info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "ذكريات الماضي"

ذكريات الماضي

 

 

توطئة   

بقلم الدكتور فريد أبو سليمان

                                 

هذه خلجاتٌ نفسية دوَّنها الدكتور داهش بأوقاتٍ مُختلفة. فهي تارةً مُفرحة وطورًا مُؤسية، تبعًا للحالة النفسية التي كان يمرَّ بها.

كذلك يرى القارئ أنه صبَّ جام غضبه عل المُغتصب الطاغية الذي تجاوز دستور البلاد، وهشَّم مواد القانون حامي الحريات، دون أن يردعه وزير أو يوقفه عن تجاوزه نائب، وهذا أمر مُرعبٌ للغاية. فاضطر الدكتور داهش – لكي يدافع عن حريته السليبة التي اعتدى عليها ذلك الغاشم – أن يلتجئ للقلم. وإذا بسلسلة من الكتب السوداء الطافحة بأفظع القبائح تظهر لعالم الوجود، كاشفةً أسرار الطاغية، ناشرةً تجاوزات الباغية، وفيها البراهين الحسية المُجسدة عن ارتكاباته الهائلة، فعرفه الجميع بعدما بدا عاريًا من رداء الغش الذي كان يحجبه عن الأنظار.

وإذْ ذاك عمَّت الثورة أرجاء لبنان من أدناه إلى أقصاه، وهبّوا هبَّة رجلٍ واحد  فأسقطوه عن أريكة حكمه، وحطَّموا على رأسه عرشه، فإذا هو وحيد فريد يندب الحكم الذي تبخر بعدما ردمه الشعب له. فاعتزل، ونيران الندم تقطع كبده.

وكانت الكتُبُ السوداء متداولةً بين الأيدي في جميع البلاد العربية، شارحةً مراحل الجريمة النكراء الهائلة التي ارتكبها الحاكم المُتعسف بحق الدكتور داهش، وهو البريء الذي لم يقترف جرمًا استحق عليه التجريد من جنسيَّته ظلماً وعدواناً، وتشريده في أرجاء عواصم الكرة الأرضيَّة.

والمؤسف الأسف العظيم، أنَّه لم يظهر في لبنان أي وزير أو نائب أو سياسيّ يشجب هذه الجريمة الرهيبة، التي ارتكِبت ضدَّ الضمير وأنف القانون مُعفَّر بالرغام.

وتذكَّرتُ، إذ ذاك، قضية دريفوس المشهورة التي تطوَّع فيها الكاتب الشهير إميل زولاَّ فدافع عن دريفوس الذي كانت الحكومة الإفرنسيَّة قد قدَّمته للمحاكمة، فقضت المحكمة عليه بالسجن المؤبَّد في جزيرة الشيطان، ذلك فضلاً عن ثورة الشعب العارمة ضدّ دريفوس.

شخصٌ واحد فقط ناصره هو إميل زولاَّ.

أخيراً، وبعد إعادة مُحاكمته بفعل مقالات زولاَّ العظيمة، برّأته المحكمة وأُعيدَ شرفه إليه.

وقدَّرت الحكومة جهاد إميل زولاَّ، وقدَّسه الشعب لأنَّه أعاد الحقّ الى نصابه، بعدما أخطأوا جميعهم، وكان هو الوحيد ذا نظرة ثاقبة جعلته يُناصر المظلوم المُضطهد من قبل الجميع.

وكم كان جميلاً، وكم كان رائعاً لو وُجِدَ شخصٌ في لبنان كإميل زولاَّ، دافع عن حقّ بريء ظلمه الحاكم الغاشم لأسبابٍ شخصيَّة، إذاً لكان التاريخ سجَّل اسمه بين صفحاته، ولخُلِّدَ كمناصرٍ للحقّ والعدالة.

ولكن هذا الشخص اللبناني لم يوجد، لأنَّ الجميع كانوا يتزلَّفون للحاكم، ولم يجرؤ أحد ما على أن ينحاز للحقيقة ويدافع عن بريء مظلوم.

هذا ما حدث، وهذا هو الواقع الذي يعرفه الجميع.

كما حدثت تجاوزاتُ خطيرة في ذلك العهد سببت، أخيرًا هذه الحرب القذرة التي دمرت لبنان وهدَّمته، وشردت بنية، ويتَّمت أطفاله، وذبحت رجاله، وهجَّرت قاطنيه.... والعياذ بالله.

وبعد، فليدخل القارئ إلى رحاب حديقة الآلهة التي توشيها الورودُ الفردوسية، وليجُبْ ربوعها الفتانة.

وليتخلَّل باسق أدواحها، وليُصْغِ لتغريد أطيارها، وليُمتع بصره بروعة بحيراتها، وليتنسم عبق أزهارها المضوّعة، وليُسحرْ بالفراش الملون وهو يُحوِّم حول فلِّها وياسمينها، وشقائق نعمانها ونسرينها.

وليَهمْ مع صبايا الغابات، وحوريات الجنان، وقيان الفردوس، الراقصات الهازجات بمَرَح، وهُنَّ يُنشدن أناشيد الفرح والسرور والغبطة والحبور.

وليقتطف الأثمار الجنية من تلك الفراديس البهية ويتذوق حلاوتها الفردوسية.

ففي كل ثمرة حلاوة تدعُه يتذوَّق سواها حتى تثمل نفسه وتنتشي روحُه، فيخرج من حديقة الآلهة وهو مأخوذ بما تزوّد به من جمال وروعة وفتنة خلابة أذهلت لُبَّه وأكسبتْها حبَّه.

وهذا غايةُ المُبتغى.

              بيروت، في 9/1/1979           الدكتور فريد أبو سليمان

 

 

إلى معبودتي

                                 

أي معبودتي الجميلة!

لقد أحببتك فيما مضى،

ولكنني ما زلتُ أحبكِ،

وسأبقى في المستقبل وفيًّا لك.

أي معبودتي الحبيبة، أتسمعينني؟

وحقكِ سأقضي إن لم ترجعي كما كنتِ سابقًا.

عديني، أي جميلتي، عديني،

لقد يئستُ من حياة كلها آلامٌ لا تطاق.

وهل توجدُ آلامٌ أشد من بعدكِ عني؟

يا إلهي!

لِمَا هذه الآلامُ النفسية الشديدة الوطأة على نفسي المُحطمة؟

ألم يكفني ما قاسيته من يد الزمن العاتي الذي لم يرحمني،

بل حطَّم آمالي على صخوره الصماء؟!

إنني متأكدٌ أن قلبي لم يُخلق لغير حبك،

وأن نبضاته لا تردِّد سوى اسمك،

وعينيَّ لم توجدا إلا لكي تُطيلا النظر

إلى عينيكِ الفاتنتين اللاتين لا شبيه لهما!

شعرُكِ المُنْسَدِل ذو اللون الفاحم السواد,

بمَ، يا تُرى، أستطيعُ له تشبيهًا؟

إن أقرب شبه له عندما يداعبُ نسيمُ الصباح

أمواج الخضم العظيم!

والآن، بمَ أستطيع أن أصفَ وجهكِ المُشرق؟

أأشبههُ بأجمل يومٍ من أيام الربيع الزاهي

المُكلل بورود متعدِّدة الألوان؟!

إذن أكون قد عجزتُ عن وصفه كما أريد!

وصوتِك، أيتها المعبودة؟

إن أقرب نغماتٍ إليه تلك البلابل والقماريّ

التي تجتمع أسرابًا على أفنان الأشجار

القائمة بجانب الأنهار ذات المياه الصافية العذبة،

وهناك تُغرّد وتُغرِّد...

معبودتي، حبيبتي، جميلتي،

حياتي، كياني، كلّ آمالي في هذه الحياة!

دعينا نذهب معًا، عندما يكون البدرُ في أتمّه،

إلى مجاهل الغابات المُلتحمة الأشجار،

حيث لا رقيب ولا عذول.

وبين الأشجار الباسقة الوارفة الظلال

التي تشدو عليها البلابلُ والطيورُ المُختلفة الأشكال،

هناك....

بعيدينِ عن ضوضاءِ البَشَر ومساوئهم،

وإلى جانب الأنهار الجارية،

وعلة خريرها الموسيقي المُبدِع،

أجثو بجانبك،

لأبثكِ عميقَ الحب الذي امتزج بدمي،

فعدتُ لا أستطيعُ بدونك حياة؛

وأُحرك شفتي لأخبركِ بما صنعه البعدُ بي،

يا غادتي التي لا أُصدق أَنكِ، الآن، معي!

ثم أرفع بصري إلى جمالكِ الملائكيّ،

وأنظر إليه وأنظر...

وهناك أبقى لكِ،

وتبقين لي،

إلى أن نفنى معًا في الحبّ

أي معبودتي الجميلة!

                                         القدس، 14 أيار 1927

                                          

 

الظبيةُ النافرة

 

يا ظبيةً نافرة،

ارحمي عاشقًا بكِ قد هامْ.

إنَّ فؤادي يا سُعادي

تأجَّج فيه سعيرُ الضرامْ.

واعلمي بأني أموتُ

فدوى لعينيك الجميلتين،

ففتنتُهما أروعُ من عيون الحَمامْ!

روحي فداك مبذولةٌ

حتى ولو دهاني الحِمامْ.

إنّي أتوقُ شوقًا إليكِ

وأذوب من الصبابة والهيامْ.

أُثوثتُكِ المُغرية أنشتني،

وسقتني أكؤُس الغرام.

وقلبي صباه جمالٌ عجيبٌ

به تدلَّه وفيه استهامْ.

رقتُك الحبيبةُ اسرتني

وراشتني عيناكِ بالسهام.

اتمنى قربك دون البرايا

فليس لي ثقة بالأنام.

أتوق أن أُحلِّق للاعالي

جائسًا فيها عالم الأحلام،

فالأرض ديسَتْ فيها العدالة

وتجندلَ بوهادها السلام.

                                  القدس،16 كانون الأول 1928