info@daheshism.com
حادي عشَر: العدالة الإلهيَّة والتقمُّص

قصص غريبة و أساطير عجيبة

الجزء الرابع

 

 

غربة

 

ما أبعدني عن هذه الأرض الحقيرة،

حينما أحلق بخيالي إلى ما وراء الهيولى،

حتى أصل إلى عوالم أخرى

لا تعرف شيئاً عن شقاء هذا العالم وأتراحه الكئيبة!

و هناك في ذلك الملأ البهي الحالم الساهم

أعيش لحظة واحدة و أتذوق فيها السعادة الفائضة،

و أشعر بالغبطة القدسية الهانئة تحتل جوارحي

و تضفي عليّ بردة النعيم الإلهي الشامل!

و لكن وا أسفاه!

فإن تلك اللحظة سرعان ما تنقضي مخلفة إياي وحيداً،

فأعود مكرهاً إلى دنيا شقائي، و محط كربي و بلائي.

 

داهش

كن كتاب" كلمات"

 

 

 

أنا أؤمن بأنه توجد عدالة سماوية ؛ و أن جميع ما يصيبنا

 في الحياة الدنيا من منغصات و اكدار

عن هو إلا جزاء وفاق لما اجترحنا في أدوارنا السابقة

من آثام و شرور، ولهذا أيجب علينا أن

نستقبل كل ما يحل بنا من آلام الحياة ومآسيها،

غير متبرمين ولا متذمرين، بل قانعين بعدالة

السماء و نظمها السامية.

 

داهش

 

 

مقدمة

بقلم طوني شعشع

 

ما تزال الأساطير أفقاً رحباً للتأملات الفكرية، الممعنة فيها تعليلاً و تأويلاً... و ما تزال النفوس البشرية- على ذيوع الثقافة العلمية-مولعة بها، و بكل غريب فيها، فكأن ثمة حاجة، فيها، لم يشبعها العلم، بالرغم من عظيم مآثره؛ أو كأن ثمة آثار ما برحت كامنة فيها منذ طفولة الشعوب!...

 

و إذا رأى بعضهم أن زمن الأساطير قد تولى، فإن الأسطورة ما فتئت، في مجال الفن، باباً مشرعاً لبثّ فكرة أو عقيدة،و لا سيما إذا تعلقتا بموضوعات روحية. ولعل الفكرة، متشحة بالخيال، أفعل، في النفس، منها مجردة من كل صورة.

و لا يخرج كتاب الدكتور داهش" قصص غريبة و أساطير عجيبة"- في أجزائه الأربعة-عن هذا المنحى. فالرجل صاحب عقيدة روحية، لها أشياعها و مؤيدوها، همه الحقيقة التي بها يؤمن، والقيم التي بها يدين، يجلوها سافرة بلا أصباغ و لا مساحيق، و إن هي آلمت نفوساً أو تنكرت لها نفوس...لنسمعه يقول، في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب: " الحقيقة أحق أن تذكر دون أن يسدل عليها رداء الرياء...إن على الكتاب واجباً مفروضاً هو قول الحقيقة دون سواها."

و عليه فليس القارئ،ههنا، مدعوا إلى رحلة في دنيويات الخيال، فحسب.ثمة ما بين السطور، فكرة روحية أو عبرة خلقية، وإن كان بعض ما في الكتاب لا يخلو من متعة الفن!

و الحق أن مطلب الحقيقة ليس شأناً عارضاً في أدب الدكتور داهش. فمن يرجع إلى حياته الأدبية، لا يصعب عليه الاهتداء إلى هاجس"الحقيقة" الذي لازمه واستولى على كيانه."الإلهات الست" – وهو من بواكيره-نشيد روحي حزين يصعده شاب غريب الأطوار، برزت له الدنيا بمفاتنها، فأشاح عنها الطرف،رغبة منه في الحقيقة المطلقة التي لا موطئ قدم لها على هذه الفانية!

على أن ما يميز"قصص غريبة و أساطير عجيبة" صفة الغرابة فيها. و قد يصعب على العقل البشري، أول بدء، قبول ما تشتمل عليه من آراء. و ربما ظن القارئ أن هذه الآراء بعيدة عن التصديق، بحجة أنها " غريبة" أو غير مألوفة لديه، فيسبق إلى روعه أنها نسج خيال. و الحق ان نظرة خاطفة إلى تاريخ البشرية كافية لتؤكد له أن الحقائق التي كانت، أولاً غريبة على الأفهام، فجبهت بالرفض الصارخ، أمست من بديهيات الأمور. ومن يدري؟! لعل أغرب الأشياء أقربها إلى الحقيقة!!

و لعل الغرابة تتصل وثيقاً، عند الدكتور داهش، بالغربة. فما أكثر ما تظلّم و تألّم من غربته الروحيّة على هذه الغبراء، يحدوه الحنين القاهر إلى وطن روحيّ بهيّ بعيد. وليس إلجافه في نشدان الموت-حتى أهدى إليه أول مؤلّفاته المطبوعة:"ضجعة الموت"- و مناجاته إياه بأرق الألفاظ و أعذبها  إلاّ صدى لازماً لتلك الغربة الروحية:"نعم!أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عني!...غريباً أتيت إلى هذا العالم... و غريباً أغادره!" ترى، ألا يسوغ القول، و الحالة هذه، إن تلك الغربة الروحية هي التي  أتاحت له أن يرى الأمور   ما يبدو غريباً؟ ألا يلزم من كونه غريباً في وجوده، أن يكون غريباً في آرائه؟ فكأن تلك الغربة شقت له نافذة يطلّ منها على آفاق لا عهد لعقول البشر بها!

***

و يا أيها القارئ، ثمة مصباح تستطيع به ان ترتاد عالم داهش، و تستبين آراءه في كثير من مناحي هذه الدنيا ، و ما بعد هذه الحياة؛مصباح لا يصعب حمله على أحد، و الطواف به، و ربما انكشف لبعضهم، في ضوئه ما خفي على سواه، بيد أن أسوأ القارئ، طرّا، من اتخذ أداة سلوة أو متعة،فحسب.

و إذا ولجت،أيّها القارئ،عالم داهش، فقد يخالجك شعور بأن الأشياء من حولك تضج بالحياة، و ان م الحيوان ما تفوق ملكات إدراكه ملكات إدراكك، و أن بينك و بين الكائنات و شائح أكثر مما يخيّل لك،و أوثق: فقد ترنو على الحجر المهمل، فلا ترى إليه شيئاً جامداً، بل دنيا صغيرة لها نظامها، ولها ثوابها و عقابها؛ و قد تنظر إلى الزهرة النامية، في زاوية الدار، فتستغرق في لحظات تأمل عميق، و تسأل نفسك: أتراها تعي ما يراودني من ذكر؟ و هل بيني و بينها أسباب لا اعرف منها غلاّ إنها، الآن، نبتة في داري؟! و قد تصادف كلباً هزيلاً عليلاً، عند عطفة شارع، فتحملك أجنحة الحياة إلى أدوار حياة سابقة، و تتساءل: ما الذي اجترحه هذا المخلوق حتى استحق هذا المصير الذريّ؟!....

و من جراء ذلك، و قد تستبدل بقيم السلوك، عندك، قيماً جديدة، فتحترم الأشياء، إذ عن لكل موجود معنى وجوده، و لا محلّ  للمصادفة في العالم، بل ثمة أسباب تضرب جذورها في تربة الزمن البعيد، عبر تقمصات متعددة معقدة.. كل ذلك وفقاً لقانون العدالة الإلهية: فلا عقاب او ثواب إلاّ له أسبابه القريبة أو البعيدة . و لعلّ بعض ما يحسب شراً، منقلب ،يوماً إلى  خير عميم.

و لا بد من إن يستوقفك، في عالم داهش، شأن المرأة في الأرض  وسلطانها على القلوب و مطلب السلطة عندها؛ و تستوقفك ثورته الطاغية على خيانتها، و على خرافة حب، و إكباره اللذين تجسدت فيهم قيم الصدق و الإخلاص  والوفاء...و قد أشاطره الإيمان بأن زنبقة الحب البيضاء لا تنمو في تراب الأرض، و إن المرأة-الحلم أجمل من المرأة- اللحم و الدم، و أن أنقى الحب و أبقاه ما لا يحقق على الأرض مرتجاه!...

و لعلك واقع، في الكتاب على قصص معروفة ، منها التاريخيّ أو الأدبيّ او الشعبيّ... غير أن يراعة المؤلف أضفت عليها، بصياغتها ثانية، و بما حذفت منها أو أضافت عليها، رونقاً فنياً جديداً. هذه اليراعة لا بد أن تأسرك بسردها الحوادث، ودقة وصفها، حتى كأنك ترى المشهد رأي العيان؛ و لا بد أن تملك عليك مشاعرك و أنفاسك، فتجري في إثرها، يرفدك شوق ملحاح إلى الخاتمة التي غالباً ما تأتي غير متوقعة؛ فكأنك، مع تلك اليراعة تسير على أرض المفاجآت.

و بعد، لا غرو أن التأمل في النجوم المتألقة عينها، خير من النظر إلى ظلالها المرتسمة على وجه البحيرة! ثم، أما حان موعد الرحيل في عالم داهش، أو في بعض أرجائه؟.!...

طوني شعشع

في 3/8/1983

حقيقة مفزعة

 

 

أحبها منذ كانت طفلة، و كان حبه لها عظيماً؛ فهي له كل شيء، ويدونها هو حيّ ميّت!

كان يترصد الساعات التي يتاح له فيها الاجتماع بها، فيهبها حبه العارم و شوقه الحميم.

و راحت الأيام تزحف و الأعوام تفنى... و إذاها صبية رائعة الفتنة، متأججة العاطفة، ذواقة، فضلاً عن ثقافتها الواسعة و حبها للفنون الجميلة.

أما عائلتها فمن اعرق العائلات حسباً و أوطدها نسباً.

و أحب حبيبها أن يربط حياته بحياتها، فهي له كالشمس التي تبعث الحياة في الجماد و النبات.

إنها معبودته الوحيدة الفريدة؛ فحياته يدوّنها ظلام دامس رهيب الدجنات!

و دارت الأيام دورتها و إذا بمعبودته قد غادرت مع والدتها المدينة التي يقطن فيها من أحبته حباً عارماً، و إذاها تدخل جامعة تستأنف فيها علومها.

وحدث، ولا حرج عن حبيبها الذي أضناه بعدها و أسقمه فراقها؛ فشدّ رحاله إليها. و كان لقاء بعد فراق قصير ذاقا فيه من لوعة البعاد أشكالاً و ألواناً.

واستضافته والدة حبيبته بمنزلهم الرحب...

وكم كانت سعادته عظمى! إنه يشاهد معبودته كل يوم، و هذا غاية ما يطمح إليه و يتمناه.

ومكث في ضيافتهم مدة طويلة ،ثم اضطرته الظروف ان يسافر واعداً حبيبته أن يعود ثانية  ،تحمله أشواقه بلقائها المرجّى.

***

مضى عام منذ غادرها مضطراً ، لكنها كانت لا تفارق خياله، فهي ماثلة أمامه ليل نهار.

إنها حلمه المرجّى و أمله المبتغى، و أمنيته التي يتوق ان تتحقق. و يا لأحلام الإنسان ما أبأسها وما أقصى ما تبطنه لمن يظنّ أن السعادة هي قريبة إليه قاب قوسين.

وأمضّه الشوق...فاتصل بها، و اعملها بأن مشاغلهم تسمح له بالسفر إليها، ،فطلب منها ان توافيه. و هذا ما كانت ترغب فيه. فإذاها وقد وصلت للمدينة التي يقطن فيها.

التقى الحبيبان بعد افتراق عام و نيّف،فتبادلا أكؤس الحب و الغرام و الجوى و الضرام...

أربعة عشر يوماً منذ وصولها...

و في هذا اليوم الرابع عشر شعر حبيبها بألم في رأسه وضيق بصدره، فلجأ لفراشه باكراً.

و في تمام الساعة الواحدة في فجر 18/!/1980 غادر فراشه دون أن يستطيع النوم، وذهب إلى المطبخ ليشرب، فدهش إذ وجد الباب الموصل غليه مغلقاً؛ وهذه هي المرة الأولى التي يشاهده فيها مقفلاً، فهو أبداً مفتوح على مصراعيه، و مثبت بخيط كي لا يغلق. كما شاهد درفتي باب المطبخ مغلقتين أيضاً، فدفع إحداهما و دخل.

و إذاه يشاهد حبيبته جالسة أمام المدفأة، و بجوارها ينتصب صديق حبيبها الحميم! فذهل لمشاهدتهما في هذه الساعة المتأخرة من الليل البهيم بمفردهما!..

ومن عادة صديقه أن يكون غارقاً بنومه في هذه الساعة من الفجر. و صديقه هذا هو عنوان الشهامة و الصدق و الإخلاص و المفاداة بنفسه لأجل صديقه... فكيف به يجده،الآن، بهذا المكان في هذا الفجر البارد؟!...

إنها المرأة!...المرأة التي تضعضع العقول، و تسلب النهى، و تعصف بالصداقة و الأصدقاء، فإذا هم أضداد!...

***

 

وران صمت عميق، صمت أخرس شامل عام...فلا حركة أو نأمة إطلاقاً! إنه إله الصمت قد أقى سياله على الألسنة الثلاثة،فلم ينبس أي منهم بلفظة ما.

إذ إن الموقف أملى عليهم هذا السكوت المخيف، و الصمت المرعب! ثلاثون دقيقة تسربت و الثلاثة مسمرون في أماكنهم دون حركة إطلاقاً.هي تصطلي أمام المدفأة، و حببها جالس على كرسيه دون ان تبدر منه نأمة ما، و صديقه منتصب كالرمح، و ثابت بمكانه دون أن تطرف له عين!...

إنه موقف عجيب غريب! بل قل إنه موقف مضطرب رهيب!...

لقد كشف القناع، و هتكت المخبّات،وانجلت الحقائق سافرة!

إنها لحظة كافرة تحمل بمضامينها أرهب وأرعب ما يتصوره فكر أو يصل إليه خيال!

و كانت تعمل في صدر حبيبها شتى العوامل ومختلف المتضاربات!

-واهاً للسنين الماضية! وواهاً لظني الحسن بمن كنت أحب! و تعساً لما وصلت إليه!...

وصمم أن يخلع عنه هذا النيّر البغيض، النيّر الذي كان يظنه نعمة سماوية و سعادة فردوسية!

فإذاه يكتشف أنه كان يخوض موطن اللعنات السرمدية.

لقد اعتزم أن يكون حراً طليقاً منذ الدقيقة التي دخل فيها إلى المطبخ و شاهدهما معاً!

لقد أصبحت الدنيا بأسرها بنظره أضيق عليه من سم الخياط.

لقد كفر بالمرأة، و شكك بالوجود و الموجود. و تأكد له أن وجود الإنسان في عالم المادة ما هو إلاّ جزاء رهيب لا يخلصه منه سوى الموت الحبيب!

ونهض،ثم غادرهما معاً...ودخل إلى غرفته، و أمسك قلمه، و شرع بكتابة هذا الحادث الذي غيّر ماجريات حياته.

واعتزم أن يضع حداً لعلاقته نعها، فهي حرّة بتصرفاتها التي باتت لا تعنيه بكثير أو بقليل إطلاقاً.

و دوّن الحادث المفاجئ المزلزل تحت عنوان:

 

"الحقيقة المفزعة"

 

بيروت،الساعة الثالثة من فجر 18/8/1980.

 

 

وانطوى الزمان

 

سمندل،هولمان، ويوتابي

 

كانا بالعمر متقاربين، فهو لم يتعد الثامنة عشرة، و صديقه هولمان في العشرين. و قادتهما إلى غاب كثيفة أشجاره، رائعة ازهاره، شجية أنغام أطياره...فراحا يمرحان و يقفزان،فالدنيا لديهما لعب وابتهاج.

وجعل سمندل يطارد الفراش الفتان...يلتقط ما يستطيع منه، واضعاً إياه بكيس من الورق. كما كان هولمان يتسلق الأشجار باحثاً عن أعشاش العصافير علّه يعثر على فراخها ليشبع نهمه من مشاهدتها.

وعندما أضر بهما الجوع بحثاً عن الأشجار المثمرة، وملأا جوفيهما ما استطاعا إليه سبيلاً. وفجأة تسمرّا بمكانهما، و جحظت عيونهما لمشاهدتهما فتاة ممشوقة القامة، رائعة الفتنة، و هي منهمكة بجمع أزهار هذا الغاب الظليل.

وكان شعرها مرسلاً على كتفيها...

وإذاها تجفل عندما اصطدم بصرها بالشابين.

وعرفاها!...

إنها يوتابي أجمل فتيات القرية، وأروعهن محاسن، و أبهر مفاتن!..

فحياها كل منهما...

و إذاها تعرض عن هولمان، إذ سبق له أن ارسل والدته و شقيقته لطلب يدها، فرفض والدها، واغتاظت والدتها من وقاحة هذا الطلب الغير الكفؤ؛ مثلما نفرت يوتابي، يومذاك، من والدته و شقيقته، و لم تجاسهما عندما عرفت الغاية التي قدمتا لأجلها.

 

قبلة ثمنها فادح

 

ولم يمرّ شهر على ذهاب والدته و شقيقته لطلب يد يوتابي، وعودتهما بصفقة الخاسر المغبون، حتى التقى هولمان يوتابي في طريق ذهابها إلى المدرسة؛ فاعترض سبيلها، و حاول مغازلتها...فنهرته، و هددته...فما كان منه إلاّ أن اغتصب قبلة من خدها  المورّد.

فعادت أدراجها إلى المنزل، و أبلغت والدها بما حدث معها، فاستشاط غيظاً، و صعد الدم إلى رأسه، و هرول مسرعاً إلى منزل والد هولمان، و كان شرر الغيظ يتطاير من عينيه، وهو يهدد و يتوعد بقتل نجله المعتدي على ابنته ووحيدته.

 

بين أبوين

 

وصعق والد هولمان، و هاله الخبر، فراح يستعطف ابن قريته مولار،و يقسم له أنه سيسوط نجله و يؤدبه أفظع تأديب، و سيكلفه هذا العمل  الدنيء غالياً جداً.

ثم انكبّ على يدي مولار يقبّلهما وهو يستحلفه أن يعفو عن نجله، ويترك له أمر تأديبه، وهو الكفيل بجعله لا ينسى الدرس القاسي الذي سيناله. إنه لن ينساه ما دام حيّاً.

وإذا بمولار يقول لكامبل:

-عليك أن تشكر الله لأنني لم اجد ابنك في المنزل، لأنني أقسمت أن أجلد الأرض به، و ادعه يودّع دنياه جائداً بروحه، معجوناً عظمه بلحمه، جزاء على ما اقترفه من نقيصة نذلة.

أجابه كامبل:

-هو ما تقول، و لا أستطيع لومك، لكنك أرحم من أن تفجعني به، و هو وحيدي،و أطلب إلى الله أن يمتّع وحيدتك بأرغد عيش، و أهنأ حياة، و أتمّ و أشمل سعادة تكتنف أيامها الدنيوية.

 

 

تاديب عنيف

 

وما كاد مولار يغيب عن العيان حتى عاد هولمان إلى المنزل،و إذا به يشاهد نيران الغضب المتأجج تبرز من عيون والده المفتول العضلات، فوالده مصارع معروف، و قد فاز في حلبات المصارعة، و تغلّب على كل من نازله، فهو مرهوب الجانب، و حائز عدداً كبيراُ من الاوسمة الفخرية بانتصاراته المتعددة على منافسيه.

وبادر الوالد نجله بصفعة مزلزلة اطارت له أربعة أضراس، و إذا بالدماء تسيل بغزارة...وازاده منظر الدم المراق شراسة، فراح يكيل له الضربات دون رحمة أو شفقة.

ثم احضر حبلاً متيناً و قيّد به ابنه، و سمّره بهذا الحبل بحديد النافذة.

ثلاثة أيام بلياليها حرمه من الطعام و الشراب، و بنهايتها كان هولمان محطّم  الجسم، خائر القوى، مورّم الوجنتين، مهلهل الثياب، مدمّى الفم، وهو أقرب إلى الموت منه للحياة.

 

على من تقرأ زبورك يا داوود

 

وحلّ والده وثاقه، و ندّد بعمله مع يوتابي، قائلاً له:

-إنك معاكس مشاكس، و ستوصلنا برداءة أخلاقك إلى السجون و ربما للإعدام. فطالما أتتني شكاوى من العديدين عنك. فكم و كم من المرات حذرتك، وكم وكم من المرات نصحتك فلم ترعو...وأخيراً، أقدمت على مهاجمة يوتابي و أنت تتأكد أن  والده له المقام الأرفع لدى الحكومة، و كلمته لا تردّ. فيده طويلة، و يدنا قصيرة. فبعملك الشائن كدت أن أفقدك لولا استعطافي إيّاه و تمريغ كرامتي بذلّ امامه ليعفو عنك، إذ كانت نيّته نحوك مخيفة!

 

نفس شريرة

 

وتحامل هولمان على نفسه، و أصلح من شأنه، غسل جروحه، و جرع كوباً ساخناً وهو يردّد بنفسه: سأنتقم منها، و لن اتراجع ولو دفعت روحي ثمناً لما أنتويه.

و تمتم قائلاً: إن أعجب ما ادهشني القوة البدنية التي يملكها والدي، و نكوصه،رغم ذلك، عن تأديب والد يوتابي عند مجيئه لمنزلنا. فلو كنت مكانه لأدبته و لجعلته يفرّ فرار الفأر من القطّ الشرس.

و تناول الطعام، وارتدى بذلة جديدة، ثم غادر المنزل وهو يصفر نشيداً معروفاً.

 

و بترت ذراعه

 

مضت اربعة أشهر على هذا الحادث، ثم التقى هولمان بصديقه سمندل، و ذهبا إلى الغاب، وهو يبعد عن القرية ساعة زمانية سيراً على الأقدام.

وقد فوجئ مع صديقه بمشاهدة من سببت له السقوط أربعة من أضراسه!..وحياها كل منهما... فأشاحت بوجهها عن هولمان...فاستعر غيظه، و إذاه يهاجمها قائلاً لصديقه:

-إنها فرصة العمر التي لن تتاح لنا ثانية، فلنغتنمها.

واحتضن هولمان يوتابي، و حاول تمزيق ثيابها الداخلية!...وإذا بصديقه سمندل يهاجمه بضراوة و عنفوان، و يشتبك الاثنان و يلتحمان...

وغرس هولمان أسنانه المتبقية بفمه في خدّ سمندل، فصاح من الألم، وارتد عن صديقه وهو يضع يده على خدّه، و الدم يتساتل منه، و أمسك بسيفه القصير الذي كان يفارقه أينما ذهب و أنّى ذهب و أنّى  توجه، و كرّ راجعاً حيث هولمان،

وهوى بسيفه القاطع على ذراعه فبترها بتراً.

و سقط هولمان أرضاً، مثلما أغمي على يوتابي!..

 

 

الهروب

 

و إذ ذاك أطلق سمندل ساقيه للريح، واستمر يعدو و يعدو حتى وصل إلى لحف جبل، فجعل يتسلقه بلهفة، محاولاً التواري عن العيان بين نخاريبه و بين شعاب تضاريسه.

لقد قتل هولمان بساعة غضب و ثورة نفسية، فأصبح طريد العدالة! و إذا وقع بقضبة رجال الأمن فلا شك بأن نهايته الإعدام.

-إذاً ليس لي إلاّ الاختفاء حتى يشاء لي الله الخلاص من هذا الشرّ المستطير.

 

 

أإنسيّ أم جنّيّ؟!..

 

و تسمّر سمندل بمكانه إّ سمع صوتاً يناديه! فقال: يا الله إنهم يتبعونني!..فأعنّي يا خالقي.

واقترب منه رحل جبار الجسم، كثيف الشعر، أجشّ الصوت، مجدول العضلات... وهو أعور!... و قال له:

-يا سمندل، اتبعني و لا تخف، فأنت آمن.

-يا الله! من يكون هذا الرجل تجلى لي في تضاريس هذا الجبل الأشمّ؟ و كيف عرف اسمي؟ و كيف أتيح له أن يعرف الخوف الذي يعمر به قلبي؟!...

حقاً إن هذا الأمر معجزة و لغز الألغاز!..

و تبعه...ومكثا سائرين صعوداً، متسلقين حجارة ضخمة، و سائرين بدروب عسيرة المرتقى، شائكة المزالق، كثيرة العقبات، متعددة المخاطر!...

فحيناً تنزلق أقدامهما لوعورة المسالك، و تارة تتساقط من عل بعض الصخور، فيتحاشيان اصطدامها بلجوئهما تحت لحف الصخور الجبارة، و طوراً تزأر الرياح فيتشبثان بنتوءات الصخور خوفاً من التطويح بهما في مهاوي هذا الجبل المشمخرّ و المتطاول للسماء.

وكان سمندل يتكئ على سيفه القصير الملطخ بدماء هولمان ليقيه التعثّر و السقوط.

 

 

بضيافة معشر الجنّ!...

 

و تجلت لهما فوهة توقّف الرجل الجبار امامها، وأشار لسمندل أن يتبعه، و دخل منها إلى جوف الجبل، ولحق سمندل به وهو يرتجف خوفاً من المجهول.

وبعد أن سارا مئة متر في مضيق مستطيل، وصلا إلى باحة رحبة، فإذا بها عامرة بجمهور غفير من الرجال الغريبي المناظر، و بنسوة شعورهن منسدلة على ظهورهنّ!...وكان الجميع يمرحون، رافعين عقيرتهم بالغناء بلغة لم يسمع سمندل مثلها طوال حياته.

وكان قرع الطبل يدوّي في هذا المكان فترجّع صداه تلك الدهاليز الدهرية في جوف الجبل الشامخ الذّرى.

وعلى دويّه المتصاعد اختلط حابل القوم بنابلهم وهم يرقصون رقصات شيطانية، و يقفزون قفزات إبليسية مرعبة!...

وكان قوم منهم يكرعون أنواعاً عديدة من خمور رائحتها تملأ زوايا و خبايا ذلك المكان المنزوي بأحشاء الجبل.

و فجأة تجلّت أمام عيون الجميع فتاة بشرخ الصبا و عنفوان الفتوّة! و كانت من الجمال بحيث صعد تأوّه عام من الصدور لمرآها...من الرجال و النسوة معاً!

وراحت هذه الجنيّة الفتية ترقص رقصاً يلعب بالقلوب، و يستهوي الأفئدة، و يتملك الألباب،و هي عارية-ربي مثلما خلقتني!

فسكرت النفوس، واضطربت القلوب، و صعدت حمّى الرغبات إلى الرؤوس، فإذا بالجميع يصيحون بجنون:"نحن عبيدك، ونحن نموت في سبيلك، فأنت مصدر حياتنا و ينبوع أشواقنا، يا مليكتنا المفداة".

و أشارت لهم بجرع الخمور، فراحوا يملأون بطونهم منها بشراهة كبرى!

وتقدم الجبار الأعور و بيده جمجمة مملوءة بالمشروب المجهول، و أشار لسمندل أن يحتسيه، فجرع سمندل ما احتوته الجمجمة حتى آخر نقطة فيها.

وإذا به يقفد وعيه!...

 

اليقظة العجيبة!...

فتحت عينيّ بعد نوم عميق، و إذا بالشمس تملأ الآفاق، و بطائر جبليّ يقف على صخرة قبالتي وهو يصيح، فيرجّع الصدى صيحاته...

نهضت و امسكت سيفي الذي لا يفارقني...وكم كانت دهشتي كبرى عندما شاهدته و قد كساه الصدأ، و قشور منه تتساقط عند لمسها!...

-يا الله! ما هذا!؟!...هل أنا بحلم ام في يقظة؟!.. ترى، هل لستبدل أحدهم سيفه بسيفي لبعث استغرابي؟!...

و تفحصته...فإذاها سيفي بعينه و ميمه، إذ سبق لي أن حفرت اسمي عليه. وهوذا اسمي ما يزال منقوشاً على صفحته،و قد كساه الصدأ أيضاً!

 

 

لغز لا حل له!..

ورحت أستعرض ما مرّ بي...

و ذهلت إذ وجدت نفسي خارج القاعة الوسيعة التي بلغتها بعد دخولي الفوهة مع الأعوار الجبار! فكيف أجد نفسي الآن في العراء، خارجاً عن تلك القاعة التي كانت تموج بخلائق عجيبة غريبة!

و فوراً تمثلت في خيالي الفتاة ذات المحاسن الخارقة التي رقصت عارية رقصاً عجيباً لا تملّه النواظر!

و أسرعت إلى الصخرة العظمى أنعم النظر فيها لأرى الفتحة التي ولجناها...ولكني كنت كمن يبحث عن المجهول.

فالصخرة تلجبارة ليس فيها أيّة فتحة، مع أنني قبل دخولي إليها كتبت اسمي على مدخلها بالقلم الرصاصيّ...وها هو ما يزال مدوناً! و لكنّي، الآن، لا أرى سوى صخر صلب صلد! فيا للعجب العجاب!...

 

هواجس!..

 

ومر بخاطري حادث قطعي لذراع هولمان و هروبي و تسلقي لتلّة الجبل خوفاً من رجال الأمن. و لكن كيف يمكنني العيش في جبل مكوّن من الصخور فقط، إذ لا شجرة مثمرة فيه، ولا ماء لأستقيه!.. إذاً الموت كامن لي فيه.

و حزمت أمري، واعتزمت أن أعود إلى قريتي و أسلّم نفسي للسلطة مظهراً لهم الأسباب التي دعتني لركوب هذا المركب الخشن.

فدفاعي عن الشرف و الفضيلة، و عدم تمكين هولمان من الاعتداء على يوتابي هما اللذان جعلاني أفقد عقلي، و أدافع عن يوتابي وعن نفسي.

ولا شك بأن القضاة سيجدون لديّ من الأسباب ما يخفف عني المسؤولية.

 

 

مدهشات مذهلة!

 

وسرت في درب الجبل بطريق عودتي إلى قريتي...وعندما بلغت نهايته، وصلت للطريق السويّ الذي يقودني إلى القرية. و بعدما سرت حوالي الساعة إلاّ ربعاً- و القرية تبعد عن الجبل- التقيت بأشخاص رجال و نساء...فدهشت من لباسهم الغريب العجيب! كما لاحظت أنهم ينظرون إليّ نظرات طافحة بالدهشة العارمة مما لست أدري!

كانت نظراتهم إليّ نظرات شك و حذر واستغراب بالغ!..

تركتهم و شأنهم، و تابعت سيري حتى بلغت القرية،  وإذا بي أجدها مختلفة عما عهدتها من قبل!

يا الله! لقد تغيرت تغيّراً جذرياً، فكأنها انقلبت لغيرها بسحر ساحر قدير!

ترى، هل اعتراني مسّ من الجنون، أم انقلبت المقاييس فأصبحت على غير ما أعهدها؟!

و أكملت طريقي حتى وصلت إلى منزلي...

و إذاني أجد بابه و قد بلي خشبه، و تهرّأت نوافذه ، و تهلهلت روافدها.

 

 

ألغاز و معمّيات!

 

ووجدت في المنزل أشخاصاً لا عهد لي بهم، و لا يمتّون إليّ بصلة إطلاقاً!

و سألتهم عن والدتي سونيا؛ و إذا هم يعلمونني بأنهم ابتاعوا المنزل منها منذ 45 عاماً مضت، و هي قد توفيت منذ 30 عاماً. و قال لي مالك المنزل:

-يمكنك أن تشاهد نصباً فوق جدثها في مقبرة القرية، مدوناً عليه اسمها و تاريخ وفاتها.

صعقت، و كدت أن أجود بروحي!

-يا الله! ماذا أسمع؟! و كيف حدث ما حدث؟! و هل من المعقول أن انام يوماً بالجبل، و أعود في اليوم الثاني لأشاهد أعجب ما يمكن أن يشاهده مخلوق أو تسمع به أذن بشرية؟!

 

 

وشدهت لمنظري!..

وقالت لي زوجة صاحب المنزل الذي كنا نملكه:

-كيف تستطيع أن تبقي أظافرك مستطيلة بهذا المقدار المخيف؟!

و نظرت إلى يديّ فهالني ما شاهدت و أصبت بدوار قاتل!

إنها ليست أظافر! فهي أرهب من مخالب أشد الوحوش ضراوة! و كيف لم ألاحظها قبل أن تلفت هذه المرأة نظري إليها؟!

و أكملت المرأة كلامها فقالت:

-طوال حياتي لم أر لحية باستطاعة لحيتك هذه!

و فجأة كشف الحجاب عن نظري، فإذا بي أترنّح لمشاهدتي ذقني و هي تكنّس الأرض لاستطالتها!

يا الله! يا لقوات السماء! ما هذا؟! و كيف حدث هذا؟...

و خرجت من منزلنا القديم مهرولاً، و أنا أكاد أفقد عقلي!

و سرت في طرقات القرية، و جست دروبها،و إذا بالغلمان يسيرون ورائي وهم يقذفونني بالحجارة و يضجون و يصخبون...

 

 

في مخفر الشرطة

 

و صدف مرور شرطيّ أدهشه منظري لغرابة  ملابسي و هيئتي العامة! فاقتادني إلى المخفر،و بدأوا باستجوابي.

فرويت لهم قصتي من الألف حتى الياء... و كم كانت دهشتهم بالغة أقصاها!

و قال لي ضابط الشرطة:

-هل تعرف بأنه قد مضى خمسون عاماً على قطعك لذراع هولمان؟!

وكنت أنا، إذ ذاك، لم أولد بعد! و كان والدي هو المولّج بالتحقيق في هذا الحادث. و قد انطلق رجال التحري يبحثون عنك، و ينقبون عن مكانك دون أن يستطيعوا معرفة مقرّك. و ها انذا قد أخذت مكان والدي بعد وفاته.

أما هولمان فما يزال بقيد الحياة؛ و اليوم أصبح عمره 70 عاماً، إذ إنه كان في العشرين عندما بترت ذراعه.

و سألته عن يوتابي. فقال لي إنها ما تزال حيّة أيضاً، و عمرها أصبح 66 عاماً، إذ كانت يوم الحادث ذات 16 ربيعاً.

 

 

سمندل و يوتابي

 

و أطلق سراح سمندل إذ إن جريمة بتر ذراع صديقه مضى عليها مرور الزمن.وانطلق سمندل يسأل عن منزل يوتابي...فاهتدى إليه.

و علم بأن زوج يوتابي قد توفي منذ عشرة أعوام، و قد رزقت منه أنثى. و كان والداها قد توفيا، أيضاً، فأصبحت تعيش بمفردها بعدما تزوجت ابنتها ووحيدتها.

واستقبلت يوتابي زائرها الغريب و هي مدهوشة مبهورة لمنظره الغير مألوف، واستعلمته عمّ يريد؟ فقال لها:

-هل عرفتني؟

و أنعمت نظرها به ملياً، ثم قالت له:

-كلا، إذ لم يسبق لي مشاهدتك قبل اليوم!

فذكرها بالحادث المشؤوم، و قال لها:

-ها انت، الآن، ترينني بعد مرور خمسين عاماً، إذ ما زلت حيّاً أرزق.

 

 

سرور يوتابي

 

وقفزت يوتابي و كأنها ابنة الستة عشر عاماً! و حدقت غليه بعينين تملأهما الدهشة العظمى! و قالت:

-يا الله!أممكن هذا؟! إنه من المستحيلات!

فأراها السيف القصير الذي لا يفارقه أبداً، و كانت الدماء ما تزال جافة عليه، و الصدأ قد أكله!

و إذا بدموعها تهطل بغزارة...

و امسكت يمينه و جعلت تقبّلها مراراً و تكراراً، مرددة:

-أنت من أنقذ شرفي من ذلك الوغد الذي نال جزاءه على حساب تشريدك، أيها الرجل العظيم!

 

 

واستضافته بمنزلها

 

واستحلفته ان يمكث في منزلها، فهو ملكها الحلال. و قالت له:

-منذ أسبوع غادرت العائلة المستأجرة للطابق العلويّ، فهو خال من السكان، فأنا أقدمه لك عربوناً لشهامتك منذ خمسين عاماً مضت و خصوصاً أن والدك قد توفي، و كذلك والدتك و شقيقتك، فاعتبرني شقيقة لك.

فشكرها، وقصّ عليها حادث دخوله بالفوهة، و مشاهدته لمعشر الجنّ، ثم جرعه لخمرة عجيبة غريبة، فنومه الطويل، فيقظته و عودته إلى القرية حتى ساعة اجتماعه بها.

و إذاها تقول:

-إنها معجزة المعجزات! إنها حقيقة واقعية لا تصدق لو رواها لي شخص سواك! فيا للأسرار المذهلة!...

 

 

حفلة التكريم

 

و أقام قرين ابنة يوتابي حفلة تكريم كبرى لسمندل إليها أهل القرية بقضّهم و قضيضهم، و كلّ منهم أشاد بشهامة سمندل و غيرته على الشرف، و بذله غاية ما استطاعه في هذا السبيل..

أما هولمان فكان غائباً عن القرية منذ شهر إذ سافر إلى لندن حيث يعيش ابنه.

وقطن سمندل في الطابق العلويّ إذ نزل فيه أهلاً واحتله سهلاًَ، و ذلك بعد أن تخلص من ذقنه التي كانت تكنس الأرض لاستطالتها؛ و بعد أن شذّب أظافر يديه المستطيلة، و أصلح من شأنه، و غيّر ثيابه المهلهلة، فإذاها يبدو أصغر من عمره بعشرين عاماً.

 

 

 

موت سمندل

 

في اليوم الثامن من شهر تموز عام 1710 تأخّر سمندل عن الهبوط لمنزل يوتابي، كعادته، لشرب الشاي و تناول الفطور. فصعدت يوتابي و طرقت الباب دون أن يفتحه لها أحد.

فاستدعت الجيران، و حطموا الباب، و إذا هم يجدون سمندل و قد توفاه الله. فحزنت يوتابي حزناً كبيراً، واجتمع أهل القرية و أبّنوه.

و في اليوم الثاني ذهبوا به إلى مقبرة القرية، و دفنوه مع سيفه القصير، بعدما تبرّع كل منهم بمبلغ صغير تمثال فنيّ يرفعونه على جدثه تكريماً له لشهامته.

وكان سمندل قد عاد إلى القرية منذ شهر كامل توفيّ بنهايته.

 

 

 

هولمان على جدث سمندل

 

و بتاريخ 19 أيلول 1710 رجع هولمان من لندن إلى قريته، و عرف بعودة سمندل ووفاته بعد شهر من وصوله.

فذهب إلى المقبرة،ووضع ضمّة من الأزهار على جدث صديقه القديم، وردد قائلاً:

-أي صديقي سمندل! لا تظنً أنني أحمل لك بصدري موجدة لقطعك ذراعي. فروح الشر كانت تعمر صدري عندما حاولت الاعتداء على يوتابي. وقد نلت جزائي من يدك الصاعقة التي بتر سيفها القصير ذراعي فبرها مثلما تبرى الأقلام! و إني، يا صديقي سمندل، ما زلت بقيد الحياة بسببك، و إلا لكنت زرت عالم الرموس. إذ لو اعتديت على يوتابي لكان والدها مثّل بي تمثيلاً  مرعباً قبل إعدامه لحياتي. لهذا تجدني مديوناً بحياتي لك، أيها الشهم المتواري.

و ليتني شاهدتك، يا صديقي، قبل وفاتك، إذ لكنت انكببت على قدميك أمرّغ بهما رأسي اعترافاً بجميلك عليّ. إذ إنني بعد هذا الحادث، سرت بالطريق المستقيمة، و نشأت ولدي على منهج الصدق و الشهامة، و كان هذا بفضلك عليّ بعدما خسرت ذراعي...فقادتني هذه الخسارة إلى الطريق السويّ.

وغادر هولمان دار الموتى عائداً إلى منزله، و هو يترحم على من بتر له ذراعه، إذ كان الحافز الذي دفعه لتغيير سلوكه الشائن. و إذاه يسير في صراط الصدق و الاستقامة.

 

بيروت، الساعة الخامسة و النصف

من فجر 18/1/1980

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة