info@daheshism.com
ثالثًا: عوالمُ الفراديس

 حلم مذهل

 

الطريق ممتدّة أمامي , وأنا أسير بخطى ثابتة , راجيا بلوغ محطّ رحالي ...

ومضت الساعات , ولاشاها العدم , وعرت بتعب لسيري المتواصل . وكنت قد وصلت الى غابة أشجارها ظليلة وبحيرتها نميرة , فجلست بظل شجرة فاتنة متهدلة الأغصان . واذا بعصفور يقف على أحد أفنانها ,ويغرّد , فانتشت روحي بعد مشّاق السير , وأضيعت لصدحه بجوارحي , ورحت أخاطبه قائلا له :

أيّها العصفور الغريد ,

يا سمير الأشجار وحبيب الأزهار ,

أيّها المخلوق اللطيف الرائع الصّداح ,

إنّ شدوك قد أثلمني ,

وغناءك الأخاذ استولى على لبيّ .

فليتني كنت طليقا مثلك أيّها الجميل ,

أرود الغياض , وأحلق فوق الأرباض ,

مغردا على رؤوس الأشجار السامقة ,

مرحا , فرحا , طروبا , جائبا الحدائق الفاتنة ,

أتناول من ثمار جنيّها

وأشرب من فرات البحيرة السحريّة .

لك الله يا عصفوري الغرّيد , فإنّ صدحك المذهل قد شده الغاب وأطرب الألباب .

فليتني مثلك يا عصفوري المبدع

حرّا طليقا , لا  شيء يكبلني بقيود المادة اللعينة .

إنّها أمنية لن يحقّقها سوى الموت ,

يا عصفوري الغرّيد .

واستولى عليّ نعاس بعد مشاق السفر , فاستغرقت في نوم عميق ...

وسرعان ما شاهدت نفسي أسير في طريق عبدت بالذهب الوهّاج , ورصّعت بالجواهر اليتيمة . وكانت أشجار العقيق , والعاج , والمرجان , والياقوت , والزفير , والماس المتألق تقوم على جانبيها , وهي مثقلة بقطوف من الجواهر النادرة . فتلك تتدلى منها عناقيد من اللؤلؤ الناصع البياض , وأخرى مبهظة بحملها من ثمار

 

 

اليشب , وأخرى ملأى بحبوب من ثمار الجزع الرائع , فبهرني منظر لم يخطر على بال بشر .

وسرت بين صفيّن من الأشجار العجيبة وكأنني في عالم الملكوت القصيّ . وإذا بي أصل الى حديق الجمال الذي لا يضارعه جمال !

فأزهار هذه الحديقة المذهلة تضوع أشذاؤها في الفضاء , فيترّنح من يتنسمّها ابتهاجا وطربا .

وتجلّت أمام ناظريّ حورية حوراء لم يخلق الله من يضارعها بالحسن والرواء , والفتنة والبهاء . كانت هذه الحوريّة الغناج تسير بتؤدة ودلال , ومكان كل خطوة تخطوها تنبثق زنابق ناصعة وورود مخملية , وأضاليا رائعة , وبنفسج عجيب . وكان الفراش العجيب الألوان يحوم حولها ولثم وجنتيها .

وجلست هذه الغادة الألهية ذات الفتنة الخلاّبة بجانب بحيرة يترقرق ماؤها . واذا بالأسماك الملوّنة تجوب الماء الفرات , وكأنها تتمنى لو كان باستطاعتها مغادرة مياه البحيرة لتلثم قدميها . وأنشدت هذه الفتنة المجسّدة بصوتها الملائكي المذهل , واذا بطيور الغاب تهرع نحوها , وتجثم على باسق الأشجار ,  مصغيّة لشدو الحسناء المبدع . وكنت كالمسحور مسمّرا بمكاني وراء شجرة غضّة تخفيني عن الأنظار .

وفجأة كشف الغطاء عن بصري , فاذا بي أشاهد عصفورين يكسوهما ريش عجيب غريب , إذ كلّ ريشة بلون يختلف عن اللون الآخر , فهما فتنة عجيبة محبّبة للنظر . وقال العصفور لرفيقه : إنّ هذا الزائر لعالمنا قد سمح له أن يلجه بروحه وليس بجسده . فبعد أن أغلق النوم عينيه , أذن لروحه أن يجوب عالمنا , أمّا جسده فها أنت تراه مستلقيا تحت شجرة في عالم الأرض . وسيعود اليها , إذ إنّ أيّامه عليها لم تنته حتى الآن , وما يزال أمامه متسع من الوقت ليغادرها . فان ارتكب المعاصي فالويل لروحه ممّا ستلاقيه في عالم ظلماته مدلهمّة , وويلاته مرعبة وهائلة .

أما اذا كان الصلاح ديدنه والخير غايته , وتمسّك بالفضيلة ونبذ الرذيلة , وتغلّب على ميوله الدنيوية , وداس بجبروت رغباته الدنيّة , فمكافأته كوكبا بهيا في الديار العلويّة .

واذا بالعصفور الآخر يقول لرفيقه : إنّ هذا الإنسان يغذّ السير نحو مدينة القاهرة لينصب فخا لرجل مسكين سيستلب منه ماله , ويقطع عنه رزقه . ويا لسوء مصيره اذا نفذّ ما عزم عليه  من شر وبيل . فاذا عدل عن هذا العمل الاجرامي ّ , وأصلح نفسه , فانه ساعة انتهاء أيّامه , يأتي الى عالمنا هذا لتقوده الغادة التي شاهدها ففتنت به , اذ ستقوده الى عالم بهيّ يتفوّق على هذا العالم بما يحتويه من بهجات لا يمكن لقلم أن يصفها .

وانتفض العصفوران فاذا هما شابّان يجللهما الحسن ويكسوهما ببردته المبدعة . فحيّاني كلّ منهما , وأوصاني أن أترك الشرّ جانبا , وأغير سلوكي لأحظى بعالم بهيّ لا يطاله حزن , ولا يعرف للأشجان اسما .

واستيقظت , واذا بي قد انقلبت رأسا على عقب إكمال سفري الى القاهرة , وعدت الى منزلي , وبعت أملاكي , ووزّعت ثمنها على الفقراء والمعوزين , وحسنّت سلوكي , وبت أنتظر انتقالي الى هذا العالم الذي شاهدته لدقائق معدودات لعلّني أعود فأشاهد حوريّة ذلك العالم البعيد السعيد لتكون دليلتي الى عالم لا تقربه الأحزان ولا يعرف معنى للأشجان .

 

 

                     الولايات المتحدة الأمريكية , الساعة الواحدة

                             من فجر 24\ 10 \ 1978 .

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة