info@daheshism.com
ثاني عشَر: أبحاث ودراسات علميَّة

السَّبَـبِيَّةُ الروحيَّة في مجرى الأحداثِ العامَّة

في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة

بقلم الدكتور غازي براكْس

         

 

في بحثَين سابقَين عن السَّـبَـبِيَّةِ الروحيَّة والعدالة الإلهيَّة ("صوت داهش"، كانون الأوَّل 1995 وآذار 1996) أَوضحتُ أَنَّ العلاقةَ السَّـبَـبِيَّة بين الأحداث يُدركُ الناس، بصورةٍ عامَّة، مجاريَها الطبيعيَّة؛ لكنَّّ التعاليمَ الداهشيّة تتخطَّى المحسوسَ فتُعلمُنا أنَّ وراءَ السَّـبَـبيَّة المادّيـَّة  سَبَـبيَّةً روحيَّة تتجاوزُ مداركَنا، وأَنَّه لا صُدفةَ في مجرى الأحداث على الإطلاق، سواءٌ أَكانت صحَّةً أم مرَضًا، رُبحًا أم خسارة، فقرًا أَم ثَراءً،  غباءً أَم ذكاءً. فسيَّالاتُ كلِّ إنسانٍ هي التي تُـثيـبُه أَو تُعاقبُه في حياتِه الراهنة أو في حياتِه المُقبِلة تبَعًا لنظامِ العدالة الروحيَّة. فالظالِمُ والجَشِعُ والسارِقُ والزاني والخائنُ وغيرُهم من مُرتكِبي المُنكَرات... كلٌّ منهم سيَّالُه الدنيءُ يُعاقبُه.

          لكنْ هل تسري السَّـبـبيَّةُ الروحيَّة على الجماعات والشعوب مثلما تسري على الأفراد؟ وهل لها تأثيرٌ في تكوينِ مجرى الأحداث العامَّة وفي تغييرِه؟ هذا ما سيُعالَجُ في هذا البحث.

 

مبادئُ عامَّة

مثلما أنَّ حياةَ الإنسان ليست محدودةً بولادتِه وموتِه، لأنَّها أشبهُ بموجةٍ في نهرِ حياتِه المُنبثقِ من الأَزَل والمُنصبِّ في الأبَد، ومثلما أنَّ وضعَه الحاليَّ ومصيرَه مرهونان بأعماله ونزعاتِه وأَفكارِه في حياته الحاليَّة كما بمُجمَل أدوارِه الحياتيَّة السابقة، هكذا الأوضاعُ القائمة للجماعات والشعوب، بل للبشريَّة بأسرها، مرهونةٌ بما ينطوي عليه حاضرُها، كما بما يتضمَّـنُه تاريخُها الواقعيُّ، من مُمارساتٍ واتِّجاهاتٍ وعادات. ولا مفرَّ من الثواب والعقاب الإلهيَّـين على صعيد الجماعة كما على صعيد الفرد. كذلك فالدوراتُ الحضاريَّةُ في تاريخِ البشريّةِ العامّ هي حلقاتٌ ديناميَّة يُؤَثِّرُ بعضُها في بعض، ويُعلَّلُ نهوضُ بعضِها في ضوءِ انهيارِ بعضِها الآخَر. وتتدخَّلُ في تحديدِ مصير الحضارة نهوضًا وسقوطًا إرادةُ الإنسان ومشيئةُ الله وَفقَ نظامٍ إلهيّ عادل خاضعٍ لسَـبَـبَِّةٍ روحيَّة شاملة.

إنَّ التكوينَ العَفويَّ للجماعاتِ البدائيَّة أَو الصغيرة –ولا علاقةَ للاتِّحادات القائمة على صيانة المصالح المُشتركة بذلك– يتمُّ إمَّا وَفقَ قانون التجاذُبِ الوراثيّ كما الحال في العشائر والقبائل حيثُ تمتدُّ السيَّالاتُ من الجدود إلى الأحفاد ومعها يمتدُّ الثوابُ أو العقاب؛ وإمَّا وَفقَ التجاذُبِ الروحيّ  المَبنيّ على تعارُفٍ وتجاذُبٍ في دوراتٍ حياتيَّة سابقة بين سيَّالاتِ الأفراد، وهذا ما نراه في البعثاتِ النَّبَويَّة كما في نشأةِ المذاهبِ الفنِّـيَّة والأَدبيَّة والفلسفيَّة التي تتخطَّى الحدودَ الوراثيَّة والجغرافيَّة. وسيُـفَصَّلُ الكلامُ عليها فيما بعد.

كذلك يخضعُ  تكوينُ الشعوبِ والمُجتمعات المتطوِّرة لقانون العدالةِ الروحيَّة تجاذُبًا أو تنافُرًا. فمن أجل استقامة ميزانِ العدالة تُعيدُ المشيئةُ الإلهيَّة تجميعَ السيَّالات في جماعاتٍ مُتفاعلة تفاعُلاً سلميًّا أو حربيًّا، وذلك ضمنَ شعبٍ واحد أو عدَّة شعوب، وإذْ ذاك تُسَدَّدُ الحساباتُ المتبقِّية من الدورات الحياتيَّة الماضية، فيقتصُّ المظلومُ من ظالِمِه، ويلقى كلٌّ عقابَه أو ثوابَه بأساليبَ تلبسُ مظاهرَ التعامُلِ الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو السياسيِّ العاديّ، أو مظاهرَ الثوراتِ والفِـتَنِ  والحروب. وقد تشتركُ الكوارثُ الطبيعيَّة في استقامة ميزان العدالة الروحيَّة. ولي كلامٌ مُفصَّلُ على ذلك في حينِه.

وبإلقائنا نظرةً شاملةً تنفضُ التاريخَ منذُ بداياته حتَّى يومنا الحاضر، يُطالعُنا نهرٌ من الأحداثِ المأساويَّة في كلِّ أَنحاء العالَم. فالقَتلُ والنَّهبُ والسَّطوُ على الأعراض، كما الاستبدادُ والتنكيلُ وقَمعُ الحرّيـَّات، هي الغالبة على أحداث التاريخ في ظروفِ سِلمِه وحربِه. وتعليلُ ذلك أنَّ البشرَ كانوا وما زالوا، بغالبيَّتِهم المُهيمنة على كلِّ مجتمع، ذَوي سيَّالاتٍ (أَي قوًى نفسيَّة) مُتردِّية.

لكنْ ضمن المجتمعاتِ المُـتردِّية روحيًّا تنشأُ بإرادةٍ إلهيَّة غير منظورة، من حقبةٍ إلى أُخرى، حركاتٌ ساميةُ النـزعات والغايات والقِيَم، تجذُبُ إليها جماعاتٍ مُتآلفة تتميَّزُ عن سوادِ الشعبِ بإدراكٍ مُميَّز ومطامحَ نبيلة وميولٍ روحانيَّة. هذه الجماعاتُ هي هياكلُ بشريَّة مُختارة تُحيـيها سيَّالاتٌ هي امتداداتٌ روحيَّة لسيَّالات المسيح والأنبياء والمُرسَلين والهُداة على مَرِّ العصور، وهي التي تُكوِّنُ نهرَ الماءِ الحَيّ، نهرَ الحضارةِ العالَميَّة الصاعِد، المُتدفِّق مدى الأجيال، شاقًّا طريقَ الارتقاءِ الروحيّ في العالَم، ومُعيدًا توجيهَ مجرى التاريخ إلى الجوهرِ الروحيّ النقيّ كلَّما زاغَ الناسُ عن الغاية العُليا من وجودِهم.

هذه السيَّالاتُ المُتفوِّقة تتَّخذُ تارةً مظهرًا دينيًّا نقيًّا، وطورًا مظهرًا فكريًّا راقيًا، وحينًا تتَّخذُ مظهرًا فنِّـيًا أو أَدبـيًّا ساميًا، وحينًا آخَر مظهرًا إصلاحيًّا سياسيًّا واجتماعيًّا؛ لكنَّها هي هي دائمًا التي تُغذِّي الرقيَّ البشريَّ الحقّ، وتمنحُ المُجتمعاتِ أسمى وأَجملَ ما فيها، بحيثُ يسوغُ القول إنَّ الحضارةَ البشريَّة، منذ ولادتِها حتَّى اليوم، هي إبداعُ سيَّالاتٍ مُختارة تمرُّ في سماءِ الأرض مرورَ الشُّـهُبِ العجيبة التي تخرقُ دياجيرَ الظلام فتزيدُ رؤيةَ العالَم وضوحًا، وتزيدُ المشهدَ السماويَّ جمالاً، وتُخلِّفُ وراءَها إشعاعًا يُنيرُ الشعوبَ مدى أُلوفِ السنين.

لكنْ بين بُناةِ الحضارةِ البشريَّة العباقرة عمالقةٌ بدونهم يبدو التاريخُ فارغًا والوجودُ تافهًا. ومهما يُسدَلُ عليهم من ستائر النسيان أو التجاهُل أو الاستهانة، فإنَّهم لا بُدَّ من أن يعودوا إلى الظهور والتأَلُّق في سماء المعمور، لأنَّ فيهم تنعكسُ ومضاتٌ من الحقيقةِ الإلهيَّةِ الكُبرى. إنَّهم حاملو رسالات السماء وهداياتها الروحيَّة. هم ليسوا بآلهة، لكنَّهم يشهدون للأُلوهة بعظمتِهم، وهم ينـتمون إلى الحاضر انتماءَهم إلى الماضي، ذلك بأَنَّهم يحملون بذورَ الحقيقة التي تـتـنامى وتـتكاملُ مع كرور الزمان. كلٌّ منهم يستقلُّ عن الآخَر بعملِه، ومع ذلك كلٌّ منهم يُتِمُّ الآخَر. إنَّهم يتقابلون على مَشارفِ التاريخ، ويتلاقَون في مملكةِ الروح، ويستحيلُ الاستغناءُ عن أَيٍّ منهم في مسيرةِ البشريَّةِ صُعُدًا لضرورتِهم المحتومة. وهم يتميَّزون عن العباقرة الآخَرين بأنَّ عظمتَهم تقومُ على مدى سُمُوِّ هدايتِهم ومدى تأثيرِها عُمقًا واتِّساعًا في صياغة الحضارةِ البشريَّة، بقدرِ ما تقومُ على عظمةِ شخصيَّاتِهم التي تتوحَّدُ مع أَعمالهم وأفكارهم.

إنَّ للمجرى الحضاريِّ الارتقائيّ، في الأرض كما في العوالمِ الأُخرى، مصبًّا أسمى يجبُ أن يتحرَّكَ باتِّجاهِه ويسعى من اجل بلوغِه، أَلا وهو المُطلقُ الصحيحُ الكامل معرفةً وقُدرة، الكائنُ الأسمى حقًّا وخيرًا وجمالاً: الله –عزَّ وجَلّ.  لكنْ بما أنَّ غايةَ الغاياتِ هذه لا يستطيعُ البشرُ أَن يُدركوها بأنفسهم، مهما حاولوا، وذلك للقيودِ التي فرضَها عليهم مُستواهم الروحيّ، كان لا بُدَّ من أن تنـتصبَ، في أثناء المسيرةِ الحضاريَّة، مناراتٌ روحيَّةٌ كُبرى أَبرزُ ما تتمثَّلُ في الأديانِ السماويَّة وهداياتِ الحكمةِ الروحيَّة التي هي من المسيرةِ الحضاريَّة بمثابةِ أقطابِ جاذبيَّة خفيَّة تجعلُ الأحداثَ التاريخيَّة، دينيَّةً وثقافيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة، تتوالدُ وتتلاحقُ وتترافَدُ وتترابَطُ وتتحرَّكُ باتّجاهها، بحيثُ تُؤَدِّي جميعُها إليها؛ وذلك وَفقَ ترتيبٍ روحيّ إلهيّ يشتركُ فيه استحقاقُ البشر ومشيئةُ الله.

 وبما أنَّ البشرَ أَعجزُ من أَن يستشرفوا المناراتِ الروحيَّة قبل أن تطلعَ عليهم في سياق مسيرتهم الحضاريَّة لأنَّ استشرافَ الغَيب مُحالٌ عليهم، فهم يُفاجَأُون بها دائمًا متى أطلَّت عليهم؛ وفي الغالب يُنكرونها، ويمتهنونها، ويضطهدونها، ولا يَعون حقيقتَها وقيمتَها الروحيَّة إلاَّ بعد أن يُبعدَهم الزمانُ عن نشأتها. إذْ ذاك يتَّضحُ دورُها الروحيُّ العظيم في اجتذابِ الأحداث التاريخيَّة وتكوينِ المجرى الحضاريِّ الجديد، كما يتَّضحُ ما ترتَّبَ على رفضِها من عواقبَ جماعيَّة وخيمة. ذلك كان شأنُ كلِّ رسالة هادية. وإنَّه اليومَ لَشأنُ الداهشيَّة وهي ما تزالُ في مهدِها.

ولمَّا كانت الغايةُ القُصوى من الحياةِ المُنتشرة في الكون، بنظرِ الداهشيَّة، هي الارتقاءُ النُّـزوعيّ والإدراكيّ عن طريق الجُهدِ المُستمرّ ومُغالبةِ التجاربِ الدُّنيويَّة  بُغيةَ التطهُّرِ أكثرَ فأكثر من أدران المادَّة والتحرُّرِ من قيودها من أجل بلوغ عالَم الروح المجيد السعيد، وبالتالي الاندماج بالقوَّةِ الموجِدة، فإنَّ رسالاتِ الأنبياء والهُداة الروحيِّـين هي التي تُقدِّمُ المُساعدة أكثرَ من غيرها لبلوغ هذه الغايةِ القُصوى. وبناءً على هذه القاعدة كان لا بُدَّ لكلِّ موجةٍ حضاريَّةٍ جديدة، غيرِ مُزيَّفة، من رسولٍ أو هادٍ روحيّ يُطلقُها. هذه الحقيقةُ تُؤَكِّدُها وقائعُ التاريخ. حينئذٍ، يحتضنُ مجتمعٌ معيَّن الهدايةَ الجديدة، فيستفيدُ منها، ويُصبحُ بؤرتَها الحضاريَّة. ذلك ما حدثَ للعبرانيِّـين مع رسالة موسى النبيّ، وللشرقِ الأقصى مع هدايات كنفوشيوس ولاوتسو وبوذا، ولليونان ثمَّ الرومان مع هداية سقراط، ولأُوروبَّا ثمَّ أمريكا مع رسالة المسيح، وللعرَب مع رسالة الرسول العربيّ.

لكنْ بما أنَّ غالبيَّةَ الناس تبقى سيَّالاتُهم مُتخلِّفة مُتدنِّية، حتَّى في حال إيمانهم، لاستصعابهم التغلُّب على مُغريات الدنيا وشهواتِ اللحم والدم، فإنَّ عدواهم، مع كرور الزمان، تتفشَّى في أكثريَّةِ المؤمنين، فتأخذُ جواذبُ الأرض وعواملُ الشرِّ والرذيلة تفعلُ في نفوسهم، فيتعلَّقون بأعراض الدين وقشوره، وينسَون جوهرَه، ويُحرِّفون تعاليمَه أو يُؤَوّلونها لتُناسبَ أهواءَهم، فتنحطُّ سيَّالاتُهم، وتُصبحُ مُساويةً لسيَّالاتِ الآخَرين من الأردياء، إلاَّ قلائلَ منهم يبقَون صامدين في وجهِ الدنيا بقِيَمِهم الروحيَّة، يُغالِبون إغراءاتِها ومفاسدَها، فتتدخَّلُ العنايةُ الإلهيَّة وتُنقذُهم بإلهامِهم بالهجرة أو بانتقالهم عَبرَ الموت فالولادة الجديدة في مجتمعٍ جديد تكونُ قد تهيَّأت فيه شروطُ استقبالِ سيَّالاتهم الراقية ورعايتِها. وهكذا يتعرَّضُ المجتمعُ الذي كان يحضنُ الهدايةَ للانهيار الحضاريّ، بعد فَراغِه من السيَّالات السامية في روح الدين كما في العلم والفلسفة والأدب والفنّ، بينما يأخذُ مجتمعٌ جديدٌ بالنهوض الحضاريّ بعد أن تكونَ الإمداداتُ الروحيَّة الجديدة قد بدأَت تُغذِّيه.

وقد تتناوبُ على الدورةِ الحضاريَّة، قبل تلاشيها وفراغِ الدين فيها من نُسغه الروحيّ،  كبَواتٌ ونهضات، حتَّى إذا حان الزمان، وأشرفَت الدورةُ الحضاريَّةُ على نهايتِها المُفجِعة، وذاق أبناؤها مرارةَ الآلام والمصائب والكوارث، والاضطراب والتمزُّق والقلَق، تدخَّلَت العنايةُ الإلهيَّة فأَرسلَت نبيًّا أو هاديًا جديدًا مُزوَّدًا بسيَّالاتٍ من شأنِ جاذبيَّتُها الروحيَّة أَن تُدخِلَ في حقلِها كلَّ مَن تسمحُ له درجةُ سيَّالاته الروحيَّة بالدخول. وهكذا تولَدُ في الأرض ديانةٌ جديدة أو هدايةٌ جديدة تُزوِّدُ الناسَ بمعرفةٍ عن الحقائق الروحيَّة تكونُ بمُستوى مداركهم وتسمحُ بها درجةُ المعرفة في عصرهم، كما تمدُّهم بإيمانٍ حَيٍّ جديد يُحيي النسغَ في شجرةِ الحضارة، بعد أن تكونَ قد بدأت تنخرُ وتَيـبس.[1]

وأيَـًّا تكُن الديانةُ أو الهدايةُ الروحيَّة الصحيحة فجذورُها، لا محالة، مغروسةٌ في سيَّالات الطاقة الروحيَّة التي سمَّتها الكتبُ المقدَّسة "الكلمة الإلهيَّة" أو "الهداية الإلهيَّة" التي منها تنبثقُ رسالاتُ الأنبياء والرُّسُلِ والهُداةِ الحقيقيِّين جميعًا. ولذلك سُمِّيَ السيِّدُ المسيحُ في الإنجيل كما في القرآن "كلمة الله" لأنَّه كان بأَقواله وأعماله تجسيدًا للكلمة الإلهيَّة.[2] كما أَوضحَ الكتابُ الكريم أنَّ الرسالاتِ الروحيَّة جميعًا هي من "هُدى" الله، ومَن اتَّبعَ إحداها فلا خوفَ عليه.[3] كذلك أكَّدَ القرآنُ أنَّ كلماتِ الله، أي رسالاته أو هداياته، ليس لها حدود بقولِه المُنـزَل: )قُلْ لو كان البحرُ مِدادًا لكلماتِ ربّي لَنفِدَ البحرُ قبل أن تنفَدَ كلماتُ ربّي ولوجئنا بمِثلِه مَـدَدًا(؛[4]  كما بالقولِ الكريم : )ولو أنَّما في الأرضِ من شجرةٍ أَقلامٌ، والبحرُ يمدُّه من بَعدِه سبعةُ أَبحُرٍ، ما نفِدَت كلماتُ الله، إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيم. ([5] وقد أزالَ القرآنُ اللبسَ في فَهم معنى "كلمات الله" مُؤكِّدًا أنَّها تعني الهداية بقوله: )ولكلِّ قومٍ هادٍ(.[6] وهذا يعني أنَّ الخلاصَ يُمكنُ بلوغُه في كلِّ رسالة أو هداية إذا عرفَ المؤمنُ كيف ينفدُ إلى الجوهرِ الروحيِّ منها ويتمسَّكُ به تمسُّكًا عمليًّا.

بناءً على ذلك فقولُ السيِّد المسيح "أنا الباب، مَن دخلَ منّي يخلص..."[7]  أَو قولُه "أَنا الطريقُ والحقُّ والحياة؛ لا يأتي أحدٌ إلى الآب إلاَّ بي"[8] لا يقطعُ طريقَ الخلاص، في نظر الداهشيَّة، على المؤمنين برسالاتٍ سماويَّة وهداياتٍ روحيَّة أُخرى، بل يقطعُ الخلاصَ، في أيِّ دين مُنـزَل أو هداية روحيَّة، على كلِّ مؤمنٍ بالكلام والطقوس دون العمل والمُمارسة الحيَّة، لأنَّ السيِّدَ المسيح لم ينقضْ شريعةَ موسى النبيّ، بل أتمَّها بالإلحاحِ على تحقيقِ الأقوالِ بالأَفعال وتجسيدِ الإيمان بمُمارسةِ الفضائل كالمحبَّة والرحمة والتعفُّف والقناعة وليس الاكتفاء بالإيمانِ النظريّ أَو بالامتناع عن الرذائل كالقتل والإيذاء والزِّنى والجشَع دون الحياة الفاضلة. 

في هذا الضوء يكونُ المؤمنون الحقيقيُّون بكلِّ رسالةٍ أو هدايةٍ جديدة، أي الذين بمقدورهم النفاذُ إلى الجوهر والتمسُّك به، قلائلُ بالنسبة للمؤمنين العاديِّين الذين يكتفون بالقشور دون اللباب، أو يُلحُّون على الأعراض إلحاحَهم على الجوهر. لكنَّ أولئكَ القلائل يـبدون في العالَم غُرباء، كالنور في الظلماء، والجدولِ المُحيي في الصحراء. ولِذا قال السيِّدُ المسيح مُخاطبًا أَباه السماويَّ بشأنِ تلاميذه المُقرَّبين الذين كانوا بسيَّالاتِهم امتداداتٍ روحيَّة له: "إنّي أَعطيتُهم كلمتَكَ، وقد أَبغضَهم العالَم لأنَّهم ليسوا من العالَم كما أنّي أَنا لستُ من العالَم. لستُ أسألُ أن ترفعَهم من العالَم، بل أن تحفظَهم من الشرّير... قَدِّسهم بحقِّكَ، إنَّ كلمتَكَ هي الحقّ. كما أَرسلتَني إلى العالَم، أَرسلتُهم أَنا إلى العالَم."[9] وسنرى في ما يأتي من هذا العَرض أنَّ السيَّالاتِ الراقية التي هي امتداداتٌ للأنبياء والهُداة ليس محتومًا أن تكونَ في عِداد فُقهاء الدين أَو المُبشِّرين به، بل الأغلب أن تكونَ خارجَهم، في الفلاسفة والأُدباء والشعراء والفنَّانين والعلماء والقادةِ المُصلحين، خصوصًا متى ابتعدَ الزمانُ عن انطلاق الدعوة وبدأَ الفسادُ يتغلغلُ في رجال الدين.

ولئن ادَّعى بعضُ الفئات إمكانَ قيامِ حضارة راقية على أُسُسٍ سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة بحتة لا علاقةَ لها بالأديان، فإنَّ هذا الزعمَ ينقضُه أيُّ درسٍ تنقيبيّ موضوعيّ تاريخيّ للقواعد التي قامت عليها أَمثالُ تلك "الحضارات" والنتائج التي أَفضَت إليها. ولعلَّ أسطعَ برهانٍ على ذلك هو قيامُ الاتِّحاد السوفياتيّ ثمَّ سقوطُه. ذلك بأنَّ النفسَ البشريَّة تحنُّ، بوعيٍ منها أو بغيرِ وَعيٍ، إلى مصدرِها الروحيّ؛ وهي إذا لم تعبُد خالقَها في قوَّته الموجِدة بكمالها المُطلَق، فستعبدُ أصنامًا تُقيمُها من ذاتها أو من الطبيعة أو الأحزاب أو الأوطان أو الرؤَساء الخاضعين للنقصِ والفناء. أمَّا ما يُنسَبُ إلى الأديان من معايبَ ومُعوِّقات، فهو ليس منها، بل من المؤمنين بها أو من رجال الدين, وهذا سيُفصَّلُ الكلامُ فيه في حينه.

في ضوءِ ما قدَّمتُ، قد يستطيعُ الناسُ إقامةَ مدنيَّةٍ برَّاقة، ذاتِ هيكلٍ مادِّيٍّ قويّ، لكنَّ هيكلَها يبقى فارغًا من الروح الحضاريِّ الحقّ، أَي من القِيَمِ الإنسانيَّة الكُلِّـيَّة كالعدالة والمحبَّة والتراحُم والأُخوَّة، فضلاً عن الفضائل الأُخرى كالقناعة والعفَّة والتواضُع، وهي قِيَمٌ روحيَّةٌ سامية ترتقي بالإنسان، ولا تُطلقُها، أصلاً، إلاَّ ينابيعُ رسالاتٍ سماويَّة وهداياتٍ روحيَّة صحيحة.

وفي أَيِّ حال، لا تنهضُ أَيَّةُ حضارة حقيقيَّة في أَيِّ مجتمَع ما لم يتهيَّأ لها شرطان أساسيَّان: أوَّلاً، بناءُ الفرد، وبالتالي الجماعات، بناءً سليمًا بترقيةِ اتِّجاهاتهم وتوجيهِ نزعاتِهم وجهةَ الفضيلة والمعرفة الخـيِّرة، لا بترويضِهم ترويضًا يُنكِّرُهم بقناعِ الإنسانيَّة الوهميَّة واللياقات الاجتماعيَّة الكاذبة، مُبقِيًا  على وحشيَّةِ غرائزهم وانحطاطِ دوافعِهم؛ ثانيًا، التعبيرُ الحُرّ عن الرقيِّ والخير والمواهب التي فيهم عبرَ العلوم والآداب والفنون، كما عَبرَ المُمارسة السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة النـزيهة.

أَخيرًا، لا بدَّ من الإلحاح على أَنَّ قيمةَ الإنسان الحقيقيَّة، ومدى تأثيره في التاريخ، ودَيمومةِ اسمِه مقرونًا بالمديح على أَلسُن الأجيال المُتعاقبة، ليست بنسبة مركزه السياسيّ أو الاجتماعيّ، أو بنسبة ثروتِه وجاهِه في عصرِه، ولا بنسبة شهرتِه أو  الضجَّة التي تُحدِثُها مكانتُه في عهدِه، بل هي في قيمتِه الإنسانيَّة ومدى تأثيره الروحيِّ في تغيـيرِ المجرى الحضاريّ للأَفضل. هكذا يُعلِّمُنا التاريخُ أنَّ أَعلامَ العُلماء من أمثال نيوتن وغاليليو وماكسويل وأينشتاين، والفلاسفة من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وبرغسون، والشعراء من أمثال شكسبير ولامرتين وهوغو وغوته، والأُدباء من أمثال فولتير وتولستوي وطاغور وجبران، والفنَّانين من أمثال رافائيل ومايكل آنجلو ورودان وسيزان، والقادةِ المُصلحين من أمثال الإسكندر وعُمر بن الخطَّاب ونابوليون وجورج واشنطن وأبراهام لنكولن —جميعُهم تُخلَّدُ أسماؤهم أكثرَ من أعلامِ المُؤَرِّخين؛ وأنَّ كبارَ المُؤَرِّخين تُخلَّدُ أسماؤهم أكثر من معظم رجال الحُكمِ أو السياسة أو الأعمال أو الجُنديَّة –إلاَّ مَن أَثرَت شخصيَّاتُهم بالقِـيَمِ الفكريَّة والإنسانيَّةِ السامية. والأمثلة على ذلك متوافرة في مُختلف الشعوبِ والعصور.

لكنَّ جميعَ مَن ذكرتُ آنِفًا يتخطَّّاهم الأنبياءُ والمُرسَلون والهُداةُ الروحيُّون في العظمةِ الإنسانيَّة الحقيقيَّة والدَّيمومةِ التاريخيَّة والفاعليَّة الحضاريَّة.[10]  فعندما يتوقَّّفُ البشرُ عن قراءة أعاظمِ الفلاسفة والشعراء والأدباء، وعندما يرَون أنَّ كلَّ عالِـمٍ أتى من بعده عالِمٌ زادَ عليه، أو تخطَّاه، أو ناقضَه، فإنَّ موسى وبوذا وكنفوشيوس والمسيح ومحمَّدًا سيـبقَون أَحياءَ في ذاكرةِ الأجيال إلى أَزمنةٍ لا يُمكنُ أن تُحَدَّ نهايتُها، وسيبقَون مُترادفين مُتكاملين، يُشيرون إلى الحقيقةِ الواحدة من نوافذَ مُختلفة. بل إنَّ المراحلَ الزمنيَّة الملأى بالزخمِ الروحيّ والموسومة بالهداية الروحيَّة يبقى أَثرُها أَقوى فاعليَّةً في حياةِ الشعوب، وأَلصقَ بها حتَّى من أَزمنتِها المُعاصرة؛ ذلك بأَنَّ عظمةَ الأنبياء والمُرسَلين والهُداة هي وحدها العظمة الحقيقيَّة، لأنَّها مُستمدَّة من عالَمِ الروحِ الخالد.

يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة تحت عنوان "فقاقيع":

          خلَوتُ إلى نفسي واستعرضتُ أسماءَ بعضِ مَن يُطلقون عليهم في عالَمِنا الفاني لقبَ "العُظماء". فمن رعمسيس إلى نبوخذنصَّر فنابليون بونابرت، إلى الإسكندر الكبير فداريوس الفارسيّ فتيطُس فأُغسطس قَيصر، فجنكيزخان فتيمورلنك فهولاكو، فهتلر فموسوليني فستالين، وغيرهم من كبار القادة والفاتحين... جميعُ هؤلاء مرُّوا في كُرتِنا الأرضيَّة مرَّ السحابِ العابر!

          وأَنا أُشبِّهُهم بالفقاقيع التي تطفو إحداها على سطحِ الماء لفترةٍ ثمَّ يُفجِّرُها الهواء فتتلاشى بلحظةٍ عابرة. وهكذا بقيَّةُ الفقَّاعات التي تتفجَّرُ وتتلاشى بعضها إثرَ بعض...

          إنَّ ذكرى هؤلاء الذين دوَّن التاريخُ أسماءَهم كعُظماء تضمحلُّ، وتتلاشى معها هذه العظمةُ الكاذبة فورًا عندما يُذكَرُ اسمُ المسيح أَو محمَّد أو موسى أَو بوذا... هؤلاء الأنبياءِ والهُداة مُؤسِّسي الأديان، والمُبشِّرين بالأُخوَّّة الإنسانيَّة. فلا رصاصَ حاصد للأرواح، ولا مدافعَ تُمزِّقُ الأشلاء، فيعلو النحيبُ ويتصاعدُ النواح، ولا طائرات حربيَّة تذهبُ بالرجال إلى عالَمِ الأشباح... بل حبٌّ شامل، وعطفٌ كامل، وأَيدٍ تُصافحُ أَيدِيًا بالأكفِّ والأنامل. الأنبياءُ فقط ليسوا بفقاقيع، فهم رسُلُ الله البصيرِ السميع. فذكرُهم يملأُ دُنيانا ويُضفي عليها بردًا وسلامًا. هؤلاء هم العُظماء، وعظمتُهم الروحيَّة خالدة خلودَ الأَبَد...[11]

وهكذا فالداهشيَّةُ تُلِحُّ على أنَّ مجرى الأحداث في حياةِ الشعوب وتغيـيرَ ذلك المجرى ليسا خاضعَين لجدليَّةٍ تاريخيَّة مُتمثِّلةٍ في نظامٍ اقتصاديِّ وسياسيّ معيَّن، بل إنَّ مِثلَ ذلك النظام هو نتيجةٌ لسيَّالاتٍ روحيَّة معيَّنة تتفاعلُ في ذلك الشعب. وكثيرًا ما يكونُ لإنسانٍ فَرد أو لبضعةِ أَفراد، في دولةٍ ما، من التأثير ما يُغيِّرُ مجرى التاريخ الحضاريِّ فيها. فلولم يظهر الإسكندر أو نابوليون أو هتلر أو جورج واشنطن أو صلاح الدين الأَيُّوبيّ، بل حتَّى شكسبير وبتهوفن، لَما أدَّى تطوُّرُ التاريخ إلى إطلاعِ أمثالهم في الفترةِ نفسها، مثلما يظنُّ بعضُ الباحثين، لأنَّ السيَّالَ ذا الموهبة القياديَّة أو الإصلاحيَّة أو الفنّيَّة أو غيرها لا يُعطى إلاَّ صاحبَه. فالعبرةُ كلُّها هي في السيَّالات الروحيَّة المُزوَّدة بموهبةٍ مُعيَّنة، أو التي يُتاحُ لها، وَفقَ ترتيبٍ إلهيّ مَبنيٍّ على استحقاق الشعب، أن تتسلَّمَ دفَّـةَ التوجيه أو الحُكم. 

 

أُصولُ البشرِ الحاليِّـين

تشملُ السَّـبَـبيَّةُ الروحيَّةُ العامَّة الكونَ كلَّه، وتُهيمنُ عليه وَفقَ نظامٍ إلهيّ دقيق. لكنْ يستحيلُ على الإنسانِ إدراكُها ما لم يكشفْ عنها الوَحيُ الروحيُّ، لأنَّ العقلَ البشريَّ مُعَدٌّ، بإعمالِه النظرَ في قوانين الطبيعة وتفاعلاتها، للكَشفِ عن السَّـبَـبيَّة الطبيعيَّة فقط. وما دام العقلُ مسجونًا في دماغٍ مادّيّ فسيبقى، مهما تطوَّر الإنسان،  قاصرًا عن إدراكِ الحقائق الروحيَّة بقدرتِه وحدها.

والخُطوةُ الأُولى التي لا بُدَّ منها لتذليلِ العقبات في فهمِنا للسَّـبـبيَّةِ الروحيَّة العامَّة المُهيمنة على مجرى الأحداث في العالَم هي ضرورةُ تفهُّمِنا لأَصلِنا البشريّ، في أسبابه وعواقبِه. ويُمكنُنا ذلك بفضلِ رسالةٍ روحيَّةٍ موحاة، فائقةِ الأَهمِّـيَّة، هي رسالة "سقوط الملائكة وخَلق آدَم". ومضمونُها لم يُكشَف لأيِّ هادٍ روحيّ قبل مُؤَسِّسِ الداهشيَّة.

تكشفُ هذه الرسالة الموحاة عن وجودِ ملايين العوالم الفردوسيَّة التي تنتظمُ في مئةٍ وخمسين درجة روحيَّة، كلٌّ منها يشتملُ على أَلفَي مُستوًى (أَي 300 أَلف مُستوًى). هذه العوالمُ المُوزَّعة في أرجاءِ الكون المنظور وغير المنظور جميعها تنعمُ، على درجاتٍ مُتفاوتة، بهناءِ العَيش وبحضاراتٍ ذاتِ أَنظمةٍ ومعارفَ واختراعات وقُدرات عظيمة لا يصلُ إليها حتَّى خيالُ الإنسان. وبالرغم من أمجادها الخياليَّة وقدراتها الهائلة وحياتها الهنيئة، فهي دون العوالمِ الروحيَّة التي تشتملُ على السماوات. ذلك بأَنَّ الكائناتِ المجيدة في تلك العوالم الفردوسيَّة ما تزالُ في أَجسادٍ مادّيـَّة، مُتفاوتة في كثافاتها تفاوتَ درجاتها، لكنَّها لا تُماثلُ الأجسادَ الأرضيَّة. وقد حُدِّدَ لكائناتِ كلِّ درجةٍ روحيَّة الزمنُ الذي عليهم أَن يُمضوه في عالَمِهم قبل أن يُسمَحَ لهم الارتقاءُ إلى عالَمٍ يعلوه درجةً واحدة. لكنَّ رئيسَ الملائكة في الدرجة المئة والخمسين، وهو المُشرِف على ملايين العوالم الفردوسيَّة، بالرغم من وَعيِه التامّ لضرورةِ التقيُّد بالنظام الإلهيّ الذي يُشرِفُ على تطبيقه، وبالرغم من إدراكه أَنَّ كلَّ عملٍ له نتائجُه الروحيَّة واستيعابِه كلَّ معرفةٍ بالكون، طمحَ إلى الوصولِ العاجل للمعرفة الإلهيَّة المُطلقة، ولا سبيلَ إلى ذلك إلاَّ بدخول المُحيط الروحانيّ، أي العوالم الروحيَّة الإلهيَّة. وقد خُيِّلَ إليه أنَّ بقدرتِه أن يقتحمَ المُحيطَ الممنوع إذا حشدَ أَنصارًا له من جميع الدرجات الفردوسيَّة، واستخدموا ابتكاراتهم الفائقة. وهكذا تمكَّن من اجتذابِ كثيرين وحَشدِهم في مُحاولةِ اقتحامٍ جريئة للمُحيطِ الروحيِّ المحظور. لكنَّ معرفتَه الهائلة كان ينقصُها شيءٌ واحد هو معرفتُه ما يكمنُ في العقلِ الإلهيِّ المُدبِّر المُهيمنِ على الأنظمة الكونيَّة. وهكذا ما إن حاولَ الطامعون من ملائكةٍ وكائناتٍ سامية بمُحاولة تخطِّي التخومِ الزمانيَّة المكانيَّة لولوج ملكوت الكمال والمعرفة المُطلقة حتَّى تصدَّت لهم القدرةُ الإلهيَّة وأَهبطَتهم كتلةً واحدةً إلى الأرض، فكان آدَم. وبعد ألف سنة من مكوثه وحيدًا في الفردوس الأرضيّ، تُطيعُه حيواناته وتفهمُ حركاته، وتُؤنِسُ وحدتَه، استُلَّت منه سيّالاتُ حوَّاء (التي رُمِزَ إليها بضلعٍ من ضلوعه)؛ كما كان قد أُفرِدَ عن آدم سيَّالٌ آخَر  رتَّـبَت عليه مسؤوليَّتُه أن يتَّخذَ فيما بعد شكلَ حيَّة أَغرَت حوَّاء بأكل الثمرة المحرَّمة.

وقد علمتُ من مُؤَسِّس الداهشيَّة أنَّ الله–تعالى–شاءَ برحمتِه أن لا يضعَ آدمَ في المُستوى الأرضيّ مُخالِطًا للبشرِ مُعاصريه، الذين كانوا خاضعين للشقاءِ والآلام وغائصين في الجهل، بعد أن تقهقرَ العالَمُ حضاريًّا وتخلَّفَ تخلُّفًا كبيرًا على أثرِ الكارثة التي ضربَت قارَّةَ الأطلنتيد التي كانت تختزنُ أهمَّ التكنولوجيا والمعرفة والفنّ التي وصلَ البشرُ إليها عصرئذٍ، وذلك استحقاقًا من البشر لتلك النكبة التي حدثَت حوالى عشرةِ آلافِ سنة قبل المسيح؛ بل جعلَ آدم في "فردَوسٍ أرضيّ" هو في الأرض وليس منها، إذْ يستوي في الدرجة الأُولى من عوالمِ الفراديس. ورفعَت القدرةُ الإلهيَّة ذبذبةَ الفردوس، فحُجِبَ عن أنظار البشر. كما علمتُ أنَّ ذلك الفردوسَ ما يزالُ قائمًا، لكنْ يستحيلُ على الناس رؤيتُه؛ وأنَّه رُفِعَ الحجابُ عنه لإيليَّا النبيّ، وسُمِح له بأن يأكلَ من شجرةِ الحياة، ولذلك لم يمُت في الأرض بل هبطَت مركبةٌ كونيَّة فنقلَته إلى عالَمٍ آخَر.[12]   

وهكذا ميَّزَت العنايةُ الإلهيَّة آدمَ ثمَّ حوَّاء عن البشر في الأرض، وهيَّأت لهما سُـبُلَ العيش الهنيء لألفَين من السنين، بعدها تعودُ سيّالاتُهما إلى الفراديس العُليا التي هبطَت منها، ولكنْ شرطَ أن يتقيَّدا بالأوامر الإلهيَّة الجديدة، وهي ألاَّ يأكلا من شجرة معرفة الخير والشرّ التي ستُغلغلُ الشهوةَ الجنسيَّةَ فيهما إن فعَلا. لكنَّهما عصَيا المشيئةَ الإلهيَّة ثانيةً، وسقطا في التجربة، فعوقِبا بطردِهما من الفردوسِ الأرضيّ الذي سرعان ما حُجِبَ عنهما، فوجَدا نفسيهما في أرضٍ وحشيَّة بمُستوى البشر، وما لبثا أن خالطاهم، وشاركاهم في الأمراضِ والآلامِ والشقاء.

وفي رسالة روحيَّة موحاة ارتسمَت بصورة إعجازيَّة في جلسةٍ روحيَّة عقدَها مُؤسِّسُ الداهشيَّة بتاريخ 11/6/1943 وردَ أنَّ خَلقَ آدَم كان بدايةَ تكوينٍ بشريّ جديد هو التكوين الـسبعمئة والستِّين.[13] وبهذا الإيضاح تتميَّزُ الداهشيَّة عن سائر العقائد الروحيَّة، وتتَّفقُ مع العلم القائل إنَّ البشرَ كانوا في الأرض منذ ملايين السنين، لكنَّها تُؤكِّدُ استثنائيَّةَ خَلقِ آدَم، وتُشدِّدُ على أنَّ الأرضَ عرفَت قبله حضاراتٍ كثيرة انتهَى كلٌّ منها بفناءٍ شامل أو شبه شامل وَفقًا لاستحقاقِ البشر.

 

عواقبُ السقوطِ الثاني

ما زالت عواقبُ السقوط الثاني تتوالى سلسلةً مُحكَمةَ الحلقات. فمن "سِفر التكوين" نعرفُ أَنَّ قايينَ (قابيل)، بِكرَ حوَّاء، قتلَ أخاه هابيل حَسدًا. ثمَّ ولدَت حوَّاء ابنًا ثالثًا هو شيت. ومن نَسلَيْ قايين وشيت تناسلَت أجيالٌ وأجيال حتَّى زمانِنا هذا. لكنْ بمَن تزوَّجَ الابنان؟

يذهبُ شارحو "سِفر التكوين" إلى أَنَّهما تزوَّجا شقيقاتِهما. وإنَّما طرحَ الشارحون هذه الفرضيَّة لأنَّهم كانوا وما برحوا عاجزين عن تصوُّرِ صورةٍ أُخرى لزواجهما. أمَّا الحقيقةُ فقد أتَت بها التعاليمُ الداهشيَّة، وهي أنَّ قايين وشيت تزوَّجا ببعض بناتِ الناس مِمَّن اختلطا بهم. ومع كرور الزمن جعلَ ذَراريُّ الاثنَين يتـزاوجون كما يتزوَّجون بذراريِّ الناس حتَّى غلبَت سيَّالاتُ نسلِ آدم وحوَّاء على سيّالاتِ البشرِ الآخَرين.

وثمَّةَ حقيقةٌ أُخرى أزاحت التعاليمُ الداهشيَّة عنها الستار، وهي أَنَّ أفرادًا من سكَّان بعض العوالمِ العُلويَّة المتفوِّقة بحضاراتها مِمَّن يُشبهون البشرَ ببعضِ سِماتهم وخصائصهم، هبطوا إلى الأرض بسُفنٍ كونيَّة في فتراتٍ مُتفاوتة من الزمن، وعاشروا بعضًا من بنات البشر، فولدنَ منهم أولادًا. ولِذا جاءَ في "سِفر التكوين": "رأَى بنو الله (أو بَنو الآلهة) أنَّ بناتِ الناس حِسان، فتزوَّجوا منهنَّ كلَّ مَن اختاروا."[14] لكنَّ نسلَ آدم وحوَّاء عاد فغلبَ على نَسلِ الخارجين عن الأرض. وما كان ذلك ليتمَّ لولا سماحٌ إلهيٌّ.[15]

في هذا الضوء يُمكنُ أَن نفهمَ أَنَّ الأُصولَ الوراثيَّة الغالبة على البشر الذين عُرِفوا في التاريخ، وإن هي ارتقَت إلى آدم وحوَّاء، فقد خالطَتها سيَّالاتٌ مُتخلِّفة من البشر المُعاصرين لهما، كما خالطَتها سيَّالاتٌ متفوِّقة من سكَّان بعض الكواكب ذات الحضارات الراقية. وفضلاً عن ذلك فإنَّّ سيَّالات آدم وحوَّاء مُتفاوتة جدًّا في أُصولها الروحيَّة، فهي تنتمي إلى مئة وخمسين درجة فردوسيَّة هبطَت منها. وإذا كانت جميعُها قد استحقَّت العقابَ نفسَه والشقاءَ عينَه في لحظةِ طَردِ آدم وحوَّاء من الفردوس الأرضيّ، فإنَّ سيَّالاتِهما سرعانَ ما أَخذت تنفرزُ بعضُها عن بعض منذ أخذَت تنتقلُ إلى ذراريِّهما. ذلك بأنَّ مصيرَ كلِّّ إنسان رهنٌ بسيَّالاته، وبالتالي بأعماله ونزعاته وأفكاره؛ فبنشاطِها يرفعُ درجةَ سيَّالاتِه أو يخفضُها. كما هو رَهنٌ باستعداداته ومواهبه التي تحملُها سيَّالاتُه؛ وليست السيَّالاتُ الهابطة من مئات العوالم العُلويَّة المتفاوتة بدرجاتها مُتساويةً في استعداداتها ومواهبها. ولِذا يذكرُ "سِفر التكوين"، على سبيل المِثال لا الحَصر، أنَّ قايين بنى مدينةً سمَّاها باسم ابنه حَنوك؛ ويابال، الحفيدَ البعيدَ لقايين (الجيلَ السادس) كان أوّلَ من سكنَ الخيام ورعى المواشي. لكنَّ أخاه يوبال كان أوَّلَ مَن عَزفَ بالعود والمزمار، فيما كان توبال قايـين (أخوه من أُمٍّ أُخرى) أوّلَ مَن اشتغلَ بصناعةِ النحاس والحديد. ولم يُذكَر أنَّهم تعلَّموا ما برعوا فيه على يَدِ أحد. ولا شكَّ بأنَّ تنوُّعَ الاستعدادات والمواهب فيهم تعودُ إلى تنوُّع سيّالاتهم واختلاف أُصولها الروحيَّة.[16]

ولا شكَّ بأنَّ سيَّالات آدم كانت أرقى جدًّا من سيَّالات البشر المُعاصرين له. وسببُ ذلك، تبَعًا للتعاليم الداهشيَّة، أنَّها من جهة، هابطة من عوالمَ عُلويَّة، أي تحملُ من النـزعات والاستعدادات والمواهب ما لا تحملُه سيَّالاتُ أبناء الأرض، ومن جهةٍ أُخرى، اندمجَ بها سيَّالُ المسيح الفادي، ذو الدرجة العشرين في العالَمِ الروحيّ، ليُنقذَها ويهديَها على حسابِ آلامِه ومُعاناته الشقاءَ والاضطهادَ في عالَمِ الأرضِ الغريب عنه. ومن سيَّالات آدم التي حافظَت على صلاحها وتفوُّقها في ذراريِّه كان الأنبياءُ والرسُلُ والهُداةُ الروحيُّون، وكذلك الحكماءُ والعباقرة. ولِذا جاءَ في القرآن الكريم: )إنَّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالَمين، ذُرِّيـَّةً بعضُها من بعض واللهُ سميعٌ عليم(؛[17] كما جاء: )أولئك الذين أَنعمَ اللهُ عليهم من النـبـيِّـين من ذُرِّيـَّةِ آدَم. ([18] 

         

الطـوفـان

هل حدثَ الطوفانُ حقيقةً، أم إنَّها روايةٌ من روايات البشر الخياليَّة التي لا يُؤيِّدُها العِلم، خصوصًا أنَّ حكايةَ الطوفان وردَت في ملحمة جلقامش التي قد ترقى إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح؟ وإذا حدثَ، أَفلا يعودُ إلى أسبابٍ طبيعيَّة لا علاقةَ لها بأيَّةِ أسبابٍ روحيَّة؟

إنَّ الناسَ أحرارٌ في أن يعتقدوا ما يشاؤون. لكنَّ قصَّةَ الطوفان أكَّدتها الأديانُ الإبراهيميَّة الثلاثة، وأَعادت أسبابَها إلى فساد الناس وغضبِ الله عليهم. فالطوفانُ عقوبةٌ جماعيَّة ضربَت بها مشيئةُ الله العادلة مَن استحقَّ من البشر. والداهشيَّةُ تُؤيِّدُ رسائلُها الموحاة، مثلما سأبيِّن، ما أوضحَته الكتبُ المقدَّسة. كذلك سأُظهِرُ لاحقًا أنَّ العلمَ برهنَ مُؤخَّرًا أنَّ الطوفانَ حدثَ فِعلاً.

فذراريُّ آدَم لم تُحافظ جميعها على رُقيِّها الموروث. فنـزعةُ الحسَد والقتلِ التي أشعلَ قايينُ فتيلَها، امتدَّت نارُها بالوراثة إلى كثيرٍ من ذراريِّه. ولم تسلمْ ذراريُّ شيت من التدهوُر لاختلاطِها بالبشر، كما بنَسلِ قايـين. وليس علينا إلاَّ أن ننظرَ  إلى أَسباب الطوفان الروحيَّة وعواقبه حتَّى نرى أَنَّه قضى بالعقاب على كثيرٍ من السلالتَين، ولم ينجُ منه في أَرضِ حدوثِه إلاَّ نوحُ وعائلتُه.

فما إن تلاحقت الأجيالُ وتكاثرَت، بعد طردِ آدم وحوَّاء من الفردوس الأرضيّ، حتَّى دبَّ الفسادُ في البشر عامَّةً. فأرسلَ اللهُ إليهم نبيًّا يهديهم من سُلالةِ آدَم، هو نوح. لكنَّهم سخروا به وهزأُوا بتعاليمه وإرشاداته وإنذاراته. ولندَع روحَ النبيِّ ذاتها تتحدَّث عن ذلك الأمر الخطير والشرِّ المُستطير، وذلك في الرسالة الروحيَّة المُنـزَلة في الجلسة الروحيَّة الآنفة الذكر التي عقدَها مُؤسِّسُ الداهشيَّة في 11/6/1943. وسأُورِدُ منها ما لم يَرِد في "سفر التكوين". مِمَّا قالت روحُ النبيّ:

يا أَعزَّائي،

كنتُ قد قطعتُ خمسمئة كاملة من الأعوام عندما ناجاني الحقُّ آمِرًا إيَّاي أَن أَصنعَ لي ولأُسرتي فُلكًا كي أَنجوَ بواسطته من غضبِه الرهيب، لأنَّ الله رأى أنَّ البشرَ قد فسدوا وزاغوا عن طريقِ الحقّ. فقد شاهد أَعمالَهم الشرِّيرة وأفكارَهم السوداء التي لا تدورُ إلاَّ حولَ الدنيءِ من الأُمور.

لقد انتظرَ–سبحانَه تعالى عليهم–أَجيالاً طويلة، وهَداهم إلى طريقِه الصالحة. فما أَبِهوا، ولم يهتمُّوا بسوى قضاءِ لُباناتِهم الوضيعة، فحقَّ عليهم غضبُ السرمديّ.

أمَّا أَنا فقد انصعتُ للأَمرِ الإلهيّ بكلِّ ما عندي من قوَّةٍ ونشاط، وبذلتُ غايةَ ما يُمكنُني بذلُه في صُنعِ الفُلك. ودأبتُ على بنيانِه، يُساعدُني على ذلك أولادي الثلاثة، وهم سام، فحام، فيافث.

وقد صرفنا من الوقت في هذا السبيل مئةً من الأعوام، ولم تكلَّ لنا همَّة أو تفترْ لنا عزيمة...

وكان أبناءُ قومي–في خلال المئة عام التي كنتُ أجدُّ فيها ببناء الفُلكِ المُنقِذ–يأتون حيثُ أَعمل بمُساعدة أَولادي، ويتهكَّمون علينا، ولا ينفكُّون عن الاستهزاء والسخرية.

وقد ذهبَت أَقوالي لهم ونُصحي إيَّاهم أدراجَ الرياح... إذْ ما كانوا يُصغون لمواعظي وإرشاداتي، ولم يرتجعوا عن أعمالهم الوضيعة، بل نعتوني وأولادي بالمجانين الأغبياء والبُلهاء السخفاء. وكم من المرَّات حطَّموا لنا جوانبَ الفُلك! فكنَّا نُعيدُ بنيانَه بصبرٍ عجيب دون أن نتذمَّر.

وعندما أَصبحتُ ابنَ ستّمئة من الأعوام، اكتملَ صُنعُ الفُلك، وأُكمِلَ طَلـيُه  بالقار حسبَ الأمر المُعطى لي...[19]

وتتمَّةُ أحداث الطوفان معروفة في الكتاب المقدَّس. لكنْ من الحسَن أن أُوردَ بعضًا من خاتمة رسالة النبيّ نوح التي ارتسمَت بصورة خارقة، لأنَّ فيها تأكيدًا للسبـبيَّة الروحيَّة التي تحكمُ الأفرادَ والجماعات. قالت روحُ النبيّ مُخاطبةً الداهشيِّين:

يا أَحبَّائي،

هنيئًا لكم، وهنيئًا لِـَن يثبتُ إلى النهاية.

وهنيئًا لِـمَن يتغلَّبُ على التجارب ويسحقُها بموطئ قدَمَيه.

وهنيئًا لِـمَن يرفعُ عنه المُغرِيات التي ستعترضُ سَيرَ حياتِه.

وهنيئًا لِمَن يطعنُ بحربةِ إيمانِه ميولَه الضعيفة ويُميتُها وهي لا تزالُ في مهدِها، قبل أن يستفحلَ أمرُها وتقضي هي عليه بغدرِها وخيانتِها.

لقد عملتُ في حياتي صلاحًا، فكافأَني الله–جلَّ اسمُه–مُكافأةً لا يُمكنُني أن أصفَها لكم. أنا الآن في نعيمٍ مُقيم أُردِّدُ آياتِ التسبيح لخالِقِ البرايا معروفِها لديكم ومجهولِها، حتَّى تأتيَ ساعةُ معرفتِكم الأخيرة، فتحتقرون الأرضَ ومَن عليها، وتُباركون اسمَ الله– تعالى–وتمضي بكم الأجيالُ والآجالُ وأنتم مغمورون بنعيمٍ مُقيم. وإذْ ذاك تحيَون حياةً، يا للهِ ما أَبهاها!

أمَّا الأشرارُ الذين انقادوا إلى روحِ الشرِّ الرهيب، وأطاعوا رغباتِهم الدنيويَّة الفاسدة، فيا لَعذابهم! ويا لَبؤسهم وشقائهم! ويا للأجيال المُملَّة التي ستمضي وهم أبدًا في جحيمٍ مُقيم، وأتعابٍ فكريَّة وجسديَّة وروحيَّة مُضنية، مُذيبة، رهيبة![20]

أمَّا موقفُ العلمِ من حدوث الطوفان فقد تغيَّرَ جَذريًّا في أَواخر القرنِ العشرين. فقد عملَ عالِما الفيزياء الجيولوجيَّة البارزان وليام رايان W. Ryan ووُولتِر بـيتمان W. Pitman (وهما يعملان في مرصد لامونت-دوهرتي الأرضيّ التابع لجامعة كولمبيا) مع فريقٍ من عُلماء بلغاريا وروسيا وتركيَّا على دراسة البحر الأسود بأجهزة متطوِّرة، وكانت حصيلة دراساتهم أنَّ البحرَ المذكور كان بُحيرةً عذبةَ المياه، ثمَّ وقعَ حادثُ طوفانٍ رهيب، في أواسط الألف السادس قبل المسيح، جعلَ البحرَ المتوسِّط تعلو مياهُه عُلوًّا كبيرًا ثمَّ تنصبُّ في البوسفور ففي البحر الأسود بقوَّةٍ تُضاهي مئتَي ضعف قوَّة شلاّلات نياغارا، فتُحيلُه إلى مياهٍ مالحة. وقد عقبَ ذلك دمارٌ واسعٌ هائل في المنطقة كلِّها ونزوحٌ قَسريّ إلى مناطقَ أُخرى.[21]

وهكذا أثبتَ العلمُ أنَّ الوحيَ الدينيَّ صحيح، وأنَّ السَّبَبيَّةَ الروحيَّة عقابًا وثوابًا لا مفرَّ منها.

(للبحثِ صِلة في الأعداد المُقبلة)

 

 

[1] . تمكَّنَ المُؤَرِّخُ الإنكليزيُّ الكبير جوزف آرنولد توينبي J. Arnold Toynbee (1889-1975) من استشفاف التصميم الإلهيّ وراءَ ظهور الأديان الكُبرى في الأرض، وذلك بعد أن تُشرفَ المجتمعاتُ المتحضِّرة على الانهيار من جرَّاء فسادها الداخليّ. أنظر :

J. A, Toynbee. La civilization à l’épreuve (Paris: Gallimard, 1951), pp. 21-24.

وقبل توينبي بنحو ألف سنة استطاع العالمُ الفذُّ أَبو الريحان البيرونيّ (973-1048) أن يتبيَّنَ للحضارة أَدوارًا ما إن يُشرف كلٌّ منها على نهايتِه حتَّى يظهرَ نبيٌّ جديد ورسالةٌ جديدة تُجدِّدُ دمَ الحضارة في الأرض. أنظر:

H. Corbin. Histoire de la philosophie islamique (Paris: Gallimard, 1964), p. 210.

وحول فكر البيرونيّ، بصورة عامَّة، يُمكنُ مُراجعة العدد الخاصّ الذي أصدرَته منظَمةُ الأونسكو احتفاءً بذكرى ميلاده الألفيّ: "بريد الأونسكو"، عدد حزيران 1974.

[2] . إنجيل يوحنَّّا 1: 1-2؛ سورة آل عمران: 45 وسورة النساء: 171.

[3] . وردَ في سورة البقرة، الآية 38: )فتلقَّى آدمٌ من ربِّه كلماتٍ، فتابَ عليه. إنَّه هو التوَّّابُ الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعًا، فإمَّا يأتينَّكم منّي هُدًى، فمَن اتَّبعَ هُداي فلا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون. ( كذلك وردَ في سورة طه، الآية 123: )قال اهبطا منها جميعًا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ، فإمَّا يأتينَّكم منّي هُدًى، فمَن اتَّبعَ هُداي فلا يضلُّ ولا يشقى. (

[4] . سورة الكَهف: 109.

[5] . سورة لُقمان: 26.

[6] . سورة الرعد: 7.

[7] . إنجيل يوحنَّا 10: 9.

[8] . إنجيل يوحنَّا 14: 6.

[9] . إنجيل يوحنَّا 17: 14-18.

[10] . مِمَّا يسترعي الانتباه في كتاب مايكل هارْت "تراتبٌ للأشخاص الأكثر تأثيرًا في التاريخ" أنَّ تأثيرَ العُلماء الكبار في مجرى التاريخ الحضاريّ أكبر من أيِّ تأثيرٍ آخَر إلاَّ الأنبياء والهُداة الروحيِّـين، بصورة عامَّة. وبالرغم من أنَّ المؤَلِّف أوضحَ، في مقدّمة الكتاب، أنَّ ترتيبَه ليس مبنيًّا على سموِّ الأشخاص الروحيّ ونُبل أخلاقهم وقيمتهم الإنسانيَّة، بل على مدى تأثيرهم في مجرى التاريخ، فإنَّه لم يَجد مناصًا من وشعِ أسماء الرسول العربيّ والسيِّد المسيح وبوذا وكنفوشيوس وبولس الرسول في المرتباتِ الستِّ الأُولى، مُعطيًا إسحق نيوتن المرتبة الثانية. أنظر:

Michael Hart. A Ranking of the Most Influential Persons in History. N. Y.: A & W Pub., 1978.

[11] . الدكتور داهش: "التائه في بيداء الحياة" (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1980)، ص 40-41.

[12] .  مِمَّا علمتُه من مُؤسِّسِ الداهشيَّة أنَّ العالَمَ الذي انتقلَ إيليَّا النبيُّ إليه كان بمُستوى الأرض، لكنَّ جُرمَه كان مئةَ ألف ضعفٍ أكبر من الأرض، وكلّ شيءٍ أو كائنٍ فيه أكبر مِمَّا هو في الأرض آلافَ الأضعاف. وقد عاش إيليَّا في ذلك العالَم حتَّى حان مولدُ السيِّد المسيح، فتجسَّدَ في الأرض في شخص يوحنَّا المعمدان ليُمهِّدَ الطريقَ لسيِّد المجد. ولذلك أجاب يسوع تلاميذَه إذْ سأَلوه: "’لماذا يقولُ الكتبَة إنَّ إيليَّا يجبُ أَن يأتيَ أوَّلاً؟‘ فقال: ’أَجل، يأتي إيليَّا ويُصلِحُ كلَّ شيء. ولكنْ أَقولُ لكم: إنَّ إيليَّا قد أَتى، لكنَّهم لم يعرفوه، بل فعلوا به كلَّ ما أرادوا. وكذلك ابنُ الإنسان سيلقى منهم الآلام.‘ ففهمَ التلاميذُ، حينئذٍ، أَنَّه عنى بكلامِه يوحنَّا المعمدان" (متَّى 17: 10-13).

[13] . تجلَّت في هذه الجلسة الروحيَّة روحُ النبيِّ نوح، وأنزلَت في الرسالة الإعجازيَّة تفاصيلَ عن الطوفان. أنظر: حليم دمُّوس: "المُعجزاتُ والخوارقُ الداهشيَّةُ المُذهِلة" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 50-68.

[14] .  سِفر التكوين 6: 2. يزعمُ شارحو "سِفر التكوين" أنَّ أبناءَ الله هم أبناء شيت، وبناتِ الناس هنَّ بناتُ قايين، وذلك تهرُّبًا من إقرارهم بحقيقة وجود بشرٍ مُعاصرين لآدم وحوَّاء.

[15] . أنظر الدكتور داهش: "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1 (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، "الكوكب فومالزاب"، ص 212.

[16] . سفر التكوين 4: 17-22. هل من المعقول أن يبني قايين مدينة، بل حتَّى قرية، إن لم يكن حوله أُناسٌ بالآلاف أو بالمئات، على الأقلّ، سيسكنون فيها؟ ومَن علَّمَه فنَّ البناء؟ إنَّه استعدادٌ في سيَّالاته الهابطة من عوالمَ راقية. وكذلك أحفادُه مِمَّن كانوا أوَّلَ مَن زاولوا فنونًا معيَّنة، ما كانوا ليبرعوا في تلك الفنون لو لم يُمنَحوها من قبل.

[17] . سورة آل عمران: 33.

[18] . سورة مريم: 58.

[19] . حليم دمُّوس: "المُعجزاتُ والخوارقُ الداهشيَّةُ المُذهِلة" ، ص 58-59.

[20] . المصدرُ السابق، ص 66-67.

[21] . يذهبُ شارحو الكتاب المقدَّس إلى أنَّ الطوفان بدأَ في ما بين النهرَين وعمَّ العالَم وقضى على كلِّ نسمةٍ حيَّة. ولكنّي علمتُ من مُؤسِّس الداهشيَّة أنَّّه عمَّ معظم منطقة الشرق الأوسط وكثيرًا من بلدان البحر المتوسِّط، ولكنَّه لم يقضِ على كلِّ حياةٍ في الأرض. أمَّا تاريخُه فهو أواسطُ الألف السادس قبل المسيح؛ وهذا ما أكَّده عدَّةُ علماء حديثًا. أنظر:

William Ryan & Walter Pitman. Noah’s Flood: The New Scientific Discoveries About the Event that Changed History. New York: Simon and Schuster, 1998.