّم أمري للعناية .

وجاء الوالد بعد أيّام يجبرني على إقامة محاضرة عامّة ضدّ الداهشيّة ، وكتابة مقالات معادية لها في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة . حرت في الأمر ، واتّصلت بالهادي الحبيب تلفونيّاً لأُبلغه ما حصل . فقال لي :" أيريدُ أن يفعل مثل بشارة الخوري ؟! سوف يزول ... سوف يزول ... فظننت أنه عنى زوال الباطل وانتهاءَ سلطانه .

ثمّ مرّت أيّام قلائل ، والطرفان متأهّبان ، واحد للهجوم ، وآخر للدفاع . ولدى اندلاع المعارك ، كانت تنطلق الشتائم فأحتملها ، وترتفع الكراسي فأصدّها ، ويتدخّل الأقارب فتهدأ الأوضاع .

وقد بلغ اضطهادي الذروة في يوم 5 آب سنة 1971 . وعلى إثر مشادّة عنيفة صرخ والدي قائلاً :" إذا كان الدكتور داهش صاحب قوّة ، فليُمتني إذا استطاع "، وردّد هذه العبارة مرّات عديدة ....

 

 

وأتى يوم السادس من آب سنة 1971 ، وكان الوالد يهيئُ لمهرجان كبير ، داعياً إليه شيوخاً من بعلبكّ وبيروت ومفتياً كبيراً في لبنان ، ليقوموا "بتفنيد" الداهشيّة ومحاربتها يوم السبت في 7 آب . ولكن ، تقدّرون فتسخرُ الأقدار ... إذ توفّي الوالد في الساعة السادسة من مساء يوم الجمعة السادس من آب . وما إن اتصلت بالدكتور داهش أُعلمهُ بالخبر حتّى طلبَ إليّ أن أفتح ورقة سلّمني إيّاها منذ زمن . فإذا بها نبوءة خطِّية بأنّ الوالد سوف يُتوفّى بتاريخ السادس من آب ، وبأنّ اليوم الذي سيأتي فيه الشيوخ لتفنيد الداهشيّة سوف يكون يوم مأتمه .

وبالفعل حضر الشيوخ للمهرجان ، فإذا بهم أمام المأتم . فصعقوا للأمر وخافوا خوفاً عظيماً . حينذاك أدركت أنّ الساعة قد أزفت وبأنّها آتية لا ريب فيها ، وأدركت أن الباطل سوف يزول ، وأنّ سيف العناية المرهف قد وضع حدّاً لجبروته ، وأدركتُ أنّ الروح الإلهيّ قد نزّلَ على الهادي الحبيب من علمه الوسيع ما لا نعلم ، فكشف له أسرار الغيب التي لا ينزّلها إلاّ على أنبيائه ورسله المختارين ، وأنّ المدرسة التي كانت تحارب الداهشيّة قد أصبحت صرحاً من صروح الرسالة المقدّسة .