info@daheshism.com
عاشرًا: السيّالات

 

الكونتينار وصناديقه ال25

 

وارتجفت ذرات الكونتينار(1) من شدة البرد و الصقيع، وكذلك الصناديق الفارغة التي أخرجت في شهر نيسان 1976 من داخله، وهي الصناديق التي كانت مملوءة بشتى أنواع السلع و البضائع الثمينة التي شحنتها فوت بخمسمئة صندوق وضعت في عشرين كونتينار ضخم، إذ إن كل كونتينار يستوعب 25 صندوقاً خشبياً مفعماً بالسلع النادرة.

قلت إن ذرات الكونتينار كانت ترتجف لشدة برد الولايات المتحدة الأميركية وثلوجها المنهمرة. وكان الكونتينار و كذلك الصناديق الخشبية الأخرى مأخوذة من أشجار جبال لبنان.

ولبنان مهما اشتد برده وهطلت ثلوجه فإن برده لا يصبح قارساً كبرد الولايات المتحدة الأميركية الذي يخترق حتى العظام. فأنت ترى نساءها و رجالها و أطفالها في فصل الشتاء يرتدون الثياب الصوفية السميكة، و يتدثرون بمعاطف من الفرو، و ينتعلون أحذية مستطيلة من الجلد الثخين اتقاء للبرد القاتل. كما ترى على أعناقهم شالات من الصوف يلفونها على رقابهم و آذانهم و نصف وجودهم اتقاء للذعات البرد المبيد الذي يعصف بالإنسان والجماد.

واصطكت ذرات الكونتينار وتأوه قائلاً:

-يا للبرد الهائل! لقد تخلل ذراتي ففكها تفكيكاً، فتلاشت عزيمتي وخارت قواي. واضمحلت إرادتي، و فنيت سيالاتي لهذا الصقيع الهائل الذي يتساوى مع برد أصقاع الروسية! فيا الله! ماذا ارتكبت حتى زماني زماني بهذه المدينة الأميركية المغمورة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها بثلوج ناصعة أبدية الصقيع.

ولشدة برودة الموت التي تمكنت منه بكى. لكن قطرات دموعه تجمدت بمحاجر مسامه إذ أصبحت جليداً. فتململ صارخاً:

-النجدة منك يا خالقي الأكوان طراً.

وتمنى لو يستطيع السير، إاً لسابق الزمان بالفرار إلى كهف عميق يتغلغل في أغواره ليقيه غائلة هذا البرد الكافر.

وأشفقت عليه الشجرة التي ألقي تحتها، و كانت أغصانها مثقلة بالثلوج عوضاً عن أثمار الصيف. فحدثته قائلة:

-إنني أشكر الثلوج التي أنطقتك أيها الصندوق الخشبي الهائل الحجم. فأنت ملقى منذ أشهر تحت أغصاني، إذ  إنك أفرغت من صناديقك ال25 منذ شهر نيسان 1976. وبعد أن اخرج ما بداخل كل صندوق منها ألقوكم في هذه الساحة، فأصبحتم كمية مهملة لا شأن لكم. بينما عندما احتاجوا إليكم دفعوا بك وبالصناديق التي كنت تحتوي عليها مبالغ محترمة ثمناً لأخشاكم، و أضافوا مبلغاً آخر لنجار الذي ثبت أضلاعكم وجمعها، فأصبحتم صناديق جاهزة لملئها بالكنوز و اللوحات النادرة. وبعدما أفرغوكم من تلك الكنوز المدهشة ألقوكم خارجاً، فإذا بكم تتساوون مع الليمونة التي تعصر ثم تلقى في تنكة النفايات. وقد مضت أشهر الصيف الطويلة وأنت أيها الصندوق الضخم و أبناؤك ال25 تنعمون بطقس رائع، تستظلون بظلي وبظل شقائي من الأشجار العديدة في هذه الحديقة العامرة بالأزهار في شهر أيار الربيعي الفاتن . و لو لم يدهمكم الشتاء الغزير فالثلج المبيد ببرودته لما تكلمت ولما سمعت صوتك.

والآن بحكم الجوار أصبحت من رعاياي. فأنت في أرضي التي ولدت فيها وعشت بين أحضانها، و تذوقت لذة شمسها الساطعة ولياليها المقمرة، كما لفحتني لذعات ثلوجها الباردة وصقيعها المبيد. و كل شيء وما تعود عليه. فقد تعودت على ثلوج المدينة الأميركية، و برد صقيعها لا يضيرني مثلك، فذراتي اكتسبت مناعة ضد الصقيع، فقد ألفته وألفني.

فماذا تريدني أن أساعدك وأساعد أبناء الصناديق ال25؟

 وعلا صوت الصندوق الضخم وهو يستحلف الشجرة التي تثقل أغصانها الثلوج العامرة: قائلاً لها:

-رحماك رحماك. هل باستطاعتك أن تنقذيني أيتها الشجرة المتسامقة؟

-رويدك أيها الصندوق، و إيّاك أن تفقد صبرك، فإني سأبذل جهد استطاعتي لمساعدتك وإزالة كربك و إنقاذك من ضيقك. فصديقك يوم الضيق هو صديقك، وصديقك من صدقك لا من صدقك.

وأرسلت الشجرة الجبارة نداءها إلى الغابة التي فيها مجموعة هائلة من الأشجار الشامخة الذرى، واستحلفها بأثمارها التي ستزورها في فصل الصيف المقبل، و هي تنتظرها تكلل أغصانها في هذا الفصل البهيج، قائلة للأشجار:

-لقد استحلفتكم بأعز شيء تكنون له حباً عارماً. و بما أنكم تختزنون في جذوعكم وفروعكم و أغصانكم كمية لا بأس بها من حرارة شمس الصيف المتأججة لتقوا أنفسكم من صقيع فصل الشتاء، لهذا أطلب منكم أن يتنازل كل منكم عن جزء من هذه الحرارة المختزنة، و أنا أول من يبدأ بهذا، و نرسل هذا الإشعاع ونوزعه على الصندوق الضخم أي –الكونتينيار- والصناديق ال25.

ودبت الحماسة في أعصاب الأشجار المنتثرة والمنتشرة في الغاب الفسيح، ونفثت جزءاً مما تختزنه من الحرارة، فأحاطت الصناديق بها. وكان كل من هذه الصناديق يحمل هرماً من الثلوج على ظهره وجوانبه، فإذا بهذه الحرارة تذيب تلك الثلوج المتراكمة، فتسيل ماء يغسل الأرض.

ةدبت الحياة في الصناديق، فارتفعت أدعية الشكر و العرفان بالجميل من الصناديق جمعاء.

وطرب الكونتينيار، و كذلك الصناديق المنتشرة بجواره. وقال الصندوق الضخم للشجرة:

-إن أنت إلا شجرة مباركة و لا شك أن النبي صلعم قد عناك بالآية التي قال فيها:"شجرة مباركة...لا شرقية ولا غربية الخ".

فماذا تريدينني أن أكافئك أيتها الصديقة العزيزة، يا من قطعنا الاف الأميال من شرقنا حتى التقينا بك في الغرب، فتآخينا.

-أود أن تعلمني أيها الصندوق ناذا استرعى انتباهك و انت محمول بالطائرة النفاثة التي قطعت بك المحيط الأطلنتيكي حتى وصلت أخيراً من بيروت إلى الولايات المتحدة الأميركية.

-سمعاً وطاعة. عندما كانت الطائرة تقطع بي المسافات الشاسعة،وهي على ارتفاع 309 ألف قدم، استرعى سمعي حديث قائد الطائرة وهو يحدث زميله المساعد عن تلهفه لأن يصبح يوماً ما ثرياً،إذ قال له: يقولون بأنه يوجد إله، وما هم إلا مجانين. فالله هو المال و المال فقط. و الدليل على ذلك أنه لو عاد سقراط أو أفلاطون او أرسطو، و كان هؤلاء الثلاثة العظماء مفلسين-لا تحوي جيوبهم الباردة الفرد-أكان مخلوق ما يأبه بهم و بفلسفتهم و بحديثهم عن الفضيلة وخلق مجتمع فاضل-مثلما فكّر أفلاطون بخلق مدينته الفاضلة-لا شك في أن الجميع، دونما جدال كانوا سيعلنون أن هؤلاء ليسوا ألا حمقى ومقرهم مستشفى المجانين.

وأكمل قائلاً لزميله:

-أنا و أنت نشاهد أشخاصاً تفضّل عليهم فجلة ولكنهم أثرياء، و إذا الجميع يحترمونهم و يبجلونهم، و يحنون جباههم أمامهم، و يسترضونهم. وما ذلك إلا لثرائهم. فلا تحدثني يا صديقي بالخالق وخلائقه، بل حدثني بالمال ومفعوله وما تستطيع أن تحصل عليه من اللذاذت بواسطته.

وهنا أخرج هذا القائد جنيهاً ذهبياً، و قبّله بطناً لظهر، ثم وضعه على جبينه علامة الاستسلام لسلطانه القاهر.

فوجمت أنا الصندوق الخشبي و تمنيت لو ينفصل عني لوح ما ويرتطم بفمه ليسقط له أسنانه، و ليقضم له لسانه الجاحد و الكافر بخالقه وخالقي. ولكن ما باليد حيلة. فعيني الخفية بصيرة، و يدي الخفية كذلك قصيرة. و أمري لله. فأنا بأعمالي في أدواري السابقة استحقيت تقمصي الحالي فكنت خشباً مقتطعاً من شجرة. فلأصمت، إذ إن حديثي لن يجدني نفعاً، و لا يستطيع أن يغير أمراً.  ولو أحببت أن أغيّره فلن أكون إلا فاشلاً. وهذا ما عذبني و أحزنني الحزن كله.

وهنا قالت الشجرة:

-إذاً أنت تعرف عن التقمص و الأدوار السابقة و الاستحقاقات التي تجعل المرء أو  الجماد يتقمص مراراً و تكراراً بالشكل الذي أوصل نفسه إليه، فيتقمص حيناً أسداً، و حيناً آخر فأراً، وآونة شجرة وأخرى إنساناً سوياً. ولذا سأعلمك أمراً تجهله، و ستسر من معرفتك إيّاه.

-بربك أعلميني ما هو أيتها الشجرة العزيزة،فقد شوقتني إلى سماعه. وهاءنذا  بذراتي آذان صاغية لما ستنبئيني عنه.

وعندما حاولت الشجرة أن تتكلم شاهدت- وكذلك الصندوق الضخم و الصناديق ال25- سنجاباً بنياً، وهو يرتجف من هول البرد الصاعق.فارتقى الشجرة حتى وصل إلى منتصفها حيث كانت فجوة عميقة دخلها مسرعاً لتقيه برد الثلج المتساقط بغزارة. وكان هذا السنجاب الذكيّ قد احتفر هذه الفجوة بمخالبه، في فصل الصيف، لتقيه برد فصل الثلوج المهرئة للأجسام.

حينئذ بعثت الشجرة قبساً من دفء شمس الصيف الذي  اختزنته في جذعها وفروعها، و إذا بالسنجاب يزول الارتجاف عنه فينام ملء جفنيه.

وقالت الشجرة:

-الآن سأقص عليك ما وعدتك به أيها الصندوق.

وكانت الصناديق ال25 مرهفة آذانها الخفية لتسمع أقوال الشجرة.

-إعلم أيها الصندوق الضخم وأنتم أيها الصناديق أبناؤه، أن مجيئكم إلى أميركا لم يتم بطريق الصدفة، على الإطلاق فأنتم أنا وأنا أنتم إذ إن سيالكم هو سيالي و سيالي هو سيالكم. قد أوصلتم أنفسكم لكي تأتوا إلى هنا، وتجتمعوا بي وإلا لما كنتم تستظلون أغصاني، و لما تم لقائي بكم. وهذا اللقاء أفرحني كما سيفرحكم، الآن، بعدما فضضت لكم مغاليق هذا السر المكنون.

 ومثلما أن أبناء البشر قاطبة هم أبناء آدم وحواء الأساسيين، هكذا سيالنا نحن الأشجار و الأخشاب المشتقة من الأشجار. فمهما اختلفت أنواع الأشجار وأحجامها فنحن نرجع لسيال واحد مثلما يرجع سيال البشر لآدم و حواء.

ومثلما توجد متعددة وقبائل مختلفة متغايرة، و مثلما توجد أمم عديدة كالصينيين و الهنود و العرب و اليابانيين و الإنكليز و الأفرنسيين و الاميركيين و الأفريقيين، و مرجعهم آدم وحواء-هكذا نحن الأشجار سواء أكنا نحمل بلوطاً أم تفاحاً أم إجاصاً أن برتقالاً الخ...فسيالنا الأساسي واحد. وقد اتخذ كل منا نوعاً من انواع الشجر بالنسبة لأعماله في أدواره السابقة، سواء كنا بمدينة واحدة أو في عواصم وقارات تفصلنا بعضاً عن بعض الآف الأميال.

فلنمجد الله خالقنا وخالق كل ما هو معروف ومجهول. فأفهامنا وأفهام  أعظم الفلاسفة والمفكرين الذين زاروا كوكب الأرض ثم تواروا عنها دون أن يعرفوا الغاية من فلسفة الحياة والموت- لأعجز من أن تدرك حكمة الله الأزلية.

وعندما رغبت الشجرة بإتمام حديثها برزن أولى خيوط الشمس،إذ إن فجر هذا اليوم كان خالياًمن الأمطار والثلوج، فمليكة النهار ابتدأت تبزغ مبشرة بيوم سماؤه صافية ودفؤه لذيذ.

فقالت الشجرة:

-أودعك يا أخي الصندوق، كما أودعكم أيها الأعزاء ال25 المشتقون من سيالي. إني لا أستطيع التحدث بعدما أرسلت الشمس أنوارها الساطعة،إذ إنها ابتدأت بنقل أعمال البشر وأحاديثهم، و كذلك الجماد، و هي تختزن ما تصوره من أعمال وما تسجله عن أقوال ليكون شاهداً على الجميع عندما يأتي اليوم الذي يقدم فيه كل مخلوق حساباً عن أعماله فيتقمص إذ ذاك حسب استحقاقه كإنسان أو حيوان أو شجرة أو حشرة وعند ذاك تستبد به حسرة وأية حسرة.

وفي أثناء ذهابي إلى تلك المدينة الأميركية مررت أمام الصناديق،فدهشت إذ كنت قد شاهدتها يوم الأمس، وكان خشبها على وشك التفكك، بينما أراها اليوم وقد تجددت أخشابها! فقلت إن هذا إلا خدع نظر!

 

الولايات المتحدة الأميركية

الساعة 11وربع من ليل 21/2/1977

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة