info@daheshism.com
حقارة المجتمعات:

 

مهزلة الحياة

 

قضوا ليلتهم في هرجٍ ومرجٍ، وفَرحٍ ومَرح!

وكانت أصواتُهم ترتفعُ ثمِلةً سكرى في ذلك (القصر) المُنيف،

بينما تمايلت القدودُ على القُدود كما تتمايلُ الأغصانُ على الأغصان! وثمِلَ المدعوُّون إلى وليمة العُرس وسكِروا،

ولم يبقَ في كؤوسهم غيرُ ثُمالاتِ شفاهٍ وقحةٍ معربدة

لا حس فيها ولا شعور!

ودارت الأكواب، وصُفَّت الموائد،

فأقبلوا عليها يطعمون الطعام، ويشربون الشراب، ويملأون البطون! أما صاحبُ الدعوة والدُ العريس فقد كان يهشُّ لمدعوّية ويبشُّ لهم، وكان فرحًا مسرورًا، يُحدثُهم بالسعادة المُقبل عليها ابنُه الوحيد، والحياةِ الهانئة التي سيُلاقيها مع عروسه الجميلة، في شهر العسل، في ربوع لبنان!

وكان (كوخٌ) حقير تنيره شمعةٌ ضئيلةٌ تلفظُ النفس الأخير، وتتراوحُ بين الموت والحياة.

وقد اضطجع في إحدى زواياه فتًى ناحلٌ محطم، يئنُّ أنينًا موجعًا،

بينما انكبُّ عليه شيخان مُهدمان، باليان، عانيان، هما والداه! وكانا يذرفان الدمعَ السخين، ويُصعدانِ الزفراتِ الأليمة، ويرفعان إلى الله العليّ القدير أحرَّ الدعوات وأصدقَ الصوات، لكي يُبعدَ شبحَ الموت القاسي عن وحيدهما ومُعيلهما الذي بذلا في سبيله كل ما يملكان…

فما إن بلغتْ سنُّه الثامنةَ عشرةَ حتى ألفى نفسه ينمو على أشباح البؤس والشقاء، وطيوفِ التوجع والأنين.

                                  ***

فتح الشابُّ العليلُ الشاحبُ النحيلُ عينيه الذابلتين فوق وجنيته، وقال بصوتٍ خافتٍ مسكينٍ، يسري في تموجاته ليلُ الألم وفجرُ الأمل:

"والديَّ، كفكفا الدموعَ، ولا تحزنا عليَّ، فأنا مغادركما إلى عالمٍ بهيٍّ جميل، تاركًا ورائي هذا العالم السخيف الذي لم نلقَ فيه جميعًا إلاّ كلَّ تعاسةٍ وشقاء!

فوداعًا، يا والديَّ،

وإلى الملتقى في ذلك العالم السعيد".

قال هذا، وأطبق جفنيه إلى الأبد!

وارتجَّ الوالدان الحنونان للفاجعة الأليمة والصدمة القاتلة، فأخذا ينحبان نحيبًا يُفتتُ الأكباد، ويُذيبُ الجماد!

                                   ***

في هذه اللحظة التي امتزج فيها الألم بالبؤس، وعانق جمالُ (الموت) حرارةَ الإيمان،

كان ذلك (القصر) المُجاور لهذا (الكوخ)

يموجُ بالسعادة الزائفة والنعيم الزائل!

كان يموجُ بالرذيلة والإثم، وكان يموجُ، كذلك، ببشرٍ لا يشعرون، وحيواناتٍ لا يعقلون!

                                                بيروت، في 24 تموز 1936