info@daheshism.com
عاشرًا: السيّالات

الشجرة المشطورة لقسمين

 

قالت الشجرة تخاطب نفسها :

انّ أغصاني تظلّل هذا الكوتتج ، والهواء يتخلّل أفناني فيداعبها ، واذا هي تهتزّ ذات اليمين وذات اليسار ، فتسرّ ، اذ ذاك ، عيون الناظرين من نوافذ هذا الكوتتج اليها وهي تتمايل .

كما أن الطيور الصادحة تقف على أغصاني وتشنّف الآذان بشدوها المبدع . وفي فصل الربيع تكتسي الغابة بأعشاب سندسيّة تتخلّلها أزهار بريّة ذات ألوان عسجديّة تبهج النواظر . والنسيم العليل يعزف على الأغصان أنغاما عذبة ، فهي موسيقى الطبيعة المبدعة . وتروح السناجيب فترتقيني بسرعة مذهلة صاعدة هابطة بفرح ومرح كبيرين .

ومضت الأيّام ، فتلتها الشهور فالأعوام ، وأنا مسمّرة بمكاني لا استطاعة لي للانتقال لأشاهد أمكنة غير المكان الذي ثبّت فيه منذ ولادتي حتى يوم مماتي .

وكم كنت أتمنّى لو يفكّ أسري لساعة واحدة يسمح لي فيها بالانتقال الى داخل الغاب لأحيّي زملائي الأشجار الراسخين رسوخ الجبال بأمكنتهم . فمصيبتهم مصيبتي بعدم الانتقال . ولم يوصلهم الى هذه الحال الاّ ما أوصلني أنا بالذات . فمصيرنا واحد ، وكلّ منّا سيمكث بالنقطة المغروس فيها حتى يأتي يوم تقطع فيه أصوله بالفؤوس أو بالمنشار الكهربائي ليستعمل بنو البشر الخشب طعمة للنيران لتدفئة المنازل أو لادارة بعض المعامل .

هذه نهايتنا نحن معشر الأشجار . فنحن نبعث السرور في من يشاهدنا كجيش جرّار في هذا الغاب المترامي المسافات . لكنّ من يرانا لا يمكنه أن يشعر كم نحن تعساء لعدم استطاعتنا التنقّل من مكاننا الأبديّ الثبات ، حتى يأتي يوم تدهمنا فيه الشيخوخة ، فتيبس أغصاننا ، ويعود لا يسري فينا روح الحياة ، فنموت ونتوارى من عالم المادّة لننتقل الى عالم آخر نعود فنحيا فيه ، اذ هذه هي ارادة من أوجدنا ووضع لنا نظامنا ثابتا يسري علينا من دهر الى دهر .

اني أعترف – أنا الشجرة السامقة الموجودة بقرب كوتتج ( الهني وود)- بأنه كانت تساورني شتّى الأفكار المتنوعة ، فمنها الدنيء ، وكم كان العجب يتملّكني من هذا التناقض العجيب الغريب . فأحيانا ، كان يراودني فكر اجراميّ ، اذ كنت أحبّ أن أوقع الضرر بالطيور التي كانت تأنس بالوقوف على أغصاني ، واشاعة البهجة بتغريدها بأطرافي ، فبدلا من العطف عليها وشكرها على تغريدها العذب كنت أرغب في ايذائها .

وفي أحد أيّام الربيع بنى طير جميل عشّه في أحد زوايا أعضائي . وكانت أوراق كثيفة من أحد أفناني تحجبه عن العيون الفضوليّة . ووضعت أنثى الطير بيضها في هذا العشّ السامق المتواري بين الأغصان ، وكان الفصل فصل الربيع الأخّاد .

وفجأة شاهدت أفعى تنسلّ من بين الحشائش ، وهي تزحف منتظرة فريسة توقها بفيها ، واذا برغبة ملحّة تنتابني لأجعلها تتسلّق الشجرة وتلتهم البيض المحفوظ بعشّ الطير . ثم شعرت برغبة عكسيّة ، فقلت ، أليست خيانة مني أن أخون الطير الذي التجأ الى كنفي وأمّنني على منزله وبيض فراخه ؟

وتكلم صوت داخليّ بنفسي يقول : وما همّني ان التهمت هذه الأفعى بيض الطيرين . انّ هذا لا يضيرني بشيء .

واستعرت الحرب الخفيّة بين رغبتي بالحاق الضرر دونما سبب ورغبتي الأخرى بعدم الاتيان بهذا الأمر الشّرير .

انه صراع بين الحقّ والباطل ، بين العدالة والاجرام . انهما قوّتان تتنازعان : قوّتا الخير والشرّ .

واذا ظنّ البشر أنهم هم الوحيدون الذين يصطرع الشرّ والخير في صدورهم ، فما ظنّهم هذا الاّ وهم بوهم .

فنحن معشر الأشجار لدينا ما لديهم من حريّة ارتكاب الخير أو الخوض في أعماق الموبقات الزاخرة بالشّر الطافح ، فالخالق أعطانا حريّة التصرّف ، خيرا أو شرّا ، وقيّدنا بنظام . فاذا ارتكبنا ما يخالف العدالة ، فعقابنا رهيب ، كذلك مكافأتنا عظيمة في الحال الأخرى . والبعض منّا يرتكب نقائص سيدفع عنها الحساب عندما تأزف بسرعة الثواب والعقاب .

ولهذا زوّدنا الله بميزات نستطيع القيام بها دون أن يعرف البشر أننا نملكها . ولو عرفوا هذا السرّ العظيم لتملّكتهم دهشة عظمى ترافقهم حتى عالم الرموس . وهذه الميزة هي أنه باستطاعتنا أن نرسل سيّالا خفيّا على الأفعى أو سواها من الزحّافات أو الحيوانات الأخرى ، فندعها تتسلّق الشجرة وترتكب الاثم ، أو نمنع صعودها بارسالنا سيّالا معاكسا يدعها تفرّ من أمام الشجرة ولا تقرب اليها .

وتغلّب الشرّ على الخير ، فأرسل قسم من الشجرة – التي هي أنا – سيّاله على الأفعى . وبينما كانت تزحف مبتعدة عن الشجرة ، استدارت واقتربت منها ، ثم صعدت اليها واستمرّت في صعودها حتى وصلت الى عشّ الطير ، والتهمت البيض . وبينما كانت منهمكة بعملها ، وصلت الأمّ ، فهالتها رؤية الأفعى ، فانقضّت عليها تنقرها ثم تطير ، والأفعى تحاول لدغها . وأنا كنت مسرورة وغير مسرورة ممّا أشاهده ، أي نصفي الأيسر مسرور من رؤية الصراع بين الأفعى والطير ، ونصفي الأيمن مستاء ممّا حدث رغما عن ارادتي .

أخيرا ، استطاعت الأفعى أن تلدغ أنثى الطير ، فهوت من الأعالي مائتة . وهذه النكبة المحزنة سبّبها جزئي الأيسر الذي طرب لما حدث . وأسفت أنا لانتصار الشرّ على الخير .

وكثيرا ما لاقت السناجيب حتفها عندما كانت تتسلّقني ، اذ كان جزئي الأيسر يرسل سيّاله على هذه السناجيب ، فيحدث لهم ضرر بسبب الشرّ الكامن في فروع وأغصان جزئي الأيسر .

وكم وكم تصارعت أنا وهذا الجزء الشّرير ، وأنّبته ، دون جدوى ، اذ كان يعود الى شروره بعد أن يحنث بوعوده العرقوبية لي .

وحينما وجدت أنه لا فائدة ترجى من وعوده ، وأنّ الشرّ قد تأصّل فيه ، وأنّ جزاءه سيتمّ مهما طال الزمان ، ولا نجاة ممّا سأحاسب عليه اذا لم أنفصل عن جزئي الشّرير هذا – وكان ذلك في أحد أيّام عام 1950 – استجمعت قواي الممنوحة لي ، ورفعت ضراعتي الى خالقي وخالق البرايا المعروفة والمجهولة ، وأطلقتها صرخة مدوّية مزلزلة ، راغبة بالابتعاد عن جزئي الشّرير .

واذا الشجرة – التي هي أنا وجزئي الشّرير – تنشطر قسمين . وهكذا ابتعدت عن قسمي الفاسد المملوء بالغدر والخيانة . فمهما ارتكب ، بعد انفصالي عنه ، لا أكون مسؤولا عنه بدليل انشطاري وابتعادي عنه . فأنا أصبحت بالناحية اليمنى ، وهو باليسرى . فارتكابه للمخازي هو المسؤول عنها ولست أنا .

وأني أحمد الله – جلّت قدرته – على تخلّصي من نصفي الشّرير . وقد تذكّرت ، بهذه المناسبة ، قول السيّد المسيح منذ ألفي عام ، اذ قال :

"اذا شكّكتك عينك فاقلعها ، فخير لك أن تدخل ملكوت السماوات بعين واحدة من أن تدخل جهنّم المرعبة بعينين سليمتين ".

وبما أنني كنت أشعر برغبة في ارتكاب الشّر مرارا وتكرارا ، لهذا صمّمت على أن أفترق عن جزئي الذي سيوردني موارد التهلكة . لهذا ارتأيت أن أنفصل عنه ليكون هو المسؤول عن أعماله الشّريرة .

وهكذا استجمعت قواي الممنوحة لي ، وأطلقتها صرخة مدوّية ، فاذا أنا نصفان . وهكذا تخلّصت من نصفي الشّرير ، وما عدت مسؤولا عنه . فهو المسؤول عمّا سيرتكبه ان كان خيرا فسيكافأ عليه ، وان كان شرّا فسيجازى عليه .

هذا ما قصّته الشجرة . وقد دوّنته ليطّلع عليه من يرغب معرفة الأسرار المجهولة .

 

 

 

الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، بدأت كتابتها في الساعة 9،14 من ليل 16/7/1978 ، وأنجزتها في الساعة 10،30 

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة