info@daheshism.com
حادي عشَر: العدالة الإلهيَّة والتقمُّص

قصص غريبة و أساطير عجيبة

الجزء الأول

 

الحق  أحق أن يتبع

بقلم الدكتور داهش

 

بتاريخ 10/3/1976، و في الساعة الثالثة و النصف بعد الظهر، وصلت إلى نيويورك ابلطائرة الجامبو. و مكثت في أميركا عامين و نصف العام. و بأثناء إقامتي فيها كتبت معظم هذه القصص و الأساطير و عددها 85 قصة و أسطورة سيضمها مجلدان.

 و هي المرة الأولى التي أكتب فيها هذا النوع من الأدب الحافل بشتى الصور العجيبة الغريبة.

و القصة يعالج فيها الكاتب أحداث الحياة ووقائعها الحافلة بشتى الغرائب التي هي مزيج من الخير و الشر. و في النهاية يخرج بعظة و نتيجة تحضّ على الخير و تشجب الجريمة.

والقارئ لقصصي و أساطيري سيذهل لحكمي الصارم على كل ما تزخر به الحياة من شؤون و شجون.

 و سيرى أنني قسوت بحكمي على المرأة و الرجل أيضاً. و لكن الحقيقة أحق أن تذكر دون أن يسدل عليها رداء عاره، متسربل بشناره.

إن على الكتاب واجباً مفروضاً هو قول الحقيقة دون سواها. فلماذا يحاول الجميع صياغة قصصهم بإلباسها رداء الفضيلة،بينما الرذيلة هي السائدة في ربوع دنيانا!

عليهم أن ينقضوا انقضاض النسور على فرائسها، و قول الحق الصريح الواضح دون محاباة أو مواربة.

لهذا يرى القارئ أن حكمي على أبناء الكرة الأرضية من رجال ونساء هو حكم صارم، و لكنه حقيقي.

فأنا لا أتحامل عليهم تحاملاًً  غاشماً، إطلاقاً. و لكني أصف واقعنا الحياتي الحافل بالمعاصي، و المطوق الجميع حتى النواصي.

فالغش هو الاسائد، و الباطل سوقه رائجة،والاعتداء لا ينكره منكر، و الفساد متفشّ في عواصم الكرة الأرضية بأسرها، والفسق و الفجور مسيطران على الجنس البشري بأسره، و الأطماع حدث عنها ولا حرج، و كسب المال، و لو بطريق الحرام، غاية و ليس وسيلة، و الرذيلة صرعت الفضيلة، والشر بسط جناحيه وراح يرود أرجاء الكرة الأرضية، نافثاً فيها سمومه الرهيبة. و قد استجاب له أبناء الغبراء بقضهم و قضيضهم.

هذه هي الحقيقة، و الحقيقة لا يستطيع إنكارها إلا كل جاحد كاذب.

لهذا يرى القراء أن قصصي موسومة بهذا الطابع الذي لا يرحم رجلاً ولا يبرئ امرأة من الأوشاب و الاوزار الواقعية. و أنا لا يهمني آراء الغير إطلاقاً إذا كانت تشجب رأيي، فما كتبته عن السلوك البشري أؤمن به إيماني بوجود الخالقي، إذ إنه حقيقة واقعة، و بذله نفسه عن الآخرين، و تمسكه بالفضيلة المثلى، إنه:

 

غاندي نبي القرن العشرين

 

وبانطلاق غاندي إلى عالم الأرواح النقي التقي، أقفل الباب إذ لم يأت إلىعالمنا رجل صلاح آخر يماثله إطلاقاً.

وغاندي رحل عن دنيانا في الساعة  الثالثة بعد ظهر الجمعة الواقع في 30 كانون الثاني 1948، تاركاً أرضنا الغارقة في أقذارها و دناستها المشينة. و يوم مصرعه هلعت نفوس كبار رجال العالم و سياسييه، و غمر الحزن النفوس و ساد الذعر الأفئدة، و راحت صحف الدنيا ترثي أعظم رجال الكرة الأرضية.

وها إني أعيد نشر الكلمة التي صدرت في جريدة"الدفاع" الفلسطينية، بتاريخ شباط 1948، إذ قالت تحت هذا العنوان:

 

غاندي-نور وروح!

 

"من الغرب  و الشرق تجاوبت الأصداء تعليقاً على خسارة العالم بغاندي. و ما سبق في هذا العصر، أن شاع الحزن في نفوس الملايين على رجل، شيوعه على معلم الهند ومحررها ووالدها. و هذا وحده كاف لإيضاح تلك المنزلة التي كان يحتلها المصلح العظيم في نفوس الشعوب و الأفراد. و هو برهان، كذلك، على أن الشرق ما زال يدفع إلى العالم بالمصلحين ذوي الدعوة الإنسانية الشاملة.

لقد كان غاندي أرق و ألطف من أن يواجه بالقتل. كان نوراً له ما للنور من طبيعة الإضاءة في الظلام. و في عالمنا جوانب مظلمة كبيرة، فكان غاندي ساطعاً فيها باستمرار يهدي الحائرين، أقوياء و ضعفاء، إلى طريق الخلاص.

و في دنيا تفتقر إلى التضحية و المحبة، كان غاندي يلقي الدروس الرائعة فيهما. و حسبه أن احداً لم يستطع الرقيّ إلى مستواه. و إلى أن يستطيع الناس ذلك، سيبقون في حاجة ماسة إلى الاستقرار و سكينة النفس.

وما نحسب أذناً في هذه الدنيا لم يطرق سمعها اسم غاندي. و هو اسم رحيم ينزل على القلوب رخيماً كالغنم، عذباً كالفرات، مهيباً كالقداسة."

فغاندي من امجده، و غاندي من أجله و أقدسه.

وبانطلاقه من ربوع دنيانا قضي على الفضيلة، إذ لم أر في عالمنا من يتشبث بناصيتها. فالجميع عبيد لشهواتهم البهيمة، كما هم عبيد لمصالحهم و عن يكن على آلام سواهم ممن يعتدون على حقوقهم ليكونوا الفائزين بالغنيمة الملوثة بطاعون الاغتصاب الدنيء.

وأخيراً، إنني أعلن بصوتي الجهوريّ قائلاً:

 

إن عالمنا مصاب بطاعون الشرور المحيقة، و قاطنوه أشرار فجار.

فيا ويلهم، يوم حسابهم، و هم يتقلبون بين أشداق النار الأبدية الاتقاد، جزاء وفاقاً.

 

الدكتور داهش

بيروت، في 4 كانون الثاني 1979

 

 

توطئة

 

بقلم غازي براكس

 

هوذا الدكتور داهش الذي تفرد بين الناس بأعماله، يتميز بين الادباء بخوارق قصصه!

وإذا كان هوميروس قد عرف بأساطيره الميثولوجية؛ و فولتير بقصصه الغريبة الاحداث، و دانتي برحلاته إلى النعيم و الجحيم، و إدجار ألن بو بأقاصيصه العجيبة، و جول قرن برواياته الخيالية، و تولستوي بتصوير الحياة الواقعية، فإن الدكتور داهش استطاع أن يجمع فيه ميزاتهم جميعهم، و يتفوق عليهم بما وهبه الله من خصائص روحية فريدة تتيح له غماطة اللثام عن أسرار الحياة و الموت و ألغاز الوجود المادي و الروحي.

فبعد كتابه المعجز " مذكرات دينار" الذي هو أشبه بأوذيسّة القرن العشرين، يطلع الدكتور داهش على العالم الأدبي بخمس وثمانين قصة موزعة في جزءين. و هي قصص قصيرة جذابة، من أي جانب أتيتها عدت منها وملء راحتيك جنى لن ينسى مذاقه اللذيذ العجيب!

فان نشدت المتعة و التسلية و جدتها في موضوعاتها الطريفة، و أحداثها الغريبة و حبكها المشوقة المثيرة، و عقدتها المحيّرة المربكة،وحلها المدهش المذهل. و إن توخيت الفائدة و العبرة لقيتهما حيثما مررت،بلا وعظ مملّ أو إرشاد مزعج أو إسهاب مسئم. فالحياة هي التي تتكلم بألسنتها اللامحدودة، و تنطق بأحداثها اللانهائية، فإذا أنت محمولفي زورق الخيال، فوق أمواجها المتدفقة، تارة متهادياً،  طوراً مندفعاً، تشهد تحوّل الأسباب إلى نتائج و البذور إلى ثمار، في شريط من الأفراح و المآسي، و الآمال و الآلام، و الدمع و الابتسام، حتى لكأنك تسيح بين الآزال و الآباد، و قد تجمعت الحياةبين يديك نهراً خالداً!

تجول المؤلف في عالم الأرض. و الدهشة مستبدة بك، فكأنك لم تعرف الناس و لم تألفهم! فوجوههم غير التي عرفتها، بعد أن سقطت عنها الأقنعة! و حقيقتهم غير التي ألفتها، بعد ان بدت عارية، وكالحربة تطعنك في الصميم!

فالمرأة تغلب الشهوة الجامحة على رغباتها، و الخيانة على تصرفاتها،و  الرياء يقود خطواتها، ومع ذلك، فعرشها في الأرض لا يتزعزع، و سلطانها على قلوب الرجال لا يتضعضع! و إن وجدت صادقة مخلصة فلا تكون من طينة الأرض لكن هابطة من بعض الكواكب القصية!

و الرجل يهيمن الطمع عليه، و تطوقه الغيرة، و يحف به الغدر و الظلم. فإن اطمان قلبك إلى امرئ فأكبرت أعماله و حمدت سيرته، فسرعان ما تكتشف أن هذا النور ليس من ذلك الظلام، و أنه كالذهب بين الرغام!

وقد يخطر على بالك أن الحياة قد تكون أصابت المؤلف بلطخات منها سوداء.فأظلمت نظراته، و قست عليها عباراته،واشتد تشاؤمه فتوهم أن الشر قد تسلطن على الأرض، و المفاسد قد عششت و فرخت في قاطنيها، لكنك لا تلبث أن تدرك، إذا كنت من ذوي الألباب، أنه أصاب بتصويره الفذ كبد الحقيقة، لأن رايتها هي رايته، و محجتها هي غايته،فهو رجل العدل و الصدق، و كلامه هو الفصل و الحق، و إنما نحن نعيش في مخادعة أنفسنا، نزين وجه الحياة القبيح حتى لا نفجع ببشاعة وجوهنا. في حين انه يصدقنا القول و التصوير و إن جرحتنا مدية الحقيقة، من أجل أن يقينا مخاطر الحياة المخيفة، و يعلمنا الأمثولة الشريفة.

و يعرج خيال المؤلف بك إلى الكواكب و العوالم العلوية، فتفتح امامك أبوابها الدهرية، و ترفع حجبها الأزلية، فإذا أنت تجوس ربوعها السعيدة، تشارك قاطنيها النشوة العظمى، و تدهش لأسرارها المذهلة، و أساليب حياتها العجيبة، فتوقن،إذ ذاك، بأن سعادة الأرض ليست إلاّ وهماً زائلاً و ظلاً حائلاً إزاء سعادتها الدائمة، و تدرك ان الحضارة البشرية ليست سوى درجة في سلّم الحضارات الكونية،إذ تكشف لك جوانب قليلة من علوم الكواكب الباهرة، فتتوق لأن تحرز نصيباً، و لو هزيلاً، من سامي معارفها، و حظاً، و لو ضئيلاً، من نعيم لذائذها.

و يفتح لك صاحب الكتابأبواب الجحيم، فتتعرف إلى أبالستها و قد تجسدوا في الأرض بشراً أسوياء، فساكنوا الناس و خالطوهم، حتى إذا  ما اطمأن هؤلاء اليهم، كشف زبانية الجحيم عن حقيقتهم المرعبة، فكانت المأساة المفجعة!

أو يفتح لك أبواب  القبور، فيطفر أمواتها يغرون الغواني بالقصور، حتى إذا دقت ساعة الحساب، و أسفر الميت عن وجهه الرعاب، حلّ العقاب و أي عقاب!

و تجول مع المؤلف في رحاب الطبيعة، فإذا أرضها وفضاؤها، نباتها و حيوانها جميعها كائنات عاقلة تدرك و تشعر و تريد، و تعاني الصراع بين الشر و الخير، فتعجب، إذ ذاك، من انك لست العاقل الوحيد بين الكائنات، و ترهف  أذنيك لتلتقط همسات قد تبوح بها عرائس الانسام و القصب، أو طوائف الخضار و ألواح الخشب. و تغلغل بصيرتك- و قد شحذها لك المؤلف-إلى جواهر الأشياء، تكتشف معانيها الخفية و العلاقات بينها و بين الناس، فإذا الكل قائم على ناموس التقمص و على قانون العدالة الإلهية التي لا يختلّ ميزانها.

و تعترضك في أحداث التاريخ ثغرات تودّ أن تملأها، و أسئلة تتمنى الإجابة عنها، فإذا المؤلف يعطيك الجواب الشافي و التعليل العجيب اللذين لا يقدر عليهما إلا الرجل العجيب.

هكذا، يرى القارئ نفسه، وهو في سياحته الاخاذة، مدفوعاً إلى أن يعيد النظر في مفاهيمه التي ورثها عن الاجيال البائدة، و في اعتباره لنفسه و لحضارته. فليس الإنسان دائماً هو الأفضل بين المخلوقات حتى الأرضية منها فقد يفضله الكلب أحياناً، ذلك بأن القيمة الحقيقية هي للسيال حيثما هو و ليس للإنسان. و السيال- تلك الطاقة الإشعاعية الخفية الحية المشتركة بين الكائنات جميعها- قد يرتقي و قد يتسفّل حسب الميل الذي يحركه، ومسؤولية ارتقائه أو انحطاطه يتحملها هو وحده. أما الحضارة البشرية فليست سوى حلقة صغيرة في سلسلة الحياة الكونية المتصاعدة حتى اللانهاية.

وعلى ضوء ذلك، تكشف هذه القصص سر علاقات العوالم بعضها ببعض، و سر تفاهم الناس أو اختلافهم، و هناء الأزواج أو أشقائهم...فقد يرد ذلك إلى تلاقي سيالاتهم في دورات سابقة، كما إلى توافقهما أو تناقضها. فقد يعيش الفقيران سعيدين، و الغنيان شقيين، و قد يلهم الإنسان سيال من عالم علويّ، أو يوسوس له سيال من عالم  سفليّ!

وقصص الدكتور داهش تمتاز بالعمق، على بساطة أدائها. و عمقها في أنها تنقلك من الاحداث العارضة إلى الجوهر، و تفتح بصيرتك فترى الحياة بأبعادها الحقيقية واستمراريتها الأبدية التي هي أعجب من الخيال. من هنا أن الخيال في هذه القصص جله حقيقة واقعية، لكنها تخفى عن عيون البشر العاديين.

وهذا الأدب القصصي ينقلك إلى ما يعادل الفلسفة الحية، الفلسفة التي ليست بشعوذات فكرية أو افتراضات متناقضة وهمية، إنما  هي الحقيقة العارية التي أتيتك على أجنحة الخيال فتبهر عينيك، فلا يبقى ماثلاً أمام ناظريك إلا ميزان العدالة الإلهي!

وطرافة هذا الأدب ليست في البهلوانيات اللفظية، و الاستعارات البيانية، و الزخارف البديعية، و التدجيلات الفنية التي كثيراً ما يلجأ المحدثون إليها حينما يأخذهم هوس التجديد،بل هي في أفكاره السامية العجيبة، و موضوعاته الفريدة المبتدعة، و في إزاحة الستر عن حقيقة موجودة و ليست مخترعة،لأن حقائق الحياة كالقوانين الطبيعية يماط اللثام عنها. لكنها في صميم الوجود كائنة؛ و فضل الأديب العبقري في أنه يستطيع أن يحطم قشور الحياة لينفذ إلى لبابها، فيرى، إذ ذاك،ما لا  يراه الذين ينظرون بعيون وجوههم فقط.

أخيراً، لا غنى عن الإشارة إلى أن العالم الطريف العجيب الذي يقدمه الدكتور داهش، في الأرض و البحر و الفضاء، و في داخل الأشياء، ليصلح أن يكون مادة غنية خصبة للسينما و التلفزيون. و لن فيها التشويق و الإثارة،و التعليم و الإفادة، و العمق و البساطة. فهي قصص خارقة من رجل خارق. إنها ألف ليلة و ليلة القرن العشرين كتبت بأسلوب حيّ أخاذ بجمال بساطته، لتكون متعة  وفائدة للكثيرين.

 

غازي براكس

بيروت  4 كانون الثاني 1979

 

 

 

معركة حقيقية واقعية

 

يا لهول ما سأكتبه! و ما أرهب حقيقته المروّعة!

لقد جنّ نجل الدكتور ج، و فقد عقله و تاه رشده، و تقلّصت معرفته، ثم ذابت قوة ملاحظته، و لم تلبث حتى توارت واضمحلت إذ استقرت في عالم الغيب و المجهول!

لقد ذهبت إلى منزل ج، و ذلك في 7 نيسان 1953 ليلاً. واجتمعت بنجله المضعضع العقل. فماذا رأيت؟!

رايته في حالة رهيبة، بل جد خفية. وحالما استقرت عليّ نظراته الجاحظة برهبوت، هاجمني مثلما يهاجم الذئب الكاسر فريسته، و النمر البنغالي طريدته، و الأسد الإفريقي صريعه ليسكت بواسطته صراخ جوعه. فتماسكت و إيّاه مكرهاً، و تباطشنا بوحشية مدماة، فتقاذفني وتقاذفته، و جذبني بأعصاب فولاذية ليهصرني بجنون صارم، فلم أمكنه من بغيته،، بل تبوتقت عزيمتي، فإذا بي  أجدني ألعب به كالكرة. فازداد من الغيظ أضعافاً، و خرج الزبد من فيه، و راح يقذفه بوجهي بغزارة. و ما عتّم أن حاول قضم انفي، فرطمته برأسي على فكّه، و إذا بدمائه تنبثق من فمه حمراءقانية، فتلطّخ رأسه بذلك السائل الرهيب!

وفجأة جلجل من الفتى المخبول عويل هائل فنحيب...وثارت أعصابه بصورة جنونية جارفة يريد تقطيعي و تمزيق أوصالي فلذات فلذات، لشدة غيظه و عظم حفيظته الهائلتين! و تشنجت أعصابه و توترت كالحبال المجدولة، وراحت صرخاته تدوي فترجعها جدران غرفته التي كان حبيساً بين أركانها.

وبغتة رأيتني اندفع بأعنف ما يختزنه جسدي من قوى، و باعظم ما تمدني بع أعصابي المتشنجة من صلابة، و أطلقت العنان لصوتي المزلزل، بعد أن فتحت له كوى صدري. و أذنت لصواعقي أن تقصف ما شاء لها القصف العنيف، و لزمجرتي أن تنقض عليه ما شاء لها النقضاض المخيف!

وكالقنابل راحت هذه الحمم تتساقط عليه باستمرار كتساقط الحمم، و كأن من يصبّها عليه هو نفسه إبليس الرجيم! فارتاع الفتى التائه العقل ارتياعاً عظيماً، وما عتّمت أن هدأت أعصابه لخوفه الهائل. فارتخت عضلاته، و ترنحت أعطافه،وانجابت الحجب الكثيفة عن عقله لمدة وجيزة كانت كافية لأن أدفع به إلى فراشه، و أنا أتابع زعقاتي لأخيفه و امنع ثورة اعصابه الهائلة من العودة إليه.

فجلس على الفراش، وهو يئن، و يتوجع، و يبكي بحرقة هائلة، و يتفجّع، و يطلب الرحمة ، مردداً: الرحمة الرحمة، و إياك أن تقتلني-ليعود فيضحك ضحكات جنونية، فتبدو نواجذه، ومن تحتها أسنان لطختها دماء اسودت عليها، فأصبح لون تلك الأسنان بين الاحمر المسود و الأبيض الذي تشوبه صفرة متسخة من مختلف بقايا الطعام.

و زعقت زعقة هائلة أخرى أخرجتها حنجرتي الفولاذية، آمراً بها إيّاه ليتناول حبة الدواء المنومة. ففعلت هذه الزعقة الهائلة فعلها، وارتجف خوفاً،وازدرد الدواء بوجل ملموس. و بعد قليل استرخت اطرافه، و ثقلت أجفانه، و هدأ عن الحديث المضحك المبكي لسانه، و ما عتم أن ولج في عالم أحلامه.

وما كدت أتأكد من نومه العميق، بعدما سمعت بأذني ما يخرجه بأنفه من الغطيط حتى أسرعت إلى الماء فاغتسلت، و أزلت ما علق من غبار هذه المعركة الشيطانية الهائلة التي لا تصدق.

ثم حزمت حقيبتي تمهيداً لأعود، في مساء الغد القادم، من حيث اتيت، خوفاً من أن أقتل أو أقتل. و العياذ بالله من شر الجريمتين.

فيا خالقي،وواهب الحياة للخلائق، لرحم برحمتك هذا الشاب، وامنحه الشافء التام العاجل.

 

بيروت،13 نيسان 1953

 

يا للهول و ماذا أقول؟...

إن قلمي، لا بل أقلام فطاحل الكتاب بأسرهم لأعجز من أن يستطيعوا وصف رهبوت ما شاهدته بأم العين عندما اجتمعت بابن العزيز جورج. و يا لها من حقيقة رهيبة تئن من هولها الروح، و تنسلخ ألماً من رهبوتها النفس!

شاب في ميعة الصبا، و عنفوان العمر، يقفز قفزات جنونية متواصلة، و يثب في جميع أنحاء الغرفة، و يدور كرقاص الساعة باستمرار، ليعود فيستلقي أرضاً كي يدور دوران البلبل الذي يلعب به الأطفال. ثم يتفجّر باكياً و ينتحب بمرارة عجيبة، ثم ينوح بشهيق و زفير غريبين، ثم يهدأ لدقيقة لا تزيد، ليعود فيزمجر كالرعود القاصفة، و الرياح العاصفة، ثم يتحفّز للوثوب فالانقضاض على كل من يكون أمامه ليمزقه تمزيقاً و يردمه ترديماً.

وفي هذه اللحظة تغرق عيناه في غياهب المجهول، و ينظر إليك نظرات بلهاء رهيبة تحمل في طيّاتها الخوف العميق لمن ينظر الفراغ الهائل الذي تسبح فيه تلك العينان الضائعتان في عالم الأبدية المجهول بألغازه اللانهائية الأبعاد!

ثم ينتصب بتمرد و ثورة جارفين، و يهدد و يتوعد كل من يقترب إليه أو يلمسه بأنمله. و إذا أتيح لك وضع يدك على يده، فإنك تظن أنك تلمس بركان فيزوف للحرارة العظيمة المنبعثة من أعصاب هذا الفتى الضائع العقل، المسلوب النهى، المتعتع برشده، و الفاقد لبصيرته. فيهاجمك ليرديك، و تهاجمه لتردعه عن ثورة و تلطف له من هيجان أعصابه. و يحتدم أوار المعركة الجهنمية و أنت تشعر بأنك تقاوم ليس فتى يافع الإهاب ، غض الشباب، بل يتأكد لك أنك تتعارك مع عشرات الأبطال المحترفين ممن قست قلوبهم، واشتدت عضلاتهم، و تفولذت أعصابهم، فأصبحت حرفتهم المصارعة المستديمة دوماً و أبداً.

و إن قدر لك أن تغفل لحظة، أو تهن قواك لبرهة، فإنك تتأكد بأنك ستكون ضحية هذا الشاب المضيّع للعقل،بما وهبه من قوة خارقة مما اختزنته أعصابه من مئات السيالات الغريبة عنه و المحتلة لأعصابه، و القاطنة في نفسه، و السارية بروحه. وعند ذاك يتأكد لك أن نهايتك  قد دنت، و ساعتك قد أذنت بالرحيل، فتستعد بخوف و ذعر لأن تودع دنياك دون أن تتزود ما فيه الكفاية من دينك. و عند ذاك فإن خالقك يجازيك بعد أن يدينك.

و عندما تخور قواك و تصبح فريسة لأن تصرع بين ذراعي الفتى السليب العقل، تأتيك النجدة ممن يكونون قد أسرعوا على زمجرة رعود المجزرة الهائلة و بروقها المومضة الخاطفة، فيتعاونون بقضهم بقضهم  و قضيضهم عليه، و بشق النس يتغلبون على الفتى، بعدما تكون ألسنتهم قد تدلّت، و نفسهم قد اوشك أن يبلغ نهايته،و أرواحهم كادت تبلغ التراقي،و بعد ان يكونوا قد استعملوا كفوف أيديهم فصفعوا بها المسكين صفعات مزلزلة على وجهه، و ركلوه بأقدامهم ركلات مدمية على جميع أنحاء جسده، لا حباً بإيذائه و تأديبه، و ليس لكراهية تقطن في طيات صدورهم ضده. لالا، و أيم الحق لا. و إنما هم مرغمون على ذلك التصرف حباً بإيقاظه و إبعاد الثورة الجنونية عنه، و إعادة صوابه، للحظات، إليه، لكي لا يرتكب ، وهو في تلك الحالة الجنونية  الهائلة جريمة قتل رغماً عنه. فيقسون عليه،للحظات لينقذوا أنفسهم و ينقذوه- و إن يكن لهنيهة- مما ابتلي به بإرادة السماء العلمية بأسرار الخفاء و المجهول.

و هكذا تمضي الأيام و حالته هي هي إن لم تزد خطورة على خطورة، و رهبوتاً على رهبوت.

ومما يزيد ثورة الأعصاب، حتى تكاد تتفجّر و تتمزق شذر مذر، ذلك العويل الهائل، و النشيج المروّع، و البكاء المدمى، و الشهيق والزفير المزمجران اللذان يخرجهما كل من والده ووالدته المصابين بهذه النكبة الفادحة بوحيدهما و املهما في هذه الدنيا.

فيا خالقي، و يا واهب الحياة لكل ذي نسمة، يا من تعرف أسرار الأزل و الأبد، أنت العليم بما تكنّه كل نفس قبل أن ترسلها إلى عالم الأرض التاعسة، أرض البؤس و الشقاء، و العناء و البلاء. أنت انظر من عليائك نظرة العطف الأبويّ و الإشفاق الإلهي، وارحم هذا الشاب، و أنقذه مما ألمّ به رغماً عن تاكدي انه يستحق ما أصابه، مثلما نستحق ما أصابنا و يصيبنا، لأن عدالتك عدالة حقة  ، إذ تجازي كلاً حسب استحقاقه دون زيادة أو نقصان. وضع بلسم عزائك، يا الله، على قلبي والديه بشفائك ابنهما، و فلذة كبدهما، فيسعدوا في أيامهما القليلة الباقية لهما على هذه الأرض، أرض الدموع و الأحزان، و الحسرات الفائضة و الأشجان.

آه! استمع، يا الله، واستجب، أنت يا أرحم الراحمين. آمين.

 

بيروت، 20 نيسان 1953

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة