info@daheshism.com
ثالثًا: عوالمُ الفراديس

 أسرار الموت والحياة

 

وشعرت بالنعاس يسيطر عليّ ، فذهبت الى فراشي واستسلمت للنوم . واذاني أجوس عالمه البهيّ وأرود فردوسه الخلاّب .

ورحت أتجوّل في غاب سحريّ أزهاره عجيبة ، ومياهه نميرة ، وأشجاره الباسقة تغرّد عليها الأطيار الملوّنة ، فتشفّ الأسماع ، وتطرب الآذان .

وجلست أمام بحيرة ماؤها فرات عذب . وكان الفراش الملوّن يحزم حول الأزهار العجيبة اللألوان ، وضوعها يملأ الأرجاء فيحيلها لحلم خياليّ عجيب .

كنت أستظلّ فيء الأشجار المهدلّة الأغصان البادية الفتنة الخلاّبة . وكنت مسحورا بما أشاهده من مفاتن الغنيّة في هذا الفردوس البهيّ . واذاني أسمع حفيفا خفيفا ، ثم تضوّع عبق محي فرحت أتنسّمه بشوق عظيم . واذاني أشاهد حوريّة حوراء مقبلة نحوي والبسمة العذبة تعلو شفتيها . لقد بهرني جمالها ، واستولى حسنها على كياني ، فذهلت لرؤيتها . ونهضت أحيّيها ، والوجل عقد لساني ، فما استطعت التفوّه بكلمة . كنت ممغنطا أمعن النظر بذهول مأخوذ بجمالها الفردوسي وأنوثتها التي لا مثيل لها .

وتحدّثت إليّ ...

وكان صوتها كترجيع صدح كناريّ الفردوس الأخّاد ،

وسجدت أمامها ، فأمسكت بيدي وأنهضتني قائلة لي :

  • السجود لله ، أيّها الحبيب القادم لفردوسي .

وتلجلج صوتي وخرج خافتا من صدري :

  • ومن تكونين أيّتها الالهة المتجسّدة ؟
  • أنا لست الهة ، انني فتاة أحيا في عالم الفردوس البهيّ ،

اذ أوصلت سيّالي لأوجد فيه .

وأنت من اصطفتك روحي .

وكنت أنتظر وصولك بشوق عظيم .

وها قد بلغت عالمي الذي فيه بتّ أقيم .

  • يا الله ! ماذا أسمع ؟ ! أحقّا أنت حبيبتي المرجّاة ؟ !

هل أنت فتاة أحلامي ومحطّ رحالي ؟!

أأنت من كنت أناجيها دون أن أراها ؟!

أأنت من كنت أشعر بأنني سألتقيها يوما ما ؟!

أأنت من هي بغيتي المفدّاة وطلبتي الخفيّة ؟!

أأنت هي من خفق قلبي بحبّها العظيم ؟!

يا الله ! انّ سعادتي الهائلة ستوردني موارد التهلكة !

فما كانت تتمنّاه روحي قد تحقّق الآن !

وفتح ذراعيه وضمّها الى صدره الولهان ،

ووضع شفتيه على شفتيها وقبّلها بجنون عارم ،

وبادلته حبّا بحبّ ، ولوعة الضرام والجوى ترافقهما .

كم مكثا متضامّين ، وكم بقيا متعانقين ...

هذا علمه عند الله واهب الحياة وباعث الحبّ الدفين .

ومضت الأيّام ، وتصرّمت الأسابيع ، وفنيت الشهور ...

ثم تتالت الأعوام متتابعة متلاصقة ...

وكان الحبّ يزداد اشتعالا

والغرام يزيد ضرامه ضراما .

  • جوداميا ، يا أحبّ نساء الفراديس الى قلبي ،

انّ حبّك قد سرى في عروقي ممتزجا بدمائي

فليتني أستطيع منحك السعادة التي منحتني ايّاها .

أنت قيثارتي التي أعزف عليها آيات حبّي العميق .

فسعادتك تسعدني ، وشقاؤك يميتني ويفنيني .

فيا أمنية روحي ، أنا أنت وأنت أنا ، وبك نلت المنى .

وأثمر هذا الحبّ الأسطوريّ غادة غيداء أطلق عليها أبواها اسم راهاديا . وكانت شبيهة بوالدتها ، فيها من السحر الحلال والفتنة الفردوسيّة ما لوالدتها جوداميا .

وكان منزلهم من الورود المخمليّة توشّيها أزهار الفردوس النّضرة ، فمنازل الفردوس تبنى من الأزهار . فالربيع في الفردوس أبديّ .

والشتاء لا يطرق أبواب الفردوس اطلاقا ، والشيخوخة لا تعرف هذا الفردوس ، ولا يمكنها الولوج لهذا العالم الحصين الأمين .

وكلّ سكّان هذا الفردوس سعداء لا يعرفون للهمّ اسما ، ولا تقربهم الأحزان اطلاقا ، فهم سعداء دوما .

وطعامهم من أثمار الفردوس الشهيّة . ففيه من كلّ شجرة توأمان . وما تكاد الأيدي تقتطف الثمار الجنيّة حتى تمتلىء الأغصان ، ثانية ، بها دون أن ينتقص منها ثمرة ما . أمّا أنواع الخضار والبقول العجيبة فحدّث عنها ولا حرج ، فالفردوس عنيّ بها ، وحقوله مملوءة بشتّى الأنواع اللذيذة وهي لا تنضب أبدا .

فكلّ نوع من الأنواع اذا قطف يعود اليها ثانية فورا .

والاخاء يشمل عالم الفردوس بأكمله ، فالجميع عائلة واحدة يسودها الحبّ ويغمرها الولاء الدائم .

هنا لا يعرف الحسد اطلاقا ، والغيرة لا وجود لها في هذا العالم السعيد .

والتكالب على المال لا يعرف في هذا العالم البعيد عن أطماع الأرض الدنيّة . فسعيد من أوصل سيّاله الى هذا العالم الغارق بالبهجات اللانهائية .

  • جوداميا ، يا حبيبة روحي منذ الأزل ، انّ ابنتنا راهاديا قد أصبحت شابّة مغرية ، ففتنتها مستمدّة منك .

وهي لا تستطيع الاقتران بشابّ من عالم الفردوس ، اذ يجب أن تقترن بمن كان حبيبها بدوره السابق . وهو ما يزال في عالم الأرض ، وحتى الآن ليس لديه سيّال فردوسي يسمح له بولوج عالمنا .

فماذا بوسعنا عمله لنجعل فلذة كبدنا ونتيجة حبّنا سعيدة مثلما سعدت بحبّك العظيم .

  • سوديام ، يا حبّة قلبي المفدّى ، انّ روحي تتعذّب لأجلها ، فليتها تسعد مثلما سعدت معك . ولكن كيف السبيل الى ذلك ؟

انّ حبيبها وزوجها السابق لم يوصل أيّ سيّال من سيّالاته ، حتى الآن ، ليكون هذا السيّال من درجة الفردوس .

اذا لا يمكنه أن يبلغ فردوسنا في عالم أحلامه اطلاقا ، والاّ لاجتمع معها عندما يحمله الكرى على أجنحته الغدافيّة فيزور عالمنا ، ويمضي معها ساعات ما دام غارقا في نومه ....

ثم يعود الى عالم الأرض ، ثانية ، ناسيا أنه كان برفقة معبودته الوحيدة . كان سوديام مسندا رأسه الى صدر حبيبته جوداميا ، وهو يحدّثها . ثم انقطع عن الحديث فجأة ، فعرفت بأنه سيستيقظ ، واذا استيقظ فانه يجد نفسه بفراشه في عالم الأرض ؛ اذ يعود سيّاله الى جسده ، فورا ، بسرعة النور ، أي 300 ألف كيلومتر بالثانية ، فيستيقظ .

وهالها الأمر ، وقالت بنفسها : لا طاقة لي على الحياة اذا غادرني بمفردي في عالم الفردوس ، لهذا سأقطع بسيف النور المرهف سيّال النوم الأثيري المتّصل بجسده المسجّى بفراشه في عالم الأرض .

واستلّت جوداميا سيف النور الحادّ الشفرين القاطعين ، وأمرّته على السيّال المتّصل بجسده الراقد بفراشه في عالم الأرض ، فاذاه يبتر بترا !

وتأخّر سوديام في نومه ، ودخلت والدته لتوقظه فاذاها تصيح صياح الذعر ، وتولول ولولة الثكالى ، فتذيع نبأ موته . وتدخل شقيقاته الى غرفته ، فاذا هنّ يجدنه جثّة باردة فارقتها الحياة ، فنحن ، وقطّعن شعورهنّ أسى ولوعة على المسجى ، وقد انتقل الى عالم آخر مخلّفا عالم الأرض الغارقة بالشقاء .

وفتح سوديام عينيه ، واذاه يجد نفسه مسندا رأسه الى صدر غادة رائعة المحاسن ، فذهل ذهولا هائلا ، اذ تذكّر أنه كان يحلم بأنه كان يجوس فردوسا زاهرا برفقة فتاة هي عينها التي يشاهد نفسه الآن مغمورا بين زنديها الغضّين البضّين .

وتذكّر أنه حلم بأنه قد عاش معها ردحا من الزمن في جنّة قطوفها دانية ، وأطيارها مغرّدة ، وفتنتها لا توصف .

كما تذكّر أن نتيجة حبّه لجوداميا قد أثمر فتاة ساحرة المحيّا ، وأسماها هو ووالدتها باسم راهاديا .

وكم كان ذهوله هائلا عندما شاهد راهاديا نفسها ، وقد انتصبت أمامه تناديه ، قائلة له :

  • يا والدي الحبيب ، هل أقتطف لك ثمر الحباجيد ؟

والحباجيد ثمر بحجم التفاح ، حلو المذاق ، لذيذ الطعم ، تكفي حبّة واحدة منه لأن تدع آكلها لا يشعر بالجوع شهرا كاملا .

فهبّ واقفا على قدميه ، والدهشة الهائلة تحيط السوار بالمعصم . وقال :

  • يا الله ! ماذا أراه ؟! وكيف حدث هذا الأمر العجيب ؟!

أم تراني قد جننت وفقدت عقلي ، وما أراه ليس سوى أضغاث أحلام واهم ! أو أني كالمشاهد للماء في السراب ، بينما لا ماء ولا شيء به يتعلّلون !

وتمتم : لقد حلمت بما أشاهده الآ، حقيقة لا شكّ فيها .

فأعنّي ، يا الهي ، أعنّي على حل هذه الألغاز والمعميّات .

واقتربت جوداميا منه ، وأفهمته بأنه الآن في عالم الفردوس يحيا معها منذ زمن ، وأنّ حبّهما قد أثمر ابنتهما راهاديا ، وأنّ الحلم الذي يراه في عالم الأرض لمدّة دقائق ، يحياه في عالم الفردوس هذا أعواما عديدة وسنين مديدة .

ثم بسطت يدها على جبينه ، ورسمت باصبعها على جبهته نجمة مخمّسة الأضلاع ، وقالت له :

  • بحق الله ، والنبي الحبيب الهادي ، والشخصيّات الست ، والسيّال العشرين أن ترى جثمانك في عالم الأرض .

واذا به يشاهد منزله الأرضي الذي عاش فيه منذ كان طفلا فيافعا ، فشابّا . وشاهد نفسه مسجّى على السرير الذي رقد عليه عندما حلم حلمه السعيد عن جوداميا ، وشاهد والدته ، وشقيقاته ينحن عليه ، وجمهرة من أصدقائه ومعارفه يحطون بجثمانه .

ثم شاهد عربة الموتى وقد وقفت أمام المنزل ، وأنزلوا منها التابوت ، وأدخلوه الى غرفته ، ثم حملوه وأدخلوه في الصندوق ، وأغلقوه عليه .

وكان هو واقفا بينهم ، فاقترب من والدته وهزّها من يدها ، وقال لها : - ها اني حيّ لم أمت ، فانظريني .

فلم تعره التفاتا . فتركها ، وذهب الى احدى شقيقاته ، ففعل معها مثلما فعل مع والدته ، ولكنها لم تسمع صوته ، بدليل عدم ردّها عليه ، فغادرها لشقيقته الثانية ، وفشل أيضا ، فذهل وتأكّد له أنه غير منظور لجميع من هم بمنزله . ولكنه كان يراهم ، ويسمع أحاديثهم ، ويحاول أن يرفّه عنهم ، ولكنّ محاولاته ذهبت أدراج الرياح .

ورافق جثمانه الى المقبرة ...

وصلّى على جثمانه الكاهن ....

وقد أعطي ، بعد انفصام سيّاله عن جسده المعرفة الروحيّة ، فتكشّفت  له حقيقة هذا الكاهن الداعر ، اذ عرف أنه قبل استدعائه من قبل والدته ليصلّي على جثمان ولدها ، كان قد فسق بامرأة ذهبت لتعترف له بخطاياها . فعندما عرف بأنها زنت مع الرجل الذي تهواه ، أكّد لها أن خطيئتها تغفر اذا سافحها ، فصدّقت أقواله واستسلمت لدعارته .

وهجم سوديام على الكاهن الداعر ، وصفعه بجمع كفّه على وجهه الصفيق ، قائلا له :

  • أيها الكاهن الزاني ، اصمت ولا تكمل قراءتك لفصل الانجيل ، فما أنت الاّ شيطان قذر ! ولكنّ الكاهن استمرّ بتمثيله ، فعرف سوديام أنّ الصفعة لم يشعر بها ، فتألّم لهذا كثيرا ؛ اذ تكشّفت له المعرفة الروحيّة فعرف أنّ هذا الكاهن ارتكب مثل هذا الاثم مرارا وتكرارا مع نساء عديدات . فضلا عن النذور النقدية التي كانت تدخل الى صندوقه وقد ملأ بها جيوبه ، فصاح قائلا : ليت العناية تدعني أنهض من التابوت لأذيع معلوماتي عن هذا الفاسق ليتجنّبه الناس ويتجنّبوا طغمته الفاسدة ، ولكنّ رغبته لم تحقّق ، اذ مكث ممدّدا في تابوته دون حراك .
  • ووضعت الجثّة في القبر وهي ضمن تابوتها المغلق ، وهيل عليها التراب ، وسوديام يرى هذه المراسيم والعجب آخذ منه كل مأخذ . وانفضّ الجميع كلّ عائدا الى منزله .

وكم وكم شاهد سوديام من مآس واسرار وفضائح وقبائح ، وعجائب وغرائب لا يمكن أن تصدّق ، ولكنها حقائق واقعيّة لا يأتيها الباطل .

لقد شاهد نساء ومعهنّ أولادهنّ وهنّ من غير أزواجهنّ ، بل نتيجة علاقات غراميّة مع من ارتبطن معهم بروابط جنسيّة .

وكم من فتيات مثاليات يظنّهنّ رفاقهنّ أنهنّ معدن الطهارة ، وما هنّ الاّ فاسقات رجيمات تخشاهنّ الأفاعي الرقطاء .

لقد تكشّف له حقائق الناس فهالته شرورهم وأخافته آثامهم واجرامهم ، وعرف لماذا لم يضع الله حاسّة سابعة للانسان وذلك لكي يمنع عنه أهوالا مرعبة اذا عرفها لتمنّى الموت فورا ، وهذه حكمة الله جلّت قدرته .

وفور مغادرة سوديام المقبرة ، عاد أدراجه الى عالم الفردوس بسرعة النور ، فبلغه ، واذا بحبيبته جوداميا تنتظره بفارغ الصبر ، ومعها ابنتها راهاديا الفاتنة . فاسقبلتاه ، وهرعت جوداميا الى بحيرة النسيان ، وطلبت منه الاغتسال بمياهها المقدّسة ، ففعل ، واذا به ينسى ما شاهده في أثناء الاحتفال بمراسم دفنه . كما نسي انه مات وانتقل الى عالم الفردوس . نسي كلّ ذلك لكي لا يتعذّب نفسيّا من توارد أفكاره المخيفة ، عندما يتذكّر ما شاهده من ختل البشر واحتيالهم ، ومن فسق النساء وتدنيسهنّ لشرفهن وهتك طهارتهنّ وتلويثها بالدنس الملطّخ بأقذار العار .

وظنّ سوديام بأنه خلق في هذا العالم الفردوسي بعدما نسي أنه كان في عالم الأرض ، مثلما يظنّ كلّ بشريّ أنه ولد في عالم الأرض ، ولم يسبق ولادته أيّ وجود له ، غير عالم بأنه كان في عالم آخر غير العالم الذي ولد فيه ، ولكن بمجرّد ولادته ينسى كلّ شيء عن عالمه الذي غادره ، وذلك لحكمة أرادها الخالق للخلائق .

 

 

                                              بيروت ، الساعة 8 و38 دقيقة

                                                    من ليل 4/2/1979

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة