info@daheshism.com
تاسعًا: البشر: وضاعتُهم وشرورُهم

غرور الإنسان

 

ما حياتنا سوى ظل زائل وسراب حائل

ووجودنا كالبرق الذي ومض ومض ومضى..

 

يا لإنسان ما أتفه آماله وأسخف أوهامه!

وما أفشل غاياته وأضأل أحلامه!

وما أضحك مطامحه واتعس رغباته، وأبأس أمانيه!

فالغرور الحقير يقطن في شغاف نفسه،

فإذا كبرياؤه الممقوت تشرف على العالمين.

فهو يظن أنه فارس الميدان الأوحد،

وبطله الذي لا يشق له غبار، في كل مضمار.

فهو خدين الحكمة،ورب المعرفة،

وصِنْوّ العلماء الأفذاذ، ومختزن الفلسفة.

فهذا المدعي المغترّ،منذ اكتحلت عيناه بمشاهد عالم الأرض

قد جرفه تيار الحياة الصاخبة،

فإذاه مأخوذ مبهور بما تزخر به دنيانا الأثيمة...

فتجرفه مظاهر الحياة الكاذبة،

وتخلبه ببريقها الزائف وبما تضج به من كل زائل وفان.

وغروره السمج، وكبرياؤه القذرة..

يجعلانه يظن أنه اكتشف أسرار الحياة وفضّ مغاليق الموت المبهمة،

وافتض معميات الخلود...

أما الحقيقة فإنه يكون قد ازداد غباء على غباء،

وخاض مجاهل العماء السادر بعماء.

ويركبه الغرور الجامح فيظن ان الكرة الأرضية قد كوّنت لأجله؛

وأن بحارها و انهارها ،

وأزهارها و أشجارها و أطيارها،

وما تزخر به من شجون و شؤون..

إنما خلقت لأجله،

وهي مسخرة لمصلحته ،وتأتمر لأمره فيروح، وبسمة الإنتصار تعلو ثغره الأبلج،

رافعاً عقيرته لأبناء بجدته،

موزعاً عليهم عظاته،

شارحاً لهم معميات الأسرار الموصودة،

نافحاً إيّاهم بنعمة معرفته المزعومة...

وحقيقة الامر أنه عامه بالجهالة،

سادر بدروب الضلالة

تتوزعه شتى الأفكار الكمتضاربة،

فهو لا يعرف يمينه من يساره،

ولا يفقه من دنياه شيئاً .

وما يغيظ أن هذا الإنسان يعتقد إعتقاداً لا شك فيه

بأنه اتفوق على الاولين،وبطش بالآخرين،

فهم أمامه اماء وجهلة،

ولا شأن يذكر لهم إطلاقاً.

بينما الحقيقة تصفعه وتسفعه ببراهينها،

وتقذفه بيقينها،

فإذاه مغرور سخيف،

وتافه رهيف،وأرعن كفيف!

ولشدة غروره وبلهه يظن أنه علم خفاق

تفوق على أبناء قومه،

فإذاهم تجاهه أقزام..

فهو لا يحترم سوى كيانه،ولا يعترف إلا بمعلومته.

فشخصيته المغرورة أغلقت عليه باب الفهم الصحيح

فتقوقع على نفسه...

فليته علم أن أحقر الكائنات يمكنها أن تقضي على وجوده

موردة إيّاه موارد التهلكة،

معفرة أنفه في الرّغام

إن الإنسان أشبه بظل زائل وخيال حائل،

أو كحلم حالم يزول عند اليقظة،

أو كضباب إكتسحته العاصفة فتلاشى وغاب.

هذه هي حقيقة الغنسان المسكين الذي يملأ دنياه تبجحاً تافهاً

يستحق عليه أفدح سخرية من أقذع لسان ذرِب

فالإنسان يستحق ما يلاقيه في دنياه

من إرهاق وعنت وبلايا ورزايا،

ومنغّصات آخذة بعضها برقاب البعض،

ونكبات تنصبّ على الجميع دون رحمة أو إشفاق.

نعم..إن الإنسان يستحق هذا المصير التاعس،

إذ كم من المرات زار أرضنا عدد من الأنبياء،

رسل الله،

وشرحوا لنا حقيقة الوجود، والغاية التي خلقنا لأجلها،

وأطلعونا على أسرار روحية سماوية،

وأكدوا لنا أننا إذا سرنا على هداها،

وتنازلنا عن بعض لذات جسدنا الحسية الترابية،

فإننا ننال عوالم فردوسية متعها خالدة ولذاذاتها سرمدية.

وإذانا نهزأ بهم وبتعاليمهم،

ونسخر من أسرارهم الروحية وإرشاداتهم السماوية،

ونضطهدهم ونرشقهم بكل فرية،

ونَصِمهم بكل نقيصة وتهمة زرية،

ونستمر بممارسة لذات الجسد الذاتية.

وإذا هم ينطلقون من أرضنا،

عائدين لموطنهم الإلهي العظيم حيث النعيم الأبديّ.

يغادروننا ونحن ما زلنا غائصين برجساتنا الداعرة

ونجاساتنا العاهرة،

والأقذار المدنسة تطوقنا كتطويق السوار لمعصم الحسناء.

ألا ليعلم أبناء الأرض الغارقون بالمعاصي المطوقة إيّاهم حتى النواصي

بأنه توجد عين إلهية مراقبة تُحصي على مخلوقات العوالم بأكملها كل كبيرة وصغيرة مهما دقّت وضؤلتْ.

وليتأكد أبناء الأرض والعوالم المعروفة و المجهولة

بأن ساعة الحساب الرهيبة آتية وبسرعة خاطفة.

وساعتذاك الويل لمن يستحقّ العقاب الإلهيّ العادل،

فتلك الساعة المهيبة، تلك الساعة المخيفة،

ساعة عدالة الخالق الديّان،

تزمجر فيها رآبلة الحقّ،

وتدوّي فيها رواعد الرعود،

وتنقضّ فيها الصواعق المدمّرة،

فتبيد معشر الأشرار الفجار،

لتعود فتهبهم القدرة الإلهية الحياة ثانية،

ليخلدوا بعذاب أبديّ هائل المخاوف.

إن هؤلاء الأشرار الفجار سيلاقون جزاءهم العادل

هؤلاء الأشرار الذين جعلوا الشر دَيدَنهم

واعتنقوا الباطل، وحاربوا الفضيلة،

واعتدوا على المقدسات ،

وارتكبوا الموبوقات الدنيئة،

وهزأوا بالسماء وباريها هؤلاء سيبطش العليّ بهم فيجعلهم عصفاً مأكولاً،

ووقوداً لجهنم النار الأبدية الإتقاد.

في هذه الساعة المخيفة والحافلة بالرواعب المذهلة،

 لن ينفع مال ولا بنون ولا مجد باطل أو سلطان زائل حائل.

فما تزرعه إيّاه تحصد.

فلنزرعْ بذوراً جيدة،

كي نحصدها خلوداً ممتعاً باللذاذات الأبدية،

هناك حيث نخلد بجنات النعيم إلى ما لا إنتهاء.

 

                                  بيروت 15 تموز 1938

 

Back To  مبادىء داهشيَّة