info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "أسرار الآلهة" الجزء الثاني

أسرار الآلهة

الجزء الثاني

 

                                        أملاك أم شيطان

وغادة اقتطفت من الجنة رُمانتين خبأتهما في صدرها الناهد

 وعندما زارت الروض سرقت من الوردة الجورية احمرارها

 ومن الزنبقة شدة نصوعها وبياضها وازدهارها

 ومن الغصن الأملود جمال قده

ومن الياسمين عبقهُ وملاسة خدّه

فأقسمتُ أن أطوي حياتي وأنا عن سواها زاهد

                                                        الدكتور داهش

                                                        من كتاب "بروق ورعود"

 

 

الكاهن العاشق

انتصف الليل في أحدى الليالي العاصفة،

وهجع السكان بأسرهم،

ولم يعد أحدٌ منهم يقظًا سوى ليلى،

تلك الفتاة الجميلة المحيَّا،

ذات النظرات الحادَّة النافذة!

وبصوت يشبهُ عويل الرياح، في ليلةٍ شديدة الأمطار،

همست قائلةً:

  • أي أبتاه!
  • لم يعد لي من الحياة سوى دقائق معدودات!
  • وبعدها أسير إلى ذلك المكان الذي سبقني إليه ملايين البشر!
  • فباركني أيها الأبُ المقدس!
  • وأعطني النعمة قبل مغادرتي الحياة الدنيا!
  • باركني! باركني يا أبتِ!
  • فليس لي غير هذا من طلب او رجاء!
  • فدنا الكاهنُ الكهل من مرقدها،
  • ووضع يدهُ على جبينها،

فوجد أنَّ شبح الموت ابتدأ يقتربُ من هيكلها الجميل!

فأسرع بوضعها ثانية فوق قلبها، وإذا به ضعيف الضربات، ثم ساكن كالأبدية المجهولة!...

وعند ذاك خرَّ ساجدًا لملاك الموت الحاضر!...

وارتجف جسمهُ، وتمتم ببعض صلواتٍ

يحفظها مردّدًا إياها بصوت عميق...

كعمق الأودية التي قامت صومعتهُ في أعلاها!

وعند انتهائه...

التفت إلى زاوية الصومعة لشابٍّ مُلقى هناك،

وقد غاب صوابهُ لشدة حزنه الذي لم يستطع أن يحتملهُ

قائلاً له بنغمةٍ رقيقة، حزينة، خافتة النبرات:

  • ها قد ذهبت خطيبتُك الشابة إلى لقاء الملائكة الأطهار!

فقم يا بني لنطلب من الله أن يمحو لها خطاياها،

إذا كانت قد ارتكبت في حياتها أمرًا ما،

وهي كما أعلم أطره فتاةٍ عرفتُها للآن!

فتململ الشاب في مكانه!...

وجاهد جهاد الجبابرة حتى استطاع

أن يلبي طلب ذلك الكاهن الورع!

وركع إلى جانب مضجع زوجته العتيدة

والحزنُ عليها يكاد يصعقهُ!

ابتهل إلى الله القادر أن يشفق عليه، ويأخذهُ مثلما اختارها،

وألا يشقيه ببقائه بعدها، إذ لا حياة تطيب لهُ بعد مفارقتها!

وكانت صلاته إلى المولى عز وجل

صادرةً من قلبٍ مُنسحق، ومرارةٍ منفطرة!

وانتهى الأبُ الكلي الاحترام من صلاته العميقة،

وانتظر طويلاً كي يُنهي الشاب صلاتهُ... فلم ينته!

ومرت على ذلك ساعة، فساعتان، فثلاث...

مما تأكد بعدها للأب المحترم... أن الشاب في غيبوبة

قد لا يستيقظ منها إلى ما بعد طلوع الفجر!

فاقترب منه واضعًا يده على كتفه، وهزّهُ قائلاً:

هيا قم يا بني، إلى الكهفِ الداخلي،

ونم حتى الصباح...

كفاك ما تحملته للآن!... بربك كفاك!

فمشى ذلك المحطمُ القلب، بدون أدنى تردد،

إلى الكهف الداخلي.

وألقى بجسمه على فراش القش

واستغرق في نوم يتخلله رؤيا فتاته ليلى!

أمّا الكاهن المُسن فظلَّ في الصومعة أمام فراش الصبية

الراقدة رقدتها الأخيرة،

وهو ينظر إليها بعينين أورمهما البكاء،

وقلب يضطرم بشتى الميول  الخفيَّة...

وكان بين الفينة والفينة يحول نظره إلى مدخل الكهف

حيث استلقى خطيبُ ليلى المائتة.

مضت بعد ذلك ساعة،

كانت أطول من الأبد!

وأشد رهبةً من الموت الجبَّار القاهر!

وأقسى من الآلام الغير المحتملة!

والكاهنُ المقدس! بين دافعين، قويين، قاهرين!

إذ إنهُ أمام شاب مُنسحق الفؤاد،

ولكنه لا يزال حيَّا... ويحلم أحلامًا!

وربما كان حلمه عن فتاة أخرى ستحلُّ مكان ليلى

التي ذهبت إلى ما وراءَ الأفق...

وإلى حيثُ لا تصل الأفهام مهما ارتقت!

مكانٌ خفيّ مجهول، لا يعرف أحد عنه شيئًا!...

***

وعند ذاك اقترب الكاهن من فراش الشابة الميت،

        وجثا أمام هيكلها، كما يجثو أمام خالقه وموجده،

ثم ارتمى فوقها واضعًا شفتيه الملتهبتين على شفتيها الباردتين

اللتين سبقه الى تقبيلهما شبح الموت القاسي الذي لا يرحم،

وحدق في عينيها الساحرتين السابحتين في عالم الابدية!

تكاد نظراته الخارقة تصل إليها في عالمها الطائرة اليه!

وبصوت مرتعش صادر من قلبٍ مُحترقٍ بنيران كامنةٍ فيه،

فاجأها قائلاً لها:

- ليلى! يا ليلى!

يا كل آمالي التي ذوت وذهبت بذهابك الذي لا رجعة لهُ...

اسمعيني، يا ليلى!

إسمعي من وقف نفسهُ لخدمة خالقه السرمديّ!

إسمعيهِ يا ليلى!

فإنني الآن فقط أستطيع أن أبوح لكِ بهذا السر

الذي كمن في صدري خمس سنوات بدون أن أبوح بهِ

حتى لنفسي المتالمة الآن لفقدكِ... يا أعزّ عزيزةٍ لديّ!

إنَّ هذا السر لأعمقُ من الموت الظالم،

وأرهب من الأبدية المجهولة!

لقد فتح الموتُ شفتي كي أبوحَ بهذا السر الهائل!

ولولاهُ لما بُحتُ به!

أوّاه!... ليتني مُتُّ فداءً لكِ يا ليلى!

وليتني لم أشهد فراقكِ المر يا حبيبتي ليلى!

أوّاه! لقد طغى الألم على نفسي، فربط لساني!

أوّاه! إسمعي صراخ روحي التائهة في حبك...

ايتها الروح المنطلقة من قفصها التي كانت حبيسةً فيه!

وأنتِ الآن ترفرفين ما بين الأرض والسماء،

كي تشهدي أوجاع نفسي الظامئة لمرآكِ الذي لا يسرني سواه!

نعم! إحضري واسمعي يا ليلى ما اقولهُ لك الآن!

إسمعي الكاهن الذي كان ينتظرك ساعاتٍ طوالاً...

حتى تأزف ساعة رجوعكِ من المروج،

فيدخل صميم الغاب بين الأشجار الغضَّة،

مُخفيًا نفسهُ بينها،

مُتمتعًا بجمالك الذي الهب قلبه،

خائفًا أن تشاهديه!

نعم!...

إسمعي كلمات الكاهن الذي اختار عبادة الله له منذ الشباب،

بعيدًا عن البشر،

والذي باع دنياهُ ليشتري آخرتهُ بها...

ولكنه!... بعد ان رأى جمالكِ القاهر...

لم يستطع أن يهربَ منهُ!

او يمنعَ نفسهُ من أن تأتي أمرًا عظيمًا كهذا...

فباع آخرتهُ بدنياه!

نعم!

اسمعي كلامَ من مر عليه ثلاثون عامًا،

بدون أن تستطيع الخطيئة أن تقربهُ!

وكان ابليس لا يستطيع أن يقربَ من صومعته!

إسمعيه يا ليلى!

فهو يناجيك، بدون أي وجلٍ الآن،

وبعد أن تأكد لهُ انكِ اصبحت في الملإ العلوي الطاهر!

همس الكاهن بهذه الألفاظ، وغيرها،

مما لا يتعدى دائرة معناها،

ثم انكبَّ عليها للمرة الثانية،

مقبلاً جبينها، وعينيها، وعنقها، وجيدها،

ووجهها، وشعرها، وصدرهان وثغرها، قبلاتٍ جنونية مُطبقة!

وهو لا يدري من شدة ولهه

بما يقوم به من الأمر المخالف لما يتطلبه منه نذرهُ نفسه لله، وما يتطلبه الموت من الاحترام!

                                        ***

وبقي على هذه الحالة ساعاتٍ طوالاً

وهو لا يعي ما يفعل...

حتى أيقظته أشعة الشمس المحرقة،

وضوء النهار الذي ملأ ذلك المكان،

وتغريدُ العصافير كعادتها في كل صباح.

وكانت قبلاته لها طويلاً، حارة، مُلتهبة، خرساء،

صامتةً، علوية، لا يستطاع وصفها...

مظهرًا بها كل ما كانت تجيشُ به نفسهُ من اسرار الحب، والألم الصامت

الذي لا يحتمله بشري يسري في عروقه دمُ الحياة!

وعندما شعر بلهيب الشمس يلهبُ راسه، انتبه لنفسه،

وتراجعَ إلى الوراء بسرعةٍ مُدهشة،

مُرتميًا على الأرض،

كورقةٍ اقتلعتها ريح عاصف، والقتها بعيدةً عن مكانها!

وعند معرفته حقيقة ما قام به أثناء ذهول عقله،

عضَّه الندم، وستر وجهه بيديه، وتراجع إلى الوراء،

ذاهلاً مرعوبًا من مرآها على فراش الموت،

قائلاً في أعماق نفسه:

- يا لضعف البشر

أمام سلطان الجمال الذي لا يقف في طريقه حائل!

يا لعاري! أنا الذي وقف نفسه لخدمة الله الخالق!

ويْلي!... أَأُخفي ما في نفسي خمس سنوات!؟

والشوق يكاد يودي بي،

غير مظهر ميولي نحوها!؟

والآن!... وفي لحظة واحدة،

انفجرت في داخلي الميولُ كالسيل الجارف،

فلم أستطيع إيقافها!

إنَّ الموت استطاع في لحظة واحدة أن يقومَ

بما عجزت عنهُ الحياة خمسة أعوامٍ طوال.

فاغفر لي ذنبي العظيم يا الله... فإن الندامة تسحقني سحقًا!

إرحم ضعفنا البشري الذي يستحوذُ على كلٍّ منَّا يا إلهَ السموات!

***

مضت مدة طويلة والكاهن يبكي بُكاءً مرًا،

ولا عزاء له سوى مراحم ربه الواسعة الشاملة،

وقد أشاح بوجهه عن الغادة الراقدة رقدة الأبد،

خوفًا من أن يلتقي نظرُهُ بها،

فلا يستطيع ردعَ نفسهِ ثانية،

فيقومُ بما قام به في المرة الأولى!