info@daheshism.com
من وحي التعاليم الداهشيَّة

من وحي التعاليم الداهشيَّة

سليم قمبرجي

ما يضمُّه هذا الكتاب بين دفَّتيه من موضوعاتٍ كالعدالة الإلهيَّة، و التقمُّص، و الوعي الفكريِّ، النفس ، و الطبيعة و عبث الإنسان بها... إنمَّا هو حصيلةُ تأمُّلاتٍ شخصيَّة في بعض التعاليم الداهشيَّة توخَّيتُ بها إعطاءَ القارئ فكرةً مُوجَزة عنها.

Table of Contents:

إهداء

تمهيــــــد

بماذا تتميَّز الرسالة الداهشيَّة

الدكتور داهش وحقيقته الروحيَّة

رحلةُ العمر في رِفقة الدكتور داهش

تأَمُّلاتٌ داهشيَّة في جّدْوى الرسالات السماويَّة

مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة

خلاصةٌ في أَهَمِّ مبادئ التقمُّص

في الهندوسيَّة

البوذيَّة

الموحِّدون أَو الدروز

التقمُّص في اليهوديَّة و المسيحيَّة و الإسلام

اليهوديَّة 

المسيحيَّة

الإسلام

مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة

خاتمة

العدالة الإلهيَّة و الإستحقاق الروحيُّ في العقيدة الداهشيَّة

الطبيعة و عَبَثُ الإنسان بها

التصوُّر الداهشيُّ للنفس

لمحةٌ عن معنى النفس في اللغة العربيَّة

The Soul

نُبذة داهشيَّة عن قصَّة الهبوط وخَلْق آدم

بَعث الأَنبياء والتلقيح السماويُّ لهداية العالَمِين

النفس عند فلاسفة العرب

الوعي النفسيُّ أَو الConsciousness في اللغة الإنكليزيَّة

النفس في العقيدة الداهشيَّة

ممَّ تتكوَّن النفس؟

الوعي الفكريُّ

الوعي الفكريُّ و أَهمِّيَّتُه في العقيدة الداهشيَّة

علاقة قوى الوعي الفكري بالسيَّالات

علاقة الأَشياء المادِّيَّة بقوى الوعي الفكري

هل المظاهر المادِّيَّة في حقيقتها المجرَّدة نوعيَّاتٌ و مستوياتٌ مختلفة؟

هل للقوى الفكريَّة الروحيَّة وجودٌ منفصلٌ عن ارتباطاتها المادِّيَّة؟

هل الوعي الفكري أَو قوى التمييز بين الخير و الشرِّ فطريَّة في النفس

ملحق توضيحي على حقيقة السيَّالات في العقيدة الداهشيَّة

 

إهداء

إهداء

إلى الرجل الذي جدَّدَ إيماني بالله تعالى،وبمراحمه العميمة وطرقه العادلة ورسالاته السماويَّة.

إليه الذي أذكى في نفسي مشاعل الأمل والعزاء بعدما كدتُ أفقد الإطمئنان الى مما في الحياة من قساوة ومظالم ومنغِّصات,

إلى الرجل الذي حارب الفساد والشرور والرذيلة في كلِّ أشكالها وأنواعها بثبات وعزيمة وعناد,

إلى الرسالة السماويَّة المجيدة التي أتى من أجلها وجاهد وأضطُهِدَ بسببها,

إلى القيم والمبادىء الروحيَّة السامية التي عاش من أجلها وأوقف حياته كلّها عليها,

إلى الدكتور داهش أُهدي هذا الكتاب.

سليم قمبرجي

Return to the Top

 

تمهيــــــد

تمهيــــــد

 

ما يضمُّه هذا الكتاب بين دفَّتيه من موضوعاتٍ كالعدالة الإلهيَّة، و التقمُّص، و الوعي الفكريِّ، النفس ، و الطبيعة و عبث الإنسان بها... إنمَّا هو حصيلةُ تأمُّلاتٍ شخصيَّة في بعض التعاليم الداهشيَّة توخَّيتُ بها إعطاءَ القارئ فكرةً مُوجَزة عنها.

هذه التأّمُّلات استُوحِيَتْ، في الدرجة الأُولى، من إيماني بالعقيدة الداهشيَّة منذ عام 1963. و هذا يَعني أنَّ الآراء المُدَرجَة في هذا الكتاب ناشئةٌ من " انغماسي" النفسيِّ و الروحيِّ في كلِّ ما يتعلَّق بهذه العقيدة، سواءٌ تحصَّل لي ذلك من مُطالعة مؤلَّفات الدكتور داهش المتعدِّدة المتنوِّعة أو ممَّا أُتيح لي الاطِّلاعُ عليه من رسائلَ روحيَّةٍ كانت تُوحى إليه أو ممَّا تَسَقَّطْتُهُ منه مباشرةً أو نقلاً عن رواةٍ ثِقات. زدْ على ذلك كلِّه ما استخلصتُه من معاني بعض الظاهرات الروحيَّة التي كانت تجري على يدَيه.

و لقد حاولتُ ، تعزيزاً لتلك التأَمُّلات ، ربطَ المفاهيم الداهشيَّة بما وردَ في الكتب المقدَّسة، و لا سيَّما الإنجيل المقدَّس و القرآن الكريم؛ كما حاولتُ ربطَها بما بات العِلمُ يتحدَّث عنه في هذا الشأْن من خلال اكتشافاته الحديثة. و مع ذلك كلِّه، فلا يَسعُني إلاَّ أَن أُصارحَ القارئَ  بأنَّ ما توصَّلتُ إليه من قناعاتٍ و استنتاجاتِ لا يَعدو الاجتهادَ الشخصيَّ الذي لا يُلزِم أحداً ، سواءٌ أَكان فرداً ام مؤسَّسة.

إنَّ الرسالة الداهشيَّة، بوجهٍ عامٍّ، تَمُدُّ المرءَ بالمبادئ و القواعد العامَّة التي يسهلُ على الجميع فَهمُها و اعتناقُها. و لكنَّ فيها أَيضاً موضوعاتٍ عميقةً لم توضَّحْ تماماً ، و ذلك إمَّا لصعوبةِ فهمها و إمَّا لاقتضائِها قَدْراً كافياً من الاستعداد الفكريِّ و النفسيِّ و الروحيِّ. و لذلك لا يَبعدُ أَن يقعَ الاختلافُ على تفسيرها، فيؤوِّلُها كلُّ امرئٍ بحسب قناعته و مستواه النفسيِّ، فلا تُحمَل على درجةٍ واحدة من القبول و اليقين عند الجميع.

لقد كان الدكتور داهش، مؤسِّسُ العقيدة الداهشيَّة، يوضِّح ، أحياناً، لبعض الإخوة و الأَخوات أُموراً روحيَّة لا يتيسَّرُ فهمُها لعامَّة الداهشييِّين، و ذلك انسجاماً مع المبدأ القائل إنَّ الحقائق الروحيَّة لا تُعطى كاملةً للناس أَجمعين لأنَّهم يختلفون من حيث مستوياتُهم و خصائصُهم النفسيَّة و الروحيَّة ( أو سيَّالاتُهم ، بحسب الُمصْطَلَحِ الداهشيِّ.)

و الواقع أَنَّ حَجْبَ بعض الحقائق الروحيَّة و عدمَ توضيحها لا يقتصران على الرسالة الداهشيَّة فحسب. الرسالات السماويَّة الأُخرى تحتوي كُتُبُها المقدَّسة على أُمورٍ لم توضَّحْ في حينها، و ما تزال حتَّى اليوم عُرضةً لشتَّى ضروب الاجتهاد و التأْويل. السيِّد المسيح، له المجد، قال لتلامذته:" إن كنتُ حدَّثتُكم بأُمور الأرض و لم تؤمنوا، فكيف تؤمنون إنْ حدَّثْتُكم بأُمور السماء؟"( يوحنا 3: 12) و لمَّا أَلحَّ على النبيِّ العربيِّ الكريم بعضُ صحابته ليوضِحَّ لهم حقيقة الروح، نزلَت الآيةُ الكريمة:"و يسأَلونك عن الروح ، قُل الروح من أَمر ربِّي، و ما أُوتيتم من العِلم إلاً قليلاً".(الاسراء 85).

جُملةُ القول إِنَّ الرسالات السماويَّة جمعاء لا تخلو من أُمورٍ تحتملُ التأْويل و الاجتهاد و إنَّ كلَّ مؤمنٍ  يفهم تعاليمَ دينه من خلال زاويته الخاصَّة، و من خلال قناعاته النفسيَّة و مُستوى سيَّالاته الروحيَّة.

بالإضافة إلى ذلكَ كلّه فإن المقالات المُدْرَجَة في هذا الكتاب تحتوي على الكثير من الشروحات و المفاهيم الخاصَّة بالعقيدة الداهشيَّة غير الموجودة في سِواها، كمفاهيم السيَّالات الروحيَّة و الثواب و العقاب تلك المفاهيم التي يتحمّلها كل كائن بالنسبة  لأفعاله و أفكاره ووجود الوعي الفكري و النفسيّ عند جميع الكائنات و غيرها من الشروح و المفاهيم التي لا يستطيع القارئ الغير مُلمْ بالتعاليم الداهشيَّة أن يتتبّعها بِيُسر ، بينما قد يجدها القارئ الداهشيّ المتفهم لعقيدته سهلة الشرح و الوضوح.

                *              *              *

تنطوي مُعالَجَةُ الموضوعات في هذا الكتاب على تشابُهٍ كبير. ورُبَّما أَخَذَ عليَّ بعضُهم الاسهابَ و التكرار على أَنَّني أُشير منذ البداية إلى أنَّ السببَ هو تداخُلُ المفاهيم الداهشيَّة بعضِها ببعض و ترابُطُها، الأَمر الذي يؤدِّي إلى شيءٍ من التَّرداد سواءٌ في خلال المُعالجَة أَو في الاستنتاج. الاعتقادُ الداهشيُّ، مثلاً،أَنَّ الكائنات جميعها  تتمتَّع بالوعي. و الادراك النفسيِّ إنَّما يَستلزِمُه قانونُ التقمُّص الذي يؤمن به الداهشيُّون إِيمانَهم بالله، عزَّ و جلَّ. التقمُّص، عند الداهشيِّين ، قانون يشملُ الكائناتِ كافَّةً. فإذا كانت قوى الوعي النفسيِّ ( أَو ما تدعوه الداهشيَّة سيَّالات) تنتقل ، وفقاً لقانون التقمُّص، بين جميع الموجودات بلا استثناء ، فقد لزمَ أَنَّ الحيوان و النباتَ و الجماد موجودات تتحلَّى ، هي أيضاً بما يتحلَّى به الإِنسان من وعيٍ و إدراك. هذه الحقيقة تحفلُ بها مؤلَّفاتُ الدكتور داهش، و لا سيَّما قصصه المُلهَمة، و تؤكِّدها تأْكيداً قاطعاً . ومن النافل القول انَّ الإيمانَ بالتقمُّص يقودُنا أَيْضاً إلى الإيمان بخلود النفس و عدمِ فنائها بفناء الجسد.

و فضلاً عن ذلك، فإنَّ التعاليم الداهشيَّة تقول إنَّ قانون التقمُّص يستوجبُه مبدأُ العدالة و الاستحقاق الروحيِّ( أو ما يمكن اختصارُه بمفهوم السببيَّة الروحيَّة) . فمَن يُسفِّلْ سيَّالاتِه باقترافه المعاصي يتقمَّصْ ، حينَ توافيه المنيَّة ، نوعاً من أَنواع المخلوقات و حالةً تجسُّديَّة يستحقُّهما ، أُسوةً بما جاء في القرآن الكريم عن فئةٍ من الناس سفَّلَتْ نفوسَها(أَو سيَّالاتها)، فغضبَ الله، عزَّ و جلَّ، عليها فمسخَها قِرَدَةً و خنازير: ( مَن لعَنَه الله و غضبَ عليه و جعلَ منهم القِرَدةَ و الخنازير...) ( المائدة 60) و عليه ، فإنَّ النوعَ المُتقَمَّص و الحالةَ التجسُّديَّة مرتبطان بالسببيَّة الروحيَّة. و السببيَّة الروحيَّة تشملُ ، في ما تشمل، العدالة الإلهيَّة التي تحاسبُ كلَّ مخلوقٍ بما يستحقُّه بالنسبة إلى أَفعالِه و أَفكاره.

زدْ على ذلك أَنَّ السببيَّة الروحيَّة ترتبطُ ، هي أَيضاً ، بسيَّالات المخلوقات كافَّةً، فتفعلُ فيها و تسبِّبُ لها ما تُسبِّبُه من أُمور و أَحداث، سواءٌ في دَورِ حياةٍ واحدة أَو أَدوارٍ مُتعاقِبة، تبعاً لاختلاف سيَّالاتها و ما بلَغَتْه من مستوياتٍ نفسيَّة، سُمُوًّا أَو انحطاطاً . و هي ( أي السيَّالات) ستبقى أَسيرةَ سجونها المادِّيِّة المُمِلَّة التاعسة ريثما تتحسَنُ تحسُّناً روحيًّا كبيراً ، فتتحرَّر عندئذ كلِّياً من مِحَن تقمُّصاتها المادِّيَّة و آلامِها لتعاود الرجوع  إلى عوالم الروح التي انبثقت عنها. و هكذا إذا استطاع القارئُ أَن يستوعبَ، و لو بصورةٍ مُبسَّطةٍ، مفهوم السيَّالات الذي جاءتْ به التعاليمُ الروحيَّة الداهشيَّة، و إذا استطاع أَن يُدرِك ماذا تعني كلمة سيَّالات و إلامَ تُشير الداهشيَّة حينما تتحدَّث عنها و كيف تتَّخذُ السيَّالاتُ الحالاتِ المادِّيَّة الآنيَّة التي تستحقُّها و كيف تعمل و تتحرَّك و تؤثِّر في الأَشياء و الأَحداث- إذا استطاع القارئُ ذلك، فانَّه يكون قد قطعَ شوطاً بعيداً في فهم التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة. و عندئذٍ يَجدُ أَنَّ المبادئَ الداهشيَّة هي في الحقيقة نظامٌ متكامل من القوانين الروحيَّة المترابطة المتجانسة، يتَّصل بعضُها ببعضٍ اتِّصالاً منطقيَّاً وثيقاً . و هي، إلى ذلك ، مبادئُ جميلةٌ غيرُ عسيرةِ الفهم، يعشقُها مَن يفهمُها و يستوعبها.

                *              *              *

و قد يأْخذُ بعضُهم عليَّ استخدامي مُصطَلَحاتٍ لا توافق المعنى الدقيق الذي أَقصدُه ، كاستخدامي كلمة " الوعي الفكريّ" مثلاً ، للدلالة على القوى الفكريَّة الروحيَّة العاقلة في الانسان مما يدعوه الداهشيون بالسيَّالات الفكريَّة القادرة على التسفّل و الرقي الروحيّين. هذه السيَّالات التي يستطيع بواسطتها الإنسان أن يقيّم الأمور و يميّز بين أفعال و رغبات الخير من الشر، و بين الصحيح و الخاطئ من الأمور و الأَشياء و المفيد و الضار من الأعمال. و الحق أني عقدت العزم على استخدامِ كلمة ( الوعي الفكريّ) بعد طول تأمّل و تردّد و استشارة يبرِّر ذلك عندي أن لنشاط القوى النفسيَّة جذوراً أو أصولاً فكرية. أفليست السيَّالات  الفكرية هي التي تحرّك المشاعر و الأحاسيس في النفس و تولد الميول و الرغبات و الغرائز السفليّة فيها؟

فمن أين تأتينا الميول و الرغبات و النزعات التي تعتلج فينا؟ و كيف نحدّدها أو نصِفُها؟ و بأيَّة مفاهيم و مقاييس ندركها و نتحكَّم بها؟ أليس أفضل ما نحدّد به تلك الحالات هو الأفكار؟ أليس بالأفكار و بالأفكار وحدها، نستطيع أن نكبح أو نؤجج ما ينتابنا من ميول سفلية كالطمع و الحسد و التكبّر و الكذب و السرقة والنميمة و الاعتداء و ما إليها؟...

و لقد عزَّز اعتمادي ايَّاها أن مؤسِّس الداهشيَّة استخدمها لوصف المشاعر السفليَّة ( السيَّالات السفليَّة) التي تراودنا من حينٍ إلى آخر، فهو يخاطب الباري، عز وجلَّ، في ابتهالاته الخشوعية قائلاً:" أبعد عنَّا الأفكار الدنيئة، و لا تجعلها تقرب منّا ..."

كل هذه الامور تجعلني اقول بان قوى الوعي الفكري أو السيَّالات الفكرية هي السيَّالات الأساسية في الكائنات، و في سموّها و انحطاطها الروحِيَّيْن الفكريَّيْن ، تتنوّع و تتقرّر الأمور و الأشياء(1).

و مما قد يُؤْخَذ عليّ الالتباس الناشئ عن استخدامي كلمة روحيّ او روحيَّة في مواضع مختلفة من الكتاب، والحقيقة ان الالتباس ناشئ عمّا تتَّخِذْه الكلمةُ نفسُها على أقلام الكُتَّاب من معانٍ مختلفة؛ فهي تعني حيناً ما هو سماويٌّ أو عُلويٌّ او سامٍ، و حيناً ما يَنْجُم عن المشيئة الإلهيَّة . و قد تعني الجانبَ الثقافيَّ أو الفكريَّ أو الخُلقيَّ من المجتمع، كما تعني أيضاً الجانبَ النفسيَّ غيرَ المحسوس في الكائنات الحيَّة – و في رأْسِها طبعاً الإنسان. و أَنا ، عندما أَتكلَّمُ ، مثلاً ، على السببيَّة الروحيَّة أَو الأَفكار أَو السيَّالات الروحيَّة، فإِنَّما أَقصدُ هذا المعنى الأَخير، أَي الحالات النفسيَّة و الفكريَّة غيرَ المحسوسة. لا عند الإنسان فحسب بل في الأَشياء أَو الكائنات المادِّيَّة كلِّها، بصرف النظر عمَا سبَّب تلك الحالاتِ: هل هي ناجمةٌ عن مشيئةٍ سماويَّة أَم مشيئةٍ إنسانيَّة؛ و بصرف النظر عن مستوى تلك الأَفكار أَو السيَّالات : هل هي عُلويَّة أَم سُفليَّة. و عليه، فقد جاز القول ، مُجاراة لِما نقلَه الشاعر الداهشيُّ حليم دمُّوس من شروحٍ روحيَّة:؟" الظُّلم سيَّالٌ روحيٌّ درَّاكٌ مريدٌ مسؤول." فقد استُخدِمَتْ كلمة "روحيّ" هنا في وصفِ سيَّالٍ سُفليّ؛ أَو ، في تعبيرٍ آخر، لقد استُخدِمَتْ بمعنىً وجوديٍّ أَو كينونيٍّ  ، لا بمعنىً تراتُبيٍّ أَو تقويميٍّ.

أَخيراً ، لا يَسَعُني إِلاَّ أَن أُقدِّم شكري و امتناني إلى الصديق الأديب السيِّد طوني شعشع الذي كان له فضلٌ كبيرٌ في مُثابَرتي على تأْليف هذا الكتاب و في ضبط مقالاته لغوياًّ، الأَمر الذي أَسهمَ في توضيح بعضِ ما كان مُلتبِساً. كما أَشكر كلَّ مَن اهتمَّ بمواضيع هذا الكتاب ، و زوَّدَني بملاحظاته .

Return to the Top

 

بماذا تتميَّز الرسالة الداهشيَّة

 

بماذا تتميَّز الرسالة الداهشيَّة

عن سائر الرسالات الروحيَّة(2)

 

أُهَنِّئُ الإخوة و الأَخوات بمناسبة عيد رأْس السنة الداهشيَّة . و أُهنِّئُهم أَيضاً بافتتاح المكتبة الداهشيَّة في نيويورك , قلبِ أميريكا النابض؛ هذه المكتبة التي سوف تكون , بإذن الله تعالى , مكتبةَ معرفةٍ و نورٍ داهشيٍّ, و مركزاً من مراكز انطلاق رسالتنا العظيمة , هذه الرسالة السماويَّة التي لم يُقدِّرْها حَقَّ قَدْرها وطنُنا العربيُّ التعيس , فلجأَتْ الى أميريكا لتُسمع  صوتَها البهيّ , و لتنطلقَ منها الى جميع أَرجاء العالَم , بإذن الله.

فهنيئاً لكم عقيدتُكم هذه التي ميَّزَها الله عن غيرها من الرسالات الروحيَّة , و التي لو لم تستحقُّونها لَما عرَّفَتْكم بنفسها , و لَما دَنَتْ منكم لتنفحَكم ببعضٍ من جمالها و كمالها.

و قد يسأَلُنا سائل: بماذا تتميَّزُ رسالتُكم عن سواها من الرسالات السماويَّة ؟ و ما هي التعاليم الداهشيَّة الجديدة التي أَتتْ بها لتوضِّحَ ما سكَتَتْ عنه الرسالاتُ السابقة؟

هذه الأسئلة كثيراً ما سمعتُها تُطرَح على مسامع الداهشيِّين فكان مؤسِّسُ الداهشيَّة    وبعضُ أَشياعِها يُجيبون عنها بالقول إِنَّ عقيدتَهم   هي رسالةُ محبَّةٍ و فضيلة و إخاءٍ بين الناس, و إِنَّها تحضُّ على مزاوَلة الخير , فتأْمر بطاعة الله و خشيته و العملِ بوصاياه و الإبتعاد عمَّا نهى عنه, و اِِنَّها ( أَي الرسالة الداهشيَّة ) جاءتْ لتؤكدَِّ وحدةَ الأَديان المنزَلَة , فتدعو الى الإيمان الراسخ بها و العملِ الصادق بروح تعاليمها . فهي تحثُّ المُسلِم على التقيُّد التامِّ بروح دينه الحنيف, و تطلبُ من المسيحيِّ الالتزامَ الصادق بتعاليم السيِّد المسيح و إنجيله الكريم , و تدعو الموسويَّ الى العمل المنَّزه بشرائع موسى الكليم , تقول لغيرهم من أَتباعِ مختلف الِملَل: اعملوا بإخلاصٍ بروح تعاليم دياناتكم.

تلك الاجابات التي كانت تُرَدَّد عن قصدٍ على مسامع السائلين عن حقيقة الرسالة الداهشيَّة , مع أَنَّ فيها كثيراً من الصحَّة , تظلُّ ناقصةً , و لا تُعطي العقيدةَ حقَها الكامل من السموِّ و الغِنى الفكريِّ. و مع هذا , فقد كان لتلك الإجابات ما يبرِرُّها في السابق بسبب الظروف الاجتماعيَّة و الحياتيَّة المتزمِّتة التي نشأَتْ فيها الرسالةُ الداهشيَّة , و التي كان يعمل و يعيش فيها الدكتور داهش و أَتباعُه ؛ أعني البيئةَ العربيَّة المنغلِقة على نفسها فكريَّاً , و المناهضة لكلِّ فكرٍ و انفتاحٍ روحيَّين جديدَين.

فبسبب العداء السافر الذي جابَهَتْ به السُّلُطاتُ اللبنانيَّة و رجالُ الدين  الدكتور داهش و أَنصارَه ظُلماً و عدواناً , فضلاً عن التعصُّب الدينيِّ المُستشري في الأَوساط اللبنانيَّة , و الذي كانت تُزكِّيه المؤسَّساتُ و المَحافلُ الدينيَّة , سواءٌ منها المسيحيَّة أَو الإسلاميَّة , قضَت الظروفُ على الداهشيِّين في لبنان و الأقطار العربيَّة أن يتكلَّموا على رسالتهم مع الآخرين أَحياناً كثيرةً في حَذَرٍ كبير, و أَحياناً بأَساليبَ غيرِ مباشرة توافق عقليَّة السامعين و مزاجَهم.

تلك العوائق كانت من جهة. أمَّا العوائق الأُخرى التي حملَتْ مؤسِّس الرسالة و أَتباعَه على أَن يحدِّثوا الآخرين برسالتهم في كثيرٍ من التحفُّظ و التبسيط, فترجعُ أَيضاً الى أَنَّ الرسالة الداهشيَّة أَتَتْ بتعاليمَ روحيَّةٍ جديدة بعضُها غريبٌ غيرُ مأْلوفٍ عند الناس في ضوء خبراتهم و مفاهيمهم , و بعضُها الآخر يصعبُ تفسيرُه لأَبعاده العميقة , الأَمر الذي يتطلَّب قَدْراً من النُّضج الروحيِّ لاستيعابه.

التعاليم الداهشيَّة , على سبيل  المثال, تؤمن إيماناً قاطعاً بأَنَّ الكائنات في العوالم كافَّةً تنطوي على مَلَكاتِ وعيٍ و إدراك تستطيع بها التمييزَ بين الخير و الشرِّ. و تعتبر التعاليم الداهشيَّة أَنَّ الوعي و الإدراك , على اختلاف درجاتهما و مستوياتهما , أَصلُ تنوُّع الأَشياء. وهناك أَيضاً شروحٌ صعبةٌ تتعلَّق بالسيَّالات في شِقَّيها المادِّيَّ و الروحيَّ, و شروحٌ عن السببيَّة الروحيَّة و سواها من التعاليم الروحيَّة العميقة التي كان الدكتور داهش أحياناً يشرحُ قسماً منها لبعض تلامذته دون سواهم.

تلك التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة كان من الصعب تقديمُها و شرحُها للآخرين بدون الإستدعاء و التمهيد النفسيَّيْن لها.و قد كان الدكتور داهش , لِما يتمتَّع به من حكمةٍ وذكاء, يعمل, و يُوصي أَتباعَه بأَن يعملوا , بالمبدأ القائل :" الويل لمَن يُحاول تعليمَ الناس فوقَ ما تتحملَّ عقولُهم". كان الدكتور داهش و تلامذتُه , بوجهٍ عامٍ , يخاطبون الناس وفقَ مداركهم , و على قدر ما تتحمَّلهُ نفوسُهم .

لهذه الأَسباب لم يكنْ من السَّهل على الداهشيِّين أن يُعلِنوا للملإ بكلِّ وضوحٍ أَنَّ عقيدتَهم هي رسالةُ العصر الحديث و قد جاءَتْ مؤيَّدةً من السماء لتطرح جانباً ما تراكم من القشور و العادات الدينيَّة البالية التي تُسيءُ الى روح التعاليم السماويَّة ,و أَن يقولوا للناس إِنَّ رسالتَهم جاءَتْ بمفاهيمَ جديدة لم تُوضَّحْ من قبل , و لم يُكشَف النِّقابُ عن أَسرارها في الرسالات السابقة.

لم يكنْ من اليسير على الداهشيِّين و هم في بيئَةٍ تفشَّى فيها التعصُّبُ الدينيُّ و تسلَّط عليها رجالُ الدين أَن يقولوا للسائلين من مسيحيِّين و مُسلمين و غيرهم إِنَّ جميعَ تعاليم الديانات المُنزَلة المُعطاة لهم , بما في ذلك التعاليمُ الداهشيَّة , لا يمكن أَن تمثَّل , منفرِدةً أو مجتمِعةً , إلاً البعضَ القليل من الحقائق الروحيَّة , و إِنَّ هذه الحقائق التي أُعطِيَتْ للبشر حتَّى الآن , تَأْتي على درجاتٍ مختلِفة من الرقيِّ و التفاوُت الروحيِّ العامِّ للناس الذين هبطَتْ من أجلهم , أَي القريبة من خصائصهم النفسيَّة بوجهٍ عامٍّ .

فشرائعُ موسى القائلة : " السنُّ بالسنِّ , والقاتلُ يُقتَل , والزاني يُرجَم " هي على سبيل المثال , مفاهيمُ إنتقامٍ روحيَّة كانتْ قريبةً من نفسيَّة شعب موسى ومن مستواه الروحيِّ . وتصوُّر الجنَّة والنار ومقاتلةُ أَعداء اللّه وتعدُّدُ الزوجات هي مفاهيمُ وتشريعاتٌ كانت تناسبُ طبائعَ عرب البادية , وتنسجم مع خصائصهم النفسيَّة . وكذلك الأَمر بالنسبة الى تعاليم المحبَّة والرحمة والغفران والتساهل التي نادى وبشَّر بها سيِّدُ الأَطهار , له المجد ؛ فهي أَيضاً مبادىءُ رحمةٍ وغفرانٍ روحيَّة كانت قريبةً ممَّا اتَّصف به تلامذةُ السيِّد المسيح وأَنصارُه من نفسيَّةٍ وخصال .

ومع هذا , فإنَّ جميعَ تلك المفاهيم والمبادىء الروحيَّة , وإِن بدَتْ مختلِفَةً في مستوياتها وما تُعوِّلُ عليه , فإنَّها تنبعُ من مصادر الحقائق الروحيَّة الواحدة , وتُشكِّل منفردةً أو مجتمعةً , أَجزاءً من المعرفة الروحيَّة الشاملة .

والحقائق الروحيَّة التي جاءتْ بها الدياناتُ السماويَّة لتكشفَ بعضَها هي حقائقُ غيرُ محدودة ؛ حدودُها اللّه , جلَّ جلاله , وقوانينُها كالقوانين الطبيعيَّة موجودةٌ منذ الأَزل , لا تغيُّرَ فيها ولا تبديل , وإنَّما يُماطُ اللثامُ عن بعض حقائقها تدريجيّاً بحسب الرقيِّ والأستحقاق الروحيِّين .

وكما إنَّ القوانينَ الطبيعيَّة لا يتمُّ إكتشافُها إلاّ بالتدرُّج , بحسب التطوُّر العِلميِّ , كذلك الأَمر بالنسبة الى الحقائق الروحيَّة ؛ فهي أَيضاً لا يتمُّ الكشف  عنها إلاَّ بالتدرُّج , وبحسب الرقيِّ الروحيِّ . والحقَّ أَنَّ القوانينَ الطبيعيَّة والقوانينَ الروحيَّة في العوالم المادِّيَّة توأَمان لا ينفصمان , بعضُهما مرتبِطٌ بالآخر .

وكما إنَّ القوانين الطبيعيَّة هي الضوابطُ والثوابتُ للجوانب المادِّيَّة من السيَّالات ( بمعنى أنَّها القوانينُ المتعلِّقة بالشكل الخارجيِّ للكائنات ) كقوانين الجاذبيَّة والحركة والتماسُك النوويِّ وغيرِها , كذلك الأَمر بالنسبة الى القوانين الروحيَّة ؛ فهي الضوابطُ والثوابتُ للجوانب الروحيَّة من السيَّالات , أَي أنَّها القوانينُ التي هي علَِّةُ التغيُّرات والتبدُّلات والتنوُّعات والبعث والفناء وما يطرأُ على الكائنات من أَحداثٍ وأَحوال .

وقوانينُ الطبيعة والحياة لا تَهبُ أَسرارَها جُزافاً لِمَن   لا يستحقُّها ؛ فهي تمنحُها , على درجاتٍ مختلفة , لِمَن استحقَّها وسعى إليها بالعِلم والرقيِّ الروحيِّ . وقد أَكَّدَت الظاهراتُ الداهشيَّة وكتاباتُ الدكتور داهش المُلهَمَة أَنَّ درجات المعرفة , على تفاوُتِها , ليستْ محصورةً في عالمنا الأرضيِّ . أَفراداً وجماعاتٍ , فحسب , وإنَّما تتعدّاهم الة جميع عوالم هذا الكون اللامتناهي .

فكلَّما تسفَّل الكوكب , عمَّ فيه الجهل والتخلُّف والبؤس والشقاء , وحُجِبَتْ عنه المعرفةَُ الروحيَّة . وكلَّما نَبُلَ وسَمَا , إزدادتْ فيه المعرفةُ الروحيَّة وشعَّتْ , وقَطَنَتْ في ربوعه أَسبابُ الهناء والسعادة (3) .

وتتميَّز الرسالةُ الداهشيَّة عن غيرها من الرسالات السماويَّة بأَنَّها , من حيث الجوهر , ليستْ

مكوَّنةً من تعاليمَ محدَّدةٍ يمكنُ حصرُها في صفحات الكتب ؛ وليستْ رسالةً قائمةً , في الدرجة الأُولى , على شرائعَ ونصوصٍ دينيَّةٍ معيَّنة , كما هي الحال في سائر الأَديان السماويَّة , وبالتحديد في الرسالتَين السماويَّتَيْن اليهوديَّة والإسلاميَّة , بقدر ما هي رسالةُ قِيَمٍ وأَخلاقٍ ومبادىءَ ومعرفةٍ روحيَّة , مع ما يستتبعُه ذلك من مسؤوليَّة خُلقيَّة ونفسيَّة . وخلاصةُ القول إنَّها رسالةٌ أَتَتْ لتقودَ مَن اتّبَعَها وعمِل بوصاياها الى مسالك المعرفة الروحيَّة التي تؤدِّي الى معارجِ الرقيِّ الروحيِّ , ومن ثَمَّ الى الخلاص والعودة الى منابع الروح , الى مَوطن الغبطة والسعادة والبهاء الأَبديَّة .

وعليه , فإنَّ الرسالةَ الداهشيَّة تُعطي الفردَ القواعدَ العامَّة لمبادئها . ومن ثَمَّّ تتوسَّع هذه المفاهيم وتتوضَّح على درجاتٍ ونِسَبٍ مختلفة بحسب إستحقاق الفرد ومستواه الروحيِّ . وهي تزداد اتِّضاحاً في نفسه كلَّما ازداد صعوداً في معارج الرقيِّ الروحيِّ .

والرقيُّ الروحيُّ في العقيدة الداهشيَّة , لا يتمُّ من خلال التأَمُّلات الفكريَّة المعزولة عن الممارسات والتجارب , بل هي تأْتي من مُجاهَدة النفس بتهذيبها من نزواتها وهفواتها , ودفعِها نحو عمل الخير والتمسُّك بِقيَم الحقِّ والطُّهر والأَعمال الجليلة .

والمفاهيم الداهشيَّة , بطبيعتها الشاملة المُنفتحة على قيَم الخير والحقِّ , تنمو وتتفاعلُ في نفس مُعتنِقها كلَّما سَمَا . وهي تمتزجُ في كيانه لتصبحَ كائناً واعظاً وضميراً حيّاً سامياً في داخله , يؤثِّر ويتأَثَّر بكلِّ ما حولَه من أُمورٍ ووقائع ومَشاهدَ وقِيَم , وتجعلُه يتحسَّس في أَعماق نفسه , أَينما حَلَّ , أَنَّّ ما يُحيطُ به , سواءٌ أَكان بشراً أم حيواناً أَم نباتاً أَم جماداً , كائناتٌ عاقلة خلقها اللّه , تخضعُ مثله لتجارب عوالمها , وتستحقُّ الرحمة والغفران ؛ وهي تختلف عنه في النوع والمظهر , لكنَّها تشتركُ معه في أَنّّ أَصلَها وجوهرها روحيَّان تخضع لقانون التقمُّص العادل أُسوةً به , وأَنَّها وُجدَتْ لتُمتَحَن في سبيل تحسين سيَّالاتها الروحيَّة , إذا أَمكن , وأنّ إمتحانَها سيتكرَّر  في دورات حياةٍ متعاقبة , فتهبطُ أَو تصعد في سُلَّم الرقيِّ الروحيِّ حتَّى إذا استطاع المرءُ اجتيازَه , أَدَّى به الى مَواطن السعادة والبهاء والخلاص , الى ملكوت اللّه جَلَّ جلاله .

والداهشيُّ المؤمن بعقيدته ينظر الى شؤون الحياة بمختلف وجوهها في ضوء المفاهيم الداهشيَّة , فتصبح القِيَم الداهشيَّة وحدَها هي الحقيقة والحياة .

والعقيدة الداهشيَّة ليستْ مُستقاةً من منابع الإفتراضات والإستنتاجات الفلسفيَّة , ولا هي صوفيَّة النزعة والنظرة كما هي الحال في بعض العقائد الشرقيَّة التي يدَّعي المُتطرِّفون من أَصحابها أَنَّها وليدةُ التأَمُّلات الصافية والومضات الإشراقيَّة التي تأتيهم فجأَةً وعلى دفعات , فتدَعُهم يكتشفون أَسرار الكون , ويندمجون به !

تلك المَزاعمُ يرفضُها الداهشيُّون لأَنَّها تفتقرُ الى أَدنى حدود التواضع , فَتُؤَلِّه مُدَّعيها بالرغم من وضع الإنسان الحقير الزريِّ في سُلَّم الحضارات الكونيَّة . وهذه المَزاعم مناقِضَةٌ أيضاً لقوانين الطبيعة والحياة التي لا تمنحُ أَسرارَها بلا جهد , بل تُعطيها فقط بمقدارٍ لِمَن إستحقَّها بالعِلم والرُقيِّ الروحيِّ .

والداهشيُّون يرفضون هذه العقائد والفلسفات لأنَّها تفتقر أَيضاً الى البراهين الملموسة والى منطق العقل والى مشاركة الأخرين في التجربة . والأَهَمُّ هو أَنَّ هذه العقائدَ الشرقيَّة التي وَجَدَتْ لها بعضَ المؤيِّدين في الغرب تقفُ موقفَ اللامبالاة من الشرور والمعاصي والمَظالم التي تُرتَكَبُ بين الناس , وتساوي بين الخير والشرِّ على أَنَّهما وجهان مختلفان للحقيقة الواحدة التي لا وجودَ لها إلاَّ في مخيِّلة الناس , كما يزعمون . وغالباً ما تكون هذه الفلسفات خاليةً من القِيَم والتعاليم الروحيَّة التي هدفُها السموُّ والرقيُّ الروحيَّان للإنسان .

وفي إعتقادي أَنَّّ من الأَسباب التي حالتْ دون حصر التعاليم الداهشيَّة في كتابٍ معيَّن ما يرجعُ الى أَنَّ التعاليم الداهشيَّة المُعطاة لا تشكِّل إلاَّ الجزءَ اليسير من الحقائق  الروحيَّة الشاملة التي هي حقائقُ الحياة .

وعلى الجملة , يمكنُنا القول إنَّ القواعد الأساسيَّة للرسالة يمكن إستخلاصُ كثيرٍ منها من خلال مطالعة كُتُب الدكتور داهش المتعدّدة المتنوَّعة , ومن خلال دراسة ظاهراته الروحيَّة المدوَّنة , ومن خلال الرسائل الروحيَّة التي كانتْ تهبطُ عليه , ومن خلال ما دُوِّنَ من أَحاديثه وأَقواله تدويناً موثوقاً , ومن خلال الإطِّلاع على كتب أَتباعه . ويجدُ المرءُ بعضاً من حقائقها في الكتب المقدَّسة , وفي كتب العلوم الطبيعيَّة ولا سيَّما الفيزياء الحديثة . ويمكنُ لِمَن صفَتْ نفسُه أَن يشعرَ بها ويتحسَّسَها في عناصر الطبيعة , وفي بواطن الأُمور والأحداث , وفي وجود الكائنات وتنوُّعها .

والمفاهيم الداهشيَّة , في آفاقها الكونيَّة , لا يمكنُ حصرُها في بعض الكتب . ذلك أَنَّ حصرَ الشيء هو تحديدُه , والرسالة الداهشيَّة , في أبعادها الروحيَّة , هي فوق الحصر ؛ وهي تشملُُ في تعاليمها , من حيث الجوهر , جميعَ الرسالات السماويَّة .

هذه المبادىءُ والمفاهيم , سنكتبُ عنها , بإذن اللّه . فنرجو من اللّه العليِّ القدير أَن يسمحَ بمساعدتنا لإنجاز هذه المهمَّة , وأن نكون جديرين بها , وأَن يُلهِمَنا الحكمة ويمنحنَا المقدرة على الكتابة وعلى العطاء وعلى التفكير السليم .

Return to the Top

 

الدكتور داهش وحقيقته الروحيَّة

الدكتور داهش وحقيقته الروحيَّة *

 

مَن هو الدكتور داهش الذي أتانا بالظاهرات الخارقة والتعاليمِ السماويَّة الجديدة التي لم يُشاهدْها أو يسمعْ بمثلها البشرُ من قبل ؟

مَن يكون هذا الرجلُ الذي حلَّ بيننا في مُستَهَلِّ القرن العشرين , وعرفناه هادياً ومبشِّراً ونذيراً في عصرٍ إستشرَتْ فيه الرذائل وسادَ الفسق والفجور وطَغَتْ عليه القِيَمُ المادِّيَّة بقساوتها وفي أَبشعِ مظاهرها ؟

مَنْ يكون هذا الرسولُ الذي أَيَّدَتْه السماء بالبراهين والمعجزات التي شاهدها أُلوف الناس , والذي جاء يحذِّر البشر من الدمار الشامل المُزمع أَن يحلَّ بالأَرض ومَن عليها , فضلاً عن العذابات الرهيبة التي تنتظرُهم في دركات الجحيم , إذا هم لم يتوبوا الى اللّه ويعملوا بوصاياه ويُقلِعوا عن إرتكاب المعاصي والشرور ؟ مَن يكون هذا الهادي العظيم الذي تحدَّث القرآنُ الكريم عن مجيئه قبل قيام الساعة في الآية الكريمة الآتية : " وإنَّه لَعِلمٌ للساعة , فلا تمترُنَّّ به واتَّبعونِ " ( الزخرف 61) , كما بشَّرَ الإنجيل المقدَّس بِمَقْدَمِه في نهاية الأَزمان ( يوحنا 14,16 ) ؟

إنَّه الدكتور داهش الذي يأتي للناس كافَّةً ليُطلِعَهم على حقائق سماويَّة كانتْ خافيةً عليهم , ولِيُرْشِدَهم الى طريق الحقِّ والخلاص , وذلك قبل أَن يُنزِل بهم اللّه دينونَته العادلة , فيخلّص منهم مَن يستحقُّ الخلاص , ولا يهلكَ مَن يؤمن باللّه ويعمل بوصاياه , بل تكون له الحياةُ الأَبديَّة .

إذاً , لقد أَتانا الدكتور داهش ليُنقِذَنا من نهايةٍ شائنة وعوالمَ مخيفة تنتظرُنا إذا نحن لم نتقيَّد ونعملْ بوصايا اللّه , وصايا الحقيقة الحالدة التي نادَتْ بها ودعَتْ إليها جميعُ الرسالات السماويَّة ؛ هذه الرسالات التي جسَّدها قِيَماً ومبادىءَ أَنبياءُ اللّه في مناقبهم وأَخلاقهم العظيمة . فقد جسَّد النبيُّ موسى رسالته بالصبر والمعاناة والتضحيات الجِسام من أَجل إنقاذ شعبِه من طغيان فرعون وزبانيّته , ومن الإنسياق في مهاوي المعاصي والشرور .كما جسَّد سيِّدُ الأطها ر له المجد , رسالتَه بالمحبَّة الفائقة والفداء بالنفس من أَجل ألآخرين . والنبيُّ العربيُّ الكريم جسَّد رسالتَه هو أَيضاً بأَخلاقه ومناقبه النبيلة وبالمَثَل الصالح الذي خلَّفه للمؤمنين علَّهم يقتدون به , كما في الآية الكريمة : " لقد كان لكم في رسول اللّه أُسوةٌ حسنة ". ( الأحزاب 21 )

وكذلك الدكتور داهش ؛ فقط جسَّد رسالته الداهشيَّة تجسيداً حيّاً صادقاً في قِيَمِها وتعاليمها الروحيَّة   والإنسانيَّة النبيلة . جسَّدها في أَفعاله وأقواله , في أَحاسيسه ومشاعره , في معاملته الكريمة للناس وإحترامِه لهم ولمعتقداتهم . جسَّد رسالتَه السماويَّة بدماثة خُلقِه ونبالةِ أَخلاقه وعَطْفِه على الفقراء والمُعْوَزين , كما بحبِّه للصدق والإستقامة والوفاء والشجاعة والخُلق الكريم وبإحتقاره للكَذَبة والمنافقين والجَشِعين والمُمالقين .

كان الدكتور داهش فاضلاً في كلِّ شيءٍ : فاضلاً في تفانيه بنُصرة الحقِّ وقولِ الحقيقة وتأْييدِها مهما كلَّفَه ذلك من تضحيات , فاضلاً في تسامُحِه مع من أَساء إليه , حتى مع مَن كذَّب عليه وشكَّك فيه .

لا شيءَ كان يُشيعُ السعادةَ في قلبه سوى مرضاة اللّه وتبليغ رسالة السماء . لم يكنْ يأبه بالجاه أَو بالمال أَو بالسُّلطة أَو بالقِيَم الماديَّة . كان اللّه وحدَه أملَه ونصيرَه ورجاءَه في كلِّ ما كان يقوم به أو يعملُ من أَجله . وكانت الرسالة الداهشيَّة المقدَّسة التي جاءَ بها لإنقاذ الناس , كلِّ الناس إذا أَمكن , هدفَه الروحيَّ الذي لا يحيدُ عنه .

لنُصْغِ الى هذه المُقتطفات الأَدبيَّة التي عَنْوَنها الدكتور داهش ب " باطل الأَباطيل " , وتحدَّث فيها عن الجاه والمال والسعادة الزائفة التي يلهثُ وراءَها الناسُ جميعاً ظانِّين أَنَّها وليدةُ المُتَع الحسِّيَّة والقِيَم المادِّيَّة ؛ يقول الدكتور داهش :

" قطنتُ القصور الشمَّاء , وامتلكتُ الثروات الخياليَّة , واكتنزتُ الذهبَ الوهَّاج والحجارة الكريمة , واقتنيتُ الفراءَ الثمين والثياب الفاخرة والعطورَ الفادحة الأَثمان , ودُعِيت لولائم الأُمراء وزرتُ الكرة الأرضيَّة غرباً وشرقاً . والغِيدُ الصِّيد إحتَطْنني ... وفي نهاية المطاف وجدت أنَّ جميع هذه الأَشياء لن تجلب السعادة الى نفسي , وأَنَّها باطلةُ الأَباطيل , وليس سوى اللّه , هو فقط , الحقيقةَ الأَزليَّة الخالدة " .

 

أَيُّها الأَعزَّاء ,

لن تهتدوا الى الراحة النفسيَّة والسعادة الحقيقيَّة إلاَّ بتقرُّبكم الى اللّه , جلَّ جلالُه , و بعد أَن تستنير قلوبُكم بقَبَسٍ من عظمة قوانينه و أَفعاله . و لن تستقرَّ المعارفُ و الحقائق السماويَّة في أَعماق نفوسكم إلاَّ إذا كنتم جديرين بها و مستحقِّين إيَّاها . و لن تتفهَّموا التعاليمَ الداهشيَّة , فتُصبح جزءاً من كيانكم و ركناً من أَركان حياتكم و مسلككم , إلاَّ بترقية سيَّالاتكم و النهوض بها الى مراتب الصفاء و السموِّ النفسيِّ , وذلك بعد أَن تتشوَّقوا الى تعاليم الهادي الحبيب , و تتثقَّفوا بكُتُبِه و أَقواله و ظاهراته  و الرسائل الروحيَّة التي كانتْ تهبطُ عليه, و تطَّلِعوا على سيرةِ حياته ؛ فإنَّ فيها جميعاً الحقائقَ الروحيَّة الخالدة , كما إنَّ فيها المُثُلَ الإنسانيَّة السامية التي طبَّقها  الهادي الحبيب على نفسه أَوَّلاً ووقفَ حياتَه كلَّها عليها .

هذه التعاليمُ و القِيَم و المُثُل الداهشيَّة الروحيَّة , إذا تقبَّلتموها و تقيَّدتم بها و عملتم بموجبها , حصَّنَتْكم ضدَّ رغباتكم و نزواتكم الوضيعة التي لا بدَّ من أَن تُغويكم , من حينٍ الى آخر , في خلال مسيرة حياتكم الأرضيَّة الحافلة بالشهوات و الرغبات الدنيويَّة و المَطبَّات التي سوف تَهوي بكم, إذا تغلَّبَتْ عليكم , الى عوالم الخطيئة و الهلاك.

إقرأُوا بشَغَفٍ و اهتمام جميعَ ما دوَّنه الدكتور داهش و ما خطَّه الوحيُ على يدَيه ؛ فإنَّ فيه الأَسرار و التعاليم السماويَّة التي لم يُنعِمْ بها الله على البشر من قبل.

تأمَّلوا بإجلالٍ و خشوعٍ عظمة الخوارق و الظاهرات المُذهلة التي كانت تتمُّ على يَدَيْه , و أَمعِنوا النظرَ في الرسائل الروحيَّة التي كانتْ تهبطُ بواسطته.

حاولوا أَن تتفهَّموا جميعَ هذه الاُمور بقلبٍ خاشعٍ طاهرٍ يلتمسُ الرحمة و الهداية و الغفران من الله, فتستحقُّوا أن تتكشَّف لكم المعارفُ الروحيَّة . يقول السيِّد المسيح , له المجد:" أطلبوا تجدوا . إقرعوا يُفتح لكم ". فإذا فعلتم , فَرِحْتُم الفَرَحَ العظيم بِنعمةِ تَعَرُّفُكم الى الرسالة الداهشيَّة المقدَّسة التي جاءتكم بحقائق روحيَّة خالصة لم يسمعْ بمثلها البشرُ من قبل؛ حقائقَ روحيَّة قال فيها أَفلاطون في رسالته التي هبطَتْ على مؤسِّس العقيدة الداهشيَّة في إحدى جَلساته الروحيَّة : " أَمَّا أَنتم , يا مَن تكشَّفَتْ لكم الحقيقة الخالصة , فهنيئاً لكم , و يا ما أَعظَمَ سعادَتَكم!"

و عندما تُطالِعُكم هذه التعاليمُ و الأَسرارُ الروحيَّة المقدَّسة , توقَّفوا عندها بغبطةٍ و أَمَلٍ و رجاء, لأَنَّ فيها , إذا تقيَّدتم بها و عملتم بموجبها , سعادَتكم و خلاصَكم من قيودكم المادِّيَّة الزريَّة.

 

أَيُّها الأَحبَّاء,

اعلموا أَن لا خلاصَ لأَيٍّ فردٍ فينا من تكرار تقمُّصاته المادِّيَّة المُمِلَّة التَّعِسة إلاَّ بالرقيِّ و السموِّ الروحيِّ الذي هو غايةُ كلِّ موجود.

لن يتمَّ لنا الخلاص و  التحرُّر من شقاء تجسُّداتنا المادِّيَّة و عذاباتها إلاَّ بممارسةِ قِيَم البِرِّ و الخير و الحقِّ, و العودة الى منابع الصفاء و الطهر , الى النور و السناء , الى الله جلَّ جلاله و عمَّتْ مراحمُه.

Return to the Top

 

رحلةُ العمر في رِفقة الدكتور داهش

رحلةُ العمر في رِفقة الدكتور داهش

خواطرٌ مُستَوحاة من مُعاَيشتي لمؤسِّس الداهشيَّة

 

تكاد تكون حياتي كلُّها سلسلةً من الرحلات , جُبْتُ فيها شتَّى أَرجاء العالَم. إلاَّ أَنَّ أجملَها على الإِطلاق و أَبعدَها أَثراً في نفسي رحلةٌ بدأَتْ منذ أَكثر من خمسةٍ و ثلاثين عاماً , و لم تنتهِ بعد ! رحلةٌ ليست كسائر الرحلات ! رحلةٌ في عوالم الذات و الفكر و الروح ! عَنيتُ بها رحلةَ عُمري في رفقة الدكتور داهش ! و مَن يدري ! لعلَّها تعودُ القهقرى الى أَبعدَ من صيف 1963, عامَ تعرُّفي به و بَدْءِ مسيرتي في ظلال عقيدته الروحيَّة !

لم أَكنْ أَتوخَّى إعتناقَ الرسالة الداهشيَّة حين أَتاحتْ لي الظروفُ الاجتماعَ بمؤسِّسها أَوَّلَ مرَّة. و لم أَكنْ أتوقَّعُ أَن يُحدث هذا اللقاءُ تحوُّلاً جذريّاً في مجرى حياتي , في مختلف وجوهها . شدَّني الى الدكتور داهش , أَوَّلَ الأَمر , الرغبةُ في معاينة ظاهراته الروحيَّة الخارقة ينقلُها إليَّ عددٌ كبيرٌ من الناس , في مقدَّمهم شقيقي المرحوم عليّ, صاحبُ الفضل الأَكبر في تعرُّفي بالدكتور داهش ؛ فهو الذي حَثَّني على مرافقته الى زيارته , فكان أَن أُعجِبتُ به , في أَثنائها , إنساناً فريداً في نوعه , رقيقَ الإحساس و الشعور, الأَمر الذي شجَّعَني على الطلبِ إليه أَن يسمحَ لي بزيارته كلَّما سَنَحت الظروف.

لم تكن الغايةُ من الظاهرات الخارقة التي عاينتُها أَو التعاليم الداهشيَّة التي اطَّلعتُ عليها واضحة المعالم في تصوُّري أَوَّلَ الأَمر . ثمَّ إنَّني لم أَكنْ في وضعٍ نفسيّ يسمحُ لي بأَن أَتقبَّل , بلا تحفُّظ , بعضَ المفاهيم الداهشيَّة التي كنتُ أَتسقَّطُها من هنا أَو هناك . فقد كان فيها ما يصعبُ عليَّ التصديق به , لخروجِه عن المأْلوف أَوَّلاً , و لاقتضائه قَدْراً وافياً من الإستعداد النفسيِّ و الروحيِّ ثانياً , و هذا لم يكنْ موفوراً عندي آنذاك .

إلاّ أَنَّه بفعلِ مرور الوقت و تكرارِ زيارتي لمؤسِّس العقيدة الداهشيَّة التي كادت تصير , بعد ذلك , يوميَّة, و بفعل إطِّلاعي أَكثر فأَكثر على تعاليمه الروحيَّة سواءٌ من خلال ما أَسمعه من أحاديثه أَو من مطالعة مؤلَّفاته المتعدِّدة المتنوِّعة أَو من معاينة ظاهراته الخارقة , أَخذَتْ هُوِّيَّتُه الروحيَّة تسطع و تتَّضح في نفسي , و ما عاد يُساورُني أَدنى ريب , كلَّما اجتمعتُ اليه , في أَنَّني بإزاء إنسانٍ خارق ليس  كسائر الناس , إنسانٍ مؤيَّدٍ من السماء بقوَّةٍ  روحيَّة لغايةٍ عُظمى ستتجلَّى للبشر ذاتَ يوم .

تلك كانت , في اختصار , الظروفَ و الملابسات التي أَدَّتْ الى تعرُّفي بالدكتور داهش و إيماني بالعقيدة الداهشيَّة (4) . ثمَّ ما لبثت الأُمور أن تطوَّرَتْ حتَّى تسنَّى لي أَن أَحظى بنعمة مرافقتِه في كثيرٍ من رحلاته حول العالَم , و أَن أَعرفَ من مَعين محبَّته و آرائه ما أَنا مَدينٌ له طولَ عمري , و ما يسرُّني إيجازه في هذه الصفحات القليلة.

بدأَتْ مرافقتي للدكتور داهش في رحلاته العالَميَّة في صيف عام 1970 ؛ فقد قرَّر عامذاك أَن يقوم بزيارة دُوَل الخليج العربيِّ التي كنتُ أَتردَّد اليها باستمرار لشؤونٍ تتعلَّق بأعمال شركةٍ أَميركيَّة كنتُ أُمثِّلها . كان ذلك في إبَّان موسم الحَرِّ القاتل الذي تبلغُ فيه الحرارة في تلك الدُّوَل درجات خانقة . و أَصدُقُ القارئَ القولَ اِنَّه لم يراودْني قطُّ أَن تكون تلك الرحلةُ مُستَهَلَّ رحلاتٍ كثيرةٍ رافقتُه فيها , و شمَلَتْ ثلاثةً و عشرين بلداً و أَكثرَ من ثلاثين مدينة منتشرة في دُوَل الشرق الأَوسط و أُوروبا , شرقيِّها و غربيِّها , و إفريقيا و روسيا ( الإتِّحاد السوفياتيّ سابقاً ) .

و لقد استغرَقَتْ تلك الرحلاتُ ما يُنيفُ عن السنتَين سَفَراً موصولاً يتخلَّلُه إيابٌ الى بيروت طلباً للراحة و استعداداً لرحلةٍ  مُقْبِلة . و الجديرُ ذكرُه أَنَّ جميعَ رحلاتي مع الدكتور داهش كان يخالطُها ما عليَّ من تَبِعات تجاهَ الشركة الأَميركيَّة , ما خلا رحلتَنا الى الإتِّحاد السوفياتيِّ ؛ فقد كانت سياحيَّةً فقط .

و إنَّه لَمِن دواعي اعتزازي و غبطتي أَنَّني رافقتُ الدكتور داهش في تلك الرحلات , و عاينتُ كثيراً من روائع أَعماله و ظاهراته الروحيَّة الباهرة , و منها كتاباتُه المُلهَمَة يدوِّنها بسرعةٍ فائقة لا يصدِّقها إلا مَن يشاهدُها . و إن أَنْسىَ لا أَنْسَ  مباراتَه بعضَ الأُدباء من أَصدقائه في موضوعٍ معيَّن , فإذا هو أَسرَعُهم تأْليفاً و أَجوَدُهم أَدَباً . و لا ريبَ في أَنَّ الكلامَ عليه و على ما علَّمَنيه و ما خلَّفه في نفسي من أّثَر يقتضي صفحات طويلة . على أَنَّ المقامَ ههنا لا يضيقُ بالإشارة الى بعضِ ذلك . غايتي الوحيدة قولُ الحقيقة كما شاهدتُها و عرفتُها منذ اعتناقي العقيدة الداهشيَّة .

                        *     *      *

عرفتُ الدكتور داهش رجلَ الله الفاضل بكلِّ ما تحويه هذه العبارة من معانٍ . و قد شهدتُه بأُمِّ عيني يطبِّق الخير و الطهر و الإحسان قولاً و فعلاً . عرفتُ فيه طيبةَ القلب و دماثةَ الخُلق و احترامَ الناس بصرف النظر عن أَوضاعهم الإجتماعيَّة . لمستُ فيه عطفَه على البؤساء و المساكين , و تأَلُّمَه لمنظر الفقراء و المحرومين , و زَهده في أَمجاد الدنيا الباطلة ؛ فلا المال, و لا الجاه , و لا السلطة , و لا العادات أَو التقاليد الزائفة كانتْ تَعني له شيئاً . عرفتُ فيه الكاتبَ البارع و الأديبَ المُلهَم يتدفّق الحقُّ  والوحي من مُقلتَيه و شفتَيه و يراعته .  و مَن يتسنَّ له مطالعةُ كتبِه المتعدِّدة و المتنوِّعة , يَجِدْها جميعاً سامية المعاني, روحيَّة المقاصد . السَّعي الى الحقِّ و الدعوة الى الفضيلة في رأْس أَغراضها , سواءٌ في ذلك مؤلَّفاتُه القِصصيَّة و الوجدانيَّة و المذكِّرات و الإبتهالات و الرحلات و الحِكَم ... ذلك أَنَّ الأَدَبَ في رأْيه لا يقتصر على المتعة الفنِّيَّة فحسب, بل يتعدَّاها الى المرامي الإصلاحيَّة الخُلقيَّة . بيدَ أَنَّ الغرضَ الإصلاحيَّ الروحيَّ اقترن في كتاباته بجمالٍ أَدبيٍّ مميَّز تجلَّى في براعة الصياغة و متانة الحَبْك و تنُّوع الاَساليب و دَّقة الوصف و غريب الخيال.

هذه النزعة الى الخير و الحقِّ في أَدبه عفويَّة لا أَثَر فيها للتصنُّع؛ فهي تسري في  دمائه , و تُسيِّر قلمَه . ناهيك بأَنَّه مؤسِّس رسالة روحيَّة عظيمة لها تعاليمُها السامية ؛ رسالةِ قِيَمٍ و أَخلاق , ناصعةِ الأَهداف , لا تصمدُ أَمامها الشكوك و التساؤلات . و هي التي رَفَدتْ أَدَبه و طبعَتْه الروحيِّ على تنوُّع موضوعاته و أَساليبه .

عرفتُ في الدكتور داهش الحكمةَ الوافرة, و الذكاءَ المتوقِّد , و تنوُّعَ أَبواب المعرفة  , و حبَّ الإطِّلاع , و عشقَه للفنِّ الجميل في شتَّى صُوَره و أَشكاله , يدأَبُ على البحث عنه في كلِّ مكانٍ بلا كلالٍ و لا مَلال يسعى الى اقتناء كثير من صنائعه ؛ و اعتقادي أَنَّ لهذا الوَلَهِ الفَنِّيِّ أَسبابَه الروحيَّة البعيدة .

عرفتُ فيه أَيضاً نَهَمَه الى قراءة الكتب و الجرائد و المجلات المختلفة , و حِرصَه على جَمْعِها و الإحتفاظ بها . زدْ على ذلك وَلَعَه بالسفر , و كرهَه لاجتماعات الصَّخَب و الأَضواء, و إيثارَه أَلواناً من الطعام على أَلوان و أَنواعاً من الأَلبسة على أَنواع – و ذلك لأسبابٍ روحيَّة خافيةٍ علينا , إذ انَّ الأُمور و الأَشياء , بالنسبة إليه , ليستْ بمظاهرها , بل بخصائصها الروحيَّة ؛ و هو أَمرٌ لا يتَّضح إلاَّ بالوقوف على فلسفته الروحيَّة .

ولقد سمعتُ من الدكتور داهش صوتَ الهداية و الحكمة و الروح , فأَدركتُ أَنَّنا نعيش في عالَمٍ حقيرٍ تافه إذا ما قُورِنَ بعوالم السعادة و النور, و أَنَّ أَرضنا دارُ الشقاء و الشرور, و أَنَّنا ما أَتَيناها إلاً لذنوبٍ اقترفناها و استحقاقاتٍ نؤدِّيها . و ممَّا قَبَسْتُه عنه أّنْ ليس هناك ما يُدعى فناءً أَو عدماً على الإطلاق , و إِنمَّا ثمَّة انتقالٌ من حالةٍ الى حالة بحسب الإستحقاق الروحيِّ , و أَنَّ سُنَّة التبدُّل و التغيُّر هي قانون الطبيعة و الحياة الدائم الذي يسري على الكائنات كافَّةً , و أَنَّها ( أَي تلك السُّنَّة ) عدالةٌ و رحمة إلهيَّتان . و ما بؤسُنا و شقاؤنا إلاَّ صنيعة أَيدينا ؛ فما يزرعُه الإنسان إيّاه يحصد .

و لقد تأَكَّد لي , على يدَي مؤسِّس الداهشيَّة , أَنَّ كلَّ شيءٍ زائل و باطل و قبضُ الريح , و أَنَّ الحقيقة الأزليَّة  هي الحقيقةُ الروحيَّة التي تمكِّنُ من اتَّبَاعها و عمل بوصاياها من ولوج عوالم السعادة و النور . و ممَّا ثَبَتَ لي أيضاً أَنَّ العنايةّ الإلهيَّة أَتاحتْ لنا نعمة التقمُّص على الأَرض أَو في عوالم أُخرى مرَّاتٍ متعدِّدة لنتطهَّرَ من أَوشابنا , و أَنَّ ماضينا السحيق و مستقبلنا البعيد يلتقيان في أوضاع حاضرنا و اعمالنا فيه و ان السعيد مَن عرف حدَّه و خشيَ ربَّه و عمل بوصاياه ؛ فهو وحدَه تعالى الأَمَلُ و الرجاء و الغاية.

لقد خصَّ الدكتور داهش رحلاته حول العالَم بسلسلةِ كتبٍ تُربي على عشرين جزءاً أَطلَقَ عليها اسم " الرحلات الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة " , و دوَّن فيها ما مرَّ به من مشاهدَ و وقائع و ما سنحَ له من خواطر و تأَمُّلات . و قد كان في عادته , منذ يَفاعِه , أَن يدوِّن يوميَّاتِه بلا انقطاع.

و يقيني الراسخ أَنَّ سلسلة " الرحلات الداهشيَّة " شاهدٌ للتاريخ و إدانةٌ صريحة  لِما  آلتْ إليه أَحوالُ البشر مِن تَرَدٍّ روحيٍّ و انحلالٍ خُلقيٍّ. فكأَنِّي بالدكتور داهش يريد أَن يقول للتاريخ , عندما يحلُّ على الأَرض قضاءُ الله العادل : " لقد  كنتُ عليهم شاهداً و نذيراً ".

كان يرى ما لا يراه الناس , و يشعر بما لا يشعرون به . ينظر الى الاَشياء بعين الخبير المجرِّب, و يُقوِّم الأُمور بما هي عليه في الحقيقة , لا بما تبدو في ظاهرها , فلا تَخفى عليه  شاردةٌ أو واردة . كان يكتب عن المعاصي و النقائص و الشرور التي كان يشاهدُها في مشارق الاَرض و مغاربها من غير أَن يُموِّه الحقائق أَو يلطِّف من قبحِ ما يعاينُه . على أّنَّه لم يغفلْ عن الأعمال القليلة النبيلة التي كانت تمرُّ به أّو يشاهدُها , فكتبَ عنها بثناءٍ و تقديرٍ و إعجاب.

و الدكتور داهش صارمٌ في حكمه على الناس , لكنَّ حكمَه عادل , ظاهرُه التحذير و التنديد , و باطنُه الرحمة و الشفقة بالعباد , و غايتُه إصلاحُ شأَنهم –هذا إذا كان ممكناً . و قد أَكَّدَتْ له أسفارُه المتعدِّدة الى شتَّى البلدان و تعاملُه مع مختلف المِلَل و النِّحَل أَنَّ الناس , في سوادهم الأَعظم , هم هم . يتكالبونَ على المادَّة , و يتهافتون على الملذّات . يحتقرون الفقير , و يستغلُّون البائس و المسكين , و لا يتوانَون عن اللجوء الى الكذب و الخديعة و العنف و السرقة و شتَّى ضروب الشرِّ , و ذلك من أَجل الحصول على المال, أَو إشباعِ لذاذاتهم المحرَّمة . هذه الاَمراض الخُلقيَّة و الروحيَّة المُستشرية  في جميع الأَصقاع تطالُ طبقاتِ المجتمع و فئاته , سواءٌ في ذلك باعة الكازوز أَو سائقو سيَّارات الأُجرة أَو رجال المال و الأعمال أَو أَصحابُ بيوت الفنِّ في حواضر العالم...

هذا الإنحطاطُ الخُلقيُّ المستشري الذي كان يشاهدُه الدكتور داهش في كلِّ مكانٍ جعلَه حزينَ النفس , مُثقَلَ القلب بالآلام ؛ و قد عبَّر عن ذلك في كتاباته بأَلَمٍ و حسرةٍ و تنديد و تحذير . و لعلَّه يئس في آخر المطاف من إصلاح البشر , و فقدَ الأَمل في تهذيب نفوسهم , فاعتزل أَكثر الناس , لا يأْنس إلاَّ لأَتباعه الداهشيِّين الذي تفهَّموا تعاليمه الروحيَّة .

غير أَنَّ أوقات الدكتور داهش لم تكنْ لتخلوَ من فتراتٍ يسعدُ فيها و ينشرحُ لها صدرُه , و لا سيَّما عندما يؤمُّ المتاحف و بيوت الفنِّ و المكتبات و المعارض و الاَسواق ليتفقَّد ما فيها من معروضاتٍ و سِلَعٍ و مصنوعات فنِّيَّة , و يبتاعَ  منها ما يتيسَّر له. و اعتقادي أَنَّ بحثَه الدائب عن قِطَع الفنِّ في كلِّ مكانٍ لشراء أَكبرِ عددٍ ممكنٍ منه في أَواخر سني حياته يعود الى شعوره العميق بأَنَّه في صراعٍ مع الزمن , و أَنَّ عليه تعزيزَ " المتحف الداهشيِّ " بمختلف أَنواع الفنون قبل أَن يوافيه الأَجل.

ما شاهدتُه و عرفتُه عن الدكتور داهش , فضلاً عمَّا عرفه عنه سواي من الاخوة و الاَخوات الداهشيّين , يجعلُني أَقول عن يقين ثابت و إيمان وطيد انَّه كان من جِبْلَةٍ غيرِ جِبْلَة البشر في أَعماله و أَقواله  أَو في أَحاسيسه و مشاعره أَو في اهتماماته و اَولويَّاته . إنَّه رسولُ السماء هبطَ منها لغايةٍ إلهيَّةٍ رحيمة ليُنقِذَ مَن يستحقُّ الخلاص. الله وحدَه , جلَّ جلاله, كان في قلبه و عقله دائماً كما كان نصيرَه و اَملَه  ورجاءَه في كلِّ شيءٍ يقوم به و يعمل من أَجله . و كانت الرسالة الداهشيَّة التي جاء من أَجلها لإنقاذ الناس , كلِّ الناس إذا أَمكن , هدفَه الذي لا يَحيدُ عنه .

تلك الحقائق عن الدكتور داهش أقولُها بفخرٍ واعتزاز . أمَّا الذين يَحسبونني مغالياً فيما أَذهبُ إليه لغايةٍ في نفس يعقوب , فما عليهم إلاَّ أَنْ يتقَصَّوا الحقائق بقلبٍ طاهر و نفسٍ صافية , و يُطالعوا مؤلَّفاتِ مؤسِّس الداهشيَّة الكثيرة المتنوِّعة و ما خطَّه الوحيُ على يديه , ويقرأُوا  ما كُتِبَ عنه و عن خوارقه المذهِلة التي شاهدها الأُلوف من الناس و تحدَّثَتْ عنها الكُتُبُ و الجرائدُ و المجلاَّت , سواءٌ في مصر في بداية الثلاثينيَّات من القرن العشرين أَو في لبنان منذ استقلاله حتَّى اليوم . أَقول لهم : حاولوا ان تتفهَّموا الغايةَ من معجزاته و الهدفَ الروحيَّ من كتاباته . هل كان يحدِّثُ الناس إلا بما أَمر به الله و نهى عن اقترانه !

*                                *                        *                

تلك هي العِبَرُ و الدروسُ التي استخلصتُها من معايشتي للدكتور داهش و اعتناقي لعقيدته المقدَّسة و مرافقتي في رحلاتٍ كثيرة حول العالَم . و عندما أَستعيدُ ذكرياتِ أَيَّامي معه , لا يسعُني إلاَّ أن أَخفض رأْسي امتناناً و خشوعاً و شكراناً لله ربِّ العالمين الذي مَنَّ عليَّ بهذه الحظوة و الشرف العظيم , شرفِ مرافقة الهادي الحبيب.

و بعد , فإنَّ ما ذكرتُه ههنا عن الدكتور داهش ليس وافياً بحقِّه . ذلك أَنَّ إيفاءَه حقَّه يقتضي فصولاً طوالاً , فلا ينهضُ به مدخلٌ قصير . و عندي من اليقين أَنَّ أَيَّ شرحٍ أَو عرضٍ لتعاليمه الروحيَّة لا يقومُ مقامَ  مؤلَّفاته هو . و إذا كان لي من رجاءٍ في هذا الكتاب , فأَن يُسهِمَ في توضيح عقيدته , و أَن يساعدَ القارئَ على فَهمٍ أَفضلَ لها في مَظانِّها.

Return to the Top

 

تأَمُّلاتٌ داهشيَّة في جّدْوى الرسالات السماويَّة

تأَمُّلاتٌ داهشيَّة في جّدْوى الرسالات السماويَّة

عودةُ الرسالات السماويَّة ضرورةٌ تقتضيها رحمةُ الله و عدالتُه اللا محدودتان

 

قد يتساءل بعضُهم عن جدوى عودة الرسالات السماويَّة الى الأَرض , و هل نحن  في حاجة الى ظهورِ دعوةٍ روحيَّة  جديدة ما دامتْ الدعوات الروحيَّة السابقة لم تنجحْ في استئصال المعاصي و الشرور من نفوس الناس , و لم تتمكَّنْ من إقامة العدل و الخير و المحبَّة و السلام فيما بينهم ؟ هل الناس في حاجةٍ الى دينٍ جديدٍ يُضاف الى الأَديان الأُخرى كي يستغلَّه المنافقون و الأَشرار , هؤلاء الذين يدَّعون اعتناقَ الأَديان لإذكاء  البغضاء و الفِتَن و الحروب باسم الدين ؟ أَوَليسَ أَشَدَّ ما شهدَتْه البشريَّة من الحروب إجراماً و قساوةً هي التي وقعتْ بحجَّة الدين وباسمه ؟

هذه التساؤلات تُجيب عنها بكلِّ وضوحٍ كتاباتُ الدكتور داهش , مؤسِّس العقيدة الداهشيَّة ؛ فهي توضِّح و تؤكِّد أَنَّ الطبائعَ البشريَّة الجانحة نحو الشرور , و المجبولة بالميول و الشهوات و الرغبات الدنيئة لن تتغيَّر كثيراً بفضل التعاليم السماويَّة. ذلك أَنَّ هذه التعاليم تحضُّ على تهذيب النفس و السموِّ بها عن المعاصي و الذنوب , في حين أَنَّ الأَطماع و الشهوات و الأَفكار الخبيثة تجري مع الدم في العروق.

يأْتي رُسُل الله الى هذه الأَرض التَّعِسَة و يغادرونها خائبين بعد أَن يكونوا قد عاَنوا صنوف العذاب و الأَلَم و الأضطهاد , و بعد أَن يكونوا قد بذلوا التضحيات الجِسام من غير أَن يتمكَّنوا من غرس الإيمان الصحيح و تثبيته في القلوب , و من غير أَن يستطيعوا زَرْعَ بذور الرحمة و العدل و قِيَم الخير في   نفوس السواد الأَعظم من الناس , و ذلك في سبيل إنقاذهم من العقاب الروحيِّ الذي ينتظرهم إذا استمرُّوا في ارتكاب الذنوب و عصيانِ وصايا الله و شرائعه .

كلِّ دعوةٍ روحيَّة تأْتي من السماء يتقبَّلُها أَفرادٌ قلائل من الناس , و يتقيَّدون بتعاليمها الروحيَّة على تفاوتٍ في درجات الإيمان و الحمَاسة و اليقين . و غالباً ما تكون هذه الفئة القليلة من الذين رقَّوا سيَّالاتهم أَو درجتَهم الروحيَّة , و إن بِنِسَبٍ مختلفة , فاستعدُّوا روحيًّا لتقبُّل تلك التعاليم . و الحقَّ أَنَّ هذا الإستعداد يكون , في الغالب , حصيلةَ تقمُّصاتٍ سابقة , أَي أَنَّهم يكونون مؤمنون بالدعوة الروحيَّة قبل ظهورها ! فكأَنَّ إِيمانَهم أَشبَهُ ببذورٍ هاجعة في أَعماق النفس تنتظرُ عودةَ هاديها السماويِّ ؛ فإذا سمعَتْ صوتَه , استيقظَتْ و لبَّتْ دعوتَه بفرح و غبطةٍ و أَمَلٍ , على نحوٍ ما يكون قد حصل معها في أَدوارٍ سابقة .

يقول السيِّد المسيح , له المجد : " أَنا هو الراعي الصالح . جئتُ لخرافي , و خرافي تعرفُني ".( يوحنا 10:14) . و يقول أَيضاً لتلامذته :" هناك أُمورٌ كثيرة لم أُخبركم عنها لأَنَّكم لا تستطيعون تقبُّلَها الآن. و لكنْ عندما يأْتيكم روحُ الحقَّ فهو يُرشِدُكم الى كلِّ الحقِّ" . ( يوحنا 16: 12-13) .

هذه الأَقوال الواردة في الإنجيل المقدَّس نقلاً عن السيِّد المسيح تستوجب الشرحَ و التوضيح . فالسيِّد المسيح , بحسب التعاليم الداهشيَّة , كان يخاطب حقيقةَ تلامذته الروحيَّة الأَزَليَّة . كان يتحدَّث إليهم من زاوية روحيَّة برموزٍ و تعابير ذات مدلولاتٍ روحيَّة يصعبُ فهمُها إذا نحن حملناها على أَنَّها مجرَّدُ أَحاديث عاديَّة كانت تجري بينه و بين تلامذته أُسوةً بما يجري بين الناس . لم يكنْ , له المجد , يوجَّه كلامَه اليهم من حيث هم تجسُّداتٌ مادِّيَّة زمنيَّة تمثَّلتْ في بطرس و يوحنَّا و يعقوب و متَّى و أَندراوس و سواهم من التلاميذ الذين عايشوه في تلك الحقبة من الزمن . كان السيِّد المسيح , له المجد , يخاطبُ سيَّالاتِ تلامذته و امتداداتهم النفسيَّة الروحيَّة الأَزليَّة غيرَ المُقيَّدة بعوامل الزمان ز المكان , و المنتشرةَ هنا و هنالك . كان  يحاول أَن يقول لهم وفقاً للتعاليم الداهشيَّة :" أَنا هاديكم في الأَدوار السابقة , و قد عدتُ الآنَ إليكم . و بما أَنَّكم كنتم معي في تلك الأَدوار, فقد عرفتموني و عُدتم إليَّ في الوقت الحاضر . و اِنِّي سأَجتمع معكم في المستقبل لأُلقِّنَكم أُموراً روحيَّة كثيرة لا تستطيعون فَهْمَها الآن , و ذلك بالنسبة الى مستوى سيَّالاتكم الروحيَّة الحاليَّة ؛ إلاَّ أَنَّكم ستتفَّهموها و تتقبَّلونها في تقمُّصاتكم الآتية ".

التعاليم و الظاهرات الداهشيَّة  الروحيَّة تؤكِّد أَنَّ جميعَ التجسُّدات المادِّيَّة , و منها جسدُ الإنسان , هي انعكاساتٌ مادِّيَّة وقتيَّة لمُستوياتٍ و حالاتٍ روحيَّة معيَّنة . تتغيَّر هذه الإنعكاساتُ المادِّيَّة بتغيُّر المُستَوَيات و الحالات الروحيَّة المرتبطة بها ؛ أَي إِنَّها تتغيَّر بتغيُّر درجات سيَّالاتها الروحيَّة التي هي علَّةُ تجسُّداتها المادِّيَّة و أَساسُها و جوهرُها. السيَّالات الروحيَّة موجودةٌ منذ الأَزل و باقيةٌ الى الأَبد ؛ هذا ما تقول به التعاليمُ الداهشيَّة . كما إِنَّها تقول أَنْ لا موتَ على الإِطلاق , بل انتقالٌ من حالةٍ الى حالةٍ تبعاً لرقيِّ السيَّالات  أَو انحطاطها , أَي تبعاً لاستحقاقها الروحيِّ المُتجدِّد.

إذاً , الهدفُ الأَوَّل من مجيء الأَنبياء هو هداية الناس , كلّ الناس , إذا أَمكن و جَمْعُ سيَّالات خاصَّتهم و إِنقاذُها ؛ و ما خاصَّتُهم الاَّ الذين استحقُّوا الهدى و الخلاص بفضلِ إيمانهم و أَعمالهم و تقيُّدِهم بشرائع الله (5) . أَمَّا السواد الأَعظَم من الناس الذين يدَّعون الإيمانَ بهم , فهم الذين – و يا للأَسف !- يهزأُون بهم و برسالاتهم السماويَّة عندما يكونون بين ظَهْرانهم , فيَفْتَرُون عليهم و يضطهدونهم . وبالرغم من ذلك كلِّه , فلن يتوقَّفَ مجيءُ رُسُل اللّه الى الأرض , ولن ينقطعَ هبوطُ الوحي عليهم لهداية الناس , أَشراراً وأَبراراً , كيما يخلصَ منهم مَن يستحقُّ الخلاص .

لا قنوطَ من رحمة اللّه , ولا حدَّ لعطفِه تعالى وحنانه ؛ فهو سيمُدُّ الأَرض والعوالمَ الأُخرى برُسُله وأَنبيائه طالما بقيَت الكواكب وطالما عَمَر الناسُ الأَرضَ . ولن يكفَّ النبيُّ الحبيب الهادي (6) عن المجيء , بين حِقْبةٍ وأُخرى , لتبليغ وتتميم رسالته , رسالةِ الهداية والنور .

يهبطُ الأَنبياءُ والعُلماءُ والهُداة من السماء الى الأَرض على نحوٍ مُستديم لتلقيحها هي ومَن عليها بالسيَّالات العلويَّة , وذلك لمنفعتها وفائدتها الروحيَّة .

هذا ما تُعلِّمُه الداهشيَّة . وهي تعلِّمُ أَيضاً أَنَّ مراحم اللّه العَميمة إقتضَتْ أَن يضعَ سبحانَه وتعالى الأَنظِمَةَ والقوانين الروحيَّة المتعدِّدة لكافَّةِ مخلوقاته حتَّى أَقلَّها قَدْراً , وذلك لمنفعتها إذا هي سارتْ عليها , وعملَتْ بموجبها , وتغلَّبَتْ على تجاربِ عوالمها وشرورها . لقد وضع اللّه , جلَّ جلالُه , الأَنظمةَ الروحيَّة المختلفة لمخلوقاته المعلومة والمجهولة كافَّةً , سواءٌ منها الإنسان والحيوان والنبات والجماد , وأَلزَم كلَّ فئةٍ منها بما يناسبُها ويُفيدُها , وذلك بحسب مستواها الروحيِّ والنفسيِّ . فأَجازَ , مثلاً , لبعض الناس أُموراً حرَّمها على بعضهم الآخر . حرَّم مثلاً على المُسلمين أَكلَ لحم الخنزير وشُربَ الخمر , ولم يُحَرِّمْ ذلك على المسيحيِّين تحريماً قاطعاً . كما أَجاز للمُسلمين تعدُّدَ الزوجات , ولم يُجِزْ ذلك للمسيحيِّين . وما ذلك إلاَّ لأَسباب روحيَّة تتعلَّق بخصائِصهم النفسيَّة , ومن أَجل منفعتهم . لكنَّه تعالى جعلَ الغايةَ الأَساسيَّة من جميع أَنظمته الروحيَّة ترقيةَ النفس وتهذيبَها للسموِّ بها الى درجةٍ روحيَّة أَعلى في سُلَّم الرقيِّ الروحيِّ اللامُتناهي الذي هو غايةُ كلِّ وجودٍ بلا إستثناء .

لقد وضع اللّه تعالى الأَنظِمةَ الروحيَّة للبشر , وجعلَها أَنظمةً خفيَّةً ثابتة لا تخضع لتجارب الإنسان وأَحاسيسه ومشيئته الفرديَّة , لكنَّها مرتبِطَةٌ به تُحصي عليه أَنفاسَه , وتحاسبه على كلِّ ما يأْتيه من خيرٍ أَو شرٍّ ؛ فإذا عمل بها إنتفع وسعد , وإذا خالفَها تعذَّب وشَقِي . وإنَّما يُرسل اللّه أَنبيائَه في أَزمِنةٍ مختلفة ويؤيِّدهم بالروح والوحي من أَجل الكشف عن بعض تلك الأَنظمة لتحذير الناس وتبشيرهم بها كيما يسيروا على هُداها , وذلك قبل أَن تحينَ ساعةُ الحساب , حسبما ورد في الآية الكريمة : " وما كان ربُّكَ مهلِكَ القُرى حتَّى يَبعثَ في أُمِّها رسولاً " . ( القَصصَ 59) . فاللّه , سبحانَه , لم يُهلِكْ قومَ نوح ويُرسِلْ عليهم الطوفان إلاَّ بعد أَن أَرسل إليهم نوحاً . لكنَّهم كذَّبوه وإضطهدوه وسخروا منه , فحلَّ عليهم غضبُ اللّه , فأُبيدوا . هذا يَعني أَنَّّ التَبليغَ واجبٌ قبل ساعة الدينونة والحساب . فالخالقُ , جلَّ جلالُه , لا يُجازي ولا يكافىءُ إلاَّ عن إستحقاقٍ وعدالة , وبعد التبليغ والتحذير والتبشير على يدِّ أَنبيائه ومُرسَليه . ورسالات التبليغ والتحذير والتبشير غيرُ محصورةٍ في البشر ومقصورةٍ عليهم , بل اِنَّها تتعدَّاهم لتشملَ جميعَ الكائنات والبرايا ؛ وهذا ما بلَّغَتْه التعاليمُ الداهشيَّة القائلة انَّ للّه تعالى وسائلَه اللا محدودة لإبلاغ مخلوقاته كافَّةَ وصاياه ونواهيَه , كلٍّ حسبَ نظامه وتجارب عالمَه . انَّها مراحم اللّه اللا محدودة – فيا لعَظَمة الباري ! ويا لَمراحِمه العميمة التي تشملُ المعلومَ والمجهول من الكائنات ! ويا لَكمال وبهاءِ رسالتنا الداهشيَّة المجيدة التي أَطلَعَتْنا على ذلك !

يُرسِل اللّه أَنبياءَه أَيضاً لتبليغ الناس أَنَّ ثمَّة حقائقَ روحيَّة خاصَّةً يجهلونها , لأَنَّها لا تقعُ تحت حواسِّهم ولا تخضع لتجاربهم , كعوالم النعيم والجحيم مثلاً ؛ وقد أَوجدَها اللّه للأَبرار والفُجَّار , فاليهما مآلُهم بعد الموت , كما جاء في القرآن الكريم : " انَّ الأَبرار لَفي نعيمٍ , وانَّ الفُجَّارَ لَفي جحيم " . ( ألإنفطار 13 ) . وكذلك : " ومَن عمل صالحاً فَلِنَفْسِه , ومَن أَساء فعليها " . ( فصّلت 46 ) . وكلٌّ سيُوفِّي جزاءَه كاملاً إن ثواباً أو عقاباً , وسيتقمَّص حسبما يستحقُّ عندما تنطلقُ سيَّالاتهم في كلِّ دورةٍ من دورات الحياة .

حقائقُ النعيم والجحيم والتقمُّص والسببيَّة الروحيَّة وغيرها من الأُمور الروحيَّة هي حقائقُ تحدَّثَتْ عنها الكتبُ المقدَّسة , ولم تثبُتْ صحَّتُها لا بالعِلم ولا بالحسِّ ولا بالتجربة , لأَنَّه ليس لها صِلةٌ ظاهرةٌ مادِّيَّة مباشرة مع الناس , كما أَنَّها لا تدخل في الإعتبارات البشريَّة اليوميَّة , كما يزعم بعضُهم . ومن هنا تبرز الحاجةُ الضروريَّة الى مجيء الرسالات السماويَّة لتبليغ الناس عن تلك الحقائق التي سوف يواجهونها عاجلاً أم آجلاً , ولِحَثَّّهم على التمسُّك بأَهداب الفضيلة والعمل بالوصايا والأَوامر الإلهيَّة من قبل أَن يفاجئهم الموت , ويُحاسَبوا عليها .

والناسُ أَحرارٌ في قبول الوصايا الإلهيَّة أَو رفضِها . فالباري , عزَّ وجلَّ , ترك لهم الحرِّيَّة كيما يَمتَحِن القلوب , ويَجزي كلَّ نفسٍ بما تعمل . ولكنْ إذا كان للناس حرِّيَّة الخيار , فانَّ الجزاء , أَي نتيجة العمل الحرِّ , حتميٌّ لا خيارَ فيه . ذلك أَنَّ الخيارَ ينتهي عند القيام بالعمل , أَمَّا تَبِعةُ العمل فحتميَّة . وفي ضوءِ هذه النظرة الداهشيَّة يمكنُنا القول اِنَّ الإِنسانَ مخيَّرٌ ومسيَّرٌ في الآن نفسه . الإِنسانُ حرٌّ في الخيار والعمل , لكنَّه ما ان يُقدِم على عمله حتَّى يصبحَ أَسيرَه , رهناً لنتائجه ؛ إنَّه مُلاقٍ ثوابَه أَو عقابَه عاجلاً أَم آجلاً . وهذان الثواب والعقاب اللذان لا خيارَ له فيهما سينعكسان عليه من خلال الأَوضاع الحياتيَّة والنفسيَّة والصحِّيَّة المحيطة به . لا مفرَّ من الحساب ومن النتائج الحتميَّة لِما أَقدَم عليه الإنسانُ بملء إختياره . فمُقترِف الشرِّ سيُجازى شرّاً , وصانعُ الخير سيُجازى خيراً . " فمَنْ يعملْ مِثقالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَه , ومن يعملْ مِثقالَ ذَرَّةٍ شرّاً يَرَه " . ( الزَّلْزَلة 7-8 ) .

وتتوالى الرسالات السماويَّة للتفسير , لِمَزيدٍ من التفسير ولِمَزيدٍ من الكشف عن الحقائق المحجوبة , إمَّا لأَنَّ الناسَ لم يفهموها من قبل , وإِمَّا لأَنَّ الرسالات السماويَّة السابقة لم توضِّحْها وتتطرَّقْ إليها لأَسبابٍ تفوقُ مداركِ البشر , أَسباب روحيَّة تتعلَّق بالمستويات الروحيَّة والنفسيَّة السائدة . وعندما يتطوَّر مستوى الإنسان الفكريُّ والروحيُّ ويزداد وعيُه , تتطوَّر معه المفاهيم الروحيَّة , وذلك في ضوء مُستجِدَّات العصر الحضاريَّة والفكريَّة . إذ ذاك يُسمَح بالكشف عن المزيد من الحقائق الروحيَّة التي كانت مجهولةً عند الناس .

والرسالات السماويَّة , وإنْ بدَتْ مختلِفةً فيما بينها في بعض شروحها وطقوسها وتعاليمها , تبقى غايتُها واحدة , أَلا وهي المنفعة الروحيَّة , منفعةُ الناس بالنسبة الى مستوياتهم النفسيَّة والروحيَّة . وفضلاً عن ذلك فإنَّ الإختلافات بين الأَديان لا تؤثِّر في الجوهر الروحيِّ الواحد . الفروق ضروريَّةٌ ورحمةٌ روحيَّة إقتضَتْها الحكمةُ الإلهيَّة التي تُخاطب كلّ فِئَةٍ وفقَ ما يناسبها وينفعُها من الشرائع , وما تستطيع تقبُّلَه في مرحلةٍ محدودة من مراحل تطوُّرها الروحيِّ . فالمسيحيُّ , كما تقول التعاليمُ الداهشيَّة , إنَّما يولدُ مسيحيّاً لأَنَّ شرائع الرسالة المسيحيَّة تنسجمُ ودرجةَ سيَّالاته الروحيَّة , أَعني أَنَّ مستواه الفكريَّ الكامن فيه هو بمستوى الرسالة المسيحيَّة . فبتعاليمِها , إن عملَ بها وتقيَّد بوصاياها ينتفع ويتطهَّر ويرقى . والأَمرُ نفسُه يُقال على مَن يولد مُسلِماً أَو يهوديّاً أَو بوذيّاً أَو غيرَ ذلك . فالإنسانُ يولدُ وفقاً للديانة التي يستحقُّها , والتي تنسجم مع درجة سيَّالاته الروحيَّة المنقولة إليه عند الولادة والتقمُّص والرسالات السماويَّة كلُّها تأْتي لتذكية النفس وهدايتها وترقيتها والحدِّ من كبريائها , كما تأْتي لتذكيرِها بصغارتها وحقارتها أَمام عَظَمة الخالق وجلالِه وسموِّ قوانينه وأَسراره , تلك الأَسرارِ الروحيَّة التي يسمحُ اللّه لأَنبيائه بمعرفةِ بعضِها القليلِ النَّزْر كيما يكشفوا عنها للناس ؛ أَمَّا المعرفةُ الروحيَّة الشاملة فلا يُحيطُ بها ولا يُدرِك غَورَها إلاَّ هو , سبحانَه وتعالى . المعرفة الروحيَّة والأَسرار الإلهيَّة لا تُعطى إلاَّ لمُستحِقِّيها وبمقدارٍ فقط ؛ تُعطى لِمَن سَمَا بنفسه وتزكَّى وعمل الصالحات وسارع في الخير والتقرُّب من اللّه , جلَّ جلالُه .

Return to the Top

 

مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة

مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة

 

هل تبدأُ حياةُ الإنسان بالمهد وتنتهي باللحد ؟ هل تفنى هذه الحياة بفناء الجسد ؟ وإلى أَينَ تمضي النفسُ التي تحرِّكُه وتجعلُه يتكلَّم ويأْكل ويشعر ويتحسَّس ويفكِّر ويُقيم الروابط العائليَّة والعلاقات الإجتماعيَّة ؟ هل تتلاشى بتلاشي الجسد الذي تحلُّ فيه ؟

هذه التساؤلات إستحوَذَتْ – وما تزال – على إهتمام الإنسان منذ القِدَم , ومنها نشأَتْ فكرةُ التقمُّص أَو خلودِ النفس وإستقلاليَّتِها عن الجسد وتكرارِ عودتها الى الأرض . هذا الإعتقاد هو من أَقدَم الإعتقادات التي عرفها الإنسان في خلال تاريخه , وربَّما من أَشَدَّها انتشاراً جغرافيّاً بين الشعوب .

عودة النفس الى الحياة ربَّما عرفها إنسانُ ما قبل التاريخ بحسب مفاهيمه البدائيَّة الخرافيَّة , فعبَّر عنها برسومه في المغائر والكهوف . وعرَفْتها أَيضاً الشعوبُ القديمة كالفنيقيِّين وسواهم . كما عرفها قدماءُ المصريِّين وإنْ يكنْ في تصوَّرٍ مُشَوَّه ؛ ذلك أَنَّهم شيَّدوا الأَهرام الضخمة قبوراً لملوكهم إيماناً منهم بأَنَّ أَرواح فراعنتهم ستعود الى أَجسادها المحنَّطة لتُعاود مسيرةَ حياتها بعد الموت !

على أَنَّ فكرة خلود النفس وتكرار عودتها الى الحياة في أَشكَالٍ وحالاتٍ مختلفة ( أَو ما يُعرَف بالتقمُّص ) لم تتبلوَرْ وتتَّخِذْ منحاها الفلسفيَّ العميق القائم على الإيمان بجوهر النفس الروحيِّ  المستقلِّ عن البدن وضرورة خلاصها من قيود المادِّيَّة الزريَّة بارتقائها الروحيَّ وابتعادها عن مُغرِيات الحياة – أَقول : إنَّها لم تتبلورْ إلاَّ بعد أَن طلعَتْ على العالَم من الشرق , من خلال تعاليم الديانة الهندوسيَّة وكُتُبها المقدَّسة كالباجافاد – جيتا Bhaghavad-gita   والأُبانيشاد Upanishad  والبغافاتا Bhagavata    وغيرها . ثمَّ انتقلَتْ فكرةُ التقمُّص من الهند الى الشرق الأَقصى عبر الفلسفة البوذيَّة , وأَصبحَتْ جزءاً أَساسيّاً من تعاليمها ؛ كما انتقلَتْ أَيضاً الى العالَم الغربيِّ الأوروبيِّ في القرن السادس قبل الميلاد بواسطة شعراء اليونان وفلاسفتها كأُورفيوس ومن بعدِه فيثاغورُس , ثمَّ تبنَّاها الفيلسوفُ الفذُّ أَفلاطون وغيرُهم من فلاسفة اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد تقريباً .

لقد أَعطى حكماءُ اليونان وفلاسفتُها مفهومَ التقمُّص البُعدَ الفلسفيَّ الذي يستحقُّه , وأَقاموا له المدارسَ الفكريَّة , وجعلوا منه فلسفةً ناضجة قائمةً على الحجَّة والمنطق , وتستندُ الى مفاهيمَ عميقة تتعلَّق بحقيقة النفس وخلودِها والغايةِ من وجودها . تقول دائرةُ المعارف البريطانيَّة Encyclopedia Britannica   " يعودُ تأثيرُ عقيدة التقمُّص وأَهمِّيَّتُها في الغرب الى تبنِّي أَفلاطون لها " . ( الجزء 11 ) (7) .

و الحقَّ أَنَّ الديانات السماويَّة الموحِّدة ( اليهوديَّة و المسيحيَّة و الإسلام) أَشارتْ الى فكرة خلود النفس و تكرار رجوعها إلى الحياة في أَشكَالٍ و حالاتٍ مختلفة. القرآن الكريم و الكتاب المقدَّس بعهدَيه القديم و الجديد  يُلمِحان إلى ذلك في سُوَر و إصحاحاتٍ متعدِّدة . دع أَنَّ فكرةَ التقمُّص لعبتْ دوراً مهمًّا في حِقَبٍ مختلفة من تاريخ هذه الديانات , و بخاصَّةٍ في أَوائل عهد الرسالتَين السماويَّتين , اليهوديَّة و المسيحيَّة , و ذلك قبل أَن ضعفَتْ و كادت تتلاشى في الديانة اليهوديَّة , و قبل أن طُمِسَتْ حقيقتُها في الكنيسة المسيحيَّة لأَغراضٍ و مآربَ دنيويَّة . أَمَّا الديانة الإسلاميَّة فقد اعتَنَقَتْ عقيدة التقمُّص فيها عدَّةُ فِرَق باطنيَّة منها ما اندثَر , و منها ما يزال قائماً .

سنتحدَّث في هذا المقال , و لو باختصار , عن التصوُّرات المختلفة لمفهوم التقمُّص السائدة الآن في العالَم , و بخاصَّةٍ في الديانتَين الهندوسيَّة و البوذِيَّة و عند الموحِّدين المعروفين بالدروز , مع الإشارة إلى أَنَّ هناك تصوُّراتٍ مختلفة لمفهوم التقمُّص حتَّى في الديانة الواحدة . و لن نتطرَّقَ إلى ذكر الجماعات الأُخرى القليلة العدد , المُبَعْثَرة هنا و هناك في جميع أَصقاع الأَرض , و المؤمنة بوجه أَو بآخر من وجوه التقمُّص , كالهنود الحُمر و سكَّان ألاسكا ( الأَسكيمو ) , فضلاً عن بعض الفِرَق الباطنيَّة التي ما تزال حيَّةً في أَجزاءٍ مختلفة من الشرق الأَوسط , كالإسماعيليِّين و اليزيديِّين و العلويِّين.

                *              *              *

المقصود بكلمة تقمُّص , كما نستخدمها في هذا المقال ، عودة النفس إلى  التجسُّد و الحياة بعد أَن تكون قد فارقَتْ جسدَها السابق , و ذلك على سبيل الإطلاق من غير تخصيصٍ كأَنْ نستخدمَ لكلِّ شكلٍ من أَشكال التقمُّص , الإنسانيِّ منه و الحيوانيِّ و النباتيِّ و الجماديِّ، مُصطَلَحاً خاصاً به كالنَّسْخ و المَسْخ و ما شاكل.

تقول إليزابيت كلير بروفت E.C. Prophet  في كتابها " التقمُّص, الحلقة المفقودة في الديانة المسيحيَّة "(8) إنَّ الإهتمامَ الزائد بالتقمُّص مستمرٌّ في الدُّوَل الصناعيَّة المتطوِّرة , و إنَّ هناك الملايين من الأَميركيِّين و الكنديِّين و الأوروبيِّين المسيحيِّين الذين باتوا اليومَ يؤمنون بهذه العقيدة . و تقول أَيضاً إنَّ أَقَلَّ تقدير لنسبتهم العددَّية , بحسب الإحصاءات التي أُجرِيَتْ في عام 1990, يتعدَّى 20%من مجموع مسيحيِّي أميركا و كندا، و ذلك بالرغم من عِلم أَكثرهم بأَنَّ الكنيسة المسيحيَّة , في جميع مذاهبها ، لا تعترف بعقيدة التقمُّص، و أَنَّها طمَسَتْ حقيقتَها رسمِيًّا في القرن السادس الميلاديِّ بقرارٍ إمبراطوريٍّ مؤيِّدٍ من المَجمع الكنسيّ.

الإهتمام الحاليُّ بالتقمُّص له أَسبابُه المتعدِّدة، منها اقتناعُ مُعتنقيه بأَنَّهم يستطيعون في ضوئه تعليلَ أُمور الحياة و أَحداثها المتناقضة ظاهراً ، و بأَنَّه قائمٌ على الحُجَّة و المنطق و العقل و على الإيمان الراسخ بمراحم الله و عدالته اللا محدودَتين. . عقيدة التقمُّص القائمة على مبدأ العدالة الإلهيَّة و الثواب و العقاب الروحيِّين تُعطي الجوابَ الشافي للتناقضات الكثيرة التي تطالعُنا الحياة بها في كلِّ زمانٍ و مكان، كما إنَّها تمنحُ الإطمئنان بأَنَّ فوق الفروق الكثيرة و المُفارَقات الغريبة بين الكائنات و أَحوالها المختلفة ربّاً رحيماً عادلاً لا يظلم أحداً. و إلاَّ فلماذا يولدُ أَحدهُم عليلاً أَو فقيراً، و يولدُ الآخر سليماً أو غنياً؟ و لماذا يولدُ شخصٌ في قبيلةٍ بدائيَّةٍ متخلِّفَة في أَدغال إفريقيا أَو مجاهل الأَمازون, فيُحكَم عليه بالجهل و التخلُّف و الفقر و الأَمراض,

بينما يولدُ آخر في مجتمعٍ متقدِّمٍ راقٍ بما فيه من أَسباب الحضارة و بحبوحة العيش؟ هل تستقيم عدالةُ الله, جلَّ جلاله, في خَلقِه من غيرِ تعليل تلك الفروق و التناقضات؟ و هل يُعقَل أَن تستوي مراحمُ الله العميمة و تكون شاملةً في خلال دورةِ حياةٍ قصيرةٍ واحدة يمنحُها تعالى للإنسان على الأَرض بما فيها من تجاربَ و مغرياتِ مادِّيَّة و حسِّيَّة ثمَّ يحاسبُه بعد ذلك حساباً عسيراً على ما اقترَفَتْه يداه؟ كلاَّ. الله تعالى يُعطي جميعَ مخلوقاته فُرَصَ العودة إلى الحياة مرَّاتٍ متعدِّدةً لاستكمال مسيرة الوجود المطَّرِدة، فتُجَرَّبُ ( أَي المخلوقات ) و تُمتَحَنُ مراراً و تكراراً كيما تستطيع التغلُّبَ على تجارب عوالمها و شرورها، حتَّى إذا نجحَت ارتقَتْ صُعُداً في معارج الرقيِّ الروحيِّ, غايةِ الوجود.

و اعتقادي، أَيضاً، أَنَّ الإهتمام المتزايد بعقيدة التقمُّص في عصرنا الحاليِّ يعود إلى عدم رضى كثيرين من الناس بطغيان القِيَم المادِّيَّة على سائر القِيَم. اللجوء إلى عقيدة التقمُّص هو البديل النفسيُّ و الفكريُّ الذي يمنحُ بعضَهم الشعورَ بالعزاء و السلوان بأَنَّ في نهاية النَّفَق المادِّيِّ المُظلِم حقيقةً روحيَّةً أَسمى و أَبقى من جميع القِيَم المادِّيَّة الدنيويَّة البائسة.

                *              *              *

يختلف مفهوم التقمُّص اختلافاً كبيراً بين عقيدةٍ و عقيدة. و يختلفُ أَيضاً في العقيدة الواحدة بين طائفةٍ و طائفة. التقمُّص في الديانة الهندوسيَّة، مثلاً، له ثلاث مدارس رئيسيَّة مختلفة، منها المدرسة الفيديَّة السائدة القائلة إنَّه عندما يموتُ الإنسانُ المادِّيُّ غيُر الروحانيِّ تذهبُ روحُه إلى واقعٍ مادِّيٍّ سُفليٍّ حيث يبقى في العذاب من جيلٍ إلى جيل, و لا يتمُّ له الخلاص من جحيمه إلاَّ إذا انبرى أَولادُه و أَحفادُه، جيلاً بعد جيل، إلى تقديم الطعام و الماء و تأْدية الخدمات . و من هذه المدرسة الفيديَّة القديمة  Vedic school نشأَتْ في الديانة الهندوسيَّةُ فكرة الطبقيَّة، كما نشأَ نظامُ المنبوذين الذي تدين له شرائحُ كبيرةٌ من الشعوب الهنديَّة. و لقد دان غاندي هذا النظام، و قال فيه إنَّه نظامٌ جائر دخيلٌ على الديانة الهندوسيَّة، تغلغَلَ فيها قديماً، يومَ كانت في أَحَطَّ مستوياتها الروحيَّة و أدناها .

و فضلاً عن ذلك، فإنَّ في الفلسفة البوذيَّة اختلافاتٍ في شرحِ عقيدة التقمُّص بين البوذيِّين الجنوبيِّين المعروفين ب"التِرافادا" Theravada و البوذيِّين الشماليِّين المعروفين ب" المَهايانا" Mahayana البوذيَّة الجنوبيَّة التي يعتنقها سكَّان تايلاند و بورما و سيرلنكا و كمبوديا و فِيتنام لا تؤمن بوجود النفس مستقلَّةً عن البدن. و هي تذهب إلى القول إنَّ الإنسان وجودٌ وهميٌ يتكوَّن من خمسة عناصر: الجسد و الحواسِّ و المشاعر و الطاقة و الفكر. و عند الموت تتلاشى هذه العناصر, و تندمجُ في الطبيعة مخلَّفةً فيها ما يشبهُ الجرثومة أَو البزرة التي تحمل خصائصَ هذه العناصر مجتمعةً a .  germ of consciousness   هذه الجرثومة أَو البزرة تدخلُ في رحم الأُمِّ، و تتكوَّن فيه وليداً جديداً. كيف يتمُّ هذا الأَمر؟ هل الشيء الذي يدخل رحمَ الأُمِّ مادِّيٌّ أَم روحيٌّ؟ لا جوابَ واضحاً عن هذين السؤالَين.

هذه التصوُّرات المُعقَّدة العسيرةُ الفهم ترفضها الطوائف البوذيَّة الشماليَّة المنتشرة في الصين و اليابان و كوريا و التيبت، و لا توافق عليها. و هي أَيضاً لا تؤيِّد القول بمبدأ" لا للنفس" الذي تنادي به الفئاتُ البوذيَّة الجنوبيَّة Theravada. المهايانا Mahayana أَو البوذيِّين الشماليُّون يرَون أَنَّ مبدأَ "لا للنفس" دخيلٌ على الفلسفة البوذيَّة تسلِّل إليها في عهودها الأُولى، و قد رفضه الحكيم بوذا رفضاً قاطعاً حين سمع به و هو على قيد الحياة.

إنَّ رجوع النفس إلى الحياة أَو التقمُّص لا تعترف به المذاهبُ السائدة في الديانات السماويَّة، اليهوديَّة و المسيحيَّة و الإسلام، مع أَنَّ كُتبَها المقدَّسة لا تخلو من إشاراتٍ إليه في عدَّةِ مواضعَ منها. لذلك لا أَرى فائدةً كبيرةً في الكلام على ما ظهر من الخلافات، في شأْن التقمُّص، بين بعض الفِرَق الباطنيَّة التي نشأَتْ في هذه الديانات، و لا سيَّما في الحِقَب الأُولى من تاريخها؛ مع العِلم بأَنَّ منها ( أَعني الفِرَق ) ما يزال قائماً، كالدروز و الإسماعيليِّين و اليزيديِّين، و هي جميعُها تؤمن بالتقمُّص على اختلافٍ في النَّظَر إليه.

Return to the Top

 

خلاصةٌ في أَهَمِّ مبادئ التقمُّص

 

في الهندوسيَّة

خلاصةٌ في أَهَمِّ مبادئ التقمُّص

في الفلسفات الدينيَّة الهندوسيَّة و البوذيَّة و عند الموحِّدين(الدروز)

 

 

في الهندوسيَّة

 

  1. التقمُّص في الديانة الهندوسيَّة قانونٌ يشمل الانسانَ و الحيوانَ و النبات، لكنَّه يَستثني الجماد. الإِنسان، حينَ توافيه المَنيَّة، يتقمَّص فوراً في عالَم الأَرض المادِّيِّ. ثمَّ يتكرَّر مجيئُه في تقمُّصاتٍ متعاقبة تُعَدُّ بالأُلوف حتَّى يتسنَّى له التطهُّر روحيًّا من شوائب المادَّة و مُغرِياتها، و من ثَمَّ يعودُ إلى الفَلَك الروحيِّ الذي انبثقَ منه ليكون مع الله.
  2. النفوس انفصَلَتْ عن الله؛ فكلُّ نفسٍ، و الحالة هذه، جزءٌ منه تعالى. بعضُ النفوس أَصبحَتْ ملائكةً و في مراتبَ عُلويَّة مادِّيَّة؛ و بعضُها-و هي الأَكثريَّة- سقطَتْ إلى عالَم الأَرض لاقترافها شرّاً ما، و تقمَّصَتْ أَجْسامَ أَسفَلِ أَنواع الكائنات كالحشراتِ و الزواحف و الوحوش و الأَعشاب؛ و قليلٌ منها اتَّخذ له جسماً إنسانيّاً؛ لذلك كان الإنسانُ أَقَلَّ مخلوقات الأَرض عدَدَ أَفراد.
  3. بعد أَن تجتازَ النفسُ مراحلَ مختلفةً لا نهايةَ لها في أَدوارِ حياةٍ مادِّيَّة حيوانيَّة سُفلى، يتسنَّى لها أَن تتقمَّصَ في النوع الانسانيِّ . و عندئذٍ فقط تستطيعُ أَن تتطهَّرَ من رغباتها الدنيويَّة و أَوشابها المادِّيَّة لتُعاودَ الرجوعَ إلى الله، و ذلك بعدَ تقمُّصاتٍ لا حصرَ لها و لا عَدّ.
  4. الإنسان وحدَه دون الكائنات جمعاء يستطيعُ أَن يَنشدَ الله و الروحانيَّات.
  5. نوعيَّةُ التقمُّص المُقبِل يُقرِّرُها مجملُ ميول الانسان و رغباتِه الكامنة فيه عند لحظة الوفاة.
  6. الله، جلَّ جلاله، لا يتدَّخَل في عمليَّة التقمُّص، بل يُراقبُها. و عليه، فلا يندرجُ التقمُّص في باب الثواب و العقاب الإلهيِّين، و إنمَّا يحصل تلقائيَّاً، تُقرِّرُه الرغبات و ما يمكنُ أَن يُدعى خصائصَ الكائن النفسيَّة عند لحظةِ موته.
  7. و بما أَنَّ الله مُحِبٌّ شفيق، فهو يُرسِل إلى البشر حكماءَ guru ليعلِّموهم دقائقَ الحياة الروحيَّة و مُقتَضياتِها الخالية من المادَّة كيما يستطيعوا التحرُّرَ، في نهاية المَطاف، من تكرار تقمُّصاتهم المادِّيَّة المُمِلَّة التاعسة.

Return to the Top

 

البوذيَّة

البوذيَّة

 

  1. رغبات الإنسان و شهواتُه المادِّيَّة تُكبِّلُه بعذابات الأَرض المُضنِية، و تحكم عليه بالتقمُّص و الرجوعِ المتكرِّر إلى عالَم المادَّة البغيض.
  2. إذا شاء الإنسانُ الخلاصَ من هذه العذابات، فعليه أَن يتحرَّر من المادِّيَّات، و يزهدَ في الدنيا، و يتَّجِهَ بكلِّ كيانه إلى الروحانيَّات التي تُفضي به، آخرَ الأَمر، إلى الكمال أَو النيرفانا Nirvana، و ذلك بعد تقمُّصاتٍ و أَدوارٍ متعدِّدة تُحسَب بالأُلوف.
  3. الاستنارة Enlightenment أَو الوصول إلى حالةِ بوذا (المُستنير) أَعظَمُ درجات الكمال التي يمكنُ الإنسانُ بلوغُها. إلاَّ أَنَّ ذلك لا يتحقَّقُ في دورةِ حياةٍ واحدة، بل في خلال تقمُّصاتٍ تستغرقُ أُلوفَ السنين، كما تحتاجُ إلى الاستعداد النفسيِّ الروحيِّ له.
  4. تؤمن البوذيَّة الشماليَّة(ماهايانا Mahayana) بأَنَّه إذا كان الإنسان صالحَ الأَعمال عند وفاته، يرتقي إلى فلك الآلهة و الأَبرار، و يسعدُ بالنعيم السماويِّ إلى أَجَلٍ ما . أَمَّا إذا كان طالحَ الأَعمال، فإنَّه يتقمَّص كائناً من مخلوقات الأَرض الدنيا: حشرةً أَو زحَّافة أَو وحشاً أَو نبتةً... و يظلُّ في هذه الحالة التعيسة على قَدْر ما إقترفَ من شرور. و أَمَّا إذا كان الإنسانُ في منزلةٍ وُسطى، أَي لا بارّاً و لا شِّريراً، فسرعانَ ما يتقمَّص إنساناً.
  5. تذهبُ البوذيَّةُ الشماليَّة إلى أَنَّ الإنسان هو وحدَه القادر على بلوغ حالة الإستنارة و الخلاص، و ذلك عندما يكون في الصورة الإنسانيَّة. و عليه،  فكلُّ ما عدا الإنسان من المخلوقات عاجزٌ عن تعقُّل الروحانيَّات و ترقية الذات.
  6. الأَشكال المختلفة التي يتَّخذها الإنسان في خلال تقمُّصاته، سواءٌ أَكانَ بارّاً في فلك النعيم أَم حشرةً أَو بهيمةً أَو بشراً على الأَرض، ليستْ حقائقَ ثابتة، بل حالاتٌ زمنيَّةٌ مادِّيَّة  وهميَّة. الحقيقة المطلَقة هي درجةُ بوذا التي تتخطَّى عوامل الزمان  و المكان . و بوذا لا يتدخَّل في عمليَّة التقمُّص(9).

Return to the Top

 

الموحِّدون أَو الدروز

الموحِّدون أَو الدروز

 

الموحِّدون أَو الدروز هم في الأَصل مذهبٌ إسلاميّ باطنيٌّ إنشقَّ عن المذهب الإسماعيليِّ في القرن الحادي عشر الميلاديِّ، إِبَّان العصر الفاطميِّ، و استقرَّ في سوريا الكبرى ( سوريا لبنان وفلسطين.)

  1. يؤمنُ الدروز بأَنَّ النفس خالدة، تتقمَّص أَجساداً متعاقبة بلا تَوانٍ، لأَنَّها لا تفارق الجسد. و يتكرَّر تقمُّصُها إلى نهاية الأَزمنة. و هي تبلو، في تقمُّصاتها، مختلفَ الأَحوال كالفقر و الغنى و المرض و الصحَّة و الذكاء و الغباء و القبح و الجمال... ريثما تُحاسَب حساباً عادلاً و دقيقاً في يوم الدينونة .
  2. التقمُّص في العقيدة الدرزيَّة وَقْفٌ على البشر فقط، و لا يشملُ سواهم من الكائنات، و هو لا يعدو الجنسَ فيهم: الذَّكَر يتقمص ذَكَراً، و الأُنثى أُنثى .
  3. يتحصَّل ممَّا سلف أَنَّ النفسَ الإنسانيَّة لا تتقمَّص حيواناً أَو نباتاً أَو سواهما .ذلك أَنَّ الله تعالى يحاسبُ الناسَ في اليوم الأَخير بما أَقدموا عليه من خيرٍ أَو شرٍّ،فلا يُعقَل أَن يعاقِبَ أَحداً بمَسخِه حيواناً أَعجَم لا يعي و لا يَعْقِل و لا يقوى على تمييز الخير من الشرِّ. عدالة الله و رحمتُه تستوجبان ذلك.
  4. يتقمَّص الإنسان في المذهب الذي هو منه أَصلاً: الدرزيُّ يتقمَّص درزيّاً، و الهندوسيُّ  هندوسيّاً، و قسْ على ذلك...
  5. ليست الغايةُ من التقمُّص تطهيرَ النفس أَو ترقيتَها الروحيَّة، بل الغايةُ منه الإختبار و التجربة.
  6. البشرُ جميعاً يتقمَّصون، لكنَّ قلَّةً قليلة منهم يستطيعون تذكُّرَ أَدوار حياتهم السابقة، و هو ما يُعرَف عند الدروز بالنُّطق(10) .

Return to the Top

 

التقمُّص في اليهوديَّة و المسيحيَّة و الإسلام

 

اليهوديَّة 

التقمُّص في اليهوديَّة و المسيحيَّة و الإسلام

 

اليهوديَّة       

 

يُعزى الإهتمام بعقيدة التقمُّص عند اليهود الى الفِرَق اليهوديَّة الصوفيَّة التي ظهَرتْ في القرن الثالث قبل الميلاد، و التي تُعرَف باسم " القبَّاليِّين" Kabbalists. و لقد أَسهَمَتْ هذه الفرق في نشر فكرة التقمُّص عند الطوائف اليهوديَّة في القرن الثالث قبل الميلاد و في عهد السيِّد المسيح. ثمَّ انحسَرَتْ هذه الفكرة لعدَّة قرون إلى أن تجدَّد الاهتمامُ بها في القرنَيْن الثاني عشر و الثالث عشر الميلاديِّين على أَيدي تلك الجماعات اليهوديَّة الصوفيَّة. و في عصر النهضة، برَّزَ بين القَبَاليِّين الذين  كانوا يَعدُّون أَ نفسَهم متعمِّقين في خفايا التعاليم اليهوديَّة و أَسرار أَسفارها المقدَّسة رجالٌ أَقطابٌ في العِلم و الدين و الفلسفة، الأَمر الذي أَسهم في إعادة إحياء عقيدة التقمُّص و نشرها بين اليهود.

تؤمن الفِرَق القَبَاليَّة بالتقمُّص، و ترى أَنَّ ما أَشارتْ إليه التوراة في شأْنه في مواضعَ متفرِّقة منها برهانٌ قاطعٌ على صحَّته لا يقبل الجدل. يقول الحاخام مَنَسَّى بن اسرائيل الذي كان ينتمي إلى هذه الفِرَق اليهوديَّة الصوفيَّة و الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلاديِّ :" تناسخُ النفوس عقيدةٌ ثابتة غيرُ منقوصة تؤمنُ بها جميعُ فصائل كنيستنا بصوتٍ واحد و بلا تحفُّظ".(11)

تأَثَّرَت الفِرَق القَبَاليَّة منذ نشوئها بالفلسفات الهندوسيَّة القائلة بالتقمُّص؛ لذا نجدُ مفهومَه عندها شبيهاً جداً بمفهومه عند الهندوسيِّين. يعتقدُ القَبَاليُُّون مثلاً أَنَّ الإنسان يتقمَّص عند  الوفاة في النوع و الحالة اللذين ينسجمان مع رغباته و خصائصه النفسيَّة عند وفاته، و أَنَّ التقمُّص عمليَّةٌ تتمُّ لتعليم النفس و تهذيبها، لا لعقابها أَو ثوابها، و أَنَّ الإنسانَ الشرِّير يرجع إلى الأَرض حيواناً أَو نباتاً، فلا يستطيع تحرير نفسه حتَّى يشفعَ له عند الله أَحدُ القدِّيسين أَو الأَنبياء فيخلص(12).

إنَّ عدَّد القَبَاليِّين اليومَ قليلٌ جداً، و هم مُبعثَرون هنا و هناك في شتَّى أَنحاء العالَم، و لا يؤثِّرون في التوجُّهات الدينيَّة العامَّة للطوائف اليهوديَّة الرئيسيَّة التي لا تقول بالتقمُّص، و لا تَعدُّه ركناً من أَركان إيمانها. أَمَّا إشارات التوراة التي تُفيدُ عودةَ الإنسان إلى الأَرض أَو سَبْقَ وجوده عليها، كقول الربِّ يخاطب النبيِّ إرميا: " قبل أَن أُصوِّرَك في البطن عرفتُك، و قبل أَن تخرجَ من الرحم قدَّستُك، و جعلتُك نبيّاً للأُمَم،"(13) (إرميا 1: 4-5) فقد فسَّرَتْها  الطوائفُ اليهوديَّة الرئيسيَّة تفسيراً بعيداً عن التقمُّص. ذلك أَنَّ معظم الطوائف اليهوديَّة المنتشرة اليومَ في العالَم، شأْنُها في ذلك شأْنُ أَكثرِ الطوائف المسيحيَّة و الإسلاميَّة، تؤمن بيوم الدينونة أَو يوم القيامة أَو البعث resurrection، أَي بقيامة الأَموات من القبور مثلما كانوا عليه، جسداً و نفساً، لتأْدية الحساب أَمام الديَّان.

صحيحٌ أَنَّ الطوائف اليهوديَّة الرئيسيَّة لا تدعو إلى الإيمان بالتقمُّص، لكنَّها في الوقت نفسه لا تَشجبُه، فلا تحاول مثلاً أَن تقمعَ القائلين به على غرار ما فعلَتْه الكنيسة المسيحيَّة. زدْ أَنَّ تلك الطوائف لا تُولي شؤونَ ما بعد الموت كبيرَ اهتمام ، بل تُعنى بقضايا الساعة على الأَرض: ههنا و الآن.

Return to the Top

 

المسيحيَّة

المسيحيَّة

 

لا يخلو العهدُ الجديد من إشاراتٍ واضحةٍ إلى عقيدة التقمُّص. من ذلك مثلاً أَنَّه لَمَّا سأَل السيِّد المسيح تلامذتَه:" مَن أَنا في رأْي الناس؟"أَجابوا:" يقولون اِنَّكَ يوحنَّا المعمدان، و آخرون انَّك إيليَّا، و آخرون انَّ نبيّاً من الأَوَّلين قد قام". (لوقا9: 18-19) و من تلك الإشارات أَيضاً سؤال التلامذة عن المولود أَعمى:" من أَخطأَ : أَهذا أَم أَبواه حتَّى وُلِدَ أَعمى ؟" ( يوحنَّا9: 2) و منها قولةُ بولس الرسول المأْثورة:" ما يزرعُه الإنسان إيَّاه يحصد".(غلاطية6:7).

هذه الاشارات وكثيرٌ غيُرها تُفيد أَنَّ السيِّد المسيح وتلامذتَه كانوا يعرفون التقمُّص أَو يؤمنون به ؛ ففي جوابهم له أَنَّه في عُرْف بعض الناس أَحدُ الاَنبياء وقد قام دليلٌ على معرفتهم بعقيدة التقمُّص، وفي استفسارهم عن المولود أَعمى دليلٌ على ايمانهم بها، بل على اعتقادهم أَنَّها قائمةٌ على مبدأ الثواب و العقاب – و إِلاَّ فكيف نفهم رَبْطَهم مصيبة العمى ( و هي عندهم عقابٌ إلهيٌ ) بما اقترفه الضرير، في حياة سابقة، من ذنوب؟!

و الحقَّ أَنََّ الإيمان بالتقمُّص كان سائداً عند المسيحيِّين الأَوَّلين؛ فقد آمنَ به إيماناً راسخاً بعضُ آباء الكنيسة في عهودها الأُولى، و من أَشهرهم و أَوفرهم  عِلماً و فلسفةً أُوريجين Origen  ( 185-245م) الذي كان رأْيُه في التقمُّص شبيهاً جدّاً بآراء الأَفلاطونيَّة و الهندوسيَّة و التصوُّف اليهوديِّ فيه، و لكنْ من زاويةٍ روحيَّة أَعمق.

كان آباء الكنيسة المسيحيَّة الأَوائل يعتقدون أَنَّ نوعَ التقمُّص و حالتَه مرتبطان بالعدالة الإلهيَّة أَو بمبدأ الثواب و العقاب الروحيِّ؛ أَي إنَّ الإِنسان يتقمَّص النوعَ و الحالةَ اللذين يستحقُّهما نتيجةَ ما اقترفه، فكراً و عملاً، من ذنوبٍ في أَدوار حياة سابقة ؛ و لولا ذلك لَما تجسَّد على الأَرض.

و كانوا يعتقدون أَيضاً أَنَّ الإنسان إذا زاول أَعمال الشرِّ، يُسفِّل نفسَه روحيّاً، فيُكتَبُ عليه أَن يتقمَّص على الأَرض حيواناً؛ فإذا أَمعن في الشرِّ، تقمَّص نباتاً. و هو لن ينجوَ من تقمُّصاته الحيوانيَّة أَو النباتيَّة إلاَّ بعد أَن يكفِّر عن سيِّئاته، فيُرقِّي نفسَه تدريجاً حتَّى يبلغَ المستوى الذي سقطَ منه، و ذلك بعد تقمُّصاتٍ ودوراتٍ متعدِّدة؛ أَي إنَّه يعاودُ التقمُّص غنساناً، و من ثمَّ يُتاح له بإرادته بلوغَ السماء في نهاية المطاف.

الإِيمان بالتقمُّص كان منتشراً بين أَوائل المسيحيِّين في القرنَين الأَوَّل و الثاني الميلاديِّين. لكنَّ الكنيسة المسيحيَّة جعلَتْ، بعد ذلك، تقلِّل من أَهميَّةَ عقيدة التقمُّص، و تُفسِّر إشارات العهد الجديد إليها تفسيراتٍ مغايرةً لها. و ما إن أَزف القرن السادس الميلاديُّ و قوِيَتْ نزعاتُ الكنيسة المسيحيَّة التسلُّطيَّة، فشرَعَتْ تحشرُ نفسَها في شؤون الناس، كبيرها  و صغيرها، حتَّى باتَ الجوُّ مهيَّأَ للقضاء على عقيدة التقمُّص قضاءً مُبرَماً. ذلك أَنَّ مفهومَ التقمُّص الذي أَخذ به المسيحيُّون الأَوائل كان اعتقاداً ناضجاً مَنوطاً بمبدأ العدالة الإلهيَّة و علاقةِ الإنسان المباشرة بخالقه، الأَمر الذي رأَت الكنيسة المسيحيَّة أَنَّه يقلِّل من دورها بين المؤمنين، و هي التي بدأَتْ تنصِّب نفسَها وسيطاً وحيداً بين الله و الناس: ما تُحلِّلُه على الأَرض يُحلِّل في السماء، و ما تُحرِّمُه يُحرَّم.

و مع مرور الزمن ازدادَتْ محاولة الكنيسة قَمْعَ كلِّ مَن يؤمن بعقيدة التقمُّص واضطهادَه حتَّى تمكَّنَتْ أَخيراً من الإِجهاز عليها رسميّاً. ففي المجمع الكنسيِّ الثاني الذي عُقِدَ في القُسطنطينيَّة عام 543 للميلاد، تواطأَت الكنيسة مع الإمبراطور يوسطنيانوس ، فأَصدرتْ قراراً كنسياً مُلزِماً يشجبُ عقيدة التقمُّص و كلَّ ما كُتِب فيها. و ما إن حلَّ القرنُ الخامس عشر للميلاد حتَّى بلغَ قَمْعُ الكنيسة للقائلين بالتقمُّص أَوْجَه، فلم تتوانَ مثلاً عن حرق القسِّ الفيلسوف الإيطاليِّ جيوردانو برونو  giordano Bruno (1548-1600 م ) حيّاً، و اعتبارِه كافراً لعدَّة أَسبابٍ ، منها اِيمانُه بالتقمُّص و رَفْضُه التخلِّي عنه.

إنَّ الكنيسة المسيحيَّة، في أَكثر مذاهبها، لا تؤمن اليومَ بالتقمُّص، بل بيوم القيامة الذي يُبعَثُ فيه الأَمواتُ من القبور للحساب، فإمَّا إلى النعيم، و إمَّا إلى الجحيم. و لكنْ بالرغم من محاولات الكنيسة الجائرة، في خلال العصور الماضية، لِقَمع فكرة التقمُّص في العقل الغربيِّ المسيحيِّ، فإنَّها لم تستطع القضاءَ عليها قضاءَ تامّاً، فبقيَ بعضُ المسيحيِّين يؤمنون بها معوِّلين على ما وردَ في العهد الجديد من إشارات إليها.

Return to the Top

 

الإسلام

الإسلام

 

سبق لنا القولُ إِنَّ الديانتَين الموحِّدتَين، اليهوديَّة و المسيحيَّة، لم تعترفا رسميّاً بعقيدة التقمُّص حتَّى إِنَّ الكنيسة المسيحيَّة لم تتوانَ عن محاولة استئصالها من النفوس، و اضطهادِ كلِّ مَن يؤمن بها. و لمَّا كانت الديانة الإسلاميَّة تنحو مَنحى الديانتَين السابقتَين، فإنَّها، هي أَيضاً، لم تُولِ عقيدة التقمُّص الاهتمامَ الذي تستحقُّه، الأَمر الذي لم يُتِحْ لهذه العقيدة، بمعناها الفلسفيِّ العميق، ظروفَ النجاح و الإنتشار في الإسلام.

أَكثريَّةُ المسلمين الساحقة، في اتَّجاهَيهم الرئيسيِّين، السنِّيِّ و الشيعيِّ، يؤمنون بيوم القيامة، مَثَلُهم في ذلك مَثَلُ اليهود و المسيحيِّين. ذلك اليوم لا يَحين، في اعتقادهم، بعد الموت مباشرةً، بل بعد انتهاء الأَجيال و الأَدهار، بزوال الأَرض و مَن ما عليها، وفقاً للآية الكريمة: (إذا زُلزِلَتِ الأَرض زلزالَها، و أَخرجَت الأَرض أَثقالَها... يومئذٍ يصدُرُ الناسُ أَشتاتاً ليَرَوا أَعمالَهم. " فَمَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيراً يره. و مَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ شراً يرَه". (الزلزلة 1-8).

أَمَّا فكرةُ حساب القبر عند المسلمين، فلم تصبحْ قاعدةً من قواعد إيمانهم إلاَّ بعد عدَّة قرون من وفاة النبيِّ العربيِّ الكريم. و مَفادُها أَنَّ الإنسان، بعد موته، يُثابُ في القبر على أَفعاله أَو يُعاقَب... ريثما يأْزفُ يومُ الحساب العظيم( يومُ القيامة). و كان أَوائلُ المسلمين، قبل رسوخ هذا الإعتقاد في أَذهانهم، يَعدُّون الموتَ حالةً من حالات العدم؛ و ذلك لأَنَّهم حملوا الآيات الكريمة التي تتحدَّث عن الموت و البعث و النشور لا على محمل التقمُّص، بل على محمل يومِ القيامة و الحساب. من تلك الآيات مثلاً الآية الكريمة الآتية:"كيف تكفرون بالله و كنتم أَمواتاً، فأَحياكم، ثمَّ يُميتُكم، ثم يُحييكم، ثمَّ إليه تُرجَعون". (البقرة 28) فقد فُسِّر الموتُ هنا بأَنَّه العدم؛ أَي إنَّ الله، جلَّ جلاله، أَوجد الناسَ من العدم، ثمَّ يردُّهم إليه. و عندما يَحين يومُ الحساب، يُقيمُهم من الموت لإثابتهم أَو معاقَبَتِهم. و ثمَّة آيةٌ كريمة نزلَتْ على الرسول الكريم تُشير إلى إيمان المُسلمين الأَوائل بأَنَّ الموت حالةٌ من حالات العدم : "و لا تحسبنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيل الله أَمواتاُ، بل أَحياءٌ عند ربِّهم يُرزَقون".(آل عمران 169) و لكنَّ الشطر الثاني من الآية يُثبتُ أَنَّ الموتى أَحياء.

و هكذا، فقد فُسِّرَت الآياتُ الكريمة التي تُشير إلى  التقمُّص تفسيراً بعيداً عنه أَخذ به المسلمون ما خلا بعضَ الفِرَق الإسلاميَّة الباطنيَّة  أَو الصوفيَّة التي ظهرَتْ في القرون الوسطى، و تأَثَّرَتْ بعدَّة مصادر غربيَّةٍ و شرقِيَّة، منها التصوُّف اليهوديُّ المعروف بالقَبَالة و الغنوصيَّةُ المسيحيَّة و الأَفلاطونيَّة المحدَثَة و العقيدة الهندوسيَّة. نقلَ المسلمون هذه الفلسفات و العقائد إلى اللغتَين العربيَّة و الفارسيَّة، فتأَثَّرَتْ بها عدَّة فِرَق، منها الحركات الباطنيَّة الاسلاميَّة التي انشقَّتْ عن التيَّار الغالب في الإسلام كإخوان الصفا و الدرزيَّة و الإسماعيليَّة و اليزيديَّة و العلويَّة... و جميعُها تستندُ إلى عقيدة التقمُّص في تفسير الآيات الكريمة المُشيرة إليه(14) . و بحسبنا ههنا الاستشهاد ببعضها الواضح:

  1. "يُخرج الحيَّ من الميِّت، و يُخرج الميِّت من الحيِّ، و يُحيي الأَرضَ بعد موتها. و كذلك تُخرَجون". (الروم 19)
  2. " قالوا: ربَّنا، أَمَتَّنا اثنتَين، وأَحْيَيْتَنا اثنَتَيْن، فاعترفنا بذنوبنا . فهل إلى خروجٍ من سبيل؟" ( غافر 11)
  3. " و أَنَّه هو أَمات و أَحيا ، و أَنَّه خلقَ الزوجَين الذَّكَر و الأُنثى من نُطفةٍ إذا تُمنى، و أَنَّ عليه النشأَة الأُخرى" ( النجم 44-37)
  4. فلمَّا عَتَوا عن ما نُهُوا عنه قلنا لهم: كونوا قِرَدةً خاسئين". ( الأَعراف 166)
  5. ثمَّ بعثناكم من بعدِ موتِكم لعلَّكم تَشكرون" ( البقرة 56).
  6. " منها خلقناكم ، و فيها نُعيدُكم، و منها نُخرجُكم تارةً أُخرى" ( طه 55)
  7. يخلُقُكم  في بطون أُمَّهاتكم خَلقاً من بعد خَلْق" ( الزُّمَر 6)

 

هذه الآيات الكريمة، و كثيُر سواها، تؤكِّدُ أَنَّ الديانة الإسلاميَّة الحنيفة قائمةٌ، في جوهرها و حقيقتها، على تعاليم تتَّصلُ بالتقمُّص و خلود النفس و عودتها إلى الحياة بعد الموت.

Return to the Top

 

مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة

مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة

 

لا ريبَ في أَنَّ التقمُّص من أَهَّم المفاهيم في العقيدة الداهشيَّة؛ فلا يستطيع واحدُنا أَن يفهمها فهماً تاماً أَو أَن يقدر حقّاً ما جاءتْ به من حقائق روحيَّةٍ عميقةٍ و ناضجة إلاَّ من خلال استيعابه لمفهوم التقمُّص فيها.

التعاليم الداهشيَّة التي تتحدَّث عن النفس و السيَّالات و السببيَّة الروحيَّة و اتِّصاف الكائنات جميعاً بالوعي و الإدراك ترتبطُ بعضُها ببعض من خلال مفهوم التقمُّص. و لعلَّ السيَّالات الروحيَّة أَكثرُ المبادئ الداهشيَّة ارتباطاً بمفهوم التقمُّص. لذلك سأَصرفُ الوُكْدَ أَوَّلاً، في هذا المقال، إلى شرح نظريَّة السيَّالات الروحيَّة كما أَفهمُها، كيف تفعل و كيف تتفاعل و كيف تتحرَّك، لتمكين القارئ من التدرُّج بعدئذٍ إلى مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة ، كلُّ ذلك في شيءٍ كثيرٍ من الاختصار.

تقول الداهشيَّة بأَنَّ الروح لا تحلُّ في جسد الإنسان، كما يظنُّ الناسُ في الغالب، و إنَّما قوامُ الإنسان نفسٌ مؤلَّفة من سيَّالاتٍ روحيَّة أَساسيَّة مختلفة تَمدُّه بأَسباب الوجود و الحياة، كما بالفكر و الرغبات  و العواطف و القدرة على تمييز الصواب من الخطأ و الشرِّ من الخير و الاختيار بينهما. و هي(أَي النفس) مؤلَّفة أَيضاً من سيَّالاتٍ روحيَّة مرتبطةٍ بالجسد تَمدُّه بقوى الحركة و النطق و الحسِّ، و بكلِّ ما يتَّصل بنوعيَّة التقمُّص البشريِّ و طبيعته(15) . أَمَّا الروح ( و الصواب الأَرواح )، فهي تحيا في عوالمها الروحيَّة المتفاوتة الدرجات. لكلِّ روحٍ ستُّمئة سيَّالٍ روحيٍّ، منها الراقي و منها الرديء. السيَّالاتُ الرديئة انفصَلَتْ عن الروح و سقطَتْ إلى عوالمَ مادِّيَّة متفاوتة الدرجات، هي أَيضاً. و عند سقوطها امتزجَتْ بعناصر( سيَّالات) الأَرض لتشكِّل معها نفوساً واحدة مستقلَّة لكائناتٍ مادِّيَّة آنيَّة متنوِّعة ذات خصائصَ و صفاتٍ نفسيَّة و مادِّيَّة مختلفة، و ذلك بحسب استحقاقها. و ما غايةُ الروح أَو الأَرواح إلاَّ أَن تعودَ إليها جميعُ سيَّالاتها التي انفصَلَتْ عنها، و ذلك بارتقائها الإراديِّ الحثيث ريثما تبلغ درجات الكمال الروحيِّ. و إذَّاك فقط يتسنَّى للروح أَن تصعد و تندمجَ في عوالم السماوات النورانيَّة.

و عليه، فإنَّ الكائنات المادِّيَّة جميعاً ، و لا سيَّما الإنسان، امتداداتٌ " سيَّاليَّة"، إذا صحَّ التعبير، تابعةٌ للأَرواح التي انفصَلَتْ عنها و سقطَتْ إلى العوالم المادِّيَّة عقاباً لها على ذنوب اقترفَتْها. و هي، عند سقوطها، تكثَّفَتْ و اتَّخَذَتْ أَجساماً مادِّيَّة آنيَّة غير مستقرَّة. تتغيَّر الأَجسامُ المادِّيَّة بتغيُّر نوعيَّات هذه الامتدادات " السيَّاليَّة" و مُستوياتها الروحيَّة. أَمَّا غايةُ وجود الإنسان على الأَرض، بل غاية كلِّ وجودٍ مادِّيٍّ في الكون، فهي العودة إلى عوالم الروح التي انبَثَقَتْ منها. إلاَّ أَنَّ هذا لا يتحقَّق إلاَّ بعد اجتياز المِحَن و التجارب و التقمُّصات التي تُعَّدُ بالأُلوف ريثما تسمو السيَّالات سموّاً عظيماً، و تتحرَّر من قيودها المادِّيَّة و تجاربها الزاخرة بالآلام.

في التعاليم الداهشيَّة أَنَّ الإنسان(16) مُكَّوَنٌ من جانبٍ مادِّيٍّ جسديٍّ آنيٍّ زائل، و من جانبٍ نفسيٍّ روحيٍّ خالد. الجسمُ هو الوعاء أَو آلة التجربة، من خلاله يُمتَحَن الجانبُ النفسيُّ من الإنسان المُتمَثِّل بالميول و الغرائز و الرغبات و العواطف كالكرم و الحسد و البغض و الشهوة و الكسل و الشراهة... إلى ما هنالك من نزعات و نزوات تدعوها الداهشيَّة السيَّالات الروحيَّة.

تُمتَحَنُ هذه السيَّالات من خلال ظروف حياة الإنسان و مقتضياتها. فإذا استطاع التغلُّب على نزواته المادِّيَّة، رقَّى بعضَ سيَّالاته الروحيَّة أَو جميعَها، فارتفَعَتْ درجتُها الروحيَّة، و بلغَتْ مستوىً معيناً تنعتقُ فيه من الجسد الأَرضيِّ، و تنطلقُ من عالَم الأَرض إلى عالَمٍ مادِّيٍّ أَفضَل حيث تتقمَّص نوعاً و شكلاً جديدَين تستحقُّهما، ثمَّ تبدأُ دورةَ حياةٍ جديدة و تَبلو تجاربَ مرتبطةً بالعالَم الذي تقمَّصَتْ فيه. أَمَّا إذا تَسفَّلتْ سيَّالاتُ الإِنسان الروحيَّة تسفُّلاً عظيماً، حصل عكسُ ما قلناه سابقاً، فتتقمَّص في عوالمَ سفليَّةٍ شديدة العقاب.

و الجدير بالذكر ههنا أَنَّ السيَّالات الروحيَّة الأَساسيَّة في النفس لا تنتقل إلى عوالمَ جديدة إلاَّ بعد أَن يطرأَ عليها تغيُّر نوعيٌّ يؤثِّر في مستواها الروحيِّ، تسامياً كان هذا التغيُّر أَم تديِّناً. ذلك أَنَّ السيَّالات الروحيَّة الأَساسيَّة قُوًى فكريَّة عاقلَة و كلُّ سيَّال يتمتَّع بنزعاتٍ أَساسيَّة هي من مظاهر نشاطه كالبخل أَو الكرم، و الكبرياء أَو التواضع، كما يتمتَّع بالإدراك و المسؤولية  . فإذا كانَ رجلٌ ظالم يعلمُ حقَّ العِلم بأَنَّ ما هو مُقدِمٌ عليه عملٌ شرِّير سيُلحِق بالمظلوم ضرراً و شقاءً. فإذا أَقدَمَ الظالم على اقتراف ظُلمه، سفَّلَ هذا السيَّال أَكثرَ ممَّا هو عليه من سُفْل، و جعلَه يسقط إلى عوالمَ سُفليَّة. أَمََّا إذا أَحجَمَ عن ذلك، و سيطر على السيَّال الذي يحلُّ فيه، فإنَّه يُرقِّيه، و إن ترقيةً نسبيَّة؛ فإذا ثابر على إحجامه كلَّما وسوسَ له ذلك السيَّال بارتكاب مظلمة، فقد يؤثِّر إذَّاك في تبديل نوعيَّته؛ و ربَّما ارتقى السيَّالُ و عاودَ اندماجَه في الروح و عاود اندماجه في الروح التي هبط منها، و ذلك بعد أَن يكون قد تهذَّب و بلغ درجةَ الصفاء التامِّ.

و ما ينطبق على السيَّال ذي النزعة الظالمة ينطبقُ على سائر السيَّالات الروحيَّة. إنَّ عمليَّة ترقِيتها أَو تسفيلِها، سواءٌ في الإنسان أَو في غيره من الكائنات ، عمليَّةٌ مستمرَّة لا تُعيقُها قيودُ المكان و الزمان. قد يطرأُ على بعض تلك السيَّالات ، أَحياناً ، تغيُّرٌ نوعيٌّ، فيغادرالجسدَ الذي هو فيه ليتقمَّص في عوالمَ يستحقُّها، و ذلك قبل حصول الوفاة- إذ قد ينطوي الجسدُ على سيَّالاتٍ أَساسيَّةٍ أُخرى تَمدُّه بمقوِّمات الحياة و أَسباب وجوده.

يولدُ الإنسان، في رأْي الداهشيَّة ، و هو ينطوي على عددٍ معيَّنٍ من السيَّالات الروحيَّة(17) التي تختلف نوعاً و درجة. و هذا يُفيدُ أَنَّ لكلِّ امرئٍ على الأَرض سيَّالاتِه الروحيَّة الخاصَّة. و الغالبُ أَنْ تكون من درجة الأَرض و مستواها الروحيِّ و قد نُقِلَتْ إليه من تقمُّصاته السابقة. و فضلاً عن السيَّالات الروحيَّة الفكريَّة الوجدانيَّة، يُزوَّدُ الإنسان بسيَّالاتٍ روحيَّة مرتبطةٍ بالجسد تَمدُّه بقوى النطق و الحسِّ و الحركة... و هي التي تمنح الجسمَ الحياةَ الظاهرة أَو ما يبدو أَنَّه حياة The illusion of life (18).

هذه السيَّالات ( أعني سيَّالات الحسِّ) هي أَيضاً روحيَّةٌ في حقيقتها و عاقلة(19) لكنَّها ترتبطُ بنوعيَّة التجسُّد التي هي فيه و بحالته، كما إنَّها تزول بزواله، فتنصهرُ بعناصر الطبيعة لتظهرَ في كائناتٍ أُخرى؛ أَي انَّه ليس لها وجودٌ مستقلٌّ مٌنفصِلٌ عن نوعيَّة و طبيعة التجسُّد الذي تتَّخذه. وَ لْنَضربْ على ذلك مثلاً. هَبْ أَن إنساناً كُتِبَ عليه، لسببٍ  من الأَسباب الروحيَّة، أَن يتقمَّص كلباً . و هَبْ أَنَّه سُمِحَ روحيّاً لهذا الكلب أَن يتذكَّر تقمُّصَه السابق؛ فلا بدَّ له من أَن يكتشف أَنَّ سيَّال الشمِّ عنده ( حاسًّة الشمِّ) قد بلغَتْ قوَّته 400 ضعف ما كانتْ عليه في الدور السابق ( أَي حين كان الكلبُ إنساناً) . فإذا قُيِّض لهذا الكلب أَن يتقمَّص نسراً، فلا بُدَّ له من أَن يَلحظَ أَن ذلك السيَّال قد فُقِدَ تماماً من تقمُّصه الجديد ( أَي في تقمُّصه نسراً)، في حين أَنَّ سيَّال النظر ( حاسَّة النظر) قد باتَ أَضعافَ ما كان عليه في الدور السابق ( أي دور الكلب)! لكنَّ سيَّالات الحسِّ لا تمدُّ الجسمَ بأَسباب الحياة. السيَّالات الروحيَّة الأَساسيَّة، الفكريَّة هي وحدَها الكفيلة بذلك لأَجَلٍ محدود. و يظلُّ الإنسان متمتِّعاً بالوعي و الإدراك و الإحساس، كلِّه أَو بعضِه، حتَّى يغادرَ جسدَه آخرُ سيَّالٍ أَساسيٍّ  فكريٍّ روحي عندئذٍ تحدث الوفاة الفعليَّة، بمعنى انطلاقِ النفس العاقلة الواعية منه(20).

و السؤال الوثيق الصِّلة بموضوعنا هو : ماذا يحلُّ بالسيَّالات الروحيَّة الأَساسيَّة عندما تغادر الجسد؟

إنَّها تنطلق، كما ذكرنا سابقاً، إلى عوالمَ تستحقُّها، و تتقمَّص فيها أَجساداً مادِّيَّة جديدة. و لمزيدٍ من الإيضاح نقول انَّه ليس لهذه الأَجسام المادِّيَّة و جودٌ مستقلٌّ عن سيَّالاتها الروحيَّة. فما إن تغادرُها حتَّى تبدأَ الأَجسامُ بالتلاشي و الزوال لتظهَر في حالاتٍ و تجسُّداتٍ أُخرى. من نفس النوع و الدرجة . الاَجسام هي التجسُّدات اَو التكثُّفات المادِّيَّة للقوى الفكريَّة التي تقمَّصَتْها, و هي أَيضاً آلاتُ التجربة و الوسائل التي من خلالها تستطيع السيَّالاتُ الفكريَّة الأَساسيَّة أَن تسموَا أَو تهبطَ روحيّاً.

عندما تنطلقُ السيَّالات الفكريَّة الأَساسيَّة من الجسد، فقد يكون بعضُها ما يزال في مستوى الإِنسان، فيُعاودُ تقمُّصَه على الأَرض إِنساناً. و قد يكون بعضُها في مستوى الأَرض، لكنْ دون مستوى الإِنسان، فيعاودُ تقمُّصَه عليها حيواناً دون مرتبة الإنسان، كالقِرَدة و الخنازير وفقَ ما ورد في الآية الكريمة المذكورة سابقاً( الأَعراف 166). أَمَّا إذا كان بعضُ تلك السيَّالات قد طرأَ عليه تحسُّنٌ روحيٌّ ملحوظ أَثَّر في نوعيَّته و درجته الروحيَّتَين، فإنَّه يرتقي إلى عالمٍ مادِّيٍّ يفوقُ مستواه مستوى الأَرض، فيتقمَّص هنالك الشكلَ و النوع اللذين يستحقُّهما(21) ؛ و لكنْ إذا طرأَ عليه تدهورٌ روحيٌّ ملحوظ، فانقلب شرِّيراً مُوغِلاً في السفالة، فإنَّه يهبط إلى الدركات أَو عوالم الجحيم لتأْدية الحساب العسير(22).

السيَّالاتُ الروحيَّة موجودةٌ منذ الأَزل، و ستبقى إلى الابد. و الكون المادِّيُّ الشاسع الأَبعاد ببلايين مجرَّاته هو مسرحٌ لارتقاء هذه السيَّالات أَو انحطاطها. و إنَّ جميعَ ما فيه من مخلوقاتٍ مادِّيَّة هي التجسُّدات و الأَوعية و آلاتُ التجربة و المستودَعات التي تُمتَحَن فيها السيَّالاتُ الروحيَّة ريثما ترتقي رقيّاً عظيماً، و تتطهَّر من أَوشاب نزعاتها المادِّيَّة تطهُّراً تامّاً . و عند ذلك فقط تعاود الرجوعَ إلى عوالم الروح التي انبثَقَتْ عنها(23).

في ضوء كلِّ ما تقدَّم من كلامنا على السيَّالات الروحيَّة و طبيعتها و مصدرها و علاقتها بعضِها ببعض، نستطيع أَن نلخِّص مفهوم التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة بما يأْتي:

  1. التقمُّص قانونٌ روحيٌّ إلهيٌّ تخضعُ له جميع الكائنات، فيجري عليها مادِّيّاً و روحيّاً. فكما إنَّ قانون التحوُّل و التغيُّرTransformation and Change يَنطبق على الجانب المادِّيِّ من الأَشياء، كذلك يشمل هذا القانون الجانبَ الروحيَّ منها؛ و هذا ما يُعرَف بالتقمُّص تحديداً.
  2. ينتقل الكائنُ، في عمليَّة التقمُّص، إلى ما يستحقُّه من نوعٍ و حالةٍ لأَجَلٍ معيَّن؛ أَي اِنَّ التقمُّص يجري وفقَ سببيَّةٍ روحيَّة مرتبطةٍ بمستوى سيَّالات  الكائن الروحيَّة، في سموِّها أَو انحطاطها.
  3. ليس التقمُّص، في النظرة الداهشيَّة ، عمليَّةَ انتقال النفس من جسدٍ غيرِ ذي نفعٍ إلى جسدٍ آخر مستقلٍّ عنها، لكنَّه عمليَّةٌ روحيَّة تجري وفقَ مبادئ العدالة و الرحمة الإلهيَّتَين، فتنتقل النفسُ العاقلة ( و كلُّ نفسٍ عاقلةٌ) إلى ما تستحقُّه من تجسُّدٍ مادِّيٍّ يعكسُها مادِّيَّاً، و يرتبط بها ارتباطاً عُضويّاً ، و يتبدَّل بتَبَدُّلِها. هذا الجسدُ المادِّيُّ ينقلِبُ، هو أَيضاً ، آلة تجربةٍ للنفس، ووعاءً تستطيع من خلاله الارتقاءَ الروحيَّ. و عليه فلا وجود للجسد بمعزلٍ عن النفس التي هي علَّة وجوده.
  4. جميع الكائنات ، بلا استثناء، تشملها عدالةُ الله و رحمتُه اللامحدودتان. و هي كلُّها عاقلةٌ تفهم و تعي و تُقِرُّ بوجود الله، جلَّ جلاله، فتسجد له و تسبِّحُه، كما تعلم أَنَّه تعالى وضع لها أَنظمتَها و قوانينها الروحيَّة الخاصَّة بها، و حدَّد لها من خلالها خيرَها و شرَّها. و هي جميعاً تعلم بأَنَّها لا تستطيع ترقيةَ نفسها و الانتقالَ إلى حالاتٍ أَو عوالم أَفضل إلاَّ إذا استطاعتْ أَن تتغلَّب على شرور عوالمها.

        لنستمعْ إلى مؤسِّس  العقيدة الداهشيَّة يخاطبُ رمال الصحراء في قطعته " أَيَّتُها الصحراء الممتدَّة": " و حدِّثيني عن وحدتك القاسية الرهيبة، تُرى هل هذا جزاءٌ لك على ما ارتكبته في عوالم مجهولة؟"(24) وَ لْنُصغِ إلى حديثٍ بين بصلتين:" ستنطلقُ سيَّالاتُنا، فنذهب إلى عالمٍ بهيجٍ أَفراحُه دائمةٌ، و أَغاريدُه لا تُمَلُّ" (25).

        و الحقيقة أَنَّ الكتب المقدَّسة ، و بخاصَّة القرآن الكريم و العهد القديم، تحدَّثَتْ عن عقلانيَّة الكائنات جميعاً. و هذه إحدى الآيات القرآنيَّة الكريمة التي تُشير إليها:" تُسبِّح له السماوات السبعُ و الأَرض و مَن فيهنَّ. و إنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمده ، و لكنْ لا تفقهون تسبيحَهم. إنَّه كان حليماً غفوراً" ( الإسراء 44).

  1. ليس للإنسان، في النظرة الداهشيَّة ، وضعٌ مميَّزٌ عن سائر الكائنات. زدْ اَنَّه ليس أَفضَلَها أَو العاقل الوحيدَ الذي يستطيع أَن يسعى إلى الله و يُميِّزَ الخيرَ من الشرِّ. لِنقرأْ ما تقوله الشجرةُ  المشطورة إلى قسمَين في هذا الشأْن، في إحدى قِصص الدكتور داهش: " و إذا ظنَّ البشرُ أَنَّهُم الوحيدون الذين يصطرعُ الشرُّ و الخير في صدورهم، فما ظنُّهم إلا وهمٌ بوهمٍ. فنحن، معشر الشجر، لدينا ما لديهم من حرِّيَّةٍ في ارتكاب الخير أَو الخَوض في أَعماق الموبِقات الزاخرة بالشرِّ الطافح"(26).
  2. انتقالُ السيَّالات الروحيَّة من الإنسان، صعوداً أو هبوطاً، و تقمُّصُها الحالاتِ المختلفة في العوالم المادِّيَّة التي استحقَّتْ بلوغَها غيرُ مَنوطَين بأَجلٍ محدَّد، أَي بحصول الوفاة فقط. فقد تفارقُ الإنسانَ ، في خلال حياته ، بعضُ سيَّالاته ، و تتقمَّصُ في العالَم الذي تستحقُّه. خلاصة القول انَّ عمليَّة التقمُّص ، في النظرة الداهشيَّة ، غيرُ مرتبطةٍ بزمنٍ محدَّد؛ فقد تحصل في أَيِّ آنٍ من حياةِ المرء.
  3. ليس التقمُّص، في العقيدة الداهشيَّة ، قانوناً آليَّاً يتَّخذُ مَنحىً واحداً، فتنتقل فيه النفسُ العاقلة من جسدٍ إلى جسدٍ آخر يلائم استحقاقَها، و ذلك بعد أَن تكون قد دَفَعتْ ثمنَ أَعمالها السابقة كاملاً لتباشر حياةً جديدة و تَبلوَ تجاربَ جديدة بريئةً من ذيول الماضي. التقمُّص، في الداهشيَّة، قانونٌ ديناميٌّ تتفاعلُ فيه و معه عواملُ مختلفة، فتتداخلُ فيه مفاهيمُ السيَّالات  و العدالة الألهيَّة و الثواب و العقاب... و بتعبيرٍ آخر، فإنَّ نتائجَ ما نُقدِم عليه من مناقبَ أَو مثالب تلازمُنا، فتفعلُ فينا، سواءٌ في خلال حياةٍ واحدة أَو في خلالِ أَدوارٍ لاحقة. ثمَّ إنَّها لا تنحصر فينا، بل تتعدَّانا إلى حيث امتداداتُ سيَّالاتنا، و لا سيَّما إلى أولادنا و أَحفادنا... أَلم يَرِدْ في العهد القديم قولُه:" أَنا الربُّ إلهُك، إلهٌ غيورٌ، أَفتقد ذنوبَ الآباء في البنين إلى الجيل الثالث و الرابع من مُبغِضيَّ" ( الخروج 20:5)

8. يروي الشاعرُ الداهشيُّ حليم دمُّوس ظاهرةً روحيَّة تتعلَّق بابنِ عمٍّ له تُوفِّي غرقاً في البرازيل عام 1913، و هي تؤكِّد أَنَّ ما قمنا به في أَدوارٍ سابقة يلاحقُنا حتَّى بعد انقضاء مئاتِ السنين، بل آلافها! خلاصةُ هذه الظاهرة أَنَّه في أَحد الأَيَّام تجلَّتْ في شخص الدكتور داهش روحُ سليم تامر دمُّوس، ابن عمِّ حليم دمُّوس، و أَحضَرَت اَمامه ماءً بطريقةٍ إعجازيَّةٍ غريبة. و لمَّا سأَل حليم روحَ ابنِ عمِّه عن سرِّ هذا الماء ، أَجابه:"لقد أَحضرتُ لك الماءَ بطريقةٍ روحيَّة... و هذا الماء  هو من نهر بارانا الذي غرقتُ فيه. فأَنا متقمِّصٌ من قبطانٍ أَغرق، مرَّةً، أَلفَ شخصٍ في البحر، و ذلك منذ 500 سنة. فعُوقِبتُ أَنا ، بدوري، بالغرق؛ و هو جزاءٌ عادل"(27).

8.تؤكِّدُ الداهشيَّة أَنَّ الإِنسان لا يستطيع تذكُّرَ تقمُّصاتِه السابقة ، و ذلك لسببٍ روحيٍّ وجيه يتَّصل بمراحم الله اللا محدودة؛ فهي تجنِّبُه تذكُّرَ تقمُّصاته لئلاَّ ترتبكَ شؤونُ حياته ارتباكاً عظيماً ، و يتملَّكَه اليأْسُ القاتل ، و تنقلبَ حياتُه على الأَرض جحيماً لا تُطاق.

و فضلاً عن ذلك ، فإنَّ النفس، في النظرة الداهشيَّة، ليستْ وحدةً مستقلَّة لكنَّها ، كما قلنا، جُملةُ سيَّالاتٍ روحيَّة متفاعلة تتوزَّعُ في خلال حياة المرء أَو بعد موته، فتَّتخذ أَجساداً مختلفةً سواءٌ في عالمٍ واحد أَو في عوالمَ متعدِّدة. و عليه، فلا يستطيع الجزءُ أَن يتذكَّر ما حصل للكلِّ في خلال دورٍ ما.

9.     الكون المادِّيُّ بأَسره هو المسرح العامُّ لقانون التقمُّص. و هذا يعني، بحسب التعاليم الداهشيَّة، أَنَّ هذا القانون لا يقتصر على الإنسان و سائر الكائنات الأَرضيَّة فقط، بل يشملُ جميعَ ما في الكون المادِّيِّ من كائنات . فكما أَنَّ التغيُّر و التبدُّل قانونٌ شاملٌ دائم في الطبيعة و الكون، فكذلك الصعود و الهبوط و الانتقال الروحيُّ من كائنٍ إلى آخر هي القاعدةُ العامَّة لقانون التقمُّص في سائر العوالم، فتنتقل بينها الكائنات ، كلٌّ بحسب درجته الروحيَّة التي بلغها في مرحلةٍ معيَّنة من مراحل تطوُّره الروحيِّ.

10. الإنسان في العقيدة الداهشيَّة، ذو سيَّالاتٍ  و امتداداتٍ نفسيَّة متقمِّصةٍ في عوالم أُخرى غيرِ الأَرض. قد يكون بعضُ هذه التقمُّصات في عوالمَ أَرقى أَو عوالمَ أَدنى. و لمَّا كانت تلك السيَّالات مشترَكَةً، بالرغم من توزُّعها في أَنحاءٍ مختلفة من الكون، فإنَّ بعضَها يؤثِّر في بعض. و لذلك تَرِدُ الإِنسانَ أَحياناً خواطرُ سامية نبيلة تصرفُه عن اقتراف المعاصي ؛ هذه الخواطر هي من تأثير سيَّالاته المتقمِّصة في العوالم العُلويَّة. كما تردُه خواطرُ سافلة خبيثة، هي من تأْثير سيَّالاتِه المتقمِّصة في العوالم السُّفلية.

11. قد يسأَلُ بعضُهم : ماذا تقول الداهشيَّة في الساعة أَو يومِ الحساب أَو يومِ الحشر كما تؤمن به اليهوديَّة و المسيحيَّة و الإسلام، أَعني اعتقادَها أَنَّ الأَموات يقومون من القبور للحساب الأَخير؟ يؤمن المسلمون ، مثلاً، بأَنَّ ذلك اليوم سيحين في آخر الأَزمان، عندما تتلاشى العناصر و تُدمَّر الأَرض، مثلما وردَ في سُوَرٍ كثيرة من القرآن الكريم كالزلزلة و القارعة و الانشقاق و سواها... و حسب القارئ ههنا الآية الكريمة الآتية:"القارعة ، ما القارعة؟ و ما أدراك ما القارعة؟ يومَ يكون الناسُ كالفَراش المبثوث، تكون الجبالُ كالعِهْن المنفوش... " ( القارعة 1-5).

تؤمن الداهشيَّة بيوم الحساب العظيم الذي يأْتي بعد كلِّ دورةٍ من دورات الأرض التكوينيَّة؛ و الدورة تستغرق عشرات الأُلوف من سني الأَرض، و ربَّما مئات الأُلوف منها. في ذلك اليوم الرهيب تُدمَّر الأَرض بمَن وما عليها، كما ورد في القرآن الكريم، و تتلاشى المادَّة و العناصر، و تَمثُل النفوسُ أَمام الديَّان العظيم لتأْدية الحساب العسير.

بيدَ أَنَّ يومَ الحساب عند الداهشيِّين لا يَعني قيامةَ الأَموات من القبور، كما تعارفَتْ عليه الاَديانُ الموحِّدة الثلاثة. الموت، في العقيدة الداهشيَّة ، انتقالٌ من حالةٍ إلى حالة . و يومٌ الدينونة و الحسابِ العظيم إِنَّما هو حِقبةٌ زمنيَّة ينحطُّ فيه السوادُ الأَعظمُ من الناس إلى أَدنى مستوياتهم الروحيَّة، فتبلغُ الشرور أَوجَها. عندئذٍ تنزل الضربةُ الروحيَّة القاصمة، فتُدمَّر الأَرض تدميراً تامّاً لتبدأَ دورةٌ تكوينيَّة جديدة، و يَنكفئُ الانسانُ إلى عصوره البدائيَّة. وردَ في شروحٍ روحيَّةٍ داهشيَّة بقلم الشاعر حليم دمُّوس ما يأْتي:" و لكلِّ دورٍ من أَدوار الأَرض يومُ الحساب. و في ذلك اليوم الرهيب تتلاشى المادَّة، و تتضمحلُّ العناصر، و تبقى الأَرواح ماثلةً أَمام الديَّان"(28) .

و من الاَسرار التي أَماطَت  الداهشيَّةُ عنها اللثام أَنَّ الأَرض قد تَعاقَبَ عليها 761 دورةً تكوينيَّة، آخرُها دورةُ الأَب نوح، و أَنَّنا على أَبواب دورةٍ جديدة، إذ طَغَت الشرور واستشرَت الرذيلة... لِنُصْغِ إلى ما يقوله الدكتور داهش في هذا الشأن:" و قريباً ، قريباً سيُبوِّق ملاكُ الربِّ بالصُّور، و إذا الجبال تتفكَّك عُراها و تُبادُ ذرَّاتُها، و الأَطواد الشامخة تتدمَّر و تتردَّم... "(29) وَ لْنُصغِ أَيضاً إلى هذه الرسالة الروحيَّة الجليلة التي أَتَتْ كاتبَ هذا المقال:

" أَيُّها الأَخ الكريم،

لقد اقترَبَت الساعة ، ساعةُ الهول الأَكبَر و الفزع المدمِّر و الهَلَع المُزَمجِر برهبوته المزلزل. و الأَلف عامٍ لدى الله لحظة.

فالويل لسكَّان الأَرض من تلك الساعة الحافلة بالرعب المُذهلِ. الشرُّ استفحل ، و اللذاذاتُ المحرَّمة اعتنقَها الجميع،  و خاضوا في مُستنقعات الممنوعات، و تذوَّقوا خمرةَ الشيطان اللعين. لهذا استحقُّوا نهايةً شائنة و عوالمَ مخيفة.

فاضرَعْ الى الله أن يبوِّئك عالماً سعيداً نيِّراً ، يا مَن تفهَّمتَ الحقيقة و لمستَ قوَّة الروح الأَزليَّة . و اعلمْ أَنَّ كلَّ شيءٍ باطل و قبضُ الريح، و الحقيقة الخالدة هي الحقيقة الروحيَّة التي تُمكِّن المرءَ من ولوج جنَّة النعيم المقيم، فيخلُدُ بسعادةٍ أَبديَّة و غبطةٍ سرمديَّة إلى ما لا انتهاء.

                                        عليّ (30)

 

Return to the Top

 

خاتمة

خاتمة

 

يتَّضحُ لنا ممَّا سبقَ بحثُه أَنَّ الداهشيَّة و إنْ وافَقَت العقائدَ السابقة في التصوُّر العامِّ للتقمُّص، فهي تختلف عنها اختلافاتٍ لا يُستهانُ بها. و لا بدَّ من أَن يكونَ القارئُ قد فطنَ إلى بعضها، و لا سيَّما في أَثناء كلامنا على نظريَّة السيَّالات الداهشيَّة: كيف تنتقل ، و تتوَّزع، و تتفاعل... و لا مدعاةَ إلى استعادتها ههنا لئلاَّ نقعَ في التكرار. بيد أَنَّ ثمَّة اختلافَين رئيسيَّين لا يتَّصلان بتلك النظريَّة نرى أَن نُشير إليهما أَخيراً .

مَفادُ الاختلاف الأَوَّل أَنَّ الديانات و العقائد السابقة قَصَرَت التقمُّص على الأَرض ، في حين أَنَّه يشمل ، في العقيدة الداهشيَّة، سائرَ الكواكب أَيضاً . و لا ريبَ في أَنَّ هذا التبايُنَ يعود إلى اختلاف التصوُّر القديم للكون عن التصوُّر الحديث له. كانت الأَرضُ ، في التصوُّر القديم، مركزَ الكون، اختلَطَتْ فيها العناصرُ الأَربعة، و منها نشأَت الكائنات المادِّيَّة؛ فهي وحدَها الآهلة بها .

أَمَّا الكواكب الأُخرى ، فمادَّتُها غيرُ مادَّة الأرض و لعلَّها أَقرَبُ إلى طبيعة "الأَثير" ! و لمَّا كان فوق طاقة البشر عهدَ ذاك استيعابُ تصوُّرٍ للكون مخالفٍ للتصوُّر السائد، فقد كان طبيعيًّا أَن يخاطبهم مؤسِّسو الأَديان السابقون بما يفهمون، فيقصروا  التقمُّصَ على الأَرض . أَمَّا اليوم، فقد باتَ سهلاً على البشر أَن يتقبَّلوا التصوُّرَ الداهشيَّ القائل بتقمُّص النفس سواءٌ في الأَرض أَو في غيرها من الكواكب، و لا سيَّما أَنَّ العِلم اليومَ لا يَنفي احتمالَ وجودِ حضاراتٍ كونيَّة خارجَ الأَرض؛ بل انَّ بعضَ العُلماء  يؤمن بذلك .(31)

أمَّا الإختلاف الثاني – ولعلَّه مرتبطٌ بالأَوَّل – فقُصاراه أَنَّ العقائد السابقة قدَّمَت الإنسان على سائر المخلوقات . فقد ساد الإعتقادُ – وما برح سائداً الى اليوم – أَنَّ الإنسان هو وحدَه الكائنُ العاقل الذي يستطيع التمييزَ بين الخير والشرّ , فهو , في الديانة الهندوسيَّة , جزءٌ من اللّه . وبوذا الإنسان هو ، في الديانة البوذيَّة , أَقصى درجات الكمال والإستنارة التي يمكن الوصول إليها . وفي العهد القديم أَنَّ اللّه خلق الإنسان على صورته ومثاله وقد كرَّمه سبحانَه في القرآن الكريم , كما جاء في الآية الكريمة : " ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم " . ( الأسراء 70 ) ولا ريبَ في أَنَّ هذا الإعتقاد , أي أَنَّ الإِنسان , رأْسُ مخلوقات الأَرض , قد أَثَّر في نظرة الأَديان والفلسفات السابقة الى التقمُّص , فإذا بها تحصرُ الرقيَّ الروحيَّ في الإنسان ؛ فهو لا يتحقَّق إلاَّ من خلاله . النفوس الحالَّة في الحيوان والنبات والجماد لا بدَّ لها من أَن تعاودَ تقمُّصَها في الطبيعة البشريَّة ريثما تباشرُ إرتقاءَها  الروحيَّ . وهي عندما تحلُّ في غير الإنسان تُعاقَب الى أَجَل , فلا يتسنَّى لها , والحالةُ هذه , لا الارتقاءُ ولا الإنحطاط . وما دام الإنسانُ العاقلَ الوحيد في الكون , فليس غريباً أَن تَنفيَ بعض المذاهب كالدروز مثلاً , حلولَ نفس الإنسان في غيرِ النوع البشريِّ .

أَمَّا العقيدة الداهشيَّة , فلم تُنزل الإنسان منزلةً خاصَّة , بل هي تذهبُ الى القول انَّ الكون بأَسره مسرحٌ يعجُّ بالوعي والإدراك والشعور , وإنَّ الحيوان والنبات والجماد مزوَّدةٌ هي أَيضاً بقوىً عاقلة تميِّزُ بواسطتها بين الخير والشرِّ وفقاً لمعايير عوالمها . هذا التصوُّرُ يستتبعُ الإعتقادَ أَنَّ الإرتقاء الروحيَّ ليس وقفاً على الإنسان ؛ فقد يبلغ بعضُ الحيوان من الرقيِّ مبلغاً يؤهِّله للإنطلاق الى عالَمٍ أَسمى من الأَرض من غير أَن يعاودَ تقمُّصَه إنساناً (32 ) .

خلاصةُ القول إنَّ لكلِّ كائنٍ في العقيدة الداهشيَّة , معنى وجوده , وإنَّ علاقته بالعالَم الروحيِّ مباشرةٌ , فلا توسُّطَ فيها لإنسانٍ أَو سواه من الكائنات . والحقَّ أَنَّه ليس من اليسير تقبُّلُ مثلِ هذا التصوُّر . بيدَ أَنَّ لفيفاً غيرَ قليلٍ من العلماء باتوا اليومَ يتحدَّثون عن وجود الوعي والإدراك في جميع الكائنات , وعن تمتُّع أَنواعٍ من الحيوان بمنطقٍ مدهش ؛ بل انَّ منهم مَن يذهب الى الإعتقاد أَنَّ للنبات أحساساً وقوى إدراك خاصَّة !

وعلى الجملة , فإنَّ نظريَّة التقمُّص في العقيدة الداهشيَّة ليستْ ترداداً لِما ورد في العقائد السابقة ؛ فإنَّ فيها من الإِيضاحات والتفسيرات ما يجعلُها نظريَّةً جديدةً كلَّ الجدَّة . وإذا كان لنا أَن نقول كلمةً فيها " أَي في العقيدة الداهشيَّة " , فهي عقيدةٌ جاءتْ لتوضِّح حقائقَ سُكِت عنها في الماضي وسُمِح اليومَ بتوضيحها , وذلك في ضوء مُستجِدَّات العصر العِلميَّة والفكريَّة ؛ ومن ثمَّ فهي تخاطبُ العقلَ الحديث , وتستجيب لمُقتضياته العلميَّة , وتُجيب عن أَسئلةٍ كثيرة ما تزالُ مطروحة .

Return to the Top

 

العدالة الإلهيَّة و الإستحقاق الروحيُّ في العقيدة الداهشيَّة

العدالة الإلهيَّة و الإستحقاق الروحيُّ في العقيدة الداهشيَّة

 

تتحدَّث جميع الرسالات السماويَّة ، بشكلٍ أو بآخر، عن قوانينَ روحيَّة وضعها الله للناس و لمخلوقاته كافَّةً تتعلَّق بالعدالة الإلهيَّة. ففي العهدَين القديم و الجديد كما في القرآن الكريم ما يُشير إلى مثل تلك القوانين التي تحاسبُ الناسَ على ما يأتونه من أَفعال. فقد وردَ في تشريع موسى النبيِّ :" العين بالعين و السنُّ بالسنِّ..." (تثنية الإشتراع 21: 19)، و في العهد الجديد : " ما يزرعُه الإنسان إيَّاه يحصد" ( غلاطيَّة 7:6)، و في القرآن الكريم : " و ما أَصابكم من مصيبة فبما كسَبَتْ أَيديكم". ( الشورى30) هذه الآيات ، و كثيرٌ سواها ، إِنَّما تؤكِّد وجودَ عدالةٍ روحيَّةٍ وضعها الله للكائنات كافَّةً تؤدِّيها تأْديةً تامَّة،فيُحاسَب كلٌّ منها حساباً دقيقاً على ما صنعه بملءِ إرادته . و هذا يعني أَنَّ الديانات السماويَّة تحدَّثتْ عمَّا تدعوه العقيدة الداهشيَّة السببيَّة الروحيَّة، و لكنْ من زاوية العدالة الإِلهيَّة و ما تقضيه من استحقاق.

غيرَ أَنَّ الدياناتِ المُنزَلة لم تُسلِّط الضوءَ على الأَسباب المختلفة التي تنشأُ عنها الأُمور و الأَحداث و التي تتعلَّق بإرادة الإنسان و مشيئته الحُرَّة، بل حَصَرَتْ تعاليمَها في مفهومَي العدالة و الإستحقاق اللذين يُحَاسِبُ بهما الله الكائنات بالنسبة إلى أَفعالها و أَفكارها . فمَن يقترف الشرَّ يُعاقَبْ روحيّاً عليه بمقدار ما أَتاه منه؛ و مَن يصنع الخير و الإحسان يَلقَ الثوابَ الذي يستحقُّه؛ و هكذا ... وفقاً للآية الكريمة:"مَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيراً يَرَه، و مَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ شرّاً يَرَه"( الزلزلة 7-8).و ما يَصدقُ على الأَفراد يَصدق على الشعوب أَيضاً ؛ فالشعوب التي تقترف الشرور و الذنوب و تستمرُّ في معاصيها يُهلِكُها الله بقضِّها و قضيضها كما حصل مع قومِ نوح. و جُملة القول إنَّ الرسالات السماويَّة لأَسبابٍ و غاياتٍ روحيَّة نجهلُها، لم تُمَيِّزْ بوضوحٍ بين سببيَّةٍ صادرةٍ عن مشيئةٍ سماويَّةٍ قائمةٍ على مبادئ العدالة الإلهيَّة و ما تقتضيه من استحقاقٍ عادل، و سببيَّةٍ روحيَّة تتعلَّق بالتَّجربة و التَّضحية و الإيمان و الفداء و سببيَّةٍ صادرةٍ عن مشيئةٍ إنسانيَّة تتَّصل بسيَّالات البشر الروحيَّة المختلفة و ما يُلابِسُها من سموٍّ و انحطاطٍ فكريِّيْن ؛ و هذه السببيَّة (أَعني الصادرةَ عن إرادةٍ إنسانيَّة) لا يمكنُ أَن تكون منزَّهةٍ عادلةً في كلِّ آن، و من ثَمَّ فلا سبيل إلى القول إنَّها وليدةُ استحقاقٍ روحيٍّ. الديانات السماويَّة لم تقُمْ بذلك التمييز، و لم تُوضِّحْ أَنَّ من الأَفعال الماجريات  ما يعودُ إلى سببيَّةٍ إنسانيَّةٍ تصنعُ الخيرَ أَو الشرَّ اختياراً ، و منها ما يعود إلى سببيَّةٍ إلهيَّةٍ روحيَّة تشملُ جُملَةَ الأَنظمة الروحيَّة الدقيقة الفاعلة في الكائنات كافَّةً، فتحاسبُ البشرَ و تمتحنُهم، و تكون هي السببَ في ما يتَّصفون به أَو ما يقع لهم من أُمور، كالشقاء و العذاب و الحروب و الأَمراض و الكوارث و الذكاء و الغباء و ما إليه.(33)

أما العقيدة الداهشيَّة فهي بخلاف ذلك، قد جعلت من قوتنين السببيَّة الروحيَّة المرتبطة بالعدالة و الاستحقاق و التجربة و الإيمان و من السببيَّة المرتبطة بإرادة الإنسان الحُرَّة – جعلَتْ منهما أَحَدَ مبادئها الرئيسة و خَاصَّتْها في شروحها بما تستحقُّه من العمق و الشمول و الوضوح. لا شيءَ يحدثُ في هذا العالَم المادِّيِّ إلاَّ ردَّتْه الداهشيَّةُ إلى أَسبابه و مسبِّباته الإلهيَّة أَو البشريَّة. و نحن عندما نقول إنَّه لا شيءَ يحدثُ إلاَّ وفقاً لأَسبابٍ سماويَّة و إنسانيَّة فإِنَّما نقصدُ بذلك –كما سيتَّضحُ لاحقاً – التأْكيد على أَنَّ جميعَ الأَشياء، سواءٌ منها الموجودات أَو الوقائع، تنشأُ عن إرادةٍ و قوىً فكريَّةٍ consciousness تُحتِّمُها و تؤثِّر فيها ، لا عن عوامل مادِّيَّةٍ و طبيعيَّةٍ كما قد يبدو لنا. الكوارث الطبيعيَّة كالزلازل المدمِّرة و الفيضانات المُبيدة و المَجاعات الماحقة و الأَوبئة الجماعيَّة ( كالإيدز مثلاً ) تنشأُ عن مشيئةٍ إلهيَّة قائمةٍ على العدالة و الإستحقاق اللذين يجريان على البشر بالنسبة لأَفعالٍ اقترفوها. أّمَّا المظالم و الحروب و المآسي المستجدَّة فسببُها الإنسان،  تنشأُ عن مشيئته الحُرَّة التي قد لا يكون للعدالة الإلهيَّة و الاستحقاق الروحيِّ شأْنٌ فيها.

و الجديرُ قوله إِنَّه عندما تتحدَّثُ التعاليمُ الداهشيَّة عن السببيَّة الروحيَّة،فهي لا تعني أَنَّ ثمَّة هَيمَنةً روحيَّةً تتسلَّط على الكائنات، فتُسيِّر حياتها و تسلبُها إرادتِها و تتدخَّل في كلِّ كبيرةٍ و صغيرةٍ من شؤونها. الداهشيَّة لا تُقِرُّ هذه الأُمور، بل ترفُضها رفضاً قاطعاً، فتؤكِّد أَنَّ إرادةَ الإنسان الحُرَّة هي التي تقرِّر، في نهاية الأَمر، ما يحصلُ له على مسرح الحياة. و في ضوء هذا المنطلَق نتحدَّث عن مبادئ السببيَّة الروحيَّة على صفحات هذا المقال.

          *              *              *

السببيَّة الروحيَّة، في العقيدة الداهشيَّة، هي ، بمعناها الروحيِّ السماويِّ العامِّ و بالمعنى النفسيِّ الوجدانيِّ، مفهومٌ يشملُ مختلفَ الأَسباب التي تنشأُ عنها الأَشياء و الأَحداث. ثمَّة أَسبابٌ روحيَّة سماويَّة مَنوطةٌ بمبادئ العدالة الإلهيَّة و الاستحقاق الروحيِّ، و أَسبابٌ أُخرى روحيَّة مرتبطةٌ بالتجارب و الإمتحانات أَو بالإيمان و التضحية و الفداء. و من الأَسباب النفسيَّة الوجدانيَّة ما يتعلَّق بسيَّالات البشر و نوعيَّاتها و مُستوياتها الروحيَّة و تفاعُلاتها، سواءٌ على الصعيد الفرديِّ فكريّاً و نفسيّاً أَو على الصعيد الجماعيِّ. الجرائم و السرقات و الشرور و الاستغلال و الاضطهاد و الظلم و الاعتداء على الحرِّيَّات و ما إليه إنَّما تُسبِّبُها سيَّالاتُ البشر السُّفليَّة. أَمَّا أَفعالُ الخير و الإِحسان و التقوى، فهي ناتجةٌ عن السيَّالات النبيلة.

و في العقيدة الداهشيَّة أَنَّ الأَسباب الروحيّة القائمةَ على مشيئةٍ إلهيَّة هي اَنظمةٌ دقيقةٌ حَيَّةٌ دائمةُ التفاعل و الامتداد، تربطُ الماضيَ بالحاضر و الحاضرَ بالمستقبل؛ الاَمر الذي يُفيد أَنَّ أَوضاعَنا الحياتيَّة الحاليَّة، نوعاً و مستوىً و حالةً، هي امتداداتٌ لاستحقاقاتٍ روحيَّة مرتبطةٍ بتقمُّصاتِ ماضينا و أَفعاله. و ما نقترفُه اليوم  لا بدَّ من أَن يقرِّر حتماً أَحوالَنا في المستقبل و نوعَ تقمُّصاتنا الآتية.

الشروحُ الداهشيَّة تشير ، بكلِّ وضوح ، إلى أَنَّ مبادئ العدالة الإلهيَّة و ما ينجمُ عنها من استحقاقاتٍ روحيَّة تُشكِّل جزءاً من الأَسباب الروحيَّة التي تنشأُ عن إرادةٍ سماويَّة في حين أَنَّ هناكَ أُموراً و أَحداثاً كثيرة مختلفة تقع على الكائنات، لكنَّها لا تنضوي تحت هذه المشيئة السماويَّة. و مَن يراجعْ مؤلَّفات مؤسِّس العقيدة الداهشيَّة يجدْ فيها قِطَعاً أَدبيَّة مُلهَمَة كثيرةً تندِّد بالظُّلم و الاستبداد و الاعتداء على الحُرِّيَّات وسواها من الأَفعال الجائرة. و إذا قُلنا إِنَّ ثمَّةَ ظُلماً، فقد نَفَينا الاستحقاق: البريء المظلوم لا يستحقُّ ما يقع عليه. لنستمعْ إلى الدكتور داهش في هذه القطعة الأَدبيَّة التي بعنوان" العدالة المؤودة":

"يا أَعواد المشانق، كم لكِ من ضحايا بريئة شريفة!

و كم من أَثَمَةٍ لم يتأَرجحوا بحبالك القويَّة،

و لؤماءَ لم تَطلْهم يدُ الأَحكام العدليَّة!

إنَّ دموعَ الآباء و الأَبناء تشقُّ الفضاء،

و صرخاتِهم العميقة تخترق السحابَ فالسماء!

لا كنتِ يا أَحكام ! و تُبّاً لكِ،أَيَّتها القوانين السخيفة! "(34)

 

جُملة القول إنَّ جميعَ ما يحدثُ للناس ناشئٌ عن أَسبابٍ مختلفة، و لكنْ ليس بالضرورة عن استحقاقٍ روحيٍّ كما قد يظنُّ بعضُهم خطأَ. عندما نتحدَّثُ عن العدالة و الاستحقاق الروحيِّ، فنحن نعني أَنَّ الفردَ الذي وقع عليه الإستحقاق ثواباً كان أَم عقاباً , قد إقترف عملاً أو أعمالاً إستوجَبَتْ أَن يؤدِّي عنها حساباً أَو أَن ينال مَثوبَةً , وذلك في سياق العدالة الإلهيَّة التي سنَّها اللّه لجميع مخلوقاته .

قد يقعُ للناس أَحياناً أَحداثٌ قاسيةٌ قد تُؤدِّي بهم الى الموت , كما حصل مع بعض الأَنبياء والمُرسَلين أَو مع بعضِ تلامذة السيِّد المسيح وأَوائل المسيحيِّين ؛ وهي أَحداثٌ تتعلَّق بالإيمان والجهاد أَو بالتجربة والأمتحان أَو بالتضحية والفداء . إلاَّ أَنَّها قد تَنجمُ أَيضاً عن أَسبابٍ مُتَّصِلةٍ بالمُستويات المختلفة للسيَّالات البشريَّة في إختلافها وتفاوتِها . لذلك لا نستطيع إدراجَ جميعَ ما يقع في الحياة في باب الإستحقاق الروحيِّ . على القارىء أَن يكون على بيَّنة تامَّة من هذا الموضوع . عليه أَن يُمَيِّز بين الأَسباب الناجمة عن الإرادة والأختيار والمشيئة الإنسانيَّة من جهة , وبين الأَسباب التي تندرجُ في مفهوم الإستحقاق الروحيِّ المحدود المرتبِط بالعدالة الإلهيَّة من جهةٍ ثانية . وإذا لم يَقمْ بهذا التمييز , فأعتبرَ أَنَّ كلَّ ما يحصل ناتجٌ عن إستحقاقٍ روحيٍّ فحسب , أَدَّى به ذلك الى إيقاعِ خللٍ جسيم في صحَّة الثوابت الداهشيَّة التي تؤكِّد أَنَّ الإنسانَ حُرُّ الإرادة , مُخَيَّرٌ في أَفعاله ينالُ ما يستحقَّه بالنسبة لما يقوم به من أعمالٍ بملءِ إختياره . ولو صحَّ الإعتقادُ أَنَّ جميع الأُمور والأَحداث التي تحصل على مسرح الحياة ناتجة عن عدالةٍ إلهيَّة وإستحقاقٍ روحيٍّ , كما قد يَحسَب بعضُهم , لأختلطَ الحقُّ بالباطل , ولاعْتَورَ التعاليمَ الداهشيَّة تناقضٌ كبير , فكانت عبئاًً ثقيلاً على كلِّ من يَعتنقُها فضلاً عن مُقتَضَيات الحياة التوَّاقة أَبداً الى التغيُّر نحو الأَفضل , ولأَصبح الإنسانُ مُسيَّراً في جميع شؤونه وفي كلِّ ما يقوم به أَو يقع له , فسُلِبَتْ إرادَتُه ورُفِعَتْ عنه كلَّ مسؤوليَّة وحُرِمَ كلَّ رجاءٍ وأَمل في تغيير أَوضاعه الحياتيَّة الحاليَّة نحو الأَحسن .

القرآن الكريم وسائرُ الكتب المقدَّسة حافلةٌ بقصصٍ عن إضطهاد الأَنبياء والمُرسَلين وتعذيبهم على يد أُناسٍ سافلين .فهل وقعتْ هذه الأَحداث وفقاً لعدالةٍ واستحقاقٍ روحيَّين ؟ بالتأْكيد , كلاَّ . الآية الكريمة الآتية تُشير الى ذلك وتتوعَّد الذين اضطهدوا الأَنبياء أَو قتلوهم : " وأَرسلنا إليهم رُسُلَنا . فكلَّما جاءَهم رسولٌ بما لا تهوى أَنفسُهم فريقاً كذَّبوا وفريقاً يقتلون " ( المائدة 69 ) . ووردَ في رسالة أَفلاطون الروحيَّة التي هبطَتْ على الدكتور داهش , مؤسِّسِ العقيدة الداهشيَّة ما يأْتي : " إنَّ الدولة التي تَغلُّ أَيدي نوابغها وأَنبيائها وتُقيم العقباتِ في سبيلهم لَهي دولةٌ معتسِفة تاعسة , بشِّرْها بسقوطٍ عظيمٍ لا تقوم لها من بهده قائمة " ( 35 ) .

وَلْنَأْخذْ على سبيل المثال يوحنَّا المعمدان . فقد أَمر هيرودسُ السفَّاح بقطع رأْسه إرضاءً لرغبة سالومي , إبنةِ هيروديا زوجةَ أَخيه التي كان يراودُها عن نفسها . هذه الجريمة التي لن يمحوها التاريخ , والتي تدلَّ على مَبلَغِ الشرِّ والدناءة عند بعضهم , لم تكنْ نتيجةَ عدالةٍ وإستحقاقٍ روحيِّين , بل حصلَتْ لأَسبابٍ تتعلَّق بالإيمان والتضحية والفداء . يوحنَّا الذي قال فيه السيِّد المسيح : " لم يقمْ بين المولودين من النساء أَعظَمُ من يوحنَّا المعمدان " ( متَّى 11 : 11 ) لم يقترفْ فعلاً يُجازى عليه بمثل هذا الجرم الرهيب . كلُّ ما فعله يوحنَّا المعمدان أَنَّه كان يدعو مواطنيه الى الكفِّ عن الشرور والعمل بوصايا اللّه , وكان يُعلن على رؤوس الأَشهاد حالةَ الفسق والفجور التي كان هيرودس الطاغية يعيشها مع زوجة أَخيه الفاسقة وابنتها الداعرة . ووفقاً للتعاليم الداهشيَّة , فإنَّه ( أَي هيرودسَ السفَّاح , قاتلَ الرسل والأَنبياء ومُضطهِدَهم ) لم يتسلَّمْ مقاليد السلطة تحقيقاً لعدالة وإستحقاقٍ روحيٍّ , بل تسلَّمها نتيجةً لأَسبابٍ تتعلَّق بشروره المتكرِّرة ضدَّ الأَنبياء والمُرسَلين , كما بدوراتِ تقمُّصات سيَّالاته السُّفليَّة الرهيبة التي تبرزُ الى حيِّز الوجود في مواقع السلطة عند ظهور الأَنبياء والدعوات الروحيَّة , وتعمل على إضطهادهم .

خلاصةُ القول انَّ ما يقع للناس من الأَحداث ليس كلُّه ناجماً عن إستحقاق ؛ فإنَّ منه ما ينشأُ عن أَسبابٍ أُخرى . والجدير بالذكر ههنا أَنَّ قوانين العدالة الإِلهيَّة والإستحقاق الروحيِّ لا تنطبق على البشر وحدَهم , بل تتعدَّاهم الى سائر الكائنات ؛ فهي تشمل الإنسان والحيوان والنبات والجماد . الأَشياء مترابطةٌ بعضُها ببعض من خلال قوانين التقمُّص الروحيَّة العادلة التي تجعل من الإنسان حيواناً أَو نباتاً أَو جماداً ؛ والعكس صحيح . فلا موتَ على الإطلاق في التعاليم الداهشيَّة , بل إنتقالٌ من حالةٍ الى حالة وفقاً لإستحقاقِ كلِّ سيَّالٍ روحيٍّ . لنستمعْ الى ما يقوله مؤسِّسِ الداهشيَّة بهذا الصدد في قصَّته " الكونتنيار وصناديقه ال 25 " : ( وهنا قالت الشجرة : " إذاً أَنتَ تعرف عن التقمُّص والأَدوار السابقة والإستحقاقات التي تجعلُ المرءَ أَو الجماد يتقمَّصُ مراراً وتكراراً بالشكل الذي أَوصل نفسَه إليه , فيتقمَّص حيناً أسداً وحيناً فأْراً , وآونةً شجرةً وأُخرى إنساناً سويّاً " ( 36 ) .

حقائق التقمُّص هذه تقودُنا الى النتيجة الآتية : إنَّ قوى الوعي والإرادة المتوافرة عند الإنسان متوافرةٌ عند الحيوان والنبات والجماد أَيضاً . وهي لا تفنى بفناء الجسد , بل تنتقل بين الكائنات وتتأَقلم معها . والمقصود بالتأَقلم أَنَّ الخصائص الفكريَّة الروحيَّة للسيَّالات المُتقمِّصة , أَي مجملَ الميول والطباع والرغبات والنزوات والشهوات وسواها , تنتقلُ من دورٍ الى دور عند لحظة الوفاة من غير أَن يطرأَ تغيُّرٌ على طبيعتها التي وصلَتْ إليها عند لحظة إنطلاقها . السيَّالات الروحيَّة تحمل معها خصائصَها الفكريَّة من التقمُّص السابق الى التقمُّص اللاحق ( 37 ) , بيد أَنَّها تتأَقلم بالبيئة الجديدة وتجاربها الخاصَّة بها . لِنَفرضْ إنساناً سُفليًّا كان حادَّ الطباع مؤذياً يعتدي على الآخرين إعتباطاً , فكُتِبَ عليه أَن يتقمَّص كلباً ؛ هذا الكلب سيحمل معه , ولا ريب صفاتِ ذلك الشخص السيِّئة , ومن ثمَّ فلا بدَّ من أَن يكون كلباً شَرِساً يعتدي على سواه , وذلك في إطار البيئة الجديدة التي يعيش فيها , وفي سياق تجارب عَالَم الكلاب ومُقتَضَيَاتِه .

مَن يطالع مؤلِّفات الدكتور داهش , وبخاصَّةٍ كتاب " قصص غريبة وأَساطير عجيبة " في أَجزاءه الأَربعة , يتَّضحْ له أَنَّ سيَّالات الوفاء والتضّحية بالنفس في سبيل الآخرين متوافرةٌ عند الحيوان توافُرَها عند الإنسان . " الكلب البطل " قصَّةٌ تحدِّثُنا عن كلبٍ أَمين وديع أَساء إليه , بلا سببٍ , أَحدُ الفتيان المتشرِّدين فضربه ضرباً مبرِّحاً حتَّى أَسال دماءه . وتشاءُ الأَقدارُ أَن يُشرِف الفتى على الموت غرقاً , فما كان من الكلب إلاَّ أَن أَلقى بنفسه في الماء وأَطبق بأَسنانه على ثياب الغريق وجَرَّه الى اليابسة حتَّى أَنقذه ( 38 ) . وقع هذا الحادث وفقاً لسببيَّةٍ تتعلَّق بسيَّالات التضّحية الموجودة عند هذا الكلب البطل .

وتحدِّثُنا قصَّةُ " عظاية الغاب " عن طفلٍ لا يتجاوز السابعة من عمره عَثَر على عظايةٍ صغيرة في الغاب , فحملها الى منزله , وجعل يعتني بها حتَّى إطمأَنَّتْ إليه . ومع مرور الوقت أَخذ يُطلِق سراحها , فكانت تذهب الى الغاب , ثمَّ تعود الى المنزل لتكون بجواره . وفي أَحد الأَيَّام الشديدة الحرارة , بينما كان الطفل مُستلقياً على جذع شجرةٍ يداعبُ عظايتَه برزَتْ إحدى الأَفاعي السامَّة , وزَحَفَتْ نحوَه , فلم ينتبهْ إليها إذ غلبه النعاس , فأَسرعَت العظاية توقظُه من النوم ليتمكَّن من الفرار ثمَّ قفَزَتْ على الأَفعى تُلهيها عن الطفل ... وما هي إلاَّ لحظات حتَّى إستقرَّت العظايةُ الوفيَّة في جوف الحيَّة البغيض ! ( 39 ) يتبيَّن لنا ممَّا تقدَّم أَنَّ العظايةَ الشهمة قامت بهذا العمل البطوليِّ نتيجةَ سببيَّةٍ روحيَّة متعلِّقة بسيَّالات الوفاء والتضّحية بالنفس في سبيل الطفل الذي أَحبَّها وأَحبَّتْه .

إذا سلَّمنا بأَنَّ للأحداث أَسباباً وجذوراً سماويَّة ونفسيَّة تحرِّكُها " أَي سببيَّةً روحيَّة " , إتَّضحَتْ لنا الأُمور , وأنتفى من عقولنا الشكُّ في مراحم اللّه وعدالته . فلولا الأَسباب والمُسبِّباتُ الكامنة خلف المظاهر والأَحداث لأَلفينا كثيراً ممَّا نشاهده من شؤون الحياة خالياً من كلِّ حقٍّ وعدلٍ وإنصاف . فإذا شاهدنا , على سبيل المثال , طفلاً ضريراً منذ ولادته ونحن غيرُ مؤمنين بالإستحقاق والعدالة الروحيَّة , لَراودَتْنا الأَسئلةُ ألآتية : ما ذنبُ هذا الطفل حتَّى وُلد أَعمى ؟ أَين عدالة اللّه ورحمته العَميمة التي تتحدَّث عنهما الرسالاتُ السماويَّة ؟ لماذا وُلِدَ الطفل بهذه العاهة الشديدة وهو لم يقترفْ بعد عملاً يستحقُّ عليه مثلَ هذا القصاص الرهيب ؟

التعاليم الداهشيَّة التي تؤمن بالتقمُّص إيمانَها باللّه جلَّ جلاله تجيبُ عن هذه الأَسئلة بقولها إنَّ الطفل وُلِدَ ضريراً لأَسبابٍ روحيَّةٍ تتعلَّق بالعدالة الإلهيَّة . وقد تمَّ هذا الأَمر وفقاً لإستحقاقٍ روحيٍّ مرتبطٍ بمبادىء الثواب والعقاب التي تحدَّثَتْ عنها الدياناتُ السماويَّة , والتي تُصيب الأفرادَ بالنسبة لأَفعالهم , سواءٌ منها أَفعالُهم الراهنة أَو أَفعالُهم التي قاموا بها في أَدوارٍ حياتيَّة سابقة . هذا الطفل , وفقاً للتعاليم الداهشيَّة , لا بدَّ أَن يكون قد إقترف من الأَعمال في حياته السابقة ما لم يُؤدِّ عنه في خلالها حساباً ؛ ولذلك إستحقَّ أَن يولد ضريراً في تقمُّصه اللاحق . عدالة اللّه هي في المُحاسَبة على قَدْر الإستحقاق , أَمَّا رحمتُه ففي العفو والغفران بعد المُحاسَبة .

وَلْنَضربْ مثلاً آخر يوضِّح لنا تنوُّعَ الأَسباب الروحيَّة أَو غير الروحيَّة الفاعلة في جميع الكائنات , فنقول إنَّه قد ينوي أَحدُهم السفر بالطيَّارة لزيارة أَنسبائه في بلدٍ ما , فيُعيقُه عنه حادثُ إصطدام تتعرَّضُ له السيَّارة التي تُقِلُّه الى المطار , فينكفىءُ الى منزله ممتعِضاً حانقاً على حظِّه الذي فوَّتَ عليه ركوبَ الطيَّارة في موعِدِه . لكنَّ نبأَ يَرِدُه بعد قليلٍ يُفيد أَنَّها  ( أَي الطيَّارة )  قد تحطَّمَتْ وقُتِلَ كلُّ من فيها من مسافرين وملاَّحين ! هذا الحادث تعلِّلُه الداهشيَّة بالقول إنَّ هُناك سببيَّةً روحيَّة حالتْ دون سفر هذا الشخص , فنجا من الموت . العناية الإلهيَّة تعلم بأَنَّ الطيَّارة ستتحطَّم ويُقتَل من فيها , فافتعلَتْ حادثَ الإصطدام وفوَّتَتْ عليه السفرَ بها , وذلك لأَسبابٍ روحيَّة قد تتعلَّق بتمديد عمره نتيجةً لأًعمالٍ حسنة قام بها , أَو قد تعود الى أَنَّ أَجَلَه لم يحنْ بعد ... ومهما يكن السبب , فممَّا لا ريب فيه أَنَّه لم يَنجُ من الموت المُحقَّق لأَنَّه سعيدُ الحظِّ ؛ فلا شيءَ يحصل في هذه الحياة قائماً على صُدَفٍ وحظوظٍ وظروفٍ عمياء في معزلٍ عن أَسبابه ومسبِّباته المختلفة المرتبطة بالمشيئة السماويَّة الروحيَّة أَو بالإرادة الإنسانيَّة .

والى القارىء هذا المثلَ نُوضِّح به السببيَّة التي لا تندرجُ في سياق مبادىء العدالة الإلهيَّة والإستحقاق الروحيِّ . لنفرضْ أَنَّ أَحدَهم لم يتورَّعْ عن إستخدام شتَّى أَساليب الخِسَّة للإثراء غير المشروع حتَّى باتَ يملك ثروةً طائلةً جعلَتْه من أَصحاب الملايين , لكنَّه إستعملها في شراء نفوس الناس من قليلي الذمَّة والأَخلاق ليتبوَّأ مقاليد السلطة والنفوذ , كما  يحصل في لبنان و بعض البلدان الأُخرى؛ فهل نقول إنَّ هذا الشخصَ استحقَّ روحيّاً ما حقَّقه من ثروةٍ و نفوذٍ وسلطة؟ طبعاً، لا . الثروة و النفوذ و السلطة تحقَّقَتْ وفقاً لأَسبابٍ تعرفُها الروح و يجهلها البشر. قد تكون الغايةُ الروحيَّة من ذلك معاقبةَ هذا الشخص و تحميلَه مسؤوليَّةَ جمع الثروة و الوصول الى الثروة بطرقٍ دنيئةٍ و احتياليَّة. و قد يكون ما دفعه إلى القيام بما قام به نابعاً من دخيلة نفسه و من مُعطيات سيَّالاته السُّفليَّة؛ فهي التي مكَّنَتْه من جمع الثروة و تسنُّم سُدَّة الحكم بطرقٍ خسيسةٍ غيرِ أَخلاقيَّة. ثمَّة حوادث نَهبٍ و قتلٍ و اعتداءٍ و احتيالٍ كثيرة تحصل هنا و هناك لا شأْنَ فيها للاستحقاق الروحيِّ، بل تكون ناتجةً عن المُستويات المختلفة للسيَّالات. المعاصي و الجرائم و الذنوب و سائرُ الشرور تصنعُها السيَّالاتُ السُّفليَّة ، و كثيرٌ من أَعمال الخير و البِرِّ و الإحسان تصنعُها السيَّالات الروحيَّة النبيلة(40).

يتَّضحُ لنا ممَّا سبق أَنَّ السيَّالات هي أَيضاً مسؤولةٌ عن تحديد خيارات الناس عند قيامهم بأَعمالٍ كثيرةٍ لا علاقةَ لها بدواعي الاستحقاق و العدالة الروحيَّة، و لا بدوافع التجربة أَو الإيمان أَو التضحية و الفداء، و لا بالشرِّ أَو الخير، بل تكون ناشئةً فقط عن بعض الرغبات. قد نجدُ، مثلاً ، شخصاً يحبُّ العلوم الطبيعيَّة، فيختصُّ في دراستها، و يصبح عالِماً فيزيائياً و شخصاً ثانياً يهوى الموسيقى، فيصبح موسيقاراً؛ و شخصاً ثالثاً يميل إلى النجارة ، فيصبح نجَّاراً ماهراً؛ و هكذا ...

يعتقدُ السوادُ الأَعظَم من الناس أَنَّ الأُمور و الماجَريات إنَّما تحصل عن أَسبابٍ طبيعيَّةٍ مباشرة. قد يكون السببُ المباشَر، مثلاً، لولادة الطفل أَعمى تَعاطِي والدتِه بعضَ الأَدوية الضارَّة في أَثناء حَمْلِها به؛ الأَمر الذي يؤثِّر في صحَّة الجنين في خلال مراحل نموِّه، فيولد ضريراً . قد تكون العقاقير هي السببَ الطبيعيَّ المباشَر لفقدان الطفل بصرَه، لكنَّ الأَسباب الحقيقيَّة ، في حالة العمى عند الطفل ، روحيَّةٌ غيرُ مباشَرة؛ و ما السببُ المباشَر إلاَّ وسيلةٌ أَو واسطة. والدةُ الطفل الضرير لم تتناول الأَدوية الضارَّة بملء إرادتها، بل بمشيئةٍ روحيَّة خارجة عنها. فهي ( أَي المشيئة الروحيَّة) هي التي أَوعزَتْ إلى الطبيب بأَن يصف للحامل عقاقيرَ لا يعلمُ أَضرارَها، الأَمر الذي أَدَّى إلى ولادة الطفل مُصاباً بالعاهة كاستحقاقٍ روحيٍّ يجب أَن يتمَّ.

قد يكون السببُ الطبيعيُّ المباشَر عند مريضٍ يعاني ارتفاعاً في درجة الحرارة إصابتَه بتورُّماتٍ و التهاباتٍ سبَّبَتْها جراثيم ضارَّةٌ في دمه. فإذا قُضِيَ على هذه الجراثيم، زالت الحرارة، و تَماثَل المريض إلى الشفاء. بيد أَنَّها (أَي تلك الجراثيم) ليست السببَ الحقيقيَّ لمرضه، بل هي الوسيلة أَو الأَداة التي تمَّ بواسطتها المرض ؛ أَمَّا الأَسباب الحقيقيَّة-و لا بأْس من التكرار- فهي في هذه الحالة، روحيَّة(41).

الجراثيم كائناتٌ عاقلةٌ ذكيَّة تتمتَّع بمَلَكَة الوعي و الإرادة كما تقول بذلك التعاليمُ الداهشيَّة فضلاً عن بعض المراجع العِلميَّة، شأْنُها في ذلك شأْنُ جميع الأَشياء. و بما أَنَّها كائناتٌ عاقلةٌ و مسؤولة ،بالرغم من صِغَرها اللا متناهي تقريباً، فهي تخضع للمشيئة الروحيَّة التي أَوعزَت إليها بأَن تُصيب مَن استحقَّ أَن يُصاب بالمرض، و ذلك لأَسبابٍ روحيَّة. و الاَمر نفسُه ينطبق على الشخص الذي قُتِل و هو يقودُ سيَّارَتَه المسرعة. السرعة هي السببُ المباشر لحادث الوفاة؛ فلولاها لَما حصلَتْ. هذا ما يقولُه الناس، و ما يؤكِّدُه رجال الشرطة. أَمَّا الحقيقة، وفقَ التعاليم الداهشيَّة ، فغيرُ ذلك إطلاقاً. السرعة كانت وسيلة القتل، و لم تكن السببَ الحقيقيَّ . الوفاة تمَّتْ بواسطة السرعة لا بسبب السرعة. ذلك أَنَّ السببَ الحقيقيَّ روحيٌّ.

نستنتج من الاَمثلة الآنفة الذِّكر أَنَّ الأَسباب المادِّيَّة اَو الطبيعيَّة المباشرة لأَحوالٍ كارتفاع الحرارة، و العَمى ، و الوفاة نتيجة السرعة لم تكنْ سوى وسائل أَو وسائط فقط، أَمَّا الأَسباب الحقيقيَّة فروحيَّة. ففي العوالم المادِّيَّة، و منها عالَمُنا الأَرضيُّ، تخضعُ جميعُ الأَشياء للقوانين الطبيعيَّة. و بما أَنَّ الكائنات التي نتحدَّث عنها في هذا المقال تجسُّداتٌ مُكوَّنةٌ من عناصرَ مادِّيَّة، فلا بدَّ من أَن تخضع لتلك الوسائل أَو الوسائط الطبيعيَّة المادِّيَّة المباشرة.

و مهما تكن الأَسبابُ و المُسبِّباتُ السماويَّة و البشريَّة الكامنة وراء المظاهر و الاَحداث، فإنَّ كثيراً منها، و بخاصَّةٍ ما ينجمُ عن مشيئةٍ إلهيَّة، يظلُّ محجوباً عن مَدارك البشر وفقاً للآية الكريمة:"عسى أَن تكرهوا شيئاً و هو خيرٌ لكم.و عسى أَن تحبُّوا شيئاً و هو شرٌّ لكم. و الله يعلم ، و أَنتم لا تعلمون"(البقرة:216) و جُملة القول إنَّ العقيدة الداهشيَّة تعارضُ القَدَريَّة fatalism، و لا تؤمنُ بها؛ فهي تحثُّ الناس على النهوض و مزاولة الفضائل و تَوَخِّي المنفعة الروحيَّة. و إِنَّ لنا من حياة مؤسِّس الداهشيَّة مثالاً حافلاً بالدروس و العِبَر الجليلة. فهو لم يكنْ يقف موقف اللامبلاة من أَعمال العنف و الظُّلم و الاضطهاد و الاعتداء على الحرِّيَّات، و لم يكنْ يُجيزُ لإنسانٍ أَن يُلحِق الأَذى و الضرر بالآخرين؛ فالله وحدَه هو الذي يحاسبُ الناس و الخلقَ أَجمعين.

Return to the Top

 

الطبيعة و عَبَثُ الإنسان بها

الطبيعة و عَبَثُ الإنسان بها

 

الاكتشافاتُ العِلْميَّة الحديثة و تطبيقاتُها العديدة التي نُشاهدها في كلِّ مكان، مع ما تُوَفِّر للإنسان من إمكانيَّات استهلاكيَّة و مُتَعٍ مادِّيَّة، أَصبحَت شُغل الناس الشاغل. فالجميع باتوا يتحدَّثون عن عصر الكمبيوتر الذي لا غنَى عنه، كما أَصبحوا يتأثّرون، في طريقةٍ أَو أُخرى، بأَجهزة البثِّ السريع و ببرامج الاستعلامات و المواصلات عبر الأَقمار الصناعيَّة و غيرها من شتَّى الإنجازات و الإختراعات الحديثة التي لَم تكن لتخطرَ على بال.

هذا التطوُّر النوعيُّ في التقدُّم العلْميِّ و التِّقَنيِّ أَصبح الآن يُسيطر سيطرةً تكاد تكون تامَّةً على شؤون الناس و على نشاطاتهم الفكريَّة و مجالات أَعمالهم إلى حدِّ أَنَّ كثيرين من الباحثين أخذوا يتحدَّثون عن إمكانيَّات الإنسان اللامحدودة في مجالات تطوير العلوم و في كشف أَسرار الطبيعة و السيطرة على قِواها.

هذا التفاؤل الشديد بمقدرة الإنسان انتقلَتْ عدواه من رجال المال و الأَعمال المُستفيدين الأَوَّلين من هذه الطفرة الصناعيَّة و التِقنيَّة و التجاريَّة إلى القيِّمين على الأُمور و الحكومات و أَساتذة الجامعات، حتَّى إنَّ جماعة العلَماء بدأُوا يتحدَّثون عن إمكان تَوصُّل الإنسان في المستقبل إلى وضع  نظريَّةٍ شاملة و نهائيَّة لتفسير قوانين الطبيعة ، مثالهم العالِم الأَمريكيُّ  المعروف ستيفن وَينْبرغ Steven Weinberg  الحائز جائزة نوبل لعلوم الفيزياء؛ فهو يتحدَّث  عن تلك الإمكانيَّة في كتابه " التوق إلى نظريَّة  نهائيَّة" ، مُعترِفاً بأَنَّ اكتشافَ مثلِ هذه النظريَّة النهائية لن يوقِف البحوث و التساؤلات العِلْميَّة ، لو تَمَّ ، إنَّما سيضع حدّاً لجانبٍ منها.

على أَنَّ محاولةَ الإنسان الاهتداءَ إلى نظريَّةٍ شاملة نهائيَّة لتفسير قوانين الطبيعة ليستْ حديثة العهد ، بل يعود تاريخُها إلى أَكثرَ من خمسين عاماً. فقد حاول الفيزيائيُّ الشهير أَلبِرت  آنشتاين إكتشافَ مثل هذه النظريَّة التي أَطلقَ عليها اسمَ " نظرية الحقل الواحد" united field theory، لكنَّه فشل في محاولته هذه بالرّغم من أَنَّه أَمضى ثلاثين عاماً و نيِّفاً من أُخريات أَعوامه يحاول اكتشافَها عبثاً. تُرى ما هي الأَسباب التي تمنع الإنسانَ عن اكتشاف مثل هذه النظريَّة العِلميَّة الشاملة و النهائيَّة بالرغم من وجودها، كما تقول التعاليم الداهشيَّة؟ هذا الأَمر سنتحدَّث عنه على صفحات هذا المقال في ضوء ما نعرفُه عن الطبيعة و قوانينها ، و ذلك من خلال التعاليم الداهشيَّة.

نستهلُّ هذا المقالَ بالسؤال :هل الطبيعة و قوانينُها من صُنع الله، و قد أَوجدَها لغاياتٍ و أَسبابٍ روحيَّة، كما تؤكِّد ذلك التعاليمُ الداهشيَّة أَم إنَّها ( أَي الطبيعة) أَوجدَتْ نفسَها بنفسها من العدم، ومن ثَمَّ فما العلوم التي استنبطها الإنسانُ استناداً إلى ظواهر الطبيعة و طبَّقها عليها إلاَّ من صُنع عقله يُرتِّبُها وفقاً لتصوُّراته و مقاييسه و اختباراته، مع العِلم بأَنَّه ليس للطبيعة شأْنٌ في ذلك كلِّه، كما يقول لفيفٌ كبيرٌ من العُلماء و فيهم ستيفن وَينْبرغ؟

إذا كان الجوابُ عن هذا السؤال ما تذهبُ إليه العلوم الفيزيائيَّة الحديثة بعامَّة،أَي أَنَّه ليس لله و للغايات الروحيَّة شأْنٌ بالطبيعة و قوانينها، فقد لزم منطقياً أنه ليس لله و للعوالم الروحيّة شأن بالكائنات الموجودة فيها، أَمراً مباحاً لا عقابَ روحيّاً عليه. أَمَّا إذا كان الجوابُ عن ذلك السؤال ما تؤكِّدُه التعاليمُ الداهشيَّة قائلة إنَّ الطبيعة كائنٌ حيٌّ خلقَها الله و ضَبَطَها بأَنظمةٍ و قوانينَ روحيَّةٍ و مادِّيَّة وفقاً لِمَقاصدَ روحيَّة، فقد باتَ العبثُ بها و بقوانينها و مواردها لأَهدافٍ مادِّيَّة خاليةٍ من القِيَم الروحيَّة خطيئةً سوف تجلبُ على الإنسان الدمارَ، عاجلاً أَم آجلاً .

و الواقع أَنَّ علومَ الطبيعة التي إهتدى إليها الإنسان تقومُ على ثلاث قواعدَ رئيسيَّة :

  1. علوم الفيزياء الكلاسيكيَّة  التي تُسمَّى أَحياناً " فيزياء نيوتن" Newtonian Physics، و هي العلوم الخاصَّة بِقوى الجاذبيَّة و الحركة،و المُتعلِّقة بالأَجسام المتوسِّطة و الكبيرة، و هي التي نحتاج إلى تطبيقاتها في حياتنا اليوميَّة، و ما نحتاجه في صناعة السيَّارات و القِطارات و في  بناء ناطحات السحاب، و غيرها من التطبيقات العلميَّة التي لا تزال تُعَلِّم في المعاهد و الجامعات لتخريج المهندسين  المِعماريِّين و الصناعيِّين و غيرهم.
  2. علوم القوة الكَهْرَطيسيَّة Electormagnetic Forces، و هي تتعلَّق بعلوم الكهرباء، و بالإشعاعات الكهربائيَّة المغنطيسيَّة بما فيها من التموُّجات الطويلة و القصيرة الخاصَّة بالراديو و الأَشعَّة السيِّنيَّة ، كما تتعلَّق بتَجاذُب العناصر ذات الشحنات الكهربائيَّة – المغنطيسيَّة المُتضادَّة بُغيةَ تكون الأَجسام المختلفة التي نشاهدها في الطبيعة، و بغيرها من التفاعلات الكيميائيَّة المسؤولة عن بناء الجُزَيْئات Molecules
  3. علومُ الفيزياء الحديثة أَو النَّوَوِيَّة، و هي تُسمَّى أَحياناً " علوم الطاقة العالية" أَو " فيزياء الكَم quantum Physics، و تتعلَّق بقوى التجاذب النَّوَويَّة القويَّة بين دقائق الجُسَيمات داخل نواة الذَرَّة  Subatomic particules، و بتفاعلاتها بعضها مع بعض، كما تتعلَّق بتحوُّلات الطاقة الذَرِّيَّة من طاقةٍ إلى مادَّة و من مادَّةٍ إلى طاقة و غيرها من العلوم المتعلِّقة بمُقوِّمات المادَّة constituents of mattar ، أَو أَصل المادَّة.

 

بعد أَن وضع العالِم اللامع أَلْبِرت آينشتاين " نظريَّة النسبيَّة المحدودة"، و " نظريَّة النسبيَّة العامَّة"، و بعد أَن وُضِعَت علوم الفيزياء النَّوَويَّة و ظهرت اختراعاتٌ تطبيقيَّة لها، قُلِبَت الأُمور رأْساً على عَقِب بالنسبة لتصوُّرات الإِنسان واعتقاداته عن حقائق الطبيعة، إذْ بدا أَنَّها تختلف تماما عمَّا كنَّا نعرفه عنها في الفيزياء الكلاسيكيَّة التي وَضع أُسُسَها العالِمُ البريطانيُّ الشهير إسحق نيوتن، و التي بنى عليها الإنسانُ إنجازاتِه العِلْميَّة و الحضاريَّة خلال ثلاثِمئة عام تقريباً.

علوم الفيزياء الحديثة باتتْ تقول لنا إنَّ حقائق الطبيعية ليست كما تبدو لنا إطلاقاً ، و إنَّ تصوُّرَنا للأَشياء و إدراكَنا لها قائمان على أَوهام و تخيُّلات خاطئة. فالقياسات و السرعات و الأَوقات هي مقاييسُ نسبيَّةٌ تختلف من وَضْعٍ إلى وَضْع و من نقطة انطلاق إلى نقطة انطلاق أُخرى. الدقيقة الزمنيَّة في بعض الكواكب المادِّيَّة التي تندفع دائرةً في فضاء الكون بسرعات خارقة قد تُوازي بضعَ سنين من الزمن الأَرضيِّ. هذه حقيقة عِلْميَّة أَثبَتَتْها البحوثُ و التجاربُ العلْميَّة العديدة.

نظريَّةُ النسبيَّة أَثبَتَتْ أَيضاً أَنَّ الأَجسامَ المادِّيَّة التي كنَّا نعتبرُها مستقلَّة و قائمةً بحدِّ ذاتها في معزلٍ عن الزمان الذي هي موجودةٌ فيه، ليس لها وجودٌ بغير الزمان؛ و الزمانُ الذي كنَّا نَحسبه بُعْداً مُستقلاًّ لا علاقة له بالأَشياء و المكان، و الذي كنَّا نظنُّ أَنَّه ينساب من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل ، تأَكَّد أَنَّه لا وجود له إلاَّ إذا ربطناه بالمكان.

لقد تعوَّد الإِنسان أَن يصفَ الأَشياءَ مثلما يراها و يتصوَّرُها عقلُه بأَبعادها الثلاثة الظاهرة دون أَن يُدخِل عليها البُعْدَ الزمنيَّ الرابع الذي كان يعتبره مستقلاًّ عنها، فإذا حقائق الأَشياء في الطبيعة مُرتبطةٌ بأَبعادها الأَربعة.

و الجدير بالذكر أَنَّ جميع النظريَّات العِلْميَّة-بما فيها تلك المُتعلِّقة بنظرية النسبيَّة- تهتمُّ أَوَّلاً و أَخيراً بظواهر الأَشياء المادِّيَّة و بالقوانين التي تنظِّم هذه الظواهر المادِّيَّة و تعمل فيها و عليها؛ و هذا يعني أَنَّ العلوم الطبيعيَّة لا تأْخذ بالحسبان إلاَّ الأُمور المُرتبِطة بالزمن؛ أَمَّا إذا وُجِد جوهرٌ روحيٌّ خارجٌ عن الزمن، فعلومُ الطبيع لا قدرةَ لها على القبض عليه أَو التحكُّم به أَو حتَّى وصفه.

لِنَفْتَرِضْ أَنَّ أَحداً منَّا يحمل في محفظته صورةً فوتُوغرافيَّة عزيزة لطفلٍ في عامه الأَوَّل، يعود تاريخها إلى عام 1960 م . إذا نحن نظرنا إلى صورة هذا الطفل و سأَلنا أَنفسَنا: أَين هو هذا الطفل؟ ( نحن هنا نتكَّلم على المظهر المادِّيِّ للطفل كما يبدو في الصورة بجسمه و خصائصه الطفوليَّة ووزنه الخفيف الذي لا يتعدَّى بضعة كيلوغرامات). الجواب، بالطبع، سوف يكون: لَم يبقَ لهذا لطفل أَيُّ وجود. هذا الكائن بشكله و مظهره تماماً مثلَما كان يبدو في الصورة كان موجوداً في عام 1960م، لكنَّ وجودَه الحاليَّ ليس مُطابقاً لما كان عليه في الصورة عام 1960م، أَي إِنَّ وجوده ذاك كان مُرتبطاً بزمانٍ مُعيَّن هو عام 1960.

تُرى ماذا حَلَّ بالطفل؟ إنَّ الطفل – شأْنُه في ذلك ، شأْنُ جميع الأَشياء و التجسُّدات في الطبيعة – طرأَ عليه تغيُّرٌ و تحوُّلٌ من عهد الطفولة إلى عهد الرجولة خلال مراحلَ زمنيَّة تدريجيَّة كانت فيها كلُّ مرحلةِ نموٍّ أَو تغيُّرٍ مادِّيٍّ تحصل للطفل متَّصلةً اتِّصالاً عُضويّاً بمراحلَ زمنيَّة تدريجيَّة تُداخلُها.

هذا يعني نظريّاً أَنَّ كلَّ مظهرٍ مادِّيٍّ سابق من مراحل نموِّ الطفل كان يزول بزوال الزمان المُرتبط به،و هذا الوضع المادِّيُّ / الزمنيُّ المتغيِّر التدريجيُّ سوف يستمرُّ في جسد الطفل/ الشابِّ حتَّى يحصل له الزوال الذي يتمُّ بواسطة الموت و الانحلال. و بزوال الجسد يزول عاملُ الزمان  الذي كان مرتبطاً  به. و ما ينطبق على جسد الإنسان ينطبق أَيضاً – و لو بنسَبٍ مختلفة من التغيُّر و التحوُّل الزمنِّي/ المادِّيِّ – على جميع المظاهر المادِّيَّة التي في الطبيعة ، على الحيوان و الأَشجار و الصخور و الجبال، و على كلِّ شيءٍ بلا استثناء. هذا ما يقوله العِلمْ؛ فلا وجود للأَشياء بمظاهرها المادِّيَّة في  معزلٍ عن الزمان.

علومُ الفيزياء الحديثة أَكَّدت أَيضاً أَنَّ المظاهر المادِّيَّة من صخور و معادن و سوائل أيضاً و غيرها ليست تلك الأَجسامَ الصلبة، و لا هي تلك السوائل الكثيفة التي تنساب هنا و هناك، بل هي حالاتٌ من حقول الطاقة المُكثَّفة المُكوَّنة من عناصرَ ذرِّيَّة تربطها بعضاً ببعض قوانينُ كهروطيسيَّة. هذه الذرَّات تتكوَّن من فراغات هائلة نسبيّاً تحتوى على بعض الجُسَيمات الذرِّيَّةsubstomic particules، كالإلكترونات و البروتينات و النيوترونات و غيرها من الجُسيمات المتناهية في دقَّتها. لا تشغلُ هذه الجُسَيمات الذرِّيَّة مجتمِعةً حيِّزاً من فراغات الذرَّة يتجاوز جزءاً من واحدٍ من بليون من حجمها. في هذه الذرَّات تدور إلكترونات حول نواة الذرَّة المؤلَّفة بالدرجة الأُولى من البروتينات و النيوترونات بسرعاتٍ رهيبة تصل أَحياناً إلى سرعات قريبة من سرعة الضوء( أي 300000 كلم في الثانية). تلك السرعاتُ الهائلة، مُضافاً إليها البُعد الزمنيُّ النِّسبيُّ الذي تستغرقه الإلكترونات في دورانها حول النواة الذرِّيَّة، تُعطي العناصرَ الذرِّيَّة مظاهرَها الصلبة و المكثَّفة الخادعة. و فضلاً عن ذلك ، فإنَّ اختلافَ أَعداد الإلكترونات ، مع ما يُوازيها من اختلاف في أَعداد البروتونات و النيوترونات داخل النواة، يُعطيها نوعيَّاتِها المختلفة.

العلومُ الفيزيائيَّة الحديثة وجدَتْ أَيضاً أَنَّ الجُسَيمات الذرِّيَّة substomic particules، ليست مكوَّنةً من أَشياء يمكن تحديدُها و حصرُها، بل هي حالاتٌ من الطاقة لها واقعٌ نظريٌّ و افتراضيٌّ فقط، و ليس لها وجودٌ فِعليٌّ إلا بنسبة ترابُط هذه الجُسَيمات و تفاعُلها بعضِها مع بعض داخلَ الذرَّة. هذه الجُسَيمات الذرِّيَّة هي أَيضاً في حالةٍ مستمرَّة من التغيُّر و التبدُّل و الظهور و الاختفاء.

إذاً نحن نعيش في عالم ماديّ هو في حقيقته المجرَّدة عالم ماديّ وهميّ. هذا ما أَكَّدته لنا العلومُ الفيزيائيَّة الحديثة التي تِبعاً لها نحن و جميع ما في الطبيعة من مظاهرَ مادِّيَّةٍ لسنا سوى حالاتٍ زائلة وهميَّة متغيِّرة من الطاقة تظهر هنا لتختفي هناك.

و الطبيعة، حسب النظريَّة العِلْميَّة الحديثة الاَخيرة، انبثقتْ من العَدَم قبل زمنٍ يتجاوزُ 13 بليوناً من الأَعوام نتيجةً ما يُسمِّيه العْلمُ الحديث ب" الانفجار الكبير"The big bang الذي كان هو بدايةَ تكوين الكَون أَو الطبيعة المادِّيَّة التي أَخذَتْ تتكثَّف عناصرُها الذرِّيَّة عبر بلايين الأَعوام حتَّى استقرَّتْ على شكلها و تكوينها المادِّيِّ الحاليِّ.

هذه باختصار وُجهة النظَر العِلميَّة الحديثة في شأْن الطبيعة و قوانينها. فما هي وجهة النظر الداهشيَّة؟ سيرى القارئُ أَنَّها لا تختلف عمَّا يقوله العِلْمُ الحديث في المسائل التي أَصبحتْ نتائجُها نهائيَّةً، كالنسبيَّة مثلاً ، لكنَّ الداهشيَّة تذهبُ أَبعدَ في الكشف عن أَسرار الطبيعة و حقيقة جوهرها الروحيَّ.

 

التعاليم الداهشيَّة – كما أفهمُها- تُؤيِّد ما يقوله العلماء من أَنَّ للطبيعة قوانينَ شاملةً و مشتركة يرتبطُ  بعضُها ببعض، و أَنَّ هذه القوانين بعضُها اكتشفه الإِنسان ، و بعضُها الآخر ما يزال محجوباً عنه. لكنْ في رأْي الداهشيَّة أَيضأً أَنَّ مدى معرفة هذه القوانين مرتبطٌ  بدرجات رقيِّ الحضارات المادِّيَّة المختلفة الموجودة ليس على الأَرض فقط، بل أَيضاً في سائر أَرجاء الكون؛ فكلَّما ازداد الكائنُ فيها رُقِيّاً ، ازدادتْ معه أَكثرَ فأَكثرَ معرفةُ الأَسرار الطبيعيَّة؛ و العكس بالعكس. ذلك بأَنَّ جميعَ الأُمور و الأَحداث التي تتمُّ – بما فيها درجات المعرفة الطبيعيَّة و الروحيَّة- مرتبطةٌ بالسببيَّة الروحيَّة . فلا شيءَ يحدث في أَيِّ مكانٍ إلاَّ له أَسبابُه و استحقاقاتُه الروحيَّة؛ و هذا ما يجعل الإِنسانَ قاصراً عن معرفة  كثيرٍ من أَسرار الطبيعة التي ما تزال محجوبةً عنه، لأَنَّ مستواه الروحيَّ يجعلُه غيرَ جدير بهذه المعرفة الشاملة.

الداهشيَّة تؤمن بأَنَّ الأَرض كائنٌ حيٌّ عاقلٌ و مسؤول ، و لها سيَّالاتُها الروحيَّة المقيَّدة بالأَنظمة الروحيَّة، و لها أَيضاً مظاهرُها المادِّيَّة المقيَّدة بالقوانين الطبيعيَّة. القوانينُ المادِّيَّة و القوانينُ الروحيَّة متلازمة في جميع العوالِم المادِّيَّة، و لا وجود لأحداها دون الأُخرى.

فالقائلون بأَنَّ الأَشياءَ لا وجود لها بمعزلٍ عن الزمان، أَي ليس لها إلاَّ وجودٌ مادِّيٌّ لا يأْخذون بعين الإعتبار إلاَّ المظاهرَ المادِّيَّة مجرَّدةً من أَيَّة اعتباراتٍ روحيَّة، ذلك لأَنَّ الجوهرَ الروحيَّ لا يقعُ في مُتناول الإختبارات العلميَّة المادِّيَّة. أَمَّا الداهشيَّة فتقول إِنَّ جميعَ الأَشياء المادِّيَّة- بما فيها جسدُ الإنسان – هي تجسُّداتٌ و تقمُّصاتٌ وقتيَّةٌ اتَّخذَتْ أَشكالَها و أَنواعَها المادِّيَّة المختلفة لأَسبابٍ و استحقاقاتٍ روحيَّة ، و إنَّ هذه التجسُّدات المادِّيَّة لها سيَّالاتُها الروحيَّة الأَزليَّة المستمرَّة البقاء، و المستقلَّة عن عامل الزَّمَن.

العلوم الحديثة تقول بأَنَّ الأَشياءَ المادِّيَّة في الطبيعة لا تفنى ، بل تتحوَّل ألى طاقة. و تُؤكِّد التعاليمُ الداهشيَّة استمرارَ الوجود الروحيِّ  لجميع الأَشياء في الطبيعة. الجوهرُ الروحيُّ للأَشياء لا يزول، و ليس مرتبِطاً بالزمان . إنَّ جميع الكائنات من إنسان و حيوان و شجر و نبات و صخور و جبال و أَنهار و جراثيم و كواكب و أَقمار وغيرِها من آلاف البلايين من الكائنات اتَّخَذَتْ أَشكالها و أَنواعها المادِّيَّة المختلفة وفقاً لاستحقاقاتٍ روحيَّة مرتبطة بمستوياتها الروحيَّة. جميع الكائنات، بلا استثناء، عاقلةٌ و مُدركة، و هي تستطيع أَن تميِّز بين الشرِّ و الخير بالنسبة لتجاربِ عوالمها؛ و هي مخلوقاتٌ تشملُها الرحمةُ و العدالة الإلهيَّتان العميمتان ،و بالتالي فإنَّ لها أَنظمتَها الروحيَّة المختلفة المرتبطة بتجارب عوالمها، و التي من خلالها تستطيع أَن تُعليَ أَو أَن تُسفِّلَ درجتها الروحيَّة ونوعيَّتها المادِّيَّة بواسطة مبدأ التقمُّص. ومبدأُ التقمُّص، بمفهومه الواسع، يستوعب ما يسمِّيه العِلمُ قانونَ التحوُّل والتغيُّر   Transformation and change و التقمُّص قانونٌ روحيٌّ يَسري على جميع الكائنات بِنَسبٍ و أَوقاتٍ زمنيَّة مختلفة.و الطبيعة ، في النظرة الداهشيَّة، كالإِنسان تماماً ، تخضع لسُنَّة التبدُّل و التحوُّل التي وضعها الله للكائنات المادِّيَّة كافَّةً. فالإنسان تموت فيه بعضُ الأَنسجة و الخلايا و تتجدّد، و الطبيعة تخبو فيها النجوم و تتبدّد و تظهر فيها الكواكب و تتجدّد و هي ، وإنْ طال وامتدَّ عهدُها إلى عشرات البلايين من الأَعوام، فنهايتُها كنهاية الإنسان، مع فارق الزمن، سائرةٌ نحو التبدُّل و التحوُّل.

و علومُ الفيزياء الفلكيَّة Astrophysics تتحدَّث الآن عن إمكان وجودِ أَكوانٍ مادِّيَّة أُخرى مجهولةٍ غيرِ الكون المادِّيِّ المعروف لدينا. قد تكون القوانين الفيزيائيَّة الطبيعيَّة في هذه الأَكوان المجهولة تختلف تماماً عن القوانين الطبيعيَّة التي نعرفها.

يقولُ القرآن الكريم :" أَلم تَرَ أَنَّ الله يَسجد له مَنْ في السَّموات و مَنْ في الأَرض و الشمسُ و القمرُ والنجومُ و الجبالُ و الشجرُ و الدوابُّ و كثيرٌ مِنَ النّاس" ( الحجّ 18) هذه الآية الكريمة تؤكِّد وجودَ النفس العاقلة في كوكب الأرض كما في الشمس و القمر  والنجوم و الجبال و الشجر، حتَّى في الدوابِّ، فضلاً عن الإنسان. و كلُّ مَنْ تمتَّع بنفسٍ عاقلة يتحمَّل المسؤوليَّة الروحيَّة عن تصرُّفاته.

و كَونُ الكوكب الأَرضيِّ ذا كيان نفسيٍّ مستقلٍّ لا يَعني انفصالاً روحيّاً كاملاً بينه و بين البشر؛ فهنالك ترابطٌ و مصيرٌ مشترَك. فإذا تسفَّل البشر على الأَرض و تَدنَّتْ قِيَمُهم الخُلُقيَّة و الروحيَّة، أَثَّر ذلك في كوكب الأَرض كما في سائر الكائنات الموجودة عليها. و إذا أَراد الله أَن يُهلِكَ الإنسانَ، أَهلكَ معه الأَرضَ ومَنْ عليها؛ فالعقاب يُصيب الجميع، و لو بِنسَبٍ متفاوتةٍ من القصاص، ما داموا مرتبطين بعضهم ببعض بدرجة معيَّنة من السيَّالات التي تجمعهم بنظامٍ  روحيٍّ و مادِّيٍّ واحد. إذا فسدتْ كُرَيَّاتُ الدم في الجسد الواحد، فسُدَ معها الجسدُ كلُّه. و ما يُصيبُ فئةً من الناس من مصائبَ و نكَباتٍ و ما يقترفونه من معاصٍ و شرور يتحمَّل نتائجه الجميع بِنِسبٍ مختلفة من حيث لا يشعرون. و هكذا هو الأَمر بالنسبة للطبيعة و قوانينها و عَبَثِ الإِنسان بها. فالأَضرار و الشرور التي يُلحقها الإنسان بالأَرض و بمواردها و أَسرارها ستنقلب عليه و تطاله.

لنَرَ ماذا يقول العالِمُ الرائد أَلبرت آينشتاين عن الطبيعة و الإنسان و علاقته بها؛  و قد وردَ قولُه في كتاب هايتر باجِلْز " توازُنٌ كامل"

" الكائنُ البشريُّ جزءٌ من الكُلِّ الذي ندعوه الكون، جزءٌ محدودٌ بالزمان و المكان. و هو يشعر أَنَّ كيانه و أفكاره و مشاعره كشيءٍ منفصل عن سائر الكون. لكنَّ هذا الشعور نوعٌ من الخداع البصَريِّ في إدراكه. هذا التوهُّم ضربٌ من السجن لنا، يحصرُنا برغباتنا الشخصيَّة و بعاطفتنا للأَشخاص القلائل الأَقرَبين لنا. و مهمَّتُنا تَقضي بأَن نُحرِّر أَنفُسنا من هذا السجن بتوسيع دائرة عطفنا لتشملَ جميع الكائنات الحيَّة و طبيعة جمالها كلِّها."

إذاً نحن مرتبطون بجميع مظاهر الحياة في الطبيعة ، شئنا  ذلك أَم أَبَينا ، بالرغم من استقلالنا الإراديِّ، و بالرغم من ظنِّنا الوهميِّ، أَنَّ مصلحتَنا الذاتيَّة منفصلةٌ عن مصلحة كوكب الأَرض و سائر الكائنات فيه.

بدأَتْ علومُ الفيزياء الحديثة تتحدَّث عن ترابط الأَشياء في الطبيعة من أَصغرِ صغيرها إلى أَكبرِ كبيرها، كما عن وجود أَنظمةٍ خفيَّة ثابتةٍ و متوتزية تُهَيمن عليها . هذه الأَنظمةُ الخفيَّة التي تبدو وراءها قوَّةٌ عاقلةٌ و ذكيَّة يحاول العِلمُ أَن يتفهَّمها أَكثر، و أَن يضعَ لها القوانين و المعادلات الحسابيَّة لتثبيتها. تُعرَف هذه الأَنظمة بِ"أُصول التوازن" أَو " أُصول الثبات" principles of symmetry,principles of invariance؛ لكنَّ المشكلة في هذه الأَنظمة بالنسبة لعلوم الفيزياء الحديثة هو أَنَّ كثيراً من أَسرارها ما يزال مجهولاً علميّاً . سأُعطي القارئَ مثالاً على كيفيَّة تحكُّم قانونٍ ما بالكبير و الصغير من عناصر الطبيعة. في الطبيعة قانونٌ يُسمَّى بِ" قانون حِفظ الطاقة" conservation of energy؛ هذا القانون يؤكِّد أَنَّ جميعَ الأَشياء لا تفنى ، بل تتحوَّل من حالةٍ إلى حالة ، من طاقةٍ إلى طاقة، من طاقةٍ كيميائيَّة إلى طاقة حراريَّة أَو ميكانيكيَّة أَو غيرِها، ولكنَّها لا تفنى مهما تبدَّلتْ و تحوَّلتْ. هذا القانون تأَكَّد أَنَّه يَسري على عوالِم الذَّرَّة، كما أَنَّه يَسري على عوالِم الشموس و المجرَّات. ففي داخل الذَّرَّة وُجِدَ أَنَّ الجُسَيمات الذرِّيَّة subatomic particles تظهر و تختفي ، تتحوَّل و تتبدَّل ، و لكنَّها لا تفنى، بل تبقى حالاتٍ افتراضيَّةً من الطاقة مهما تغيَّرتْ و تحوَّلَتْ و تفكَّكتْ من جرَّاء إطلاق الحرارة و الإشعاعات النوويَّة المحبوسة في النواة الذرِّيَّة.

قانونُ حِفظ الطاقة يُطبَّقُ أَيضاً على الأَجسام الكبيرة، على العصفور و الأَشجار كما على الشموس و الأَقمار و على كلِّ شيء، حتَّى إنَّ جسدَ الإِنسان المُكوَّن من أَنسجةٍ و عناصرَ مختلفةٍ يتحوَّل، عندما يحدث الموت،إلى عناصرَ أُخرى تندمج في الأَرض و في سائر عناصر الطبيعة، و لكنَّه لا يفنى بالمعنى الدقيق للكلمة. فالطاقة الموجودة في الجسد المادِّيِّ تنتقل إلى العناصر الأُخرى الموجودة في الطبيعة.

و قد بدأَ عِدَّةُ عُلماء يتحدَّثون عن الحياة النفسيَّة التي تشتمل على الإدراك و النَّزَعات و الإرادة و التي تؤمن الداهشيَّة بأَنَّها في جميع الأَشياء. لننظرْ ماذا يقول جان ويلر john wheeler،عميدُ علماء الفيزياء الأَميريكيُّ الحائزُ جائزةَ نوبل لعلوم الفيزياء، و الذي تعود إليه تسميةُ" الثقوب السوداء" the black holes؛ و قد وردَ قولُه في كتاب ستيفِن وايْنبِرغ "التوق إلى نظريَّةٍ نهائيَّة" (ص 251): "الحياةُ العاقلة ليستْ واجبةَ الظهور فحسب بل واجبةُ الاستمرار حتَّى تنتشرَ في كلِّ جزءٍ من أَجزاء الكون، و ذلك لأَنَّ كلَّ وحدة من المعلومات حول وَضع الكون المادِّيِّ يجب أَن تُلاحَظ".

لكنَّ العلومَ سيفٌ ذو حدَّيْن: فهي تنفع الإنسان و تساعده على التقدُّم و التطوُّر و الرَّخاء، إذا عرف كيف يستخدمُها و يسخِّرُها لغايات حضاريَّة و إنسانيَّة و روحيَّة و لمصلحة البشر جميعاً، كما لمصلحة الحياة في كلِّ مكان؛ و هي تُشقي الإنسان و تُدنِّي مستواه الروحيِّ ، و بالنهاية تدمِّرُه، إذا هو استعملها بالدرجة الأُولى لإشباع أَطماعه المادِّيَّة و شهواتِه السُّفليَّة.

و ممَّا يدعو إلى الأَسف أَنَّ غايةَ معظم الإكتشافات و الإنجازات العلميَّة، حتَّى الطبيَّة منها، قد تحوَّلَتْ إلى التجارة و الكَسب المادِّيِّ و السيطرة الدنيويَّة؛ حتَّى أَدوات القتل و الدمار الجماعيِّ، و عناصر اليورانيوم الذرِّيَّة التي تُستعمل لصنع القنابل النوويَّة أَصبحتْ، هي الأُخرى، أَدواتِ تجارةٍ و تسويقٍ تتساوم في بيعها المافيا الروسيَّة و بعضُ الدول و تجَّار الأَسلحة.

إنَّ العالِم الشهير، إسحق نيوتن، عندما تحدَّث عن قوانين الطبيعة، كان ينظر إلى الأَشياء المادِّيَّة بمعزل عن ارتباطاتها و أُصولها الروحيَّة. كان ينظر إلى الأَشياء و الأَجسام المَنظورة بالعين المجرَّدة ، بما تَهيَّأَ لديه من أَجهزة علميَّة بسيطة آنذاك ، على أَنَّها حقائقُ ثابتة مستقلَّة و قائمة بحدِّ ذاتها، لها أَوزانُها و أَحجامُها وصفاتُها الخاصَّة و تتفاعل عليها قوى دَفْعٍ و حركةٍ و جاذبيَّةٍ خارجةٍ عنها. لَم يكُن ليدورَ في خَلَد العالِم البريطانيِّ في ذلك الوقت أَنَّ الذي كان يشاهده و يُقيم عليه دراستَه من صخور و نجوم و غيرها من الأَجسام ليست سوى حالاتٍ وهميَّةٍ زائلة و مؤقَّتة من المظاهر المادِّيَّة المختلفة التي هي مجرَّدُ انعكاساتٍ مادِّيَّة لكياناتٍ و مُستوياتٍ روحيَّة معيَّنة.

هذه الانعكاسات و التجسُّدات المادِّيَّة –من صخورٍ و أَشجارٍ و كواكبَ و غيرِها ممَّا كان يُجري عليه دراساتِه و بحوثَه –تتغيَّر و تزول مهما طال عليها الزمن عندما تفارقها سيَّالاتُها الروحيَّة المُرتبِطةُ بها و التي كانت هي في الأَساس جوهرَ وجودها و سبَبَه.

تتغيَّر ثُمَّ تزول هذه التجسُّداتُ المادِّيَّة بواسطة عامل الزمن الذي دمجَه الله بها دَمْجاً كِيانيّاً . عاملُ الزمن ، في اعتقادي، هو سيَّالُ رحمةٍ إلهيَّة يَمنحُ جميع الكائنات الفرصةَ و الوقتَ للتغيُّر إلى الأَفضل روحيّاً، كلٌّ حسب نظامِ عالَمِه المحكوم به. إذاً حقيقةُ الأَشياء هي بسيَّالاتها الروحيَّة فعندما تتغيَّر هذه السيَّالات بالنوع و الدرجة ، تتغيَّرُ معها المظاهرُ و الانعكاسات المادِّيَّة المرتبِطة بها من خلال مبدأ التقمُّص لتتَّخذ شكلاً جديداً مناسباً لها في استحقاقها الروحيِّ الجديد.

هذه الحقيقة – حقيقة أَنَّ جميعَ الأَشياء المادِّيَّة هي حالاتٌ و انعكاساتٌ وهميَّةٌ و متغيِّرَة و ليست حقائقَ ثابتة – كان يَجهلُها العالِمُ الشهير نيوتن فجاءت قوانينُه محدودة، لأَنَّها قوانينُ متعلِّقة بظواهر الأَشياء التي هي في حدِّ ذاتها ليست حقائقَ مطلقة .

يقول العالِم الفيزيائيُّ الأميركيُّ  تيموثي فِرِس Timothy ferres، في كتابه" بلوغُ الرُّشد في المجرَّة" (ص 892) :

" إنَّ فيزياء الكَمِّ تُلزِمُنا بأَن نأْخذَ بعين الجِدِّ ما كان يُعَدُّ سابقاً مُجرَّدَ اعتبارٍ فلسفيٍّ ، أَعني أَنَّنا لا نرى الأَشياء بذواتها ، بل نرى مظاهرَ منها فقط".

Return to the Top

 

التصوُّر الداهشيُّ للنفس

التصوُّر الداهشيُّ للنفس كما أَفهمُه الطفل أعمى ، مثلاً، لامور و الماجريات إنما تحصل عن أسباب طبيعية مباشرة. نياً يهوى الموسيقى، فيصبح موسيقارا؛ و شخصاً ثالثا؛

 

ربَّما كانت كلمةُ نفس، بما تحملُه من مختلف المعاني و الخصائص من أَصعب الكلمات تعريفاً و شرحاً و إجماعاً عليها، لا بالنسبة إلى الناطقين باللغة العربيَّة فحسب، بل بالنسبة إلى الناطقين بسائر اللغات الحيَّة.

تحديدُ حقيقة النفس هو من الأُمور المعقَّدة المستعصية. فهي، بما هي عليه في حقيقتها و ما تنطوي عليه من صفاتٍ ووظائف و مَلَكات متعدِّدة متنوِّعة و ما يُداخلُها من عناصرَ مغايرةٍ لها و متفاعلةٍ معها، لغزٌ محيِّرٌ يتعذَّرُ حَلُّه.

غيرَ أَنَّ التعاليمَ الداهشيَّة أَوضحَتْ لنا بعضاً من الأَسرار المهمَّة عن حقيقة النفس. منها أَنَّ جوهر النفس الأَساسيَّ العاقل في الكائنات جمعاء جوهرٌ روحيٌّ سيَّاليٌّ مدرك انفصل عن عوالم الروح، حيث كان جزءاً منها، و سقطَ الى العوالم المادِّيَّة جزاءً له على ما أَتاه من خطإٍ أَو ما اقترفَه من خطيئة. و لمَّا كانت النفسُ جزءاً من الروح موصولاً بها، و كانت الروح(من أَمر ربِّي) كما وردَ في الآية الكريمة:" و يسأَلونك عن الروح، قل الروح من أَمر ربِّي و ما أُوتِيتُم من العِلم إلاَّ قليلاً"(الإسراء،85) فلن نزعمَ أَنَّنا سنأْتي بالقول الفَصْل في حقيقة النفس. لكنَّ اعترافَنا هذا لا يناقضُ إيمانَنا بأَنَّ التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة جاءتنا بتوضيحاتٍ و شروحٍ قيِّمةٍ جداً في هذا الشأْن يجهلُها كلُّ من لم يُتَحْ له الاطِّلاعُ عليها؛ أَعني أَنَّها، في مُجمَلِها ، وَقْفٌ على الداهشيَّة لم تُسبَقْ إليها.

سأَتحدَّثُ بكثيرٍ من الإِيجاز عن نظرة الداهشيَّة إلى النفس، كما فهمتُها شخصيّاً (42)، فأُوضِّحُها بالمقارنة مع مفهومها في اللغتَين العربيَّة و الإنكليزيَّة، مُعوِّلاً أَوَّلاً على التعاليم الداهشيَّة و الكتب المقدَّسة، و على ما توافر لديَّ من مراجعَ مختلفة .

و ممَّا سأُحاول الإِجابة عنه الأَسئلة الآتية: ماذا تعني كلمة النفس حينما نتحدَّث عنها في النظرة الداهشيَّة؟ ماذا تحمل هذه الكلمة من معانٍ مختلفة في اللغة العربيَّة، سواءٌ في القرآن الكريم ، أَو عند فلاسفة المسلمين؟ على مَ تنطوي اللغة الإنكليزيَّة حين تتحدَّثُ عن الوعي النفسيِّ أَو ما تُطلِق عليه كلمة consciousness؟

و الحقَّ أَنَّني لا اَتوخَّى من طرح هذه الأسئلة إبرازَ الإختلافات بين تلك المراجع في شأْن النفس فحسب، لكنَّني أُريد أَن أُبيِّن للقارئ أَنَّ ثمَّة تصوُّراً عميقاً للنفس و حقيقتها أَتَتْ به التعاليمُ الروحيَّة الداهشيَّة ، و لا يجدُه في سواها.

 

Return to the Top

 

لمحةٌ عن معنى النفس في اللغة العربيَّة

لمحةٌ عن معنى النفس في اللغة العربيَّة

 

لكلمة النفس في اللغة العربيَّة معانٍ متعدِّدة ، و ذلك بحسب ورودها في سياق الكلام. فهي تارةً تعني الإنسان بكيانِه كلِّه، جسداً و روحاً معاً ، كما في كثيرٍ من الآيات الكريمة، و منها:"قال:يا موسى، أَتُريد أَن تقتلَني كما قتلتَ نَفساً بالأَمس؟" (القصص،19)؛ و منها :" و كتبنا عليهم أَنَّ النفس بالنفس و العين بالعين و الاَنف بالأَنف..." (المائدة 45). يتَّضح لنا من هاتين الآيتَين الكريمتَين أَنَّ النفس في اللغة العربيَّة تحمل معنى الإنسان بلحمه و دمِه و أَحاسيسه و فكرِه.. أَي بكلِّيَّته المادِّيَّة و الروحيَّة.

لكنَّها تحملُ أَيضاً معنى ً مستقلاًّ كل الاستقلال عن الجانب الجسديِّ المادِّيِّ في الإنسان، مقصوراً على الجانب الفكريِّ الروحيِّ فيه أَو الوعي النفسيِّ الروحيِّ بكلِّ ما يشتملُ عليه من مشاعر و رغبات و نزوات و فكر و إرادة ، و ما ينجمُ عنها من مسؤوليَّة و معرفة و خبرات. و قد حفلَ القرآن الكريم بآيات تحمل هذا المعنى من النفس منها:" تعلمُ ما في نفسي، و لا أَعلمُ ما في نفسك".(المائدة ، 116) . و منها:" فأَسرَّها يوسف في نفسه و لم يُبدِها لهم ".(يوسف،77).و لا مدعاةَ للقول إنَّ هاتين الآيتين الكريمتَين تحصران معنى النفس بالجانب الفكريِّ النفسيِّ من الإنسان .

أَمَّا المعنى الثالث للنفس فيُرادفُ معنى الروح، كما في الآية الكريمة، مثلاً:"يا أَيَّتُها النفس المطمئنَّة ، ارجعي إلى ربِّك راضيةً مَرضيَّة، و ادخلي في عبادي، و ادخلي جنَّتي"(الفجر 89)، تُفسَّرُ هذه الآية بأَنَّّ الإنسانَ التقيَّ النقيَّ الصالح تعودُ روحهُ يومَ القيامة الى اللّه تعالى الذي هو روحٌ من نور , فتَلِجُ جنَّاتِه . أَمَّا تفسيرُ الآية , داهشيَّاً , فهو أَنَّّ " النفس المطمئنَّة " إنَّما تعني الجانبَ الروحيَّ من كيان الإنسان , أَو ما تدعوه الداهشيَّة السيَّالات الروحيَّة الأَساسيَّة وقد تغلَّبَتْ على إمتحانات تقمُّصاتِها المادِّيَّة وتجاربها , فتحرَّرَتْ من الجسد تحرُّراً تامّاً , وسمَتْ سموّاً عظيماً بلغَ درجةَ الصفاء والإطمئنان العُلويَّة .

ولكنْ ثمَّة سؤال : هل تُفيد هذه الآيةُ الكريمة أَنَّ جميعَ نفوس البشر كانتْ في الأَصل مع اللّه , جلَّ جلاله , وأَنَّ في إستطاعتها ترقيةَ ذواتها والعودة الى مصدرها , كما تذهبُ إليه بعضُ التفسيرات أَو كما تؤمنُ الديانة الهندوسيَّة القائلة بأَنَّ جميعَ نفوس البشر كانت , أَصلاً , في كيان اللّه تعالى , ثمَّ إنفصلَتْ عنه – أَقول : هل تُفيد الآيةُ الكريمةُ ذلك أَم إنَّ لها تفسيراً آخر ؟

لا بدَّ من القول أَوَّلاً أَنَّ التعاليمَ الداهشيَّة لا تستثني أَحداً من مراحم اللّه العميمة ؛ فهي " أَي المراحم الإلهيَّة " تشملُ النفوس جمعاء الصالحة منها والطالحة . وعليه , فهي جميعُها قادرةٌ على ترقيةِ ذواتها وإدراكِ حالاتٍ روحيَّة أَفضلَ ممَّا عليه , وربَّما تسنَّى لها الإنتقال الى عوالمَ عُلويَّةٍ رفيعةِ الدرجات ؛ هذا إذا هي شاءتْ ذلك وعملتْ على تصفيةِ ذواتِها .

وفضلاً عن ذلك , فإنَّ التعاليمَ الداهشيَّة لا تخالفُ تعاليمَ الرسالات السماويَّّة القائلة بأَنَّ اللّه تعالى خلق السماوات والأَرض وسائر الكائنات بإرادته وأَمرِه الإلهيَّين : " كنْ فيكون " . فقد وردَ في سِفر التكوين أَنَّ اللّه تعالى خلق الإنسان وسلَّطَه على وحوش الأَرض . " ذكراً وأُنثى خلقَهم . وقال لهم : إنمو واكثروا واملأُوا الأَرض " . ( تكوين 1: 27 – 28 ) ووردَ في هذا السِّفْر أَيضاً أَنَّ أَبناء آدم تزوَّجوا  ببنات الناس , وأَنَّه بعد أَن قتلَ قايينُ إبنُ آدم البكر شقيقَه هابيل , غضب عليه الربُّ , وطردَه , وجعلَ عليه علامةً لئلاَّ يقتلَه كلُّ مَن وجدَه من الناس . فماذا يعني ذلك ؟ أَلا يعني أَنَّ النوع الإنسانيَّ كان موجوداً على الأَرض  قبل أَن يخلق اللّه آدم ؟ فإذا صحَّ هذا الأستدلال , فقد بَطُلَ القولُُ إنَّ نفوس البشر تحدَّرَتْ جميعها من آدم , أَو إنَّها كانت من اللّه أَو كانت جزءاً من كيانه , تعالى .

أللّه , جلَّ جلاله , هو , في التعاليم الداهشيَّة , مُنزَّهٌ عن مثل هذا الإدِّعاء . فقد خلقَ جميعَ الكائنات بإرادته وأَمْرِه : كنْ , فكان . وعليه , فمن المستحيل إنبثاق أَحدٍ من كيانه أَو أَن يكون له كفؤاًً أَحد .

وناهيكَ عن هذه الإشارات الواردة في الكتاب المقدَّس عن الإنسان , فإنَّ العقيدة الداهشيَّة لا تُضفي عليه وضعاً روحيّاً يميِّزُه عن سائر الكائنات . ففي رأْيها أَنَّ الإنسان عندما تغادرُه سيَّالاته الروحيَّة الأَساسيَّة , قد يتقمَّص – إذا إستحقَّ – في النوع الحيوانيِّ أَو النباتيِّ أَو الجماديِّ أَو في أَيِّ نوعٍ آخر من الكائنات , والعكس بالعكس ؛ الأَمر الذي يَنفي منطقيّاً أَن يتمتَّع الإنسانُ بوضعٍ روحيٍّ يميِّزُه عن سواه من المخلوقات .

وسواء إنبَثَقت سلالاتُ البشر جميعاً من آدم أَو من ملكوت اللّه , أَم لم تنبثِقْ , فإنَّ الكتب المقدَّسة حافلةٌ بالأَنباء التي تُفيدُ أَنَّه حين أَخذ الناسُ يكثرون على وجه الأَرض , كثُرَتْ مفاسدُهم , وامتلأَتْ قلوبُهم بالشرور ؛ وهذا ما أَثار غضبَ اللّه عليهم , فحجبَ عنهم نِعَمَه وبركاتِه , ولم يَعُدْ يَمدُّهم بأَقباسٍ من روحه . يقول الربُّ في سِفر التكوين : " لا تدومُ روحي في الإنسان الى الأَبد " . ( التكوين 6: 3 ) ويُندِّد السيِّدُ المسيح بالأَشرار , فيخاطبُهم قائلاً : " يا أَولادَ الأَفاعي ... " ( متَّى 12 : 34 ) كما يخاطبُهم قائلاً : " أَنتُم من أَسفل , أَمَّا أَنا فمن فوق . أَنتم من هذا العالَم , وما أَنا من هذا العالَم " . ( يوحنَّا 8 : 23 ) .

Return to the Top

 

The Soul

 

نُبذة داهشيَّة عن قصَّة الهبوط وخَلْق آدم

نُبذة داهشيَّة عن قصَّة الهبوط وخَلْق آدم

 

تُجمع الأَديانُ السماويَّةُ على أَنَّ مَن كان في الأَصل في ملكوت اللّه هو آدم المقدَّس , أَبو الأَنبياء الذي أَوجدَه تعالى رحمةً منه بخلائقه كي تتحقَّق بواسطته , ثمَّ بواسطة ذُرِّيَّته من الأَنبياء والهُداة والمُصلحين , هدايةُ العالَمين .

وقد أَتَت التعاليمُ الروحيَّة الداهشيَّة بشروحٍ مُهمَّة يتَّضحُ مَن خلالها مَن هو آدم وكيف خُلِق ( 43 ) .خلاصتُها أَنَّ جمهرةً كبيرةً جدّاً من الملائكة ذوي الدرجات الروحيَّة المختلفة يتزعَّمُها رئيس ملائكة العالَم الروحيِّ ذي الدرجة ال 150 أرادَتْ أَن تتخطَّى عوالِمَها الروحيَّة الحصينة الى عوالمَ روحيَّةٍ أَعلى كي تشاهد أَسرار المُبدع في عظمته اللامتناهية ؛ وكان اللّه العليُّ القدير قد أَوصاها بأَلاَّ تحاولَ مُجاوَزَةَ درجات عوالمها ال 150 قبل مُضيِّ مُدَّةٍ معيَّنةٍ من الزمن حدَّدها تعالى لكلِّ درجة روحيَّة منها .

وما إن حاول هؤلاء الملائكة تنفيذ رغبتهم قبل الوقت المحدَّد حتَّى إكفهرَّت السماء , وانصبَّ عليهم غضبُ الواحد القهَّار , فإذا بهم يهبطون من فورهم الى عالَم الأَرض , ويمتزجون بعناصر الأَرض الترابيَّة , ليكوِّنوا منها كتلةً واحدةً , وذلك بعد أَن اتَّحَدَتْ أَرواحُهم وأَصبحَتْ روحاً واحدة باستثناء ملاكٍ حسودٍ شرِّير هبط معهم ولم يمتزجْ بهم , إذ مسخَه اللّه مخلوقاً زحَّافاً كريهاً .

وتمضي قصَّة الهبوط الداهشيَّة فتقول إنَّ اللّه تعالى كوَّن من تلك الكتلة الترابية كائناً في هيئة إنسان , ثمَّ نفخَ فيه النفثة القُدسيَّة , فإذا الحياةُ تدبُّ فيه . وهكذا كان آدمُ أَوَّل إنسان لم يولدْ من جسد , أَي لم يولدْ بواسطة الحَبَل . كما كان أَوَّل مخلوقٍ سماويٍّ أَرضيٍّ ؛ الأَمر الذي يُفيد أَنَّ المخلوقات الأَرضيَّة قبل خَلْق آدم لم تكنْ " مُلقَّحَةً " بالسيَّالات السماويَّة , كما سيمرُّ بنا .

وقد عاش آدم زهاءَ أَلف عام بعد أَن اختاره اللّه وتابَ عليه , ومنحَه الفردوسَ الأَرضيَّ ليعيشَ فيه سعيداً , وأَباح له كلَّ شيءٍ باستثناء شجرةٍ حرَّمها عليه . وبعد إنقضاء العام الأَلف خلق اللّه تعالى لآدم من جسدِه زوجتَه حوَّاء . وهكذا يكون قد توزَّعَتْ فيهما سيَّالاتُ الملائكة المتآمرين الهابطة من السماء .

وانسجاماً مع الكتب السماويَّة المقدَّسة , تُردِف القصَّة الداهشيَّة قائلةً إنَّ الملاكَ الشرِّير الذي أَصبح أَفعى أَغوى حوَّاء , وزيَّن لها الأَكلَ من الشجرة المحرَّمة . وحوَّاء بدورها أَغوَتْ آدم , فوقع كلاهما في الخطيئة . وتوضِّح القصَّة أَنَّ آدم وحوَّاء , بعد أَن تذوَّقا الثمرة المحرَّمة , تحرَّكَتْ فيهما سيَّالاتُ الرغبة الجنسيَّة , فأَصبح كلٌّ منهما ينظرُ الى الآخر نظرةَ الرجل الى المرأة أَو المرأة الى الرجل ؛ وقد كانا لا يعرفان ذلك قبل عصيانِهما .

ولمَّا عصى آدم الأَوامرَ الإلهيَّة للمرَّة الثانية , غضبَ عليه الربُّ , ورفع عنه أَسبابَ السعادة والهناء , وأَمر الأَرض أَلاَّ تَمدَّه بالطعام إلاَّ بالتعب والإرهاق ( 44 ) .

أَمَّا سيَّالاتُ الملائكة التي إتَّحدَتْ وكُوِّنَ منها آدم , فقد قَضَت الرحمةُ الإلهيَّة اللامُتناهية بأَن تمنحَها فُرصة الإنفصال والتوزُّع من خلالِ تناسُلِ آدم وحوَّاء وذُرِّيَّتِهما . وهكذا تستطيع سيَّالاتُ كلِّ ملاكٍ ساقط أَن تعودَ الى ملكوت اللّه حيث هبطَتْ ؛ هذا , إذا تمكَّنَتْ من التغلُّب على ميولها الأَرضيَّة والجسديَّة الوضيعة والسموِّ بها .

هذه , في إختصار , قصَّةُ آدم كما شرحَتْها التعاليمُ الروحيَّة الداهشيَّة . فإذا قارنَّاها بما جاء عن آدم في القرآن الكريم , ولا سيَّما الآيات الكريمة الواردة في سورة طه , وجدنا أَنَّ أَوجُهَ الشبه بينهما تكاد تكون متطابقة (45 ) .

لنستمعْ الى هذه الآية الكريمة أَنَّ آدم عصى اللّه تعالى , وأَنَّه من جرَّاء هذا العصيان حصلَ هبوطٌ من السماء , وأَنَّ من هبطَ أَكثرُ من نفسٍ واحدة , وأَنَّه تعالى اختار آدم بعد الهبوط , فتاب عليه وهداه . كما نفهمُ من الآية الكريمة أَيضاً أَنَّ اللّه وعدَ الأَنفس التي هبطَتْ مع آدم وستنفصلُ عنه بالتناسُل " ذُرِّيَّته " بأَنَّه تعالى سيَشملُها بمَراحمه العميمة ويُرسل إليها هُداتَه ؛ فمَن اتَّبع منهم هدى اللّه وعمل بها , فلا خوفَ عليه ولن يضلَّ ولن يشقى " أي سوف يخلص " .

على أَنَّ ثمَّة آيةً كريمةً أُخرى تُفيد أَنَّ آدم كان أَوَّل إنسانٍ بثَّ فيه تعالى النفثة الإلهيَّة القدسيَّة أَو سيَّال الهداية المقدَّس , بحسب التعبير الداهشيِّ ( 46 ) . تقول الآيةُ الكريمة : " ثمَّ سوَّاه , ونفخ فيه من روحه " .

Return to the Top

 

بَعث الأَنبياء والتلقيح السماويُّ لهداية العالَمِين

بَعث الأَنبياء والتلقيح السماويُّ لهداية العالَمِين

 

السيَّال الهادي المقدَّس أَو سيَّال النبوَّة الذي بثَّه تعالى في آدم حين كوَّنه انتقلَ منه إلى ابنه الثالث شيت، و من شيت انتقل إلى سائر مَن تحدَّر منه من الأَنبياء و الهُداة و المُصلِحين الذين وُلِدوا في مختلف الشعوب و الأَزمنة لهداية الناس و تلقيحِهم بالسيَّالات العُلويَّة، و ذلك من خلال مخالطَتِهم للبشر  و مُزاوجتهم أَو من خلال تعميدهم بالماء و الروح و إرشادِهم بالتعاليم و الوصايا السماويَّة.

أَمَّا قايين، ابنُ آدم ، فبعد أَن قتل أَخاه هابيل، لعنَه الله تعالى، و جعلَه طريداً شريداً في الأَرض. ثمَّ تزوَّج ببنات الأَرض، و خلَّف سلالةً ليس فيها شيءٌ من سيَّالات النبوَّة. ذلك أَنَّ السيَّالات المقدَّسة انتقَلَتْ، كما قُلنا، من آدم إلى ابنه شيت، و منه إلى سائر الأَنبياء، يقول القرآن الكريم" إنَّ الله اصطفى آدم و نوحاً و آل إبراهيم و آل عمران على العالَمين" ( آل عمران، 33) و يتحدَّثُ أَيضاً عن الأَنبياء و الهُداة و المُصلِحين، فيقول:"أُولئك الذين أَنعم الله عليهم من النبيِّين من ذُرِّيَّة آدم، و ممَّن حملنا مع نوح، و من ذُرِّيَّة إبراهيم و إسرائيل، و ممَّن هدَينا و اجتَبينا".( مريم،58) و عليه، فإلى هؤلاء انتقلَتْ وراثةً سيَّالاتُ آدم النبويَّة، و توزَّعَتْ فيهم.

هذه السيَّالاتُ العُلويَّة لقَّحَتْ كثيرين من الناس، لا كلَّهم. و عندما يهبطُ الأَنبياء و المُرسَلون مؤيَّدين بالوحي و الإلهام و الإرشادات السماويَّة لهداية العالَمِين – جميعِ العالَمِين إذا أمكَن – فإنَّهم يَمنحون مَن استحقَّ من البشر السيَّالاتِ العُلويَّة التي تساعدهم على الرقيِّ الروحيِّ. كما إنَّهم يأْتون لتثبيت نفوس خاصَّتِهم و تطهيرها و تقويتها(47)،  و قد يمنحوهم سيَّالاتٍ عُلويَّةً " إضافيَّة" – إذا صحَّ التعبير- وفقاً لقول السيِّد المسيح " مَن له يُعطى و يُزاد، و مَن ليس له يؤخَدُ منه". ( متَّى 13: 12) و هكذا يساعدونهم في التغلُّب على تجاربهم و متطلَّباتهم المادِّيَّة. و أَعني بخاصَّتِهم الذين لديهم بعضٌ من تلك السيَّالات الروحيَّة السماويَّة التي استحقُّوها في خلال تقمُّصاتٍ سابقة.

خلاصةُ القول إنَّ النفس التي يخاطبُها الباري، عزَّ و جلَّ، في الآية الكريمة ( يا أَيَّتُها النفس المطمئنَّة، ارجعي إلى ربِّكِ راضيةً مرضيَّة، و ادخلي في عبادي و ادخُلي جنَّتي) ليستْ أَيَّةَ نفسٍ من النفوس، لكنَّها النفس التي كانت في الأَصل تحيا في ملكوت الله ثمَّ هبطَتْ و اتَّحدَتْ مع سواها في آدم، ثمَّ تلقَّحَتْ بالسيَّال الإلهيِّ السماويِّ القُدسيِّ الذي بثَّه تعالى أَوَّلَ ما بثَّه فيه، و منه توزَّع في ذُرِّيَّته من الأَنبياء و الهُداة و المُصلِحين، ثمَّ انتقل منهم إلى سواهم.

النفوس أَو السيَّالات التي عَصَت الباري، عزَّ و جلَّ، في البدءِ، ثم انتقلَتْ و توزَّعَتْ في كثيرين من الناس، تستطيع العودةَ إلى ملكوت الله، إذا انصاعتْ لأَوامره تعالى، فتطهَّرَتْ و سمتْ سموّاً روحيّاً عظيماً. إنَّ الدخول في ملكوت الله و الرجوع إليه تعالى مشروطان، في الآية الكريمة ، بالرضى و الانصياع للأَوامر الإلهيَّة: " ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيَّة".

و السؤال الآن: ماذا تقول الكتب المقدَّسة و مؤلَّفات مؤسِّس العقيدة الداهشيَّة في هذا الموضوع، أَعني ضرورةَ هبوط الأَنبياء من السماء لتثبيتِ خاصَّتِهم و هداية الناس أَجمعين؟

يقول القرآن الكريم عن النبيِّ العربيِّ الكريم:" و ما أَرسلناك إلاَّ رحمةً للعالَمِين" ( الأَنبياء ، 107) و يقول السيِّد المسيح في " العهد الجديد": " أَنا هو الطريق و الحقٌّ و الحياة. لا يجيءُ أَحدٌ إلى الآب إلاَّ بي"(48) ( يوحنَّا 14: 6) و يقول أَيضاً :"ما من أَحدٍ يدخل ملكوت الله إلاَّ الذي وُلِدَ من الماء و الروح". ( يوحنَّا3:5) و يقول : " أَنا الكرمة و أَنتم الأَغصان. مَن ثبتَ فيَّ و أَنا فيه يثمر كثيراً . أَمَّا بدوني فلا تقدرون على شيء ".( يوحنَّا 15: 5) يُفْهَمُ من أَقوال سيِّد الأَطهار ، له المجد، أَنَّه لا يستطيع أَحدٌ أَن يدخلَ ملكوت الله تعالى إلاَّ بالسموِّ الروحيِّ، بعد أَن يكون قد حلَّ فيه شيءٌ من السيَّالات السماويَّة التي تثبِّتُه و تطهِّرُه و تؤهِّلُه للعودة إلى عوالم الروح؛ هذه إذا شاء ذلك ، طبعاً. و من النافل القول إنَّ العودة إلى ملكوته تعالى هي بالروح، لا بالجسد.

و ممَّا يؤكِّدُ رأْيَنا قولُ السيِّد المسيح مخاطِباً الباري تعالى في شأْن تلامذته و أَتباعه: " أَنا أُصلِّي لأَجل العالَم، بل لأَجل مَن وهبتَهم لي، لأَنَّهم لك."(يوحنَّا 17: 9) و يخاطبُ تلامذتَه قائلاً:" ما اخترتموني أَنتم ، بل أَنا اخترتُكم"(يوحنَّا 15: 16 ) و يقول أَيضاً:" أَنا هو الراعي الصالح ، جئتُ لخرافي و خرافي تعرفُني"(يوحنَّا 10: 14)

نخلصُ ممَّا تقدَّم إلى أَنَّ الأَنبياء يهبطون من السماء من أَجل خاصَّتهم ، أَوَّلاً؛ و ما خاصَّتهم إلاَّ الذين تلقَّحوا ببعض السيَّالات الروحيَّة السماويَّة، و أَوصلوا سيَّالاتهم إلى الدرجة التي تمكِّنُهم من الإيمان بالرسالات الإلهيَّة، و تقبُّلِها. و الغالبُ أَن يكون خاصَّتُهم فئةً قليلةً من الناس، أَمَّا سوادُ الناس الأَعظم فلا يُقبِلون على الإيمان بالأَنبياء و رسالاتِهم السماويَّة حينما يكونون بين ظهرانيهم، بل يضطهدونهم أَو يتجنَّون عليهم أَو يُشكِّكون فيهم و في رسالاتهم الروحيَّة(49).

و لمَّا حدَّث السيِّد المسيح، له المجد، تلامذتَه عن مجيء المُعزِّي، قال لهم:" و متى جاء المعزِّي الذي أُرسِلُه إليكم  من الآب ، روح الحقِّ المنبثِق من الآب ،  فهو سيشهدُ لي و أَنتم ستشهدون، لأَنَّكم من البدء معي." ( يوحنَّا 15: 26-27) وَ لْنَنتَبِهْ إلى عبارة " المُنْبثِق من الآب" فهي لا تَعني المُرسَل منه تعالى فقط، بل المُنبثِق منه، أَي مَن حلَّ فيه السيَّالُ القُدُسيُّ أَو النفثة الإلهيَّة القدسيَّة. و الجدير بالذكر هنا أَنَّ السيِّد المسيح، له المجد، هو أَيضاً خلقَه الله تعالى كما خلق آدم، أَي من إرادته و روحه تعالى . يقول القرآن الكريم عن سيِّد الأَطهار: " إنَّ مَثَلَ عيسى عند الله كَمَثَل آدم، خلقَه من تراب، ثمَّ قال له: كنْ فيكون"( آل عمران، 59).

أَمَّا الدكتور داهش، فبسحبنا الاستشهاد، في هذا الشأْن، بقطعة الأَدبيَّة المُلهَمة" يا نفسي القلِقة" التي نقتطف منها ما يأْتي:

أَيَّتُها النفثة القدسيَّة و النفحة العلويَّة،

لقد حُكِم عليك أَن تنزوي في جسدٍ مادِّيٍّ أَرضيٍّ لأَمَدٍ قصير،

و من خلال تنظرين – و الأَلمُ يُمعِن فيكِ تعذيباً – ما يُرتكَبَ في هذا الكوكب من شرور هائلة و آثامٍ مرعبة، تشاهدينها فتتمنَّين لو لم تهبطي إلى عالم الأَضاليل المدنَّسة.

تحاولين هدايةَ الناس ، و الناسُ قد اندمجوا بالشرور و تمنطقوا بالآثام، و نطقوا بأَفحَش الكلام...

و يوم تنطفئُ شعلةُ حياتي..

و يومذاك أَشعرُ بالسعادة الحقيقيَّة ، و أَتذوَّق لذَّةَ العوالم العُلويَّة" ( 50).

و مَن يُطالع مؤلَّفات الدكتور داهش لا يصعب عليه الوقوعُ فيها على فكرة التلقيح السماويِّ بالسيَّالات العُلويَّة لبعض أَبناء الأَرض. و في ضوئها نستطيع فهمَ الغاية من تزوّجِ بعض الأَنبياء كداود و سليمان بعدَّة نساء. فلمَّا سأَل سمعان بطرس يسوع الناصريَّ في كتاب" مذكِّرات يسوع الناصريّ " : " هل لكَ اَن تكشف لي سرَّ وقوع الأَنبياء في الخطأ الفادح، أَمثال داود و سليمان و سواهما ممَّن اتَّصلوا بالنساء اتِّصالاً غيرَ شرعيٍّ، و هم الأَنبياءُ الذين تكشَّفَتْ لهم الحقيقة، و لمسوها بالوحي لمسَ اليد؟" أجابَه يسوع:" يا عزيزي ، إنَّ داود النبيَّ و سليمان الحكيم و اَمثالَهما لم يخطئوا مطلقاً بما قاموا به، بل كان الأَمر على عكس ما ظنَّه الجميع. لقد كانوا أَنبياءً، و كان الوحيُ يَأْتيهم بما يجب عليه تنفيذُه من أُمور . فالسراريّ اللواتي كنَّ يملأْن مقاصيرَ الملك سليمان قد انتفعن منفعةً روحيَّةً عظمى من وجودهنَّ مع النبيِّ الحكيم.و هذا أَمرٌ سوف تتكشَّف لكَ أَسرارُه عندما تبلغ من النضج الروحيِّ درجةً كبرى"(51).

و قد أَوضح الشاعر الداهشيُّ حليم دمُّوس، في بعض شروحه ،فكرةَ التلقيح السماويِّ، فقال:"و نحن في تقدُّم دائم بفضل التلقيح السماويِّ الذي يأْتينا بصورةٍ مستديمة من السماء، و المتجلِّي بالأَنبياء و المُصلحين و الهُداة.. إلى أَن يحلَّ ملكوت الله المُنبأُ عنه، و الذي سيتمُّ بعد انتصار الخير الساحق على الشرِّ الماحق "(52) و في رسالة الأَب نوح التي هبطَتْ على مؤسِّس الداهشيَّة، يخاطب وحيُ الله  الأَب نوحاً قائلاً له:"أخرجْ، يا نوح ، من الفُلك ، أَنتَ و كلُّ مَن هم معك.و لا مانع من أَن تتناسلوا لحكمة يجب أَن تبقى مكتومةً عن البشر الآن. و ستُعرَف في الأَوقات التي يجب أَن تُعرَف فيها" . و خاطب الربُّ نوحاً أَيضاً قائلاً :" إنَّ الإنسان ذو قلبٍ شرِّير؛ لهذا يجب أَن يتكاثرَ على الأَرض. و سيَفرزُ كلُّ صالحٍ نفسَه من قطيع هؤلاء البشر الأَدنياء" (53).

 

Return to the Top

 

النفس عند فلاسفة العرب

النفس عند فلاسفة العرب

 

حاول فلاسفةُ العرب شرحَ حقيقة النفس ، و تبايَنَتْ آراؤهم في تعريفها و تحديد ماهَّيتها: هل النفس جوهرٌ روحيٌّ لا يفنى بفناء الجسد ، كما قال ابن سينا ؟ أَم إنَّها تفنى بفناء البدن الذي تحلُّ فيه، حتَّى إذا حان يوم القيامة أُعيدَ خَلْقُها ثانيةً، فبُعِثَتْ مع جسدِها، كما قال الغزاليّ؟(54) لم يكن الشيخ الرئيس ابنُ سينا من القائلين بالتقمُّص؛ ففي اعتقاده أَنَّ النفس ، بعد أَن تفارقَ البدَنَ لا تحلُّ في بدنٍ آخر. و مع ذلك ، فقد قال عن النفس انَّها أَبديَّةٌ روحيَّة الجوهر. لكنَّه لم يميِّزْ بين النفس الصالحة و النفس الطالحة بالنسبة إلى يوم المَعاد؛ أَي إنَّ معادَ نفوس الأَبرار و الأَشرار، يومَ الحشر والنشر، هو مَعادٌ روحيٌّ فقط.و الحقيقة أَنَّ فلاسفة العرب كالفارابيّ و ابن سينا و الغزاليّ و ابن رشد قد بحثوا في النفس الإنسانيَّة من خلال المبادئ الإسلاميَّة و في الإطار الشرعيِّ الدينيِّ المُعتَرَف به الذي لا يقول بالتقمُّص. و لذلك جاءتْ بحوثُهم في النفس مقيَّدةً يَعْتَوِرُها التناقض حيناً أَو يُعوِزُها المنحى الفكريُّ المنطقيُّ الرَّحب الذي تُتيحُه لهم عقيدة التقمُّص و مبادئُها، لو أَنَّهم أَخذوا بها. و لأَنَّهم لم يأَخذوا بها، فقد طال جدالُهم حول بعثِ النفس يومَ القيامة: هل تُبعَثُ وحدَها بلا جسدها،كما قال ابن سينا، أَم تُبعَثُ معه، كما قال الغزاليّ، كما طال جدالُهم حول طبيعة النفس: هل  هي منطبِعةٌ في الجسد انطباعَ الصورة في المادَّة اَم أَنَّها جوهرٌ مستقلٌّ عنه، مفارقٌ له؟

Return to the Top

 

الوعي النفسيُّ أَو الConsciousness في اللغة الإنكليزيَّة

الوعي النفسيُّ أَو الConsciousness في اللغة الإنكليزيَّة

 

لا يَنصبُّ الاهتمامُ في اللغة الإنكليزيَّة على دراسة الروح أَو النفس Spirit or soul، بل ينصبُّ  أَوَّلاً على الوعي النفسيِّ consciousnes و ما يتجلَّى به ، عند الفرد، من ظواهرَ فكريَّةٍ و حسِّيَّة و سلوكيَّة(55). و الواقع أنَّ مفهومَ الوعي النفسيِّ، في اللغة الإنكليزيَّة، هو من الرحابة و الشمول بحيث يصعبُ تحديدُه والاتِّفاق على مضامينه . فهو يَعني، في ما يعني ، الفكر و الإرادة و الإحساس و الشعور و الضمير و الذاكرة و الانفعال و العاطفة... و بكلمةٍ موجزة ، فهو يعني مُجمَلَ حياة الإنسان النفسيَّة. فقد عرَّف الفيلسوف البريطانيُّ جون لوك john locke الوعيَ النفسيَّ consciousness بجميع ما يختلجُ في كيان الإنسان من حسٍّ و فكرٍ و شعور. و عرَّفه سواه بالقدرة العقليَّة على التمييز بين الظاهرات التي تحصل في الطبيعة ، و على تحليلها، و عرَّفه بعضُهم بالعقل، و حصرَ العقل في وظائف الدماغ.

و بالرغم من محاولة كثيرين وصفَ حالات الوعي النفسيِّ  و شرحَها و الاهتداءَ إلى قواسم مشتركة في الأُمور المتعلِّقة بالنفس، فإنَّ حقيقة الوعي النفسيِّ و ماهيَّتَه تظلاَّن لغزاً يصعبُ فهمُه على العلماء و المفكِّرين المهتمِّين بالشؤون النفسيَّة، سواءٌ في الغرب أَو في الشرق.ذلك أَنَّ الدراسات العِلميَّة و التجارب الطبِّيَّة التي تركِّز بحوثَها على الجوانب المحسوسة من النفس  physiological aspects ما تزال تصدم بعقباتٍ كثيرةٍ عند معالجتِها الوظائفَ النفسيَّةَ الفكريَّة التي لا تخضعُ للتجارب و الدراسات العِلميَّة .

إنَّ علوم النفس التي نشطَتْ في العشرينيَّات و الثلاثينيَّات من القرن الماضي، و ركَّزَتْ دراساتِها على نشاط العقل أَو الدماغ و على مختلف الأَقنية التي يعمل من خلالها ، و ذلك كي تتمكَّن من وضع الأُسس اَو القوانين العامَّة للظاهرات النفسيَّة ، قد باءَتْ بالفشل بعد أَن اصطَدَمَتْ بنتائج غيرِ مُرضِية، فقد خلصَتْ إلى أَنَّ الوظائف النفسيَّة عند البشر هي حالاتٌ خاصَّةٌ تختلف من فرد إلى آخر. و عليه، فإن ثمَّة قوانينُ عِلميَّة عامَّة للوظائف و الظواهر النفسيَّة يمكنُ تطبيقُها على الجميع.

و في مطلع الخمسينيَّات من القرن المنصرم، بدأَتْ تظهرُ إلى حيِّز الوجود علومُ الجينات أو ال D N A  الوراثيَّة التي أَثبَتَتْ بطُرُقٍ علميَّة لا سبيل إلى دحضِها أَنَّ الظواهر و الوظائف النفسيَّة، الفكريَّة و الحسِّيَّة، هي حالاتٌ متمايزةٌ تختلف بين إنسانٍ و آخر. لقد قوَّضَتْ علومُ الجينات الوراثيَّة الدعائمَ  التي كانتْ تقوم عليها علومُ النفس في عهودها الأُولى، و زعزَعَتْ ثقَةَ الناس باللجوء إلى الأَطبَّاء النفسِّيين لحلِّ مشاكلهم النفسيَّة و لا مدعاةَ إلى القول إنَّ علومَ الجينات الوراثيَّة ، مقرونةً بعوامل البيئة باتَت الآن الأَساس التي تعتمدُ عليه البحوثُ النفسيَّة الحديثة في المجتمعات الغربيَّة.

ثمَّ إنَّ كلمة consciousness في اللغة الإنكليزيَّة تكاد تكون محصورةً كلِّيّاً في الإنسان ، فإذا دار الحديثُ عليها ، ففي الإطار الإنسانيِّ فقط. أَمَّا الحيوان ، فإنَّ وعيَه النفسيَّ- إذا صحَّ أَنَّ له وعياً نفسيّاً- محصورٌ بالوظائف النفسيَّة الآليَّة التي لا تتطلَّبُ سابقَ تفكير، كالمعرفة الحسِّيَّة و الشعور بالجوع و الأَلم و الخوف و ما شاكل.

الوظائف النفسيَّة المجرَّدة المتعلِّقة بالعقل و الضمير ، كالقدرة على التمييز بين الصواب و الخطأ و بين الخير و الشرِّ، إنَّما هي خصائصُ إنسانيَّة ينفردُ بها الإنسان دون سائر المخلوقات . أَمَّا ما يصدرُ من بعض الحيوانات، كالسَّمُّور beaver، أَو الحشرات ، كالنحل و النمل، من أَعمالٍ جماعيَّة منظَّمة، فيردُّه العلماء إلى عامل الغريزة؛ أَي إنَّ تلك المخلوقات تقوم بأَفعالها تلقائيّاً ، بدافع الغريزة بلا سابق تصوُّرٍ و تفكير. هذا ما تكاد تُجمعُ عليه المراجعُ العِلميَّة المختصَّة بدراسة الحيوان.

و الجدير بالقول إنَّ الكلمة consciousness في اللغة الإنكليزيَّة لا تحمل أَيَّ معنىً أَو مضمونٍ روحيٍّ؛ فهي لا تُشير لا من قريبٍ و لا من بعيد، إلى أَيَّةِ أُمورٍ أَو خلفيَّاتٍ روحيَّة قد تكون في منشإ الوعي النفسيِّ. الدماغ هو الذي يخلقُ الوعي النفسيَّ، فهو المنشأُ و المصدر و القائم بجميع وظائف الوعي، تحدِّدُها مراكزُه المختلفة: السفلى منها أَو الوسطى أَو اليُمنى أَو اليُسرى... ثمَّة مركزٌ في الدماغ مسؤولٌ عن الذاكرة، و مركزٌ عن النطق، و مركز عن الغضب، و مركز عن الرغبة الجنسيَّة...و هكذا قسْ على سائر الوظائف أَو الظواهر النفسيَّة.

و فضلاً عن ذلك ، فإنَّ الدماغ بأَنسجتِه العصبيَّة هو المسؤول عن إرسال الموجات الكهربائيَّة المايكروفولتيَّة الضعيفة إلى الأَجهزة العصبيَّة الموزَّعة في جسم الإنسان و الحيوان . و من خلال هذه الموجات الكهربائيَّة  النورولوجيَّة تحرَّك الأَجهزةُ العصبيَّة و تنظَّم الوظائفَ النفسيَّة الآليَّة و وظائف الحسِّ و الحركة و الشمِّ و الذوق و الشعور بالجوع و الأَلم و غير ذلك من الوظائف الآليَّة التي يُطلَق عليها علميّاً اسم Neurophysiological Mechanisms و عندما يُصاب الدماغ بالأَمراض أَو يتعرَّض للعَطَب من جرَّاء بعض الحوادث، تُصاب الوظائف و الظواهر النفسيَّة بالخَلل و العطَب. و بموت الدماغ يموت الوعي في الإنسان و ينتهي كلُّ شيءٍ إلى الأَبد و إلى غير ما رجعة!

تلك هي القناعاتُ المُتَّفَق عليها بين أَكثر الناس في المجتمعات الغربيَّة بالنسبة إلى ما يَنتُج عن الوعي أو الconsciousness من الوظائف و الخصائص النفسيَّة ، و هي قناعاتٌ تعزِّزُها الدراساتُ العِلميَّة و البحوثُ الطبِّيَّة.

و لقد اطَّلَعتُ ، منذ مدَّةٍ غير بعيدة، على مقالٍ علميٍّ نُشِر عام 1997 في عددٍ خاصٍّ لمجلَّةTime عنوانه  ( researh into the mechanics of the mind reveals how the brain create consciousness)، يقول فيه صاحبُه إنَّ البحوث العِلميَّة بدأَتْ تكتشف تدريجيّاً مع مرور الزمن كيف أَن العقلَ (بمعنى الدماغ ) يُولِّدُ الوعي ، و الوعيَ بدوره يخلق النفس!.

هذا التصوُّر الشائع عن أَنَّ العقل أَو الدماغ هو مصدر الوعي النفسيِّ و مركزُه و العضوُ الذي يخلق الوعي في الإنسان seat of consciousness ، و هو تصوُّرٌ تعزِّزُه الدراسات و المراجع الطبِّيَّة و العِلميَّة ، أَخذ يُثير عند بعض العُلماء و المفكِّرين عدمَ الارتياح، بل الشكَّ فيه ، فقد بدأَت العلوم في مجال النبات و الأَحياء  الميكروسكوبيَّة تكتشف أَنَّ الذكاءَ ليس حِكْراً على الإنسان، و ربَّما الحيوان كذلك بل يشمل أَيضاً الأَشجار و النبات و الجراثيم؛ إذ إنَّها كائناتٌ ذكيَّةٌ تتمتَّع بالوعي النفسيِّ ، و إنْ هي خَلَتْ من مراكزَ عصبيَّة كالدماغ، مثلاً .

الدماغ، في التعاليم الداهشيَّة، ليس مصدرَ النفس العاقلة، و لا تنحصرُ فيه ماهيَّتُها. إنْ هو إلاَّ الجهاز أَو الآلة المتَّصِلة بها نوعاً من الاتِّصال . النفس جوهرٌ روحيٌّ مستقلٌّ عن البدن، و من ثمَّ عن العقل أَو الدماغ. الدماغ في الإنسان أَو الحيوان أَشبَهُ بجهاز التلفيزيون الذي يلتقط المَشاهد و الأَصوات و الأَلوان و يبُثُّها للمُشاهِد لكنَّه ليس مصدَرها و علَّةَ وجودها؛ فهو، كما قلنا، لا يعدو الجهاز اللاقطَ الموزِّع. فإذا طرأَ على الجهاز خَلَلٌ أَو عطبٌ ما ، سواءٌ في أَسلاكه أَو رقائقِه السيلكونيَّة  [y1] الداخليَّة، تتشوَّشُ الصُّوَرُ و الأَصوات و الأَلوان أَو تنتفي . فهو، تماماً، كالدماغ الذي يكفُّ عن العمل أَو تضطرِبُ وظائفُه و نشاطاتُه عندما يُصيبُه مَرَضٌ أَو يعتورُهُ خَلَل.

 [y1]

Return to the Top

 

النفس في العقيدة الداهشيَّة

النفس في العقيدة الداهشيَّة

 

عندما تتحدَّث التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة عن النفس و ما تشتمل عليه من قوىً فكريَّة و حسِّيَّة و انفعاليَّة، فإنَّها تتَّخِذُ موقفاً مستقلاًّ عن سواها من العقائد و المذاهب. الداهشيَّة دون سواها أَتتنا بالحقيقة الروحيَّة القائلة انَّ الوعي النفسيَّ خاصَّةٌ مُلازمةٌ لشتَّى الكائنات المادِّيَّة، و إنَّ القوى النفسيَّة المبثوثة في الكائنات (أَي السيَّالات ، و بخاصَّةٍ الأَساسيَّة العاقلة منها) ذاتُ جذور و ارتباطاتٍ روحيَّة لا تنحصرُ في الجسد وحدَه ، و إنَّ الجانبَ الفكريَّ، الروحيّ منه و اختلاف و تنوُّع السيَّالات الفكرية هو سبب وجود جميع الأَشياء في الطبيعة، و علَّةُ تنوُّعها و اختلافِ بعضها عن بعض؛ الأَمر الذي يُفيد أَنَّ الوعي النفسيَّ مندمجٌ اندماجاً عُضويّاً في جميع الكائنات، و هو ، بالتالي، موجودٌ في الإِنسان والحيوان والنبات و الجماد، كما في شتَّى عناصر الطبيعة كالماء و الهواء و النار و التراب . هذا ما جاءَتْ توضِّحُه الداهشيَّة ، و ما سبقَ أَن أَشارتْ إليه الرسالاتُ السماويَّة، ذلك أَنَّ في الكتب المقدَّسة إشاراتٍ كثيرةٍ إلى تمتُّع الكائنات جمعاء بالوعي النفسيّ. بحسبي ههنا الاستشهاد ببعض ما وردَ، بهذا لصدد، في القرآن الكريم و في الكتاب المقدَّس بعهدَيه القديم و الجديد.

جاء في سِفر الخروج في العهد القديم أَنَّه إذا سقطَ الحجرُ على الإنسان، فأَودى بحياته، حُكِمَ عليه( أَعني على الحجر) بالسَّحْق و التحطيم حتَّى ينقلبَ تراباً يُذرَّى في الفضاء. و جاء في العهد الجديد أَنَّ السيِّد المسيح، له المجد، " قام و انتهر الرياح و البحر، فحدث هدوءٌ تامٌّ" . ( متَّى8: 26) و جاء في القرآن الكريم: " إذا زُلزِلَت الأَرضُ زلزالها، و أَخرَجَت الأَرضُ أَثقالَها، و قال الإنسان: ما لها، يومئذٍ  تحدَّثُ أَخبارَها  بأَنَّ ربَّكَ أَوحى لها". ( الزلزلة، 1- 5) و جاء فيه أَيضاً " يا نار، كوني برداً و سلاماً على ابراهيم" ( الأَنبياء، 69) تُرى ماذا تَعني تلك الأَقوال و الآيات الكريمة؟إِنَّها تَعني أَنَّ الرياح و البحار تعي و تُدرك و تمتثل؛ و قد انصاعتْ لأَمر السيِّد المسيح حين نهرَها و طلب إليها الهدوء و السكينة. كما إنَّها تَعني أَنَّ الحجَر واعٍ مسؤولٌ عن جريمة القتل، إذا هو سقطَ على أَحدهم فأَودى بحياته. و هي تعني أَيضاً أَنَّ الأَرض كائنٌ عاقلٌ يعي و يفهم، و إلاَّ لَما أَوحى إليها تعالى أَن تثور، و أَنَّ النار تفهمُ الخطابَ، و إلاَّ لما ناشدها تعالى ألاَّ تُؤذيَ النبيَّ إبراهيم.

يؤيِّدُ ذلك كلَّه أَنَّ الدراسات و البحوث التي تُجرى على النبات ، و لا سيَّما الأَشجار و الجراثيم و الخلايا، أَثبَتَتْ إثباتاً قاطعاً أَنَّها ( أَي هذه الكائنات) عاقلةٌ تتمتَّع بالوعي النفسيِّ، و أَنَّ بعضَها على درجةٍ عاليةٍ من الذكاء. فقد ثبتَ، مثلاً، أَنَّ الجراثيم تكافح العقاقير و المضادَّات الحيويَّة (antibiotics) التي تحاول قتلَها، و تتعلَّم كيف تتخلَّصُ  منها و تتجنَّبُها تماماً . كما اهتدى بعضُ العلماء إلى أَنَّ من الاَشجار و الاَعشاب ما يمتاز بخصائصَ عدوانيَّةٍ شرِّيرة ، فلا يعفُّ عن إنزال الأَذى بما يدنو منه أَو يعترضُه من أَشجارٍ أَو حشرات أَو نباتاتٍ أَو حيوانات . و لا تستنكف بعضُ الاَشجار، عندما تدهمُها الحشراتُ الضارَّة ، من تنبيه جاراتِها في الغابة للاحتراز من هذه الحشرات و اتِّقائها.

الفِلْم الوثائقيُّ الذي أَعَّده العالِمُ البريطانيُّ دافيد أَتِنْبرُهُ  David Attenborogh عن النبات، و استغرق اعدادُه عدَّة أَعوام، أَظهر للمُشاهدين ، أَنَّ حبَّ البقاءَ يدفعُ بعضَ النبات إلى القضاء على بعضِه الآخر عندما ينافِسُه أَو يعترضُه و يهدِّدُ حياتَه، كأَن يتسلَّقَ الأَشجار، مثلاً، فيخنقَها بحَجْبِ أَشعَّة الشمس عنها.

و من طريف الاكتشافات العِلميَّة ، في هذا الشأْن ، ما ورد في مقالٍ بعنوان" النباتات تتكلَّم" نشره شَرْمان راسلSharman Russel في مجلَّة Discover الصادرة في نيسان 2002 – و هي مجلَّة عِلميَّة شهريَّة أَميركيَّة رصينة. قُصاراه أَنَّ العالِمَين البيولوجيَّين إين بالدوين  Ian Baldwin و جاك شولتز  Jack Schultz  قد توصَّلا ، بفضل أَجهزةٍ لاقطة تقوم بتحليل الجُزَئيات الكيماويَّة المبثوثة في الفضاء، إلى أَنَّ بعض النباتات عندما تَدهمُه اليَرَقات caterpillars و تُباشِر التهامَ أَوراقه أَو أَغصانه، يستغيث بأَعدائها، فيُرسِل في الهواء جُزَئياتٍ كيماويَّة airborne emissions of chemical molecules  تلتقطُها الحشراتُ العدوَّة ، فتهرعُ إلى إنقاذه ، و تقضي على اليرَقَات. و الأَغرَب حقّاً أَنَّ أَكثر النَّباتات التي أُجريت عليها البحوث و الدراسات، إنْ لَم أَقُلْ كلَّها، تستطيع أَن تميِّز نوعاً من اليَرَقات الغازيَّة من نوعٍ آخر ، فتستعين بالحشرة المناسبة للقضاء عليها. أَي إنَّ في قدرة النبتة أَن تبثَّ في الفضاء المحيط بها تراكيبَ كيماويَّة مختلفة، كلٌّ منها يجلبُ نوعاً من الحشرات للقضاء على نوعٍ معيَّن من اليَرَقات.

و فضلاً عن ذلك ، فإنَّ العالِمَيْن بالدوين و شولتز يعتقدان اعتقاداً قويّاً أَنَّ النباتات تتحدَّث بعضُها إلى بعض بطرقٍ خاصَّة. على أَنَّ كيفيَّةَ انتقال الأَحاديث من شجرةٍ إلى شجرة أَو من نَبتةٍ إلى نبتة لم تُحسَمْ بعد، في رأْيهما، حسماً عِلميّاً، و ذلك في انتظار مَزيدٍ من البحوث و التجارب للتثبُّت منها.

و إذا تصفَّحنا مؤلَّفاتِ الدكتور داهش وجدناها حافلةً بالحقيقة القائلة إِنَّ الكائنات جمعاء تتمتَّع بصِفَتَي الوعي و الإرادة. فهي تؤكِّد تأْكيداً جازماً أَنَّ قوى الوعي  consciousness  الموجودة عند الإنسان، مع ما ينشأُ عنها من مشاعرَ و أَحاسيس و أَفكارٍ و تجارب و اصطراعٍ بين الخير و الشرِّ ، موجودةٌ أَيضاً عند الحيوان و النبات و الجماد، كما إنَّها منتشرةٌ في الماء و الهواء و الصخور و الرمال و في مختلف العناصر و الأَشياء.

لِنستمعْ إلى ما يقوله الدكتور داهش في هذا الموضوع :" فنحن الداهشيِّين نؤمن إيماناً راسخاً بأَنَّ الحيوانات مسؤولةٌ عن أَعمالها بالنسبة لعالَمها. و كذلك الجماد و الأَشجار و النباتات ، كلٌّ منها مسؤولٌ بالنسبة لعالَمِه كمسؤوليَّتنا بالنسبة لعالَمنا وبالنسبة لمعلوماتنا و عِلمنا و معرفتنا و ثقافتنا" (56). و لنستمعْ إليه أَيضاً ينقل عن بعض العُلماء أَنَّ " النبات يفكِّر و يَشعر كالإِنسان تماماً ، و يفرح و يتأَلَّم و يتذكَّر و يتعاطف مع الذين يحبُّونه، و يُحسُّ بالأَخطار المُحدِقة به، و يدافع عن نفسه ضدَّها"(57) .

و في قصَّتِه " حديثٌ بين بصلَتين خضراوَين"، يقصدُ الرسولُ حديقة الخضار، و ينتزعُ البصلَ الأَخضر من الأَثلام. و فيما هو يتناولُ عشاءَه، تقول إحدى البصلات لزميلتها" ما كان أَشَدَّ رغبتي بتقبيل نعلَيه! ولكنَّه مرَّ بعيداً... و ليته اقتطفَني و جعلَني عشاءَه، إذاً لَكنتُ فزتُ بالسعادة المُثلى" . فتُجيبُها زميلتُها: " هو ما تقولين. و أَنا أَيضاً تمنَّيتُ لو مرَّ بجانبي، إذاً لكنتُ انحنَيتُ نحو قدمَيه، و لكنَّه كانَ بعيداً عنِّي، أَيضاً ، بضعةَ سنتيمترات ، و هي كافيَّةٌ لأَن تمنعَني من لَثْم قدمَيْه"(58).

و لا يَحْسَبَنَّ القارئُ أَنَّ حديث البصلتَين قصَّةٌ وهميَّة تدخلُ في باب التخيُّلات الأَدبيَّة. فمَنْ حَظِيَ بمعرفة الدكتور داهش معرفةً شخصيَّة، و بمُعاينة خوارقه و ظاهراته الروحيَّة ( و شهودُها يُعدُّون بالأُلوف) ، لا يصعبُ عليه الاقتناعُ بأَنَّ حوارَ البصلتَين حادثةٌ واقعيَّة خبرَها مؤسِّسُ الداهشيَّة الذي خصَّه الله بقُوىً روحيَّة فائقة، منها القدرة على سماع أَصوات النباتات و الحيوانات و فَهْمها،و القدرة على استِكْناه ما يجول في خواطر الجماد و العناصر و الأَشياء، و ذلك أَثناء الاحتلال الروحيَّ (59) .

Return to the Top

 

ممَّ تتكوَّن النفس؟

ممَّ تتكوَّن النفس

 

ما هي مقوِّمات الوعي النفسيِّ في الكائنات؟ و من أَيَّةِ عناصر تتكوَّن النفس؟

تقول الداهشيَّة بأَنَّ قوامَ الأَشياء المادِّيَّة و النفسيَّة في الطبيعة، المحسوسِ منها و الغير محسوس، هو السيَّالاتُ الروحيَّة. و قد دُعِيَتْ " سيَّالات روحيَّة" لأَنَّ الأَشياء في الطبيعة ليس لها وجودٌ ثابتٌ نهائيٌّ حقيقيٌّ مُطلق. لكنَّها مكوَّنةً من عناصرَ و قوىً روحيَّةٍ عاقلة، فكريَّة و نفسيَّة مختلفةِ الدرجات و الأَنواع، متغيِّرةٍ لا تستقرُّ على حال. أَوجدَها الله، و صنع منها و من تحرُّكاتها و تفاعُلاتها المختلفة جميعَ ما نشاهدُه في الطبيعة من مظاهرَ و أَحداثٍ ، مادِّيَّة و فكريَّة. و الواقع أَنَّ السيَّالات الأَساسيَّة ، الفكريَّة الروحيَّة، في الكائنات تتَّخذُ و تختبرُ المظاهر والأَحداث الآنيَّة التي تبلغُها باستحقاقها، و ذلك بحسب رقيِّها و انحطاطها الروحيِّين. كما إِنَّها تكتسبُ عند التقمُّص المزايا و الخصائص الفكريَّة و النفسيَّة المرتبطة بالتجسُّد التي تحلُّ فيه و نوعيَّته و حالتِه. و يَلزمُ ممَّا تقدَّم أَنَّ المظاهرَ و الأَحداث المادِّيَّة تتغيَّر بتغيُّر درجات و نوعيَّات السيَّالات الأَساسيَّة التي كانت هي علَّة وجودها.

و تنقسمُ السيَّالاتُ على سيَّالاتٍ فكريَّة  روحيَّة خالدة تخضعُ لقوانين التقمُّص، و سيَّالاتٍ نوعيَّة ، عاقلة أَيضاً مرتبطة بكلِّ شكلٍ من أَشكال التقمُّص(60) . و من هذه السيَّالات سيَّالات الحواسِّ الخمس، و سيَّالات الحركة و القوَّة و الهيئة . و سيَّالات تَذَكُّر التقمُّصات السابقة عند الحيوان ، و السيَّالات التي تستطيع بها الأَشجارُ أَن تُوحِيَ إلى الحيوانات بالدنوِّ منها أَو الابتعاد عنها، و السيَّالاتِ التي تُزَوَّدُ بها الأَفاعي، فتُتيح لها أَن تعرفَ من يستحقُّ عقابَ اللَّدْغ و مَن لا يستحقُّه، و السيَّالات التي يقدرُ بها الجمادُ على اختزانِ صُوَر الأَعمال اَو تسجيل الأَقوال لتقومَ يومَ الحساب شاهداً على مَن أَتاها...و يضيق المجالُ بتعداد السيَّالات جميعاً . و ما دامت السيَّالاتُ النوعيَّة مرتبطةً بكلِّ حالةٍ جزئيَّة من حالات التقمُّص، فهي زائلةٌ بزوال الحالة أَو شكل التجسُّد. و هي، عندما تزول، تندمجُ في عناصر الطبيعة، ثمَّ تظهرُ ثانيةً في كائناتٍ أُخرى من الدرجة و النوع نفسِهما(61) .

و لئلاَّ يُؤخَذَ علينا الاِسراف في التكرار، نحاولُ ألاَّ نتوسَّع في الكلام على مبادئ التقمُّص لتوضيح بعض الحقائق عن النفس، موضوعِ بحثنا هذا ، و مقوِّماتها الأَساسيَّة. بحسبنا القول هنا إنَّ قوانين التقمُّص الإلهيَّة العادلة تشملُ جميع الكائنات ذات الوجود النفسيِّ المستقلِّ، و إنَّ ما يتقمَّص، سواءٌ في عالَم الإنسان أَو الحيوان أَو سواهما، و بصرف النظر عن المُدَد التي تستغرقُها الدورات التقمُّصيَّة في كلِّ نوعٍ من أَنواع الكائنات – أَقول إنَّ ما يتقمَّص، بالمعنى المُتعارَف عليه للتقمُّص، و يتَّخذ كياناً روحيّاً مستقلاًّ ليس النفسَ بجميع العناصر الداخلة في تكوينها، بل جوهرُ النفس الروحيُّ الخالد؛ أَعني الجوهرَ السيَّاليِّ الفكريِّ العاقل الذي يقرِّر نوعيَّة و درجة الكائن الروحيَّة في سموّه و انحطاطه الروحيَّين ، هذا هو السيَّال الأَساسي في الكائنات الذي انبثَقَ مع النفس منذ انبثاقها، و سيُلازمُها في سموِّها و انحطاطها الروحيَّين و في جميع دورات و حالات تقمُّصاتها. كما إنَّ هذا السيَّال هو الذي يَمدُّ الإِنسانَ و سائر الكائنات بأَسباب الوجود و الحياة، فضلاً عن الفكر و الميول و القدرة على التمييز بين الصائب و الخاطئ  من الأَعمال، و بين الخيرِّ و الشرِّير من الرغبات. هذا السيَّال الفكري هو الذي يحرِّك النَّفس و يسيطر عليها و هو السيَّال المسؤول الذي يتمتَّع بالإرادة الحرَّة القادرة على الارتقاء أَو التسفُّل الروحيَّين. و مَن يراجعْ كتابات مؤسِّس الداهشيَّة، يجدْها تُشير إلى هذه السيَّالات الفكريَّة في الكائنات .

السيَّال الفكري في سموِّه و انحطاطه الروحيَّين، هو الذي ينتقلُ من تقمُّصٍ سابقٍ إلى تقمُّصٍ لاحق، فيتَّخِذُ النوعَ و الحالةَ اللذين يستحقُّهما، و اللذين تُحتَّمُهما درجته الروحيَّة عند انطلاقها. فإذا تقمَّص السيَّال الفكريّ الروحيِّ أَسداً ، على سبيل المثال، فهذا يَعني أَنَّه قد بلغَ بقواه الفكريَّة الروحيَّة الأَساسيَّة درجة الاَسد و مستواه الروحيَّ. على أَنَّ هذا الأَسد ، بالإضافة إلى السيَّالات الفكريَّة الروحيَّة التي تقمَّصَتْه ، يكتسبُ خصائصَ و صِفاتٍ ( سيَّالات) ( 62) أُخرى مرتبطة بطبيعة التقمُّص " الأَسديِّ" و نوعيَّته، كالقوَّة الفائقة و البطش و المخالب الحادَّة و الأَنياب القاطعة و الصوت الهدَّار و ما إليها .... و مع أَنَّ هذه الخصائص و الصفات ( السيَّالات) النوعيَّة في الأَسد ليستْ سيَّالاتِه الروحيَّة الجوهريَّة و لا تخضعُ مثلَها لقوانين التقمُّص، بل تزول بزواله ثمَّ تندمجُ في عناصر الطبيعة و تنتقلُ إلى كائناتٍ أُخرى تُضاهي الأَسد درجةً و نوعيَّةً ، فهي مهمَّةٌ لطبيعة الأَسد و حياتِه، و مهمَّةٌ بالنسبة إلى تجاربِ عالمه. الخصائص و الصفات النوعيَّة ، كالقوَّة و البطش و الزئير و المخالب و الأَنياب تدخل بالضرورة في بُنية الأَسد النفسيَّة. و ما ينطبق على الأَسد ، ينطبقُ على الإنسان و الفيل و الأَفعى و الشجرة و سائر الكائنات. كلُّ نوعٍ من اَنواع الكائنات له سيَّالاتٌ روحيَّة أَساسيَّة، كما إنَّ  له أَيضاً سيَّالاتٍ أَو صفاتٍ و خصائصَ نوعيَّة عارضة. و كلا نوعَي السيَّالات يدخل في بنية الكائنات النفسيَّة.  ذلك أَنَّ السيَّالات الروحيَّة الأَساسيَّة ، عندما تتقمَّص و تَّتخذُ جسداً مادِّيّاً تمتزجُ مع سيَّالات البدن التي تحلُّ فيه لتشكِّل معه ، و لفترةٍ زمنيَّة معيَّنة، كياناً واحداً و وعياً نفسيّاً خاصّاً .

و اعتقادي أَنَّ الداهشيَّة ، بما أَوضحَتْه من طبيعة النفس و مقوِّماتها ، أَجابتْ عن السؤال الذي حيَّرَ الفلاسفة و المفكِّرين: ما علاقة النفس بالبدن؟ هل هي منطبعةٌ به أَم منفصلةٌ عنه؟ البدن أَو التجسُّد التقمُّصيُّ ، في رأْي الداهشيَّة ، هو الاستحقاق  الروحيُّ الموازي لمستوى القوى النفسيَّة الروحيَّة الأَساسيَّة الحالَّة فيه. فلا وجودَ له بمعزلٍ عن هذه القوى التي هي علَّة وجوده .

لنفرضْ أَنَّ إِنساناً سفَّل سيَّالاتِه الأَساسيَّة إلى مستوى يوازي ما هي عليه سيَّالاتُ الخنزير البرِّيِّ، فإنَّ ما يحصل هو أَن تغادرَه القوى الفكريَّة الروحيَّة السفليَّة( أَو سيَّالاتُه الأَساسيَّة) ، و تتَّخذَ لها جسمَ خنزيرٍ برِّيٍّ موازٍ لها في استحقاقها الروحيِّ الجديد.

الجانبُ المادِّيُّ من الخنزير( و أَعني شراهته و قذارته و طبيعته العدوانيَّة) يكون ، و الحالةُ هذه، صورةً عن نفسه منطبعةً في البدن. كذلك الاَمر، فإنَّ السيَّالات النوعيَّة التي يتَّخذُها جسدُ الخنزير البرِّيِّ، كالأَنياب المعقَّفة و الشَّعر الجاسي الشوكيِّ و الشكلِ الزريِّ و الحواسِّ الخنزيريَّة المختلفة ، تدخلُ و لا ريب، في بنيته النفسيَّة العامَّة. و عليه ، فلا بدَّ من أَن يكون للبدن أَيضاً آثارُه المنطبعة في النفس ( 63) .

مَن يطالعِ الجزءَ الثاني من " قصص غريبة و أَساطير عجيبة" للدكتور داهش، يتَّضِحْ له أَمرٌ مهمٌّ ، و هو أَنَّ نوعَ التجسُّد المادِّيِّ  وطبيعتَه يدخلان في بنية الكائنات النفسيَّة. تُصوِّرُ لنا قصَّةُ " الشجرة المشطورة لقسمَين" ( 64) صراعاً ينشب في داخل إحدى الأَشجار بين جزئها الأَيمن الخيِّر و جزئها الأَيسر الشرِّير. هذه الشجرة زوَّدها الله تعالى، أُسوةً بسائر الأَشجار، بسيَّالاتٍ نوعيَّة تمكِّنُها من إرسال سيَّالٍ خفيٍّ يؤثّر في الحيوانات التي تدنو من الشجرة ، فيدعُها تتسلَّقُها أَو تنكفئُ عنها.

كان الجزءُ الأَيسرُ الشرِّير من الشجرة يسلِّطُ دوماً على الحيوانات السيَّالَ الخفيَّ ، فيجعلُها تتسلَّقها ، فتُوقعُ ( أَي الحيوانات) الضرر و الاَذى بنفسها و بسواها من الطيور الملتجئة إلى الشجرة. و كان الجزءُ الأَيمن منها يشاهدُ الاَعمال الأَثيمة التي يرتكبها نصفُه الشرِّير، فيمتعضُ لذلك و يحزنُ كثيراً . و ذات يومٍ دنتْ أَفعى من الشجرة، و ما إن أَوشكَتْ على مغادرتها حتَّى سلَّط عليها الجزءُ الأَيسر سيَّالَه الخفيَّ، فانثَنَتْ غليها، و تسلَّقتْها، و قتَلَتْ عصفورةً، ثمَّ التهمَتْ بيضَها. فحزنَ الجزءُ الأَيمن  حزناً عظيماً ، و ما لبثَ أَن أَطلقَ صرخةً مدوِّيةً طالباً إلى الله تعالى أَن يفصلَه عن جزئه الشرِّير المؤذي، فاستجاب الله دعاءَه، فإذا بالشجرة تنشطرُ إلى قسمَين، و يصبحُ كلُّ قسمٍ مسؤولاً عن أَفكاره و ميوله و أَفعالِه.

يتَّضحُ لنا من هذه القصَّة أَنَّ السيَّال النوعيَّ الخفيَّ الذي زوَّد الله به الأَشجارَ يدخلُ في بنيتها النفسيَّة؛ بيد أَنَّه ليس إلاَّ أَداةٌ أَو وسيلة يُعجَمُ بها جوهرُها الفكريّ الروحيُّ ، حيث نشبَ الصراعُ بين جزء شجرتنا الأَيمن و جزئها الأَيسر.

وَ لْنستمعْ أَيضاً إلى ما يقوله الدكتور داهش عن السيَّالات النوعيَّة التي يمنحُها الله لبعض الكائنات دون سواها ، و ذلك في أُقصوصته " حديثٌ بين أُفعوانتَين" ( 65).

تقول الأَفعى السامَّة، في الأُقصوصة، لصديقتها الأَفعى غيرِ السامَّة:" فنحن الأَراقط وهبنا الله سُمَّنا الناقع لنجازيَ به مَن يستحقُّ الجزاء. ونحن نشعر مَن هو الذي يجب أَن نُفرِغَ سُمَّنا فيه، ومَن يجب أَلاَّ نُؤذيه. وهذا شعورٌ صادقٌ وضعَه الله فينا، والناسُ لا يعلمون. و لو كانوا نُبَهاءَ، لَعرفوا ما تَعنيه الكلمةُ التي دُوِّنَتْ في سِفْر التكوين و القائلة: " و كانت الحيَّةُ أَحكَمَ الحيوانات و الزحَّافات". فهي تعني أَنَّ الخالقَ وضعَ بأَجسادنا حكمةَ معرِفةِ الأَشخاص الذين يجبُ أَن تَطالَهم العدالةُ الروحيَّة، فننفثُ بهم سمومَنا، فتنطلق أَرواحُهم إلى عالَم الدركات حيث يبدأُ جزاؤهم و عذابُهم الروحيّ".

نفهمُ ممَّا تقدَّم أَنَّ سيَّالَ السُّمِّ الزُّعاف الذي منحَه الله تعالى للأَفاعي الأَراقط يدخلُ في بنيتِها النفسيَّة، و هي تعي أَنَّها قد تُورِدُ الإنسانَ أَو الحيوانَ مَواردَ التهلكة عندما تنفثُ سمومَها فيهما. و عليه، فإِنَّ الأَفاعي السامَّة مسؤولةٌ عن وجهةِ استعمال هذا السلاح الفتَّاك الذي أَودَعها الله إيَّاه: أَفي سبيل الخير تستعملُه أَم في سبيل الشرِّ.

                *              *              *

جملةُ القول إنَّ مقوِّمات النفس الأَساسيَّة في الكائناتِ جمعاء هي سيَّالاتٌ فكريَّةٌ عاقلة و سيَّالاتٌ نوعيَّة مرتبطةٌ بطبيعة الجسد و حالته و متطلِّباته. و هذه السيَّالات ، الفكريَّة و السيَّالات النوعيَّة، عندما تأْتلف و تتفاعل في كلِّ دورةٍ من دورات التقمُّص، تُكسِب الكائنَ ماهيَّتَه، فتجعل من القرد قرداً و من الإنسان إنساناً و من الشجرة شجرةً، و تزوِّدُ كلَّ كائنٍ بالصفات العامَّة التي يشتركُ فيها نوعُه، فضلاً عن الخصائص النفسيَّة و الروحيَّة التي يمتازُ بها عن سواه من أفراد النوع الواحد.

هذه السيَّالات التي تُعطي الكائنَ هويَّتَه أَو سجلَّه النفسيَّ المادِّيَّ ، و التي تحاولُ علومُ الأَحياء البيولوجيَّة تلمُّسَ مظاهرها المحسوسة من خلال ما يُعرَف بعلوم الجينات الوراثيَّة D N A إلاَّ أَنَّ التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة تؤكِّد أَنَّ هذه الهوِّيَّة " السيَّاليَّة" الخاصَّة المُميَّزة لا تعدو كونَها حالةً آنيَّةً ترتبطُ فقط بنوعيَّة و طبيعة التقمُّص الذي يتَّخذُه الكائنُ في خلال دورةِ تقمُّصه؛ فإذا تغيَّرَتْ نوعيَّة التقمُّص و طبيعتُه، تغيَّر الD N A  في نوعيَّته.

و عليه، فإنَّ السيَّالات النوعيَّة هي الوسائل اَو الأَدوات التي يتعرَّضُ بها الكائنُ للمِحَن و التجارب الكثيرة، أَمَّا السيَّالات الفكريَّة الروحيَّة فهي التي تميِّزُ بين المِحَن و التجارب، و تقيِّمها: فإذا امتنعَتْ عن المضيِّ قُدُماً في اقتراف المعاصي و الشرور، أَفلَحَتْ ورقَّتْ نفسَها، و إلاَّ كان العكس.

يقول السيِّد المسيح ، له المجد، : " إذا شكَّكَتْك عينُك اليُمنى ، فاقلعْها و ارمِها عنك فخيرٌ لك أَن تفقد عضواً من أَعضائك، و لا يُطرَح جسدُك كلُّه في جهنَّم". ( متَّى 5: 29)  ووردَ في القرآن الكريم: " يوم تشهدُ عليهم أَلسِنتُهم و أَيديهم و أَرجلُهم بما كانوا يعملون" ( النور، 24)

قلنا إنَّ مقوِّمات النفس أَو عناصرَها الداخلة في بنيتها أَو تركيبتِها الأَساسيَّة هي، بحسب التعاليم الداهشيَّة، السيَّالات الروحيَّة الفكريَّة الأَساسيَّة و السيَّالاتُ النوعيَّة الآنيَّة. لكنَّ ثمَّة " سيَّالاتٍ مؤثِّرة" أَو عواملَ خارجيَّة عديدةً أُخرى تؤثِّرُ في بنية النفس العامَّة، فتختلف لا بين نوعٍ من الكائنات و آخر، بل بين الأَفراد في النوع الواحد. من ذلك ، مثلاً أَنَّ سيَّالات أَو عوامل البيئة المُكتَسَبة، كالمعرفة و التجارب و الخبرة و العادات و الأَعراف و القوانين و الانتماء الدينيِّ و نَمَط الحياة و نوعيَّة المأْكل و المَشرب و ما إليها، تؤثَّر في بنية الشخص النفسيَّة و تُداخِلُها، و تجعلُنا نميِّز ، مثلاً، بين الخصائص النفسيَّة لإنسانٍ يعيش في مجاهل الأَمازون، و الخصائص النفسيَّة لإنسانٍ يُقيم في نيويورك و يعمل في بورصتها.

هناك أَيضاً عواملُ صحيَّة تؤثِّرُ في بنية الكائن النفسيَّة و تُداخِلُها. العليل، مثلاً أَو الضرير تتفاعلُ في نفسه عواملُ لا يعرفُها السليم أَو البصير. و إلى ذلك، فثمَّة اختلافاتٌ في الخصائص النفسيَّة بين الذَّكرَ و الأُنثى، لا في عالَم الإِنسان فحسب، بل في عالَم الحيوان أَيضاً. ثمَّ إنَّ القوى النفسيَّة في الكائنات كافَّةً هي قوىً ديناميَّة متجدِّدَةٌ لا تستقرُّ على حال. و لا أُجانبُ الصوابَ إذا قلتُ ، أَخيراً، إنَّ قوى الوعي النفسيِّ تختلفُ مستوياتُها و نوعيَّاتُها و حالاتُها من فردٍ إلى آخر؛ و عليه، فإنَّ فيها من الاختلاف على قَدْرِ ما في الطبيعة من كائناتٍ و أَفرادٍ.

و لكنْ لمَّا كانت العواملُ أَو العناصرُ المختلفة التي تُداخلُ نفسيَّةَ الكائن، سواءٌ أَكانت مرتبطةً بامتداداتها السيَّاليَّة المتقمِّصةِ كائناتٍ أُخرى و الموزَّعةِ في عوالمَ مختلفةٍ أَم كانت مرتبطةً بالتجارب و المِحَن و المسؤوليَّة الروحيَّة التي تعترضُها أَم كانت متعلِّقةً بالبيئة و الظروف المعيشيَّة و الصحِّيَّة المختلفة- أقول: لمَّا كانت تلك العوامل أَو العناصر من التعقيد و التشابُك و التداخل بحيث يصعبُ فَرْزُها أَو حَصْرُها أَو تحديدُ مدى فِعلِها، فقد باتَ الحديثُ عن النفس و حقيقتها، كما قلنا في مُستَهَلِّ بحثِنا، حديثاً ناقصاً و سرّاً دفيناً يستحيل أَن يَفضَّ مغاليقه إلاَّ الله، جلَّ جلاله(66).

Return to the Top

 

الوعي الفكريُّ

 

الوعي الفكريُّ و أَهمِّيَّتُه في العقيدة الداهشيَّة

الوعي الفكريُّ و أَهمِّيَّتُه في العقيدة الداهشيَّة

 

تحتلُّ القوى الفكريَّة و ما يتولَّد عنها من نشاطاتٍ مختلفة متَّصلة بالميول و النزعات و الرغبات و الإدراك و المسؤوليَّة و غيرها من القوى و الوظائف النفسيَّة و الروحيَّة مركزَ الصدارة، من حيث الأَهمِّيَّة ، في التعاليم الداهشيَّة. و عندي أنَّ  توضيح هذه الناحية ، و لو بإيجاز، يُسهِم إسهاماً مفيداً في تيسير ما يصعبُ فهمُه من المبادئ الداهشيَّة و جَعْله أَكثرَ تقبُّلاً .

كلُّ ما تقول به الداهشيَّة من مبادئ التقمُّص و العدالة و السببيَّة الروحيَّة و دواعي تنوُّع الكائنات و اتِّصافِها جميعاً بالوعي و الإدراك و المسؤوليَّة، فضلاً عمَّا بينها من علاقات متفاعِلة و ما ينشأُ عنها من مآسٍ و شرور و فسقٍ و فجور و استغلال و حروب أَو من أَعمالِ بٍِّ و خير و إنجازات حضاريَّة و علميَّة و كثيرٍ سواها- كلُّ ذلك إنَّما يرتبط ، بلا استثناء بالنشاطات الفكريَّة و بقوى الوعي و الإدراك المُتداخلة و التفاعلة معها، على تنوُّعِها و تفاوُتها.

فما هو الوعي الفكريُّ؟ و من أَين يستمدُّ مقوِّماتِه؟

يحمل مفهوم النشاط الفكريِّ النفسيِّ، المرتبط بمفهوم السيَّالات في العقيدة الداهشيَّة، من المعاني مايحملُه مفهوم ال consciousness في اللغة الإنكليزيَّة. فمن معانيه جُملة الأَفكار و المشاعر عند الفرد أَو الجماعة. و من معانيه أَيضاً مُجملُ نشاط العقل و الحواسّ. و الحقيقة أَنَّه من الصعب جدّاً العثور على كلمةٍ في اللغة العربيَّة ترادف الكلمة الإنكليزيَّة. أَمَّا كلمات"الوعي" ( من غير تحديدها بالفكريِّ) و " الشعور" و " الصحو" ، فلا أَرى أَنَّها تفي بتأْدية المعنى.

لذلك أُؤثر الآن استخدام كلمة " الوعي الفكريِّ"، مع تذكير القارئ بأَنَّني أَقصد بها مُجمَل نشاط القوى الفكريَّة العاملة عند الإِنسان، و لاسيَّما القوى الفكريَّة المرتبطة بالسيَّالات الروحيَّة. و لكنْ من أَين يستمدُّ الوعيُ الفكريُّ مقوِّماتِه؟

يستمدُّ الوعيُ  الفكريُّ مُقوِّماتِه من رافدَين أَساسيِّين. الأَوَّل رافدُ العلوم و العادات و التقاليد و الإنجازات و القِيَم الإجتماعيَّة و القوانين و الشرائع السماويَّة، فضلاً عن متطلِّبات العمل و الحياة الواردة عليه من البيئة التي يعيش فيها، و التي تفرض عليه هذه المعارف المكتَسَبة و تُعرِّضُه لتجاربها. أَمَّا الرافدُ الثاني – و هو الأَهمّ – فيأْتيه من داخل الإنسان، من ميوله و غرائزه و طباعه و رغباته و مشاعره و أَحاسيسه، كما يأْتيه من خلجات ضميره المتمثِّلة تارةً بأَفكار المحبَّة و العطف و الإحسان و العدل و الوفاء و ما إليها من خصالٍ حميدة ، و طوراً بأَفكار الحسد و البغض و الكبرياء و الظُّلم و الغدر و ما إليها من صفاتٍ وضيعة. و هذا هو الجانبُ الروحيُّ للنشاط الفكريِّ، الجانبُ المُدرِك الواعي المسؤول الذي ترتكز عليه الداهشيَّة في شرحِ مبادئها ، و تُطلِق عليه الجانب الروحيّ من السيَّالات الأَساسيَّة.

و مهما تكنْ نوعيَّةُ القوى الفكريَّة التي نتحدَّث عنها – أَهي مُكتَسَبةٌ من البيئة التي يعيش فيها الفرد أَم نابعةٌ من دخيلة نفسه- فهي بالضرورة في تفاعُلٍ دائمٍ، بعضُها مع بعض، لتُعطي الفردَ خصائصَه الفكريَّة و النفسيَّة المميزة و المُرتبطة به وبتجارب بيئته أَو عالمه. و على سبيل المثال، فالإنسان الذي يحيا في مجتمعٍ حضاريٍّ متطوِّر كالمجتمع الأَميريكيِّ الشماليِّ غالباً ما تكون قواه أَو نشاطاتُه الفكريَّة مُستمَدَّةً منه، أَعني من تِقْنياته و علومه و صنائعه و عاداته و قِيَمه و أَنظمته و قوانينه الدقيقة التي يجب أَن يتقيَّد بها و يعمل بموجبها... و مع ذلك ، فلا بدَّ لهذه المعارف الفكريَّة المكتَسَبة من أَن تتفاعل مع ميول ذلك الفرد و غرائزه و أَطماعه و رغباته. قد نجد في المجتمع الأَميريكيِّ رجلاً مثقَّفاً و مُجلِّياً عِلميًّا و تِقنيّاً ، لكنَّه، من حيث أَطماعُه و نزواتُه و شهواتُه و خصائصُه الفكريَّة و تفاعُلُه مع الآخرين، مُتَدَنِّي الدرجة الروحيَّة. و قد نجدُ من جهةٍ ثانية، شخصاً أُمِّيّاً يُقيم في مجتمعٍ متخلِّف خالٍ من الإنجازات الصناعيَّة و التِّقنيات و العلوم  ؛ لكنَّه ، من حيث ميولُه و رغباتُه و أَفكارُه و تعامُلُه مع الناس ، ذو درجةٍ روحيَّة سامية.

الماهاتما غاندي، مثلاً ، هذا الرجل الروحانيُّ العظيم ، كان ينتمي إلى المجتمع الهنديِّ المتخلِّف حضاريّاً آنذاك، و المُكبَّل بعاداتٍ و تقاليد و أَنظمة بالية كنظام الطبقات و نظام المنبوذين اللذين يعود عهدُهما إلى آلاف السنين، فضلاً عن قوانين الإستعمار المُجحِفة التي سنَّها المُستعمر البريطانيُّ  و فرضها على الهند؛ أَضِفْ إلى ذلك عاداتٍ وضيعةً كانت مُستشريةً في المجتمع الهنديِّ كعادة الذلِّ و عادة الكذب و ما إليهما. ثار غاندي على نظام الطبقات و المنبوذين ، و على قوانين الإستعمار المُجحِفة، و على عادات مواطنيه الوضيعة، بكلِّ عنادٍ و تضحيةٍ و إصرار ، و لم يخضعْ لتجاربها لأَنَّها كانت تتنافى و ميولَه و نزعاتِه و قناعاتِه الفكريَّة السامية " و هي ما نَعنيه بكلمة:الوعي الفكريّ) . و مع ذلك ، فقد تمسَّك ببعض تقاليد بلاده و عاداتها التي لم يجدْ فيها خَللاً أَو إساءةً روحيَّة ، كإمتناعه عن تناوُل اللحوم و استبقائه اللباسَ الهنديَّ البسيط المؤلَّف من قماشةٍ بيضاء كان يلفُّها على جسده النحيل ، و إصراره بملء اختياره على شَظَف العيش مجاراةً لحالة الفقر و البؤس التي كان يحياها معظَمُ أَبناءِ بلاده. فقد كان يعتبر تمسُّكَه بمثل تلك العادات ترويضاً للنفس و تعويداً للجسد على تقبُّل مشقَّة العيش على قساوتها.

خلاصةُ القول إنَّ غاندي الذي كان ينتمي إلى البيئة الهنديَّة المتخلِّفة آنذاك حضاريّاً ، نوعاً ما، كان في شفافيَّته الروحيَّة من أَنبل و أَسمى مَن عرفَتْهم الأَرض.

يتحدَّث مؤسِّسُ العقيدة الداهشيَّة في صلاته عن التجارب السُّفليَّة التي تأْتينا من بيئتنا الخارجيَّة محاوِلةً إِسقاطَنا في الخطيئة ، كما يتحدَّث عمَّا ينتابُنا من أَفكارٍ وضيعة تأْتينا من داخل النفس فيقول: "أَبعِِدْ عنَّا التجارب التي تريد غوايتنا و إسقاطَنا في دياجير الخطايا" (67). ثمَّ يقول: " أَبعِدْ عنَّا الأَفكار الدنيئة و لا تدَعْها تقربُ منَّا "( 68).

الأَعمال تبدأُ بالأَفكار . و الأَفكار، في سموِّها أَو انحطاطها الروحيِّ، تنشأُ عنها الحضارات العظيمة أَو المجتمعات المتخلِّفة. الأَفكار الجليلة تُقيم الإنجازات الضخمة، و تُنمِّي العِلم و الفنَّ، و تكشف عن قوانين الطبيعة، و تَسنُّ الشرائعَ المدنيَّة العادلة التي تضمنُ حقوق الإنسان و منها الحرِّيَّة و الحقُّ بالعيش الكريم. الأَفكار السامية تُولِّد أَعمال البِرِّ والخير و العطف و مساعدة الفقراء و المساكين. ... أَمَّا الأَفكار السُّفليَّة، فهي تستبيح العدالة و المسواة بين الأَفراد و تُذكي الأَطماع ، فينشأُ عن ذلك الظُّلم و الاستغلال و الاستبداد و الفقر و الحرمان. و تؤجِّج الأَفكارُ السافلة الشهواتِ و النَّزوات، فينتج عن ذلك ارتكابُ المعاصي و الشرور، و اقترافُ الذنوب، و شَنُّ الحروب، و ما إليها من أَعمالٍ ذميمة وضيعة.

الأَفكار، في سموِّها أَو تسفُّلِها الروحيِّ ، تحدِّد مَجرى السببيَّة الروحيَّة و الاستحقاقات الإلهيَّة العادلة التي تقعُ على الكائنات وما ينالُهم من قصاصٍ أَو ثواب. و بناءً على المُستويات الفكريَّة التي بلغَتْها النفسُ عند لحظة انتقالها من الجسد" و هو ما يُعرَف بالموت" ، تتقرَّر نوعيَّة تقمُّصها، كما يتقرَّر مستواها الروحيُّ سواءٌ في صعودها إلى درجات النعيم أَو هبوطها إلى دركات الجحيم.

Return to the Top

 

علاقة قوى الوعي الفكري بالسيَّالات

علاقة قوى الوعي الفكري بالسيَّالات

 

تحدِّد التعاليمُ الداهشيَّة الجانبَ الفكريَّ ، أَو النفسيَّ عموماً ، المُتمثِّلَ بالميول و الغرائز و الأَطباع و المشاعر و الرغبات كالطَّمع و الظُّلم و البخل و الشَّفقة و الحسد و البغض و الشراهة  و سواها- تحدِّدُه بمفهوم السيَّالات الروحيَّة. و هذا يُفيد أَنَّ الجانب الروحيَّ من السيَّالات هو جانبٌ عاقلٌ مسؤولٌ ذو وعيٍ و إرادة، و هو غيرُ مستقرٍّ، يقبل التحرُّك و الانسياب صعوداً أَو هبوطاً " أَي يقبل الارتقاءَ الروحيَّ أَو التسفُّل الروحيَّ" ؛ و هذا ما يوضِّحُ لماذا دُعِيَت السيَّالات كذلك.

عندما تتحدَّث الداهشيَّة عن شخصٍ ما فتصفُ سيَّالاتِه الروحيَّة بالعُلويَّة، فإنَّما تقصد بذلك صفاتِ هذا الشخص الفكريَّة العُلويَّة ، أَي ميولَه النبيلة و رغباته و طباعه و مشاعره و ما إليها من أَخلاقٍ حميدة. و عندما تُشير إلى شخصٍ آخر بقولها إنَّ سيَّالاته الروحيَّة سيَّالاتٌ سُفليَّة، فهي لا تقصد بذلك إلاَّ نزعاتِه و ميولَه و أَفكاره السُّفليَّة. هذه هي ، في شِقَّيْها العُلويِّ و السُفليِّ، الجوانبُ الروحيَّة من السيَّالات التي منحنا الله، عزَّ وجلَّ، القدرة على إدراكها ووصفها، كما منحنا القدرة على التحكُّم بها، إذا أَردْنا ذلك. و هي وحدَها المعيار الروحيُّ الذي يحدِّدُ درجَةَ الكائن الروحيَّة، و عليه يُحاسَب. في ضوء سموِّها أَو انحطاطِها الروحيَّين، تتقرَّر حالتُه و نوعيَّتُه المادِّيَّة و الروحيَّة.

  "حسِّنوا سيَّالاتِكم الروحيَّة،"  " أَي حسِّنوا ميولكم و رغباتكم و نزعاتكم و مشاعركم و أَفكاركم، اجعلوها خيِّرةً بارَّةً تقيَّةً ساميةَ الأَهداف روحيَّة الغايات، لكي تتحسَّن أَحوالُكم المادِّيَّة على الاَرض ، و تعلوَ درجتُكم الروحيَّة في السماء"؛ هذا ما كان يردِّدُه الدكتور داهش على مسامع الناس. و هو يؤكِّد تأْكيداً جازماً أَنَّ القوى الفكريَّة ، أَو النفسيَّة عموماً، بمستوياتِها المختلفة هي حجرُ الزاوية في كلِّ ما يحدث في الحياة من شؤونٍ مادِّيَّة و روحيَّة. الظالم، مثلاً، يستطيع أَن يُحسِّن سيَّال الظُّلم الكامن في داخله إذا استطاع أَن يتغلَّب على أَفكار الظُّلم التي تُساوره. و الحسود، أَيضاً يستطيع اَن يُرقِّيَ سيَّال الحسد الذي يكبِّله، إذا استطاع أَن يستأْصل من نفسه أَفكار الحسد. و قسْ على ذلك.

القرآن الكريم يُشير إلى هذه الناحية الفكريَّة الروحيَّة القائمة في النفس، أَعني إلى أَفكار الخير و الشرِّ الكامنة فيها، و ذلك في الآية الكريمة:" و نفسٍ و ما سوَّاها ، فأَلهَمَها فجورَها و تقواها" . (الشمس: 7-8). الفجور صفةٌ فكريَّة شرِّيرة، و التقوى صفةٌ فكريَّة خيِّرة.

Return to the Top

 

علاقة الأَشياء المادِّيَّة بقوى الوعي الفكري

علاقة الأَشياء المادِّيَّة بقوى الوعي الفكري

 

تعوِّل الدهشيَّة , في شرحِها لشؤون الحياة وأَحداثِها وأَسبابها , على مبادىء العدالة الإلهيَّة والسببيَّة الروحيَّة والإستحقاق . وهي تقرنُ هذه الشؤون والأَحداث بالمستويات الفكريَّة والنفسيَّة التي تحرِّكها . مَن يفكِّر في الشرِّ لا بدَّ أَن يقترفَه . فإذا إقترفَه , حُوسِب عليه عاجلاً أَم آجلاً , ووقع عليه الجزاءُ الإلهيُّ العادل الذي قد يتجلَّى في أَوضاعه الفكريَّة والصحيَّة والعيشيَّة وسواها ؛ والعكس بالعكس .

وتؤكِّد الداهشيَّة , أَيضاً , في شرحها لقانون التقمُّص – وهو مبدأٌ من مبادئها الأَساسيَّة – أَنَّ التقمُّّصات المادِّيَّة تقرِّرها مبادىءُ العدالة الإلهيَّة والإستحقاق الروحيِّ . هذا يعني أَنَّ نوعيَّة التقمُّص المادِّيَّ الذي يتَّخذه الكائن عندما توافيه المنيَّة تطابق نوعيَّة الإستحقاق الروحيِّ ودرجتَه اللتَين بلغَتْهما سيَّالاتُه الأَساسيَّة أَو الفكريَّة عند لحظة الموت " أَو الإنتقال كما يسمِّيه الداهشيُّون " ( 69 ) وما ينطبقُ على الإنسان ينطبق على الكائنات جمعاء : على الحيوان والأَشجار والصخور والرمال ... سواءٌ أَطالَ زمنُها على الأَرض أَم قصر . قانون التقمُّص الروحيُّ يُسمِّيه العِلم بقانون transformation and change   

نستطيع القول إذاً , وفقاً لتعاليم الداهشيَّة ، إنَّ جميعَ المظاهر المادِّيَّة , على إختلاف أَنواعها وأَشكالها وصفاتها , هي تجسُّداتٌ أَو تقمُّصاتٌ مادِّيَّة نجمَتْ عن إستحقاقاتٍ روحيَّة مَنوطةٍ بما حتَّمَها من نوعيَّات القوى الفكريَّة الروحيَّة " أَو السيَّالات " ومُستوياتها المختلفة ؛ وغالباً ما تكون تلك التقمُّصات المادِّيَّة , في طبائعها ومظاهرها , مرآةً تعكس هذه القوى الفكريَّة النفسيَّة .

لنستمعْ الى ما تقوله إحدى الرسائل الروحيَّة التي هبطتْ على مؤسِّس الداهشيَّة كما دوَّنها الشاعرُ الداهشيُّ حليم دمُّوس " وكانت المخلوقات في تلك العصور الأُولى أَقلَّ رُقيّاً ممَّا هي عليه الآن ؛ أي إنَّ نزعاتها الشرِّيرة كانت هي المتغلِّبة على النزعات الطيِّبة تغلُّباً تامّاً . وهذا الوضع يتجلَّى في أَشكالها الجسديَّة ؛ إذ كانت تلك الأَجسادُ قبيحة المنظر مرعبة الهيئات , تحيا طويلاً على الأَرض , وكانت في حربٍ دائمة كالديناصور والماموس ... (70 )

العلوم الفيزيائيَّة الحديثة أَخذت تتحدَّث اليوم عمَّا كان مؤسِّسُ الداهشيَّة قد بلَّغ عنه منذ أَكثر من نصف قرنِ . يقول العالم الفيزيائيُّ فريتجوف كابرا  fritjof capra   في كتابه " طريقة الفيزياء " ( 71 ) : " إنَّ إيضاحات البحوث العِلميَّة الحديثة التي بدأَتْ تعترف بأَنَّ المعايير الفكريَّة والمعاييرَ المادِّيَّة هي إنعكاساتٌ بعضُها عن بعض سوف تفتح أَمامنا مجالاتٍ مدهِشَةً من حقول المعرفة " .

وسأَضرب للقارىء مثالاً عمَّا يحاول هذا العالِمُ الفيزيائي " كابرا " أَن يقولَه لنا في هذا الصَّدد .

إذا تأَمَّلنا مَليّاً في كلِّ شيءٍ يصنعُه الإنسان من معدَّاتٍ وأَدوات وشتَّى الإِنجازات وسأَلنا أَنفسَنا كيف برَزَتْ هذه الأَشياءُ الى حيِّز الوجود , لَكان الجواب أَنَّها كانتْ في الأَصل حاجاتٍ ورغباتٍ تمثَّلتْ فكراً في رؤوس صانعيها , ثمَّ تحقَّقتْ مادِّياًّ . وهي , عند إستحالتها الى أَشياءَ مادِّيَّة , عكَسَت المُستويات الفكريَّة التي أَوجدتْها . فإذا تأمَّلنا , مثلاً , سهماً خشبياً بدائيّاً صنعه رجلُ الغابات الإِفريقيُّ لأصطياد الوحوش , أَلفيَنا أَنَّه يعكس تماماً مستوى فكره البدائيِّ من حيث التنسيق وانسجامُ الشكل والفاعليَّةُ المحدودة . وإذا نظرنا من جهةٍ ثانية , الى آلة الكُمْبيوتر المتطوِّرة المعقَّدة , رأَينا أَنَّها تعكس , هي أَيضاً , مُستويات صانعيها الفكريَّة المتقدِّمة عِلميّاً وتِقنيّاً .

وإذا انتقلنا الى حيِّز السلوك والأَخلاق , وتأَمَّلنا ما يجري في جميع بقاع العالَم من أَعمال فسقٍ وفجور ودعارة , وما يحدث من مآسٍ وشرور ومن منازعاتٍ وحروب وإستغلالٍ منظَّمٍ للثروات الطبيعيَّة ولليد العاملة الرخيصة , جاز لنا التساؤل : أَوليستْ هذه الأَعمال نتيجَة معاييرَ فكريَّةٍ ناقصة ووضيعة ؛ معاييرَ تحرِّكها الشهوةُ والأَنانيَّة والمطامع وما الى ذلك ؟ والشيءُ نفسُه يُقال على أَعمال البِرِّ كمساعدة الفقراء ومنكوبي الحروب وضحايا الزلازل والفياضانات : أَليسَتْ هذه الأَعمال , هي أَيضاً , معاييرَ فكريَّة ساميةً ونبيلة ؟ هذا ما يحاول أَن يقوله لنا العالِمُ الفيزيائيُّ كابرا .

إذا كان هذا هو واقعَ الحال بالنسبة الى ما يصنعُه الإنسان من مَعدَّاتٍ وآلات , وما يأْتيه من خيرٍ أَو شرٍّ " أَي إِنَّها في حقيقتها المجرَّدة إنعكاساتٌ متباينةٌ متفاوتةٌ لمُستويات القوى الفكريَّة النفسيَّة التي أَنجزَتْها " , فهل يسوغُ لنا القولُ إنَّ الكائنات الطبيعيَّة كالإنسان والحيوان والأَشجار والجبال والمجرَّات والنجوم وما لا يُحصى منها هي أَيضاً , في حقيقتها المجرَّدة , إنعكاساتٌ مادِّيَّة لنوعيَّاتٍ ومُستوياتٍ مختلفة من القوى الفكريَّة النفسيَّة أَو السيَّالات الروحيَّة ؟ لا ريب عندي أَنَّها كذلك . فقوانين الحياة المتشابِكة , في مختلف مجاريها المتعدِّدة , هي واحدة . القوانين الطبيعيَّة والقوانين الروحيَّة المُهَيْمِنَة على جميع المادِّيَّات لا تتجزَّأُ , ولا تميِّزُ بين صنيع الإنسان وصنيع الطبيعة .

إنَّ قوانين الحركة والدَّفع والجاذبيَّة وغيرَها من قوانين الطبيعة تنطبق على الإنسان والحيوان إنطباقَها على الصخور والطيَّارات والسيَّارات والبواخر وكلِّ ما يصنعُه الإنسان . والقانون الروحيُّ الذي يُعرَف بقانون التقمُّص والذي يُدعى علميّاً بقانون " حفظ الطاقة " conservation of energy   أَو قانون " التحوُّل والتغيُّر "  transformation and change   ينطبقُ , هو أَيضاً على الإِنسان والجبال والأَشجار والحيوانات , كما ينطبق على القصور والمعدَّات والأَدوات وسائر ما يصنعه الإنسان . وهكذا , فإنَّ المعاييرَ الفكريَّة والمعاييرَ المادِّيَّة المتَّصلة بها ، أَيّاً كان نوعُها , هي إنعكاساتٌ بعضُها عن بعض , لا تمييزَ بين ما يصنعُه الإنسان أَو تعمله الطبيعة .

ولمَزيدٍ من التوضيح نقول إنَّ لكلِّ نوعٍ من الكائنات نوعيَّةً مشتركةً من السيَّالات الروحيَّة المرتبطة بنوعيَّة و طبيعة التقمُّص ، و المتَّصلة بتجارب عالمه. ثمَّة، مثلاً ، نوعيَّةٌ عامَّةٌ من القوى الفكريَّة النفسيَّة يشتركُ فيها البشرُ جميعاً ، و تجعل منهم بشراً ؛ و من خصائصها حبُّ المال، و حبُّ الذات، و الرغبة الجنسيَّة، و كثيرٌ سواها... و ثمَّة نوعيَّةٌ عامَّةٌ من القوى الفكريَّة النفسيَّة عند الكلاب كافّة تجعل منها كلاباً. كالنباح و قضم العظام و هذا ينطبق على كلِّ نوعٍ من أَنواع الكائنات.

على أَنَّ في النوع الواحد من الكائنات اختلافاتٍ ومُستوياتٍ فكريَّةً نفسيَّةً متفاوتةً تقتضينا التمييزَ بين فردٍ و آخر. فنحكم مثلاً على شخصٍ بأَنَّه صالحُ ذو سيَّالاتٍ عُلويَّة، و على آخرَ بأَنَّه زنديقٌ كاذبٌ و شرِّيرٌ سُفليٌّ؛ كما نحكم على أَحد الكلاب بأَنَّه وديعٌ، و على آخر بأَنَّه شَرِس. و قسْ على ذلك سائرَ أَنواع الكائنات، مع الإشارة إلى أَنَّ ثمَّة أَنواعاً منها، كالأَشجار و النباتات و الصخور، يتعذَّر علينا ملاحظةُ الاختلافات بين أَفرادها.

 و الجدير بالذكر أَنَّ التعاليمَ الداهشيَّة لا تُضفي على الإِنسان وضعاً روحيّاً مميَّزاً عن سائر الكائنات. فهي تقول إنَّ بعض الحيوان ، و لا سيَّما أَنواعٌ كثيرة من الطيور، أَرقى روحيّاً من الإنسان.

Return to the Top

 

هل المظاهر المادِّيَّة في حقيقتها المجرَّدة نوعيَّاتٌ و مستوياتٌ مختلفة؟

هل المظاهر المادِّيَّة في حقيقتها المجرَّدة نوعيَّاتٌ

و مستوياتٌ مختلفة  من قوى الوعي الفكريّ أَو السيَّالات؟

 

تتحدَّث العلومُ الفيزيائيَّة الحديثة عن العالَم المادِّيِّ الذي نحيا فيه، فتصفُه بالوهم أَو السراب Physical illusion ، و تقول إنَّه، في حقيقته المطلقة، مُكوَّنٌ من لا شيء. World with out substance و لقد سبق لنا أَن نشرنا مقالةً في هذا الموضوع في مجلَّة " صوت داهش" ( السنة الأُولى العدد الرابع ، آذار 1996) تحت عنوان: " هل للطبيعة وجودٌ مادِّيٌّ حقيقيٌّ نهائيٌّ أم إنَّها مظاهرُ نسبيَّة لوجودٍ روحيٍّ؟ " و قد بيَّنَّا فيها أَنَّ العلومَ الفيزيائيَّة الحديثة أَثبَتَتْ أَنَّ جميعَ الأَشياء في الطبيعة مع ما يُكوِّنُها من ذرَّات لا وجودَ حقيقيّاً نهائيّاً لها، إذا أَعطيناها الوقتَ الكافي للزوال. و قد ذكرنا كيف أَنَّ هذه العلومَ الفيزيائيَّة الحديثة اكتشفَتْ أَنَّ الجُسَيمات الذرِّيَّة ، في حقيقتها المُطلقة، تتكوَّن من فراغاتٍ هائلة نسبيّاً تدور في داخلها عناصرُ أَصغرُ منها بما لا يُقاس تُسمَّى بSubatomic particles أَو مقوِّمات المادَّة. هذه الجُزَئْياتُ الذرِّيَّة المُتناهيَّة الصِّغَر التي لا تتعدَّى ، في أَحجامِها مجتمعةً ، واحداً من بليونٍ من حجم الذرَّة تدور حول نواة الذرَّة بسرعاتٍ رهيبةٍ تُداني أَحياناً سرعةَ النور؛ و هذه السرعات الرهيبة تُعطي الأَشياءَ  تكثُّفاتِها المادِّيَّة الخادعة. و فضلاً عن ذلك، فإنَّ الجُسَيمات الذرِّيَّة (Subatomic particles) هي حالاتٌ من الطاقة فقط  لا وجودَ فعليّاً لها ، و ليس لها إلاَّ واقعٌ نظريٌّ و افتراضيٌّ قائمٌ على ترابُط تلك الجُسَيمات و تفاعُلِها بعضِها مع بعض؛ و تلك الجُسَيمات الذرِّيَّة هي  في حالةٍ من التبدُّل و التغيُّر و الظهور و الاختفاء،  الأَمر الذي يؤكِّد أَنَّ المظاهر المادِّيَّة، من حيث مقوِّماتُها الأَساسيَّة، هي حالاتٌ وهميَّة من الطاقة غيرِ المُستقرَّة التي تظهر هنا لتختفي هناك.

و قد بيَّنَّا في ذلك المقال أَيضاً كيف أَنَّ بعضَ العلماء المرموقين أَمثالَ العالِم الفيزيائيَّ الأَميركيِّ  جان وِيِلر  John Wheeler بدأُوا يلتقون مع المبادئ الداهشيَّة  التي تؤكِّد وجودَ الوعي و الإدراك عند جميع الكائنات ، و يعترفون بأَنَّ الحياة العاقلة موجودةٌ في كلِّ جزءٍ من أَجزاء الكون المادِّيِّ.

هذا المَنحى العلميُّ الجديد في البحوث الفيزيائيَّة الحديثة عند بعض العلماء يتَّجهُ أَكثرَ فأَكثر نحو الاعتراف بوجود الوعي الفكريِّ في جميع الأَشياء المادِّيَّة، و بأَنَّ ثمَّةَ ترابطاً عُضويّاً جوهريّاً بينه و بينها. و حَسبي ههنا الاستشهاد بأَقوال بعض علماء الفيزياء المرموقين في هذا الشأْن . يقول العالِم الأَلمانيُّ الشهير الحائز جائزة نوبل لعلوم الفيزياء ورنر هايزنبرج  Werner Heizenberg : " قوانين الحياة ليست في مظاهرها المادِّيَّة، بل هي في أُصولها الروحيَّة" (72).

و يقول العالِمُ الفيزيائيُّ الشهير أُوجين وجنر E. Wigner  الحائز جائزة نوبل لعلوم الفيزياء في أُطروحته العِلميَّة (1970) Symmetries and Reflections : " لا نستطيع تثبيت قوانين الفيزياء الحديثة بطريقةٍ كاملة و مركَّزة من غير الأَخذ بالحسبان النواحي الفكريَّة" ( 73) و لعلَّ خيرَ تعبيرٍ عن هذا الموضوع قولُ العالِم الفيزيائيِّ فريتجوف كابرا Fritjof Copra :" قد يكون الوعيُ النفسيُّ ( Consciousness)  من أَهمِّ العناصر الأَساسيَّة في هذا الكون. و يجب أَن تشتملَ عليه قوانينُ المستقبل المتعلِّقة بالمظاهر المادِّيَّة"(74).

و إذا عدنا إلى التعاليم الداهشيَّة التي تتحدَّث عن هذا الأَمر (أعني هل المظاهر المادِّيَّة نوعيَّاتٌ و مُستوياتٌ مختلفة لقوىً روحيَّة فكريَّة)، فما يجدرُ ذكرُه أَنَّ مؤسِّسَ الداهشيَّة أَكَّدَ للداهشيِّين في مناسباتٍ متعدِّدة أَنَّ هناكَ عوالمَ عُلويَّة مادِّيَّة تتجسَّد فيها الأَفكار من فورها ؛ فإذا طلب المرءُ شيئاً أَو اشتهاه تجسَّد فوراً بلا عائق. ثمَّ إنَّ هناك ظاهراتٍ روحيَّة حصلَتْ مع كثيرين ممَّن عرفوا الدكتور داهش كانت فيها الأَفكار تتحوَّل إلى تجسُّداتٍ مادِّيَّة فوريَّة فقد حوَّل الدكتور داهش ذات يومٍ على مرأَى من عدّة شهود وردةً مرسومةً على لوحة – و كانت ، في الأَصل، فكرةً في خيالِ فنَّانة – إلى وردةٍ حقيقيَّة.

و فضلاً عن ذلك، فإنَّ القرآن الكريم يخاطبُ أَهلَ الجنَّة، فيقول:" و لكم فيها ما تشتهي أَنفسُكم" . (فصلت :31) أَي أَنَّ كلَّ ما يراود فكرَ سُكَّان الجنَّة من رغباتٍ تتجسَّد فوراً أَمامهم. و يتحدَّث القرآن الكريم عن الله،جلَّ جلالُه، فيقول : " إنَّما أَمرُه ، إذا أَراد شيئاً ، أَن يقول له: كُنْ فيكون"(يس:82) . أَي أَنَّ الأَشياء تجسَّدَتْ مادِّيّاً من فكره و أَمره تعالى من لا شيء.

و قد وردَ في مُستهلِّ العهد القديم من الكتاب المقدَّس(سفر التكوين) أَنَّ الله تعالى أَمر بتكوين السماوات و الأَرض و ما فيها من لا شيء: كنْ فيكون.

إذا كانت الأَفكار تتحوَّل إلى تجسُّداتٍ مادِّيَّة فوريَّة في بعض العوالم العُلويَّة، فقد لزمَ أَن يكون الاَمرُ كذلك، من حيثُ المبدأُ، في جميع العوالم، و من بينها عالَمُنا الأَرضيُّ. إلاَّ أَنَّ عمليَّة تحوُّل الأَفكار الى تجسُّداتٍ مادِّيَّة خاضعةٌ لمقاييس تتناسبُ و طبيعةَ تلك العوالم و مستوياتها الروحيَّة . الفرقُ بيننا و بين العوالم العُلويَّة التي يتحوَّل فيها الفكر إلى تجسُّدٍ فوريٍّ بلا عائق يرجعُ إلى شفافيَّة تلك العوالم ، و إلى السماح الروحيِّ لقاتنيها الأَبرار بمعرفة أَسرار القوانين الطبيعيَّة السائدة فيها، في حين أَنَّه علينا ، نحن معشر البشر المكوَّنين من لحمٍ و دم و مادَّةٍ كثيفة، أَن نستعين بعناصر الطبيعة المادِّيَّة و باستخدام ما نكتشفُه من قوانينها لتحويل أَفكارنا و رغباتنا إلى تجسُّداتٍ مادِّيَّة: إلى طيَّارات و صواريخ و آلات دمار و قصور و سواها...(75)

Return to the Top

 

هل للقوى الفكريَّة الروحيَّة وجودٌ منفصلٌ عن ارتباطاتها المادِّيَّة؟

هل للقوى الفكريَّة الروحيَّة وجودٌ منفصلٌ عن ارتباطاتها المادِّيَّة؟

 

إذا كانت القوى الفكريَّة الروحيَّة ( أَو السيالات) هي الحقائق الاَساسيَّة لجميع المظاهر المادِّيَّة في هذا الكون، فهل هذا يعني أَنَّ لتلك القوى وجوداً منفصلاً و مُستقلاًّ، من حيث الجوهر ، عن مظاهرها المادِّيَّة؟ نطرح هذا السؤال المهمَّ ردّاً على بعض الصادر العِلميَّة التي تقول إنَّ الوعي الفكريَّ يبدأُ بالعقل أَو الدماغ، و ينتهي فيه. هذا الموضوع ظهر أَخيراً على صفحات مجلَّة Time الاَميركيَّة ، في عددٍ خاصٍّ (شتاء 1997/ 1998) و سبق لي أَن قرأْتُ في المجلَّة نفسها قبل ثلاثة أَعوام ( العدد الصادر في 31 حزيران 1995) ما مَفادُه أَنَّ الدماغ هو أَساسُ الوعي و مصدره، و أَنَّه بموته يموتُ الوعي  و ينتهي كلُّ شيء.

هذا ما خلَصتْ إليه بعضُ المصادر الطبِّيَّة الباحثة في علمِ الأَعصاب Neurologiy هذه المصادر تنطلق في براهينها و حُجَجها من تقسيمها دماغَ الإنسان إلى مراكز ذات وظائف معيَّنة؛ فمركزٌ للذاكرة ، و ثانٍ للحسِّ ، و ثالث للرغبة الجنسيَّة، و هكذا... و كأَنَّ الإنسان هو الوحيد بين بلايين الكائنات الذي يتمتَّع بقوَّة التفكير الواعي الإراديِّ  Consciousness.

مثلُ هذه الادِّعاءات التي تستتبعُ نفيَ البعث بعد الموت و تنطوي ضمناً على جَحْدِ وجود الله، جلَّ جلالُه، تعارضُ في الحقيقة النتائج العِلميَّة الحديثة القائلة إنَّ الوعي الفكريَّ موجود في جميع الكائنات، و إنَّ الذكاء و الوعيَ غيرُ مشروطَين بوجود الدماغ؛ فثمَّة كائنات حيَّة كالأَشجار و النباتات و الجراثيم و الخلايا اهتدى العِلمُ فيها إلى ظواهر فكريَّة واعية مع أنَّه ليس لها أَدمغة.الدماغ هو أداةٌ تظهر من خلالها قوى الوعي و الإدراك عند بعض الكائنات كالإنسان و الحيوان، لكنَّه ليس الأَداة الوحيدة لذلك.

التعاليم الداهشيَّة و الرسالات السماويَّة تؤكِّدُ أَنَّ القوى الفكريَّة الروحيَّة ( السيَّالات) الأَساسيَّة لها كياناتٌ مستقلَّة عن تجسُّداتها الزمنيَّة، و أَنَّ التقمُّص هو استحقاقٌ عادل و فرصةُ تجربةٍ و رحمة في كلِّ دورٍ من أَدواره، و أَنَّ المظهرَ المادِّيَّ ( التقمُّص) يتغيَّر بتغيُّر نوعيَّات القوى الفكريَّة الروحيَّة المرتبطة به و مُستوياتها.

لنستمعْ إلى الدكتور داهش في إحدى قِطَعه المُلهَمة يشير إلى أَنَّ النفس الواعية لها كيانٌ مستقلٌّ عن تقمُّصاتها المادِّيَّة فيقول:" و فجأةً فجأةً، يا أَخي الحبيب، تَرانا وقد خلَعْنا جسَدَنا المادِّيَّ الغريب، و تسربلنا بالرداء الروحيِّ العجيب؛ و يا له من رداءٍ بهيٍّ حبيب!(76) وَ لْنَستَمعْ إلى رسالةٍ هبطَتْ من عوالم الروح بمناسبة انتقال( أَي موت) أَحدِ الداهشيِّين:" طوبَى لكلِّ داهشيٍّ ينتقل، و لم أَقلْ يموت، لأَنَّه لا يوجدُ موتٌ على الإطلاق، إنَّما هو انتقالٌ من حالٍ إلى  حال، و من حالة الجهالة إلى حالة المعرفة الروحيَّة الشاملة هذا إذا كان مستحقّا ًدرجة المعرفة(77)" . هذه الرسالة الروحيَّة تنفي نفياً قاطعاً وجودَ الموت أَو الفناء، و تؤكِّد أَنَّ الإنسان" ينتقل " من تقمُّصٍ إلى تقمُّصٍ وفقَ الاستحقاق الروحيِّ، ارتقاءً أَو تسفُّلاً.

وورد في القرآن الكريم:"يا أَيَّتُها النفسُ المطمئنَّة، ارجعي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضيَّة، فادخُلي في عبادي، و ادخُلي جنَّتي" ( الفجر: 27- 30) يخاطبُ الله، جلَّ جلالُه، في هذه الآية الكريمة النفسَ التي استطاعتْ أَن تُرقِّي قواها الفكريَّة الروحيَّة ( أَو سيَّالاتها)و تبلغَ بها درجةَ الطمأْنينة الروحيَّة العُلويَّة، فيدعوها إليهو إلى دخول الجنَّة، و ذلك بعد أَن نجحَتْ في التغلُّب على تجارب عوالمها المادِّيَّة في خلال تقمُّصاتها الكثيرة. وَ لْنَفطَنْ إلى قول الآية الكريمة:" ارجعي الى ربِّك" فإنَّ فيه إشارةً واضحة إلى أنَّ تلك النفس كانت، في السابق، تحيا في ملكوت الله، ثمَّ سقطَتْ إلى العوالم المادِّيَّة لتتَّخذُ لها مظاهرَ مادِّيَّة مختلفة حتَّى يتسنَّى لها الارتقاءُ و العودةُ إلى ملكوته و دخولُ جنَّته. و بكلمةٍ موجَزة: للنفس، أَو للقوى الفكريَّة الروحيَّة، وجودٌ أَزليٌّ سابقٌ على تجسُّداتها المادِّيَّة.

و ممَّا يُشير إلى أَنَّ المظهر المادِّيَّ أَو التقمُّص يتغيَّر بتغيُّر المُستويات الفكريَّة الروحيَّة المرتبطة بها الآيةُ الكريمة الآتية:" فلمَّا عَتَوا عن ما نُهُوا عنه قلنالهم: كونوا قِرَدةً خاسئين" ( الأَعراف: 166) فماذا تعني هذه الآية؟ إنَّها تقول إنَّ جماعةً  من الناس طرأَ على خصائصهم الفكريَّة الروحيَّة تغيُّرٌ نوعيٌّ سفلي من جرَّاء التجبُّر و التمرُّد و عصيان أَوامر الخالق فاستُبْدِلَتْ بها خصائصُ أُخرى استوجَبَتْ معاقَبَتَهم روحيّاً ، و تغييرَ شكلهم تغييراً موافقاً في الدرجة و الاستحقاق لقواهم الفكريَّة الروحيَّة السُّفليَّة الجديدة ، فكان أَن تقمَّصوا قِرَدَةً. و هذه الآية الكريمة تُفيدُ بأَنَّ للقِرَدة ، على العموم ، نوعيَّةً و خصائص فكريَّة روحيَّة مُشتَرَكة بينها يغلب عليها طابعُ الظُّلم و التكبُّر و الطغيان ( الدراسات العِلميَّة عن بعض أَنواعٍ من القرود تُثبت ذلك).

و لكن هل هذه الآية الكريمة تُفيد أَنَّ القرود أَدنى درجةً من البشر؟ يصعبُ الجوابُ القاطع في الأَمر، إذ ليس في الآية ما يوضِّح ذلك. مجملُ ما تعنيه أَنَّ فئةً من الناس بغتْ و تمرَّدَتْ، فطرأَ على قواها الفكريَّة أَو سيَّالاتها الروحيَّة تغيُّراً نوعيّاً سُفليّاً لم يكنْ لها من قبل، فمسخَها الله قِردة. و يمكنُنا القول، في هذا الضوء، إنَّه قد يكون هناك قِرَدةٌ أَعلى درجةً روحيَّة من بعض البشر الأَدنياء السافلين، بالرغم من اتِّصافهم بنزعات العصيان و التمرُّد و الظُّلم.

خلاصةُ القول إنَّ كافَّة مظاهر الحياة المادِّيَّة و شؤونها يصدقُ عليها ما ورد في رسالةٍ روحيَّة داهشيَّة مُنزَلَة:" و اعلمْ أَنَّ كلَّ شيءٍ هو باطلٌ و قبضُ الريح، و الحقيقة الخالدة هي الحقيقة الروحيَّة". كما يصحُّ فيها قولُ العالِم الفيزيائيِّ ورنر هايزنبرغ:" قوانين الحياة ليستْ في مظاهرها المادِّيَّة، بل هي موجودةٌ في أَصولها الروحيَّة ( أَي في أُصولها الفكريَّة الروحيَّة)".

Return to the Top

 

هل الوعي الفكري أَو قوى التمييز بين الخير و الشرِّ فطريَّة في النفس

هل الوعي الفكري أَو قوى التمييز بين الخير و الشرِّ فطريَّة في النفس أَم هي فطريَّة و مُكتَسبة في آنٍ واحد؟

قد يبدو أَنَّ الجواب عن هذا السؤال هو أَنَّ بعضَ قوى التمييز الفكريِّ الروحيِّ ينتقل عند حدوث الوفاة من تقمُّصٍ سابق إلى تقمُّص لاحق، و أَنَّ بعضَها الآخر يُكتَسَب في خلال دورة التقمُّص الجديدة؛ أَي إنَّ النفس تستبقي خصائصَها الفكريَّة الروحيَّة المستجدَّة بعد الوفاة، فتنقلها معها إلى الولادة الجديدة ، ثمَّ تزيد عليها خصائص فكريَّة نفسيَّة مُكتَسَبة من البيئة التي تنشأُ فيها.

هذه المفاهيم قد تكون مقبولةً عند اكثر الناس، و عند كثيرين من الداهشيين. و هي أيضاً مفاهيم تقرّها علوم النفس و تُدرس في المعاهدِ و الجامعاتِ باستثناءِ انَّ علومَ النفس (78) لا تتحدث عن شيءٍ اسمه التقمُّص، بل هي تقولُ إنَّ الإنسانَ يحملُ معه خصائصَ نفسيَّة بيولوجيَّة  DNA  تأْتيه بالوراثةِ عند الولادة، و من ثمَّ يُزاد عليها خصائصُ فكريَّة جديدة يكتسبُها الفرد من البيئة التي يعيش فيها.

و الحقيقة انَّ مَنْ يطَّلع على التعاليم الداهشيَّة بتعمُّقٍ و تروٍّ يستنتج انَّ قوى الوعي الروحيّ، أَي القدرة على التمييز بين الخير و الشرِّ في الكائنات، لا يمكن اكتسابُها من البيئة ، بل هي متأَصِّلةٌ في النفس؛ و انَّها انبثَقَتْ مع النفس منذ انبثاق هذا الكون الماديِّ الشاسع المترامي الأَطراف الذي كوَّنه الله تعالى بإرادته السرمديَّة الحكيمة. فلا يمكن لقوى المعرفة الروحيَّة انْ تكون فطريَّة و مُكتسَبةً في الآن نفسه. جُلُّ ما في الأَمر هو انَّ هذه القوى او السيَّالات الروحيَّة هي في حالةٍ من الصراعِ الدائم بينَ السُّموُّ و التسفُّل الروحيين؛ و إنَّ سموُّها أَو تسفُّلها هو الذي يقرّر حالات وعيها. كلَّما تسفَّلت النفسُ ضعفَتْ فيها قوى الوعي و التمييز الروحيّ ، و ازداد فيها الشرُّ. و كلَّما ارتقَتْ و سَمَتْ روحيَّاً، رفعَتْ عن نفسها ستائر الجهل و الظلام، فشعَّتْ فيها صفاتُ الخير، و استضاءَتْ من داخلِها بأَنوار المعرفة الروحيَّة، بأَنوارِ التمييز الفكريّ الروحيّ.

فلو لمْ يكنْ ذلك كذلك، لتعذَّر إِثباتُ الحقيقة القائلة إنَّ الإنسانَ حينما يسمو بأَفكارِه تتكشَّف له الحقيقة الروحيَّة أكثر فأكثر بقدر استحقاقها و درجة رقيِّه الروحيّ، و ذلك من تلقاءِ نفسه من غير ان تأتيه هذه المعارف  من خارج. و إذا لم تكنْ سيَّالات المعرفة الروحيَّة فطريَّة، لتعذَّر القول إنَّ كلَّ ما في الكونِ من كائناتٍ تشمله الرحمةُ الإلهيَّة العميمة، فتمنحَهُ سيَّالاتِ التمييز بين الخير و الشرِّ وفقاً لتجارب عوالمها. حتى الذبابة، و هي من أَقلِ الكائنات قدراُ، و الحجارة، و هي من اكثر الكائنات صلفَاً و جموداً، تشملها مراحم الله اللامحدودة، و تمنحها القدرة على الصعود أو الهبوط في سُلَّم الارتقاء الروحيّ الذي هو غايةُ كلِّ مخلوقٍ ، مهما طالَ عليه الزمن أو قصر.

خُلاصة القول انَّ المعارفَ الروحيَّة – و هي من أَبرز الدلالات على السُّمو الفكريّ و الرقيّ الروحيّ- لا تتأتَّى من التجاربِ و العلومِ او منَ الكُتُبِ و الدراسةِ و البحث، و لا هي تُكتسَبُ من البيئة، بل تُعطى، و بمقدار، لمنْ استحقَّها عن جدارةٍ روحية. و هي تتأتَّى من خلالِ السُّمو الفكريّ و الرقيّ الروحيّ. و هذا ما يحملُنا على القول، في ضوءِ التعاليم الداهشيَّة ، إنَّ قوى التمييز الفكريّ الروحيّ، بالرغمِ من تقلُّبِ مستواها الروحيّ سموَّاً و انحطاطاً، تظلُّ مُلتصقةً بجوهرِ النفسِ الأَساسية فهي معها منذ البداية ، و ستبقى ملتصقةً بها في الحاضرِ و في المستقبلِ و في جميع تقمُّصاتها و امتداداتها النفسيَّة الماديَّة هنا و هناك، مع ما ينجُم عن ذلك من تسامٍ وتسفيلٍ روحيين، و من إشراقٍ و عماءٍ فكريين ريثما تسمو هذه السيَّالات سموَّاً عظيماً، فتتحرَّر تماماً من آلام تقمُّصاتها الماديَّة، و تعاودُ الاندماجَ في عوالمِ الرُّوح التي انبثقَتْ عنها، عوالمِ البهاء و السعادة و النور، و من ثمَّ تعود إلى ملكوتِ الله، جُلَّتْ قدرته و عمَّتْ مراحمُه ، كما يقول القرآن الكريم:" يا أيَّتها النفس المطمئنَّة، ارجعي إلى ربِّك راضيةً مَرضيِّة" ( الفجر: 27-28).

Return to the Top

 

ملحق توضيحي على حقيقة السيَّالات في العقيدة الداهشيَّة

ملحق توضيحي على حقيقة السيَّالات

في العقيدة الداهشيَّة

 

تختلفُ الرسالة الداهشيَّة عن سواها من الرسالاتِ السماويَّة بأنَّها جعلَتْ من السيَّالات، و ما تتَّصفُ به من قوىً فكريَّة و نفسيَّة، و ما ينشأُ عنها من موجداتٍ و امورٍ و احداثٍ - جعلَتْ منها حجرَ الزاوية أو الأَساس لفهم تعاليمها الروحيَّة.

و الحقيقةُ انَّ المرءَ لا يستطيع انْ يتفهَّم العقيدة الداهشيَّة تفهُّماً ناضجاً و يُقدِّر ما جاءَت به من تعاليم روحيَّة عميقة وثيقةِ الاتِّصال بعضها ببعض إلاَّ بعد انْ يتفهَّم، و لو على نحوٍ عام، شيئاً من حقيقة السيَّالات الروحيَّة، مُرتكزِ الداهشيَّة في تعاليمِها؛ ذلك انه ما منْ مبدأٍ من مبادئ هذه الرسالة إلاّ و هو مرتبطٌ بالسيَّالات الروحيَّة ، سواءٌ بصورةٍ مباشرةٍ او غير مباشرة.

و لا يسعُني اول بدء، إلا  الاعتراف بأنَّ محاولةَ التعرُّف على حقيقة السيَّالات استولَتْ على اهتماماتي منذُ اعتناقي للعقيدة الداهشيَّة و أَذكُر انَّني ، في إحدى رحلاتي مع الدكتور داهش إلى بعضِ بلدان الشرق الأوسط، أَثرتُ امامه موضوع السيَّالات ، و أشرتُ إلى أنَّني ما أَزالُ أُعاني من صعوبةٍ قصوى في فهم السيَّالات، و أنَّ جوانبَ كثيرةً منها غير واضحة ، و لا تخلو من التناقض، و ذلك بالرغم من محاولتي المتعدِّدة المستمرَّة لاستيعابها او تفهُّمها. فكان جوابه ألاَّ أَشغل نفسي كثيراً بفهم حقيقة السيَّالات لأنَّني لنْ أستطيع ذلك و إنْ شرحَها هو لي. ثم تابعَ يقول: " سيأتي الوقتُ الذي تتضحُ لكَ فيها امورٌ كثيرةٌ عن حقيقة السيَّالات، فتتبيَّنها من تلقاءِ نفسِك من غيرِ أنْ يشرحَها لك احد؛ هذا إذاكنتَ تستحقُّ ذلك بإيصالك سيَّالاتك إلى  الدرجةِ التي تُمكّنك من المعرفة." و أردفَ قائلاً:" يكفيكَ الآن أنْ تُدركَ انَّكَ عندما تعملُ على تحسينِ ميولِك و رغباتِك و أفكارِك و اعمالِك ، فتجعلها بعيدةً عن الذنوب و المعاصي، تعملُ، في الوقتِ نفسه، على تحسين سيَّالاتك".

كان هذا التوضيحُ الذي سمعتُه من الدكتور داهش، منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، كافياً لكي أُدركَ أنَّ تفهُّم السيَّالات، في حقيقتِها العميقة، هو من الامور التي تتطلَّبُ نُضْجاً نفسيَّاً و فكريَّاَ، و انَّني لم أكنْ ، آنذاك، مؤهلاً لاستيعابها. كان علي الاكتفاءُ بفهمٍ محدودٍ للسيَّالات لا يتعدَّى كونها مرتبطةً بالميولِ و الرغباتِ و الأعمالِ و الأفكار.

و في أَثناءِ تأليفي لكتاب " الدكتور داهش و ولادتي الثانية" ، باللغة الإنكليزية، في أواخرِ الثمانينات من القرنِ المنصرم، اضْطُررت لأَنْ أُقدِّم للقارئ شرحاً مُبسَّطاً و مقبولاً عن المبادئ الداهشيَّة، ووجدتُ نفسي مُنغمساً , مرةً أخرى، في محاولةٍ جديدة للتعرُّف على حقيقةِ السيَّالات العميقة. الأَمرُ الذي دفعني إلى أَنْ أقرأَ كلِّ ما توافر لديَّ من كُتُبٍ و مراجعٍ داهشيَّة قراءةً دقيقة تُركِّزُ على مفهومِ السيَّالات. كما استعنْتُ بالكُتُبِ المقدَّسة، و بخاصةٍ القرآنُ الكريم و الكتابُ المقدَّس بعهديه القديم و الجديد، فضلاً عن كثيرٍ من كُتُبِ العلوم الفيزيائية الحديثة توصُّلاً إلى فهمٍ أَعمقَ لحقائق الطبيعة و الحياة.

هذه المراجعَة الدقيقة المستمرَّة للمؤلَّفات الداهشيَّة و الكُتُب الدينيَّة و العلميَّة مكَّنتني من استخلاصِ تصورٍ أَفضل لمفهوم السيَّالات، و جعلتني أَصل إلى قناعاتٍ عنها أُؤمنُ بها إِيماني بالله تعالى. و بالرغمِ من ذلك، فلا بدَّ لي من الإقرارِ بأنَّه لم يكنْ في المستطاعِ الوصول إلى تلكَ القناعاتِ من غير الأخذ ببعض المسلَّماتِ الداهشيَّة الروحيَّة التي سمحَتْ العناية الإلهيَّة بتوضيحِها في هذا العصر ، و منها أنَّ الغاية من الوجودِ السموُّ الروحيُّ بالنفس ، و أنَّ جميعَ ما في الطبيعة من أشياء باطل، و متغيّر و انَّ الوعيَ النفسيّ موجودٌ في الاشياءِ وجوداً ذاتيَّاً . و من تلكَ المُسلَّمات ما جاءَتْ به الداهشيَّة من مفهومٍ للتقمُّص يتخلَّف عما هو عليه في الرسالات المُنزلَة السابقة ، و خُلاصته ان التقمُّص يشملُ جميع الكائنات حتى الجماد نفسه.

بالإضافةِ إلى ذلك كلِّه، كان عليَّ أَنْ اطرحَ على نفسي التساؤلات الآتية: ما هي السيَّالات؟ لماذا سُمِّيَتْ كذلك؟ إلى مَ تشير التعاليم الداهشيَّة عندما تتحدَّث عنها؟ كيف نستدلُّ عليها و على بعضِ صفاتِها و خصائصِها و انواعِها؟ و كيف نستطيع تحسينها؟ هذه الأسئلة كانت – ما تزال- غايةً في الأهميَّة من أجلِ الوصول إلى فهمٍ أَشمل و أَعمق للتعاليم الداهشيَّة.

إلا أنَّ ما توصلّْتُ إليه من استنتاجاتٍ في موضوعِ السيَّالات لا يعدو كونه قناعاتٍ شخصيِّة لا أُلْزِمُ احداً بها. و عندي أنَّه عندما تتحدَّث الداهشيَّة عن السيَّالات فتقولُ أنَّها الأَصل و الأَساس لكلِّ ما في الطبيعة من أمورٍ و احداثٍ إنَّما تشيرُ،  في الحقيقة على القوى الفكريَّة و النفسيَّة المختلفة التي تعملُ في الموجودات . لا شيء ممَّا يحدثُ على الأَرضِ او في الطبيعة ، من كونٍ و فساداً و حياةٍ وما جريات ، إلاَّ و هو مرتبطٌ بالقوى الفكريَّة و النفسيَّة التي أوجدتهُ او سبَّبت حدوثه ( أي السيَّالات ) .

على السيَّالات الروحيَّة وما تمثلهُ من قوىً فكريَّة و نفسيَّة متقلِّبة و ما تأخذه من خصائصٍ و صفاتٍ مختلفة، تدورُ جميع الشروح المستَنِدة إلى مبادئِ العقيدة الداهشيَّة . و كما قلتُ سابقاً : بدون فهم بعض الحقائق المهمَّة عن السيَّالات، مثل التمييز بين أنواعها و رصدِ حركاتها سواءٌ على الصعيدِ الفكريّ و النفسيّ أم على الصعيد الماديّ ام على صعيدِ ما يجري تحت تأثيرها من أحداثٍ و وقائع – أَقول: بدونِ فهم هذه الحقائق ، و لو فهماً نسبيِّاً ، يظلُّ الحديث عن المبادئ الداهشيَّة معقَّداً و صعبُ الفهم و القَبُول: و الواقع أنَّ هناكَ حقائق و مسلَّماتٍ داهشيَّة ذكرناها في مواضعِ متفرِّقة من هذا الكتاب لا نرى بأساً في الإشارةِ إليها ثانية كيما نصلُ إلى تفهُّمٍ أَنضج للتعاليم الداهشيَّة.

إن السيَّالات الروحيَّة هي ، في حقيقتها الجوهريَّة الأساسيَّة، ليسَتْ سوى قوىً روحيَّةٍ فكريَّةٍ و نفسيَّةٍ حيَّةٍ مُدرِكة و مسؤُولة. و إذا كان في استطاعتِنا التعرُّف على بعضِ حقائقها المحسوسة او غير المحسوسة، فإن ثمة حقائقَ روحيَّة عنها تندرجُ ضمنَ الأَسرار الروحيَّة المحجُوبة عن مداركِ البشر.

السيَّالات التي تعمل في الطبيعة و التي يُمكن فصلها و التعرُّف عليها تأتي في ثلاثةِ انواعٍ مختلفة:

اولاً، السيَّالات الفكريَّة أو سيَّالات الوعيّ الفكريّ في الكائنات ، و هي التي يستطيعُ بواسطتها الكائنُ انْ يُميّز بين الخير و الشرِّ، و الصحيحُ و الخاطئُ و المفيدُ و الضار من الأَفعالِ و الأشياء. هذه السيَّالات هي التي تتقمَّص ، في المعنى المُتعَارف عليه للتقمُّص( أي إنَّها تتّْخذ شكلاً و كياناً ماديَّاً و نفسيَّاً تاماً و مستقلاً يتحمَّلُ وحده المسؤوليَّة الروحيَّة ، بمعزلٍ عن سواه ) . و هذه هي السيَّالات الأَساسيَّة المُلتصِقَة، منذُ الأَزل إلى الأبد، بجوهرِ الكائن الروحيِّ. و هي التي تقرّر صعودَ درجة الكائن الروحيَّة او هبوطَها: ذلك أنَّه عندما تتقمُّص هذه السيَّالات فتتَّخذُ مظهراً ماديَّاً تستحقُّه، ترتبطُ بسيَّالاتٍ إضافيةٍ آنية متعلِّقةٍ بنوعيَّة الجسَدْ التي تحلُّ فيه و طبيعتِه و متطلِّباته، بحيثُ يصبحُ هذا الجَسَدُ، بالنسبة إليها، وعاءً و آلةً للتجربة. فإن استطاعَتْ أَنْ تكبحَ جماحَه ، فتَحِدَّ من رغباتِه و شهواتِه و نزواتِه السفليَّة، و تختارَ العدلَ عِوَضاً عن الظلمَ و الوفاءَ عِوضاً عن الغدر و المحبَّة عِوضاً عن البُغض و الصدقَ عِوضاً عن الكذب و الطهارة عِوضاً عن الفُسق، و قسْ على ذلك ، تكونُ قد انتصرَتْ في صراعِها مع قوة الشرِّ، و علَّتْ درجتها الروحيَّة النوعية و العكس بالعكس. عندئذ تغادرُ السيَّالات الفكريَّة او بعضٌ منها ، الجَسَدَ الذي كانت تحلُّ فيه لتتَّخذ لها جَسَداً آخر و تبدأُ دورة حياةٍ جديدة تستحقُّها، فتبلو تجاربَ مرتبطةً بنوعيَّة تجسُّدها الجديد و متطلِّباته ، فضلاً عن طبيعة العالَم الذي تقمَّصَتْ فيه و ما فيه من معاييرَ للخير والشرّ.

ثانياً ، السيَّالات المرتبطة بطبيعة التقمُّص و نوعيَّته ( وَ لْنُسمِّها : السيَّالات النوعيَّة) . الأَفاعي ، مثلاً ، تختلف سيَّالاتها النوعيَّة المُتجلِّية في وجود السمِّ عند بعضها و الزحف على البطن و القدرة على التمييز بين مَن و ما يجب أَن تؤذيه و مَن  وما يجب أَلاَّ تؤذيه أقول : تختلف سيَّلاتها النوعيَّة عن السيَّلات النوعيَّة التي للأَشجار و الطيور و سواها من الكائنات. كلُّ نوعٍ من الكائنات يشتركُ أَفرادُه في الشكل و الهيئة و الأَعضاء و الإحساس و مُقتضَيات الحياة. سيَّال الشمِّ عند الكلب يختلف عنه عند الإنسان. أَمَّا سيَّالُ المال ، و إِنْ لم يكنْ سيَّالاً تكوينيّاً في الإنسان، فهو من مُقتضيات حياته المعيشيَّة، يدخلُ في التركيبة النفسيَّة للإنسان المعاصر، لكنَّه لا يعني الكلبَ شيئاً على الإطلاق.

هذه السيَّالات النوعيَّة تدخل في طبيعة الكائن الفيزيائيَّة و تُعطيه صفاتِه الشكليَّة و الحسِّيَّة المميَّزة التي خصَّ لها الله تعالى نوعَه.و ليس في كتابات مؤسِّس العقيدة الداهشيَّة ما يُشير إلى أَنَّها، عندما يقعُ الموت و يبدأُ الجسد بالتحلُّل و الزوال، تتقمَّص، في المعنى المتعارَف عليه للتقمُّص( أَي تتَّخذ نوعاً و كياناً مستقلاًّ)، بل تزول بزوال الجسد ، و تستحيل إلى طاقةٍ روحيَّة ، عاقلةٍ أَيضاً ، ُثمَّ تظهرُ كسيَّالات روحيَّة لها الخصائص نفسها ( الصوت يظهر كصوت، و الذئب كذئب) في كائناتٍ أُخرى تكون ، في الغالب، من الدرجة و النوع نفسهما.

ثالثاً ، سيَّالاتُ البيئة؛ و هي سيَّالاتٌ متعلِّقة بعوامل البيئة و ما تولِّدُه من أَنماط عَيْشٍ و عادات و تقاليد و أَعراف و مُتطلِّباتٍ حياتيَّة و اجتماعيَّة خاصَّة بالبيئة التي يعيش فيها الكائن و يعمل .

عندما تمتزجُ السيَّالات الأَساسيَّة بالسيَّالات النوعيَّة في كلِّ دورةٍ من دورات التقمُّص، يتَّخذ الكائن هويَّته أَو سِجله النفسيَّ المادِّيَّ الزمنيَّ المؤقَّت، و يكتسب الصفات العامَّة التي يشترك فيها نوعُه، بالإضافة إلى الخصائص النفسيَّة و الروحيَّة التي تميَّزُه عن غيره من أَفراد نوعه.

إنَّ عوامل البيئة أَو سيَّالات البيئة هي عواملُ مهمَّة تدخل في التركيبات  النفسيَّة، و تؤثِّر فيها تأثيراً ملحوظاً ، سواءٌ أَكان ذلك في طريقة التفكير أَم المعاملة أَم الأَعراف الاجتماعيَّة أَم أَولويَّات الاهتمامات المعيشيَّة أَم غير ذلك ؛  فتجعل، مثلاً، من الأَميركيِّ الذي يعمل و يعيش في المجتمع الأَمريكيِّ شخصاً ذا تركيبةٍ نفسيَّة وتنسجمُ مع تركيبة أَبناء بجدته. و ما يُقال عن الأَميركيِّ يُقال ، أَيضاً ، عن الأَلمانيِّ أَو الهنديِّ أَو العربيِّ...ذلك لأَنَّ ثمَّة سيَّالاتٍ بيئيَّة مشتركة تجمع كلاًّ منهم مع أَبناء مجتمعه. و عندما تأْتلف سيَّالاتُ البيئة مع السيَّالات الفكريَّة( الأَساسيَّة) فضلاً عن السيَّالات المرتبطة بنوعيَّة التقمُّص و طبيعته – عندما يأْتلفُ ذلك كلُّه ، بعضُه مع بعض في الكائنات جميعها، يكتسبُ كلُّ كائنٍ تركيبته النفسيَّة المميَّزة .

                *              *              *

التركيبات النفسيَّة المختلفة التي للانسان هي التي تقرِّر رُقيَّ الحضارات و العلوم و الفنون

، كما تقرِّر وجودَ القوانين و التشريعات العادلة الضامنة لحقوق الناس في مجتمعٍ ما؛ و هي التي تُسبِّبُ الجهلَ و التخلُّفَ و الفسادَ و الاستبدادَ في مجتمعٍ آخر.

التركيبة النفسيَّة السُّفليَّة عند انسانٍ هي التي تجعلُه يقترف المعاصي و الذنوب ، و يستبيح لنفسه ارتكاب الشرور . و التركيبة النفسيَّة العُلويَّة عند إنسانٍ آخر هي التي تجعلُه يعمل عكسَ ذلك.

التركيبات النفسيَّة الرديئة غير السامية في الناس تسبِّبُ لهم أَيضاً المجاعات و الأَوبئة و الأَمراض الماحقة و القحط و الجفاف و غيرَها من كوارث الطبيعة. ذلك أَنَّ العناصرَ المختلفة التي تعمل في الطبيعة كالفيضانات و الأَعاصير و الحرائق والبراكين و الهزَّات الأَرضيَّة إنَّما هي ، بحسب التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة ، سيَّالاتٌ  أَو كائناتٌ مُدركة عاقلة أَخَذتْ أَشكالَها و صفاتِها و علَّة وجودِها لتعمل في الطبيعة بموجب حكمةٍ إلهيَّة؛ و هي تأْتمر بأَمر خالقها، جلَّتْ قدرتُه، فتسبِّبُ ما تُسبِّبُه من كوارث و أَحداثٍ مُقيَّدَةً بسببيَّةٍ روحيَّةٍ دقيقة و عدالةٍ إلهيَّةٍ صارمة.

                *              *              *

مَن يتعرَّفْ على حقائق السيَّالات و يستخلص المفاهيمَ الروحيَّة الداهشيَّة منها، يجدْ أَنَّ المبادئَ الداهشيَّة المختلفة هي مبادئُ مترابطة ، بعضُها ببعض، ترابُطاً منطقيّاً سهلاً . و مِن أَجل توضيح حقيقةِ ترابُط المبادئ الداهشيَّة بعضِها ببعض، سأَتكلَّمُ على حالة واحدة من حالات قانون التقمُّص الذي هو من أَهمِّ المبادئ الداهشيَّة.

التقمُّص، في العقيدة الداهشيَّة، يشملُ جميعَ الكائنات حتَّى الجماد. و الإيمانُ بأَنَّ التقمُّص يشملُ الجمادَ أَيضاً أَمرٌ تؤكِّدُه تأْكيداً قاطعاً كتاباتُ مؤسِّس العقيدة الداهشيَّة، و به تتفرَّد التعاليمُ الداهشيَّة تفرُّداً واضحاً عن سائر العقائد القائلة بالتقمُّص.

لنفترِضْ، جدَلاً، أَنَّ إنساناً تقمَّص حشرةً ما، فماذا يمكنُنا أَن نستنتج من ذلك في ضوء التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة؟

قبلَ الإجابة عن هذا السؤال، لا بدَّ لنا من التوضيح الآتي: قد ينطلقُ من الإنسان سيَّالٌ  أَساسيٌّ أَو أَكثر من غير أَن تحدثَ له الوفاة . ذلك أَنَّ عمليَّة الوفاة( أَعني فقدانَ الوعي النفسيِّ فقداناً نهائيّاً) لا تحصل إلاَّ بعد أَن ينطلقَ من الإنسان آخرُ سيَّال أَساسيّ فيه . و عليه . فنحن عندما نقول إنَّ إنساناً تقمَّص حشرةً ، نقصد بذلك السيَّال أَو السيَّالات التي انفصلَتْ عنه و اتَّخَذَتْ لها جسمَ حشرة ، و لا نعني بالضرورة أَنَّه بكاملِ كيانه النفسيِّ و الروحيِّ قد تقمَّص حشرة.

و الآن لِنُجِبْ عن السؤال: ماذا نستنتج من افتراضنا أَنَّ إنساناً تقمَّص حشرة ؟ أَوَّلاً ، إنَّ السيَّال أَو السيَّالات الفكريَّة التي انطلقتْ من هذا الإنسان قد طرأَ عليها تحوُّلٌ روحيٌّ سُفليٌّ نوعيٌّ، فإذا به يستحيل إلى حشرة (79) . و الجديرُ قولُه ، هنا ، إنَّ هذا التحوُّل يجرُّه الإنسان على نفسه بملء إرادته واختياره , من جرَّاء إرتكابه للمعاصي والشرور .

ثانياً , تقمُّص الإنسان حشرةً , حصلَ بِفعْل سببيَّةٍ روحيَّةٍ مرتبطةٍ إرتباطاً وثيقاً بقوانين العدالة الإلهيَّة والثواب والعقاب التي وضعها اللّه تعالى لمحاسبةِ خلائقه بالنسبة لأَفكارها وأَعمالها .

ثالثاً , تقمُّص الإنسان حشرةً هو إنعكاسٌ مادِّيٌّ زمنيٌّ لمُستوى ونوعيَّة السيَّال أَو السيَّالات التي إتَّخَذَتْ لها جسمَ حشرة . فإذا تغيَّر مستواها تغيُّراً نوعيّاً , فَقَدَتْ الحشرةُ مُبرِّرَ وجودها ؛ الأَمر الذي يُفيدُ أَنَّ الحشرة كائنٌ ذو حالةٍ مادِّيَّةْ ونفسيَّةٍ مؤقَّتَةٍ, لا وجودَ حقيقيّاً لها بمعزلٍ عن السيَّالات التي أَوجدَتْها .

رابعاً , السيَّالاتُ الفكريَّة التي إنتقلَتْ الى الحشرة كان في إمكانها أَن تتقمَّص حجراً لو تسفَّلَتْ تسفُّلاً نوعيّاً يجعلُها في مصافِّ الحجر أَو درجته أَو مستواه الروحيّ . وهذا يعني أَنَّ قوى الوعي الفكريِّ الروحيِّ تنتقل بين جميع الكائنات , بما فيها الجماد , وأَنَّها موجودةٌ وجوداً ذاتيّاً في جميع الأَشياء .

خامساً , قبل أَن يتقمَّص السيَّال أَو السيَّالات الفكريَّة جسم حشرةً , كان لها , وهي في الصورة الإنسانيَّة, وعيٌ بشريٌّ ضمنَ البيئةَ والعالَم الذين يعيشُ فيهما الإنسان . فلمَّا تقمَّصَ حشرةً , تغيَّرَتْ قوى الوعي النفسيِّ , وأَصبحَتْ مرتبطةً بطبيعة الحشرة , وبعالَمها الذي تعيش فيه . وهذا يعني أَنَّ التركيباتِ النفسيَّة للكائنات تدخلُ فيها أَنواعٌ مختلفة من السيَّالات , كالسيَّالات النوعيَّة والبيئيَّة , التي تُعطي كلَّ كائنٍ وعيَه النفسيِّ consciousness  الخاص به دون سواه .

سادساً , عندما يطرأُ تغيُّرٌ نوعيٌّ على آخر سيَّالٍ فكريّ موجودٍ في كائنٍ ما , يغادرُ هذا السيَّالُ الجسدُ الذي هو فيه , محدِثاً الموت ومُسبّباً له الفساد . ولكنْ قد يغادرُ جسدَ الكائن سيَّال نوعيٌّ واحد أو عدّة سيّالاتٍ نوعيّة , كسيَّالِ السمعِ أو البصرِ أو الشمِّ أو حتى الحركة , ومع ذلك فلا يفقدُ هذا الكائنُ الحياة والوعيّ النفسيّ . الأَمر الذي يفيدُ أنَّ حالةَ الوفاة " أي فقدانُ الوعيّ فقداناً تامّاً " لا تحصلُ فعلاً إلاَّ بعد إنطلاق جميع السيَّالات الأَساسيّة " الفكريّة " من الكائن .

سابعاً , إذا لم يكن السيّال أو السيّالات الأساسيّة التي غادرت جَسَد الإِنسان إتّخذتْ شكلَ حشرة , آخرَ سيّالاته الأَساسيّة , إحتفظَ هذا الإنسانُ بماهيّتِه الإنسانيَّة أو  نوعه , وذلك بفضلِ ما تبقّى فيه من سيَّالات أَساسيّة تُبقيه حيّاً . وعليه , فإنّ للإنسان , بحسب التعاليم الداهشيّة , إمتدادات سيّاليّة مختلفة الأَنواع والدرجات الروحيَّة , مُوزَّعة في كائناتٍ وعوالمٍ متعدّدة مختلفة .

ثامناً , لنفترض إنَّ الإنسان , الذي غادره السيّال السفليّ وأنتقل الى حشرة , بقي حيّاً واعياً في الصورة البشريّة , فإنَّ ما يحصل هو أنَّ هذا السيَّال السفليّ يتَّخذُ كياناً مستقلاًّ عن الإنسان الذي إنفصل عنه , ويكتسبُ خصائصَ فكريّة ونفسيّة متآلفة ومُرتبطة بنوعيّةِ الحشرة وتجاربِ عالمها . وفي هذه الحال , تتحمّل الحشرة بالدرجة الأولى مسؤوليّة ترقية درجتها الروحيّة بالرغمِ من وجودِ ترابط سيّاليّ روحيّ يجمعُها بالإنسانِ الذي إنفصلت عنه تماماً كما يحدث مع الإبن بتحمُّله المسؤوليّة الروحيّة عن نفسه عندما ينفصل سيّاليّاً عن والده أو والدته بالرغمِ من وجود الترابط السيّاليّ بينه وبين أحد والديّه .

هذه بعضُ الأَضواء على مفهومِ السيّالات في العقيدة الداهشيَّة أُقدّمها للقارىء ليَسْهُل عليه فهمها . ولكنَّه لا بُدَّ لي , قبل الختام , من تكرار القول إنّني لا أُلزِمُ أحداً بما أَحمله عن السيّالات من تصوّرات وقناعات . وهي , في أيّ حال  , لا تشملُ إلاَّ قسماً ضئيلاً من حقيقة السيَّالات التي هي حقائق الحياة . وإذا كان لي أن أُلخِّص هذه التصوّرات والقناعات في فقرةٍ واحدة , قلتُ :

إنَّ جوهرَ جميع الأشياء في الطبيعة هو جوهر فكريٌّ روحيٌّ سيّاليّ درّاك , أَوجده اللّه , وكوَّنَ منه , ومن مُجْمَلِ تفاعلاته وتحرّكاته , جميع ما نشاهدُه على مسرحِ الحياة من موجوداتٍ وأَحداث . هذا الجوهر الفكريّ هبطَ بعضه من عوالمِ الرُّوح بسببِ ذنوبٍ إقترفها , وتجسَّدَ على ألأَرض وفي عوالَمٍ ماديّةٍ أُخرى ؛ وبعضه الآخر كوَّنه تعالى بأَمره حين خلقَ الطبيعة والكائنات وقال لها : كوني , فكانت . ومن الوعيّ الفكريّ الروحيّ ونوعيّاته ودرجاته الروحيّة المُختلفة , تكثَّفَتْ الطبيعة وتجسَّدَت الأَشياء , وتنوَّعَتْ الكائنات والأَحداث . ومن إمتزاجِ الوعيّ الفكريّ بالعناصرِ والماديّات , نشأَتْ الخصائص والصِّفات الماديّة والتركيبات النفسيّة في الأشياء . وسنَّ اللّه تعالى , لكلِّ مظهرٍ من بلايين المظاهر الماديّة المتنوّعة والمُتغيّرة التي تأخذها قوى الوعيّ الفكريّ في سموّها وإنحطاطها الروحيَّين , الأَنظمة الدقيقة الشاملة والكاملة والعادلة . كما جعلَ تعالى , من هذه الأنظمة الروحيّة الوسيلة أو الطريق التي من شأنِها النهوض بكلِّ كائنٍ الى مراتبِ الرقيّ الروحيّ , ومن ثمَّ تحريره من قيودِ وعذابات تقمُّصاته الماديّة المُملَّة الذريّة , من أجلِ العودة به , في آخرِ المطاف , الى عوالمِ السعادة والنور , الى ملكوتِ اللّه وعوالم الرُّوح .

Return to the Top