info@daheshism.com
ثالثًا: عوالمُ الفراديس

  مدينة سكّانها لا يموتون فهم خالدون

 

كان أسد الله يسير في شوارع مدينة الأنوار الساطعة ,وقد استطال شعر رأسه حتى بلغ أسفل قدميه . وكان بريق شعره الذهبيّ يلمع تحت أنوار الشموس الستّة التي ترسل أنوارها على هذه المدينة الموغلة في البعد , في الفضاء الكونيّ اللامتناهي .

فنظام هذه المدينة السحريّة بمفاتنها يقضي على المرء , عندما يبلغ من العمر 500 عام , بأن يتحوّل لون شعره الشديد السواد إلى الذهبيّ . فمن يكلّل رأسه شعر ذهبيّ يعرف أنّ الأعوام قد تكأكأت على كاهله وطالت , ويتأكّد له أنه يحمل على منكبيه مئات من الأعوام البائدة .

كان أسد الله شابّا فتيّا , مفتول العضلات , قويّ الساعد , متين الأعصاب , حاضر البديهة , أديبا فطنا وأريبا . فهو لا يشقّ له غبار في مدينة الأنوار الساطعة . لقد رشف من العلم الرفيع ما اختزنه في عقله , فأصبح حجّة في العلوم والفنون والأدب الكوني , حافظا لتواريخ الحروب الكوكبية , مشتركا في الدفاع عن مدينته النورانية . فعندما حاول سكان كوكب السادلاييم اجتياح عاصمة مدينة الأنوار الساطعة , أبلى أسد الله بلاء رائعا , إذ حصدت آلات حرب هذا الشابّ الباسل المتمرس بفنون القتال أرواح أكثر من ألف مقاتل وكأنّهم ألعاب أطفال سخيفة .

وقد توّجت أكاليل المدينة الأكاليبتوس المقدّس رأس هذا البطل المغوار , وأقيمت له حفلات تكريمية كبرى . وأرسل كوكب اسمانديون أشعّته البنفسجية , فأحاطت بأسد الله , تأكيدا لبطولته . وقد تنسّم رائحة أنوار هذا الكوكب , فانتشت روحه . وجذبه هذا النور عندما تنسّمه فإذا هو قد ولجه ولوج المنتصرين الظافرين .

والمسافر من مدينة الأنوار الساطعة الى كوكب اسمانديون يحتاج إلى مركبة بسرعة النور , وإلى زمن يستغرق مليون عام نوريّ !

ولكن من يرسل هذا الكوكب أشعتّه البنفسجيّة اليه , ويتنسّمها , فأنه يجذب إلى الكوكب بلحظة واحدة , فيجد نفسه وقد أصبح يجوس هذه المدينة الخلاّبة التي زيّنها الله بفتنة فردوسيّة مذهلة .

واستقبلت غادات هذا الكوكب الصّيد البطل القادم اليهنّ , تحمله أشعة الكوكب العجيب , ورحن يرقصن له , وهنّ يهزجن أهازيج الترحاب بمقدمه , فثملت نفس البطل وابتهجت روحه .

وانتشى ممّا شاهده من جمال الكواعب الفرحات بلقائه , واستهوته أجملهنّ , فانحنى أمامها ولثم أناملها الغضّة البضّة , وإذا بها تطوّقه وتطبع على ثغره قبلة الزواج الذي لا تنفصم عراه , فهي خالدة من جيل الى جيل , ومن أزل الى أزل , ومن أبد إلى أبد . فالحبّ في هذا الكوكب الوضّاء خالد مدى الآجال والأدهار . ويقتضى ممّن ارتبط بهذا الوثاق المقدّس أن تلده من أحبّها وأحبّته عند انقضاء أعوامه الألف . وبعد بلوغه سنّ الألف عام وولادته , تصبح والدته زوجته مدى الأدهار الزاحفة .

كان أسد الله عندما اقترن ببهاء الربيع لا يتعدّى الخمسمئة عام . فهو ما يزال شابّا فتيا , طريّ العود , متين الأعصاب , تتدفق في شرايينه دماء الشباب الحارّة , فتمنّى لو تباد أعوام حياته ليحيا مع من أسرت قلبه واستهوت فؤاده .

والحياة في مدينة الأنوار الساطعة هي ألف من الأعوام , إذا لا يمكنه أن يشبع رغباته من حوريته التي خلبت لبّه إلاّ بعد مضيّ 500 عام ! ويا لها من مدّة طويلة تمنّى على خالقه أن ينسيه فيها فاتنة فؤاده كي لا يحيا أعوامه المديدة هذه حزينا , بائسا , يائسا , وشعلة حبّها مضطرمة الأوار في داخله , فتحيل حياته إلى شقاء رهيب .

وقاطن كوكب مدينة الأنوار الساطعة لا يمكنه , بأيّ حال , أن يقترن بأية فتاة مدينتها كوكب اسمانديون العظيم إلاّ بعد أن تتصرّم أعوامه الألف , وبعد انقضاء حياته ينتقل الى كوكب اسمانديون , وبمجرّد انتقاله تتغيّر سيّالاته , فتصبح منسجمة مع هذا العالم , وإذ ذاك يمكنه الاقتران بحبيبته – هذا إذا كان قد أوصل سيّالاته لتوجد في هذا العالم الفريد . ولشدّة رغبة أسد الله بمن استولت على عقله وخلبت لبّه , حاول تطويقها بذراعيه وارتشاف لماها , ولكنّه كان كمن يحاول أن يمسك الهواء بيديه , وإبقاءه في قبضته , وهذا من رابع المستحيلات .

وأخذه عجب كبير , إذ قال : كيف , إذا, قبّلتني , وشعرت بقبلتها وقد أسكرتني , وأضاعت نهاي , والآن أحاول تطويقها , فأراني أطوّق الفضاء , مع أنها بجانبي .

وإذا بصوت خفيّ يقول له :

  • " إنّ نظام هذا الكوكب الإلهيّ يسمح لك , كبطل آزرتك أنوار الكوكب البنفسجيّ فجذبتك اليه , أن تشعر بقبلتها لأنها ستكون زوجتك وحبيبتك عندما تنتهي أيّام حياتك في كوكب مدينة الأنوار الساطعة . وبعد هذه القبلة لا يمكنك الوصول إلى صاحبتها , وهي كذلك لا يمكنها لمسك أو الاجتماع بك حتى تنقضي أعوامك الألف . وإذ ذاك تنتقل إلى كوكب اسمانديون وتلدك حبيبتك المختارة . وعندما تنمو ويشتدّ عودك تكون زوجتك وأنت قرينها الحبيب ".

وحزنت نفس أسد الله , مع أنّ الاحتفاء بمقدمه كان عظيما , ومشاهد الأمكنة التي زارها كانت رائعة ومشوّقة للغاية . وكان طوال تجواله في مدينة الفنّ السامي منطويا على نفسه لعدم استطاعته المكوث مع حبيبة روحه المصطفاة .

عشرين عاما مكث أسد الله في هذا العلم العجيب الغريب . وقاطنو كوكب اسمانديون لا يعرفون النوم على الإطلاق . والليل لا يعرفون منه سوى اسمه , فالنور يغمرهم دائما , والضياء يرافقهم أنّى ساروا أو رحلوا . وعندما يسيرون يرسمون نجمة بأصبعهم على جبينهم , فإذا بهم يرتفعون في الفضاء , ويسيرون فيه كأنهم يمشون على اليابسة .

وكم أذهلته أشجار حدائق هذا الكوكب المذهل ! فأغصانها متهدّلة , وكلّ ورقة من أوراقها الغضّة ذات لون يختلف عن الآخر , فهي مجموعة غريبة من آلاف الألوان الباهرة . وأثمارها الجنيّة متعدّدة , فكلّ شجرة تحمل آلافا من مختلف أنواع الأثمار . وعندما يضع المرء ثمرة في فمه تذوب فورا , ومذاقها العجيب اللذّة يدعه مسرورا ومبتهجا , فيشيع الفرح في أطرافه ويحتلّ أعصابه .

وإذا حاول اقتطاف ثمرة أبهجه منظرها وكانت ذات سيّال مؤذ له , فأنها تنّبهه بصوتها الرخيم قائلة أنا له :

  • " إياك أن تقتفني , فأنا لسواك ممّن يستحقّون العقاب بالنسبة لأعمالهم السيئة " .

 والجزاء في هذا الكوكب السامي يقع على كلّ من لا يتقيّد بنظامه السرمديّ . وما كان اشد ذهول أسد الله عندما ولج غابة النعيم المقيم , وشاهد شجرة الطاووس السامقة , وقد حطّ على أغصانها الرائعة المفاتن آلاف من مختلف طيور هذا الكوكب الضاجّ بالمحاسن الفردوسيّة . وكلّ طائر منها يصدح بأغاريد عذبة تنسي المرء أحزانه وتزيل عنه أشجانه , فتمرّ الساعات , وتتلاشى الأسابيع , وتفنى الشهور , وهو تائه مذهول مبهور مما يسمعه من أنغام فردوسيّة تدخله إلى سماوات عامرة ببهجات قدسيّة لانهائيّة .

انقضت السنوات العشرون , وانطلقت أشعّة الكوكب البنفسجيّة فحملت أسد الله معيدة إياه إلى مدينة الأنوار الساطعة التي كان قد غادرها .

وقرعت طبول الفرح , وهرعت الملايين تستقبل بطلها المغوار العائد من كوكب هائل البعد . وطويت الأعوام وأبيدت , وأسد الله ما زال ينتظر فناءها جميعا كي يقترب من معبودته , وخالبة لبّه , وحبيبته التي اقترن بها بهاء الربيع التي تزوره في عالم أحلامه مؤكّدة حبّها العظيم وإخلاصها له وفناءها بغرامه المضطرم الأوار .

وكم تمنّى لو أمكنه الانتحار والتخلص من حياته ليذهب الى كوكبها الفاتن . لكنّ سكّان هذه المدينة العجيبة لا يمكن أيّا منهم أن ينتحر , ولو ألقى امرؤ نفسه من قمة أيّ جبل شامخ , وهوى الى الحضيض , لانتصب واقفا دون أن يخدش له ظفر . فالموت لا يأتي أيّ قاطن في هذه المدينة حتى تنتهي أعوامه الألف . لهذا فهو يحصي الثواني , ويتمنّى فناءها , فبفنائها بدء سعادته .

وبما أنّ مدينة الأنوار الساطعة لا موت فيها إطلاقا . فعندما يبلغ المرء عامه الألف يكون قد شاخ , وتوتّرت أعصابه , وانحنى ظهره لثقل الأيام ,وضعف بصره , واخشوشن صوته , وثقلت خطواته , وأخذ يترنّح يمنة ويسرة .

وعندما ينقضي يومه الأخير من عامه الألف , يتغيّر فجأة , فيولد طفلا رضيعا , ويروح ينمو مع الأيام , ويعيد سيرته الأولى , أي يحيا ألفا من الأعوام , ثانية , وبنهايتها يولد مرة أخرى , وهكذا دواليك ...

وانقضى الأسبوع الأخير , وأصبح عمر أسد الله 1000 من الأعوام . وبانتهاء آخر دقيقة من عامه الألف اختفى أسد الله بغتة وهو جالس مع زمرة من أصدقائه . فعرفوا بأنه قد ولد في كوكب اسمانديون ذي الأشعة البنفسجيّة . فسكان مدينة الأنوار الساطعة علموا جميعا بحبّ بطلهم ل بهاء الربيع الفاتنة . فأقيمت الأفراح بهجة وحبورا لولادته منها .

وبالدقيقة نفسها التي توارى فيها جسد أسد الله عن العيان , ولدت بهاء الربيع طفلا جميل الصورة متين التركيب . وفور ولادته أطلق ضحكة رنّانة عرفت منها بهاء الربيع أنه كان متلهفا للقياها . فقبّلته وقالت له :

  • سأنتظرك خمسمئة من الأعوام حتى يشتدّ عودك يا حبيب نفسي الخفيّة . فأنا لك وأنت لي من قديم الزمان , ويد الحبّ التي ربطت مصيري بمصيرك لن تستطيع يد القدر أن تمتدّ اليها .  فأننا سنلتقي معا في جميع أدوار حياتنا , وسنحيا معا , وننتقل من كوكب إلى كوكب مدى أدهار وأزمان لا يحصيها عدّ .

وأذيعت البشائر في هذا الكوكب البنفسجيّ معلنة وصول أسد الله بطل مدينة الأنوار الساطعة , وقد أصبح قرين بهاء الربيع أفتن حوريّة بهذا الكوكب .

وعندما اجتمع أسد الله ببهاء الربيع في كوكب اسمانديون , كان عمرها , إذ ذاك , 2500 من الأعوام . وقاطنو هذا الكوكب البنفسجيّ الأشعة يعيشون 10 آلاف من الأعوام , رجالا ونساء .

إذا عند ولادة أسد الله من حبيبته , كان عمر بهاء الربيع 3000 عام . وبعد أن يمرّ على ولادته 500 عام يمكنه ممارسة الحبّ مع قاطنة روحه . فيكون عمرها يومذاك 3500 عام , أي تكون في شرخ فتوّتها وربيع عمرها , إذ يبقى لها من الحياة 6500 عام . وعندما تنتهي أيّام حبيبته لبلوغها العام 10 آلاف , يكون هو في عامه ال 7000 , أي سيبقى بعيدا عنها 3000 عام , ولن يسمح بالتقائه بها بعد ذلك إلا ّ إذا كان قد أوصل سيّالاته الى العالم الذي ستكون فيه . كذلك درجتها هي تؤخذ بعين الاعتبار , فاذا كانت أعمالها قد أوصلت سيّالها لعالمه فلقاؤهما يتمّ , وإلاّ فلن يلتقيا , ربّما لآلاف من الأدهار تباد دون اجتماع .

إنّ النظام الإلهيّ في غاية الدّقة , وعلى المرء أن يتقيّد بالأوامر والنواهي الإلهيّة . وسواء أكنّا في كوكب الكّرة الأرضيّة أم في أيّ كوكب أو عالم أو مجرّة , فيجب علينا السيّر بموجب النظام الإلهي الذي وضعه الله للكوكب والأفلاك والسّدم والمجّرات المعروفة والمجهولة .

وارتفعت الأناشيد من جوقات كوكب اسمانديون ابتهاجا بتوافق سيّالات أسد الله  وبهاء الربيع  بدليل ولادته منها . إذا لقد أوصل سيّاله بأعماله التي حققها في عالمه الى درجة استحق معها أن يولد في اسمانديون البنفسجيّ الأشعة . وهذا أبهج قلوب سكان الكوكب السعيد .

وإذا بطيور شجرة الطاووس الفائقة الفتنة تصدح أنغام تغاريدها , معلنة  الحدث العظيم , حدث ولادة بهاء الربيع لحبيبها أسد الله بطل كوكب الأنوار الساطعة .

                 أنهيت كتابة هذه الأسطورة في تمام الساعة الواحدة

                  بعد ظهر 17| 7| 1978 في الولايات المتحدة     الأمريكيّة

 

 

Back To  مبادىء داهشيَّة