info@daheshism.com
تاسعًا: البشر: وضاعتُهم وشرورُهم

تُراب

 

حَدّثِيني أَيَّتُها الجَمَاجِم

 

أَيا جماجم!

هاتي وحَدِّثِيني،

فإِنَّ روحي قد سَئمتْ أَحاديثَ البشر اللُّؤَماءِ،

ومجَّتْ أَضاليلَهم وأَكاذيبهم.

حدِّثِيني أَيَّتها الرؤُوسُ العظميَّةُ،

عن عالَمِكِ وما يحويه من حقائق راهنة،

وأَعلميني عن عاصمتك(عاصمة الصمت الأَبديّ)

ذات الهدوءِ السرمديّ،

هناك في الأَعماق

حيث تثوين في خضمٍّ سحيق من الظلام المُحيق،

تلك الأَنفاق البعيدة الغور السحيقة القرار،

حيث استقرَّ بكِ المطاف في تلك الديار،

وفي مكانك الآمن تستكينين

وأَنتِ راضيةٌ من أَنَّكِ خلعتِ عنكِ الرداءَ البشريَّ المنحطَّ،

وأَصبحت بعيدةً عن كلِّ ما له صلة بابناءِ آدم،

وما يُضمرونه،في صدورهم من صغائر الحياة الحقيرة ومطالبها الدنيئة.

يا لكِ من خليطٍ عجيب، أَيَّتُها الجماجمُ الصَّلْدةُ الصلبة!

ففيكِ المَلِكُ صاحبُ التاج والصولجان،

وفيكِ القائدُ صاحبُ الرِّفعة والشان،

والزعيمُ ذو السطوة والسلطة والتَّيَهان،

والغنيُّ المُقْتَدِرُ الذي كان يحيا في دنياه بأَمانٍ واطمئنان،

ثمَّ الفقيرُ الحقيرُ الذي كان يقابله الجميع بالزِّراية والإِمتهان،

لقد حطَّمَ الموتُ، يا جماجمُ، من زَهْوِكِ الأَرضيّ،

ومرَّغَ أَنفَكِ بالرُّغام،ثمَّ عفَّره بالسُّخام،

فأَصبحتْ رؤُوسُك تيجانُ فخارِكِ،

وعنوانُ مجدكِ واقتدارك،

أُلعوبةً تتقاذفُها أَقدامُ الزمان العاتي،

ينظر إِليها الخطيرُ والحقير فيعتبر،

ويتأَكَّدُ له إِنْ هي إلا نهاية بقايا كلِّ من تُظِلُّه هذه الدنيا الفانية،

فيخرج من دنيا الجماجم وهو يتمتم بأَعماق نفسه الحائرة،

قائلاً:

-رحماك ربِّي!

إِن أَجسامَنا المادِّيَّة ستمتدُّ إِليها يدُ الأَقدارِ فتُحَطِّمُها؛

ثمَّ تعملُ فيها أناملُ الدهر فتُغيِّرُ معالمها،وتجعلها مَهزلةً مرذولة؛

أَمَّا الأَعمال الصالحة والِإتِّجاهاتُ النبيلة السامية

فهي هي التي تبقى، أَبدَ الدهر،باقةً نَضِرَةً باسمة،

يَتَنسَّمُ ملائكةُ اللّهِ عبيرهَا الخالد،

ثمَّ يُكَلَّلُ بها رأْسُ من استطاع جمعها

وإيصالَها إلى عالم الخلود الدائم المسرّات.

وهذه الباقةُ الفتَّانة لا تستطيع يدُ الفناءِ

أَن تمتدَّ لأَيَّةِ زهرة من زهراتها الدائمة النَّضارة والأَريج.

فاجعلني، يا الله، أحدَ الذين ستُكلَّلُ هامتُهم بها،

ساعةَ انتهاءِ أَجلي من عالم الأَرض،

وانتقالي إلى عالم السماءِ.

                           بيروت 28 تموز 1944.

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة