
في الزريبة مع الحمير
وجعلت أصغي لحوادث الحمير الطريفة يقصّها جديدهم لعتيقهم ليعود القدماء منهم فيسردون ما وقع لهم .
وهكذا كانوا يقطعون ساعات الليل في استعراض أمسهم الغابر ويومهم الدابر .
فقال الحمار الذي أقطن في جوفه لزميله وهو يقضم الحشيش ويزدرد التبن :
- كيف كان يومك ؟
فأجابه الحمار الآخر – ويظهر أنه كان هزيلاً للدرجة القصوى ومريضاً وهذا ما استنتجته بالنسبة لخفوت صوته وبحّة غير موسيقيّة ممتزجة في أوتار حنجرته مما يدع الآذان تتأذى من وقع صوته المنكر – قال :
- لقد كان يومي أسوأ منه بالأمس . فإن مالكنا الظالم (جسب) لم تأخذه بي رأفة وأنا المريض منذ شهر . ومع أن واجبه يقضي عليه بإطعامي بعض الشعير فإنّه لم يفعل بل استمرّ على تقديم الحشيش التافه الثمن مع مقدار ضئيل من التبن كان يضعه أمامي كلّ ثلاثة أيّام .
فأجابه الحمار الذهبي البطن :
- خفّف عنك قليلاً يا صديقي فإنّ أمرك أصلح مني أنا الذي أتحيّن الفرص لالتقاط أخسّ نفايات الشوارع كي أملأ بطني الخاوي . وإلاّ لكان يقضى عليّ من الجوع .
وارتفع صوت حمار ثالث فقال :
- أمّا أنا فقد استأجرني منذ عام أحد المزارعين كي أنقل له عشرة أحمال من الكرنب . وساقني إلى مزرعته . وإذا بالمئات منها ملقاة تنتظر نقلها إلى السوق . فلم أستطع التغلّب على شهوة القضم والبلع من هذا الطعام الشهي ... وما كدت أدخل (كرنبة) بين شدقيّ المتلهفين لاحتضانها بشوق وعجنها بين أضراسي حتى فوجئت بضرب أليم جدّاً أنساني لذّة طعمها السكّري الشهي .
واستمرّ هذا المزارع الوحشي القلب يهوي بعصاه الصلبة الغليظة على أم رأسي وظهري ورجلي وجنبي حتى خلت أن عظامي قد دقّت دقّاً واستحالت إلى عجين ليّن . وأصبت بكسر خطير في ترقوتي . وعطبت أربعة من ضلوعي . واستحال طعم (الكرنبة) التي حشوتها في فمي إلى الصاب المرير والعلقم المثير ...
فاهتجت وطار صوابي . ولهول ألمي اندفعت إلى ذلك الشرير أقضم ذراعه ، وأنهش بأضراسي رأسه ، ثم عجنته ورفسته وأطلقت ساقيّ للريح وعدت إلى زريبتي بعد أن غادرت جلادي يعالج سكرات الموت .
وبهذا أعطيته درساً لا ولن ينساه بوجوب التقيّد بآداب الحمير . وأكمل هذا الحمار الذكي روايته قائلاً :
- عندما شاهدني صاحبي (جسب) عائداً بمفردي تولاه العجب فإنطلق إلى المزارع ليستطلع الخبر . وإذا بمناحة . وأستقبله سكّان المزرعة بعصيهم الغليظة وهراواتهم المدببة الرؤوس . ولو لم يصادف مرور أحد الشرطة لكان قضي عليه . فحمل إلى المستشفى بين حي وميت . ولم يغادر المستشفى قبل أربعة شهور قضاها يتقلّب على فراش الألم المستمرّ وخرج في نهايتها بعاهة لم تنجع فيها حيلة الأطبّاء إذ حضر بعين واحدة . لهذا ترونه يا رفاقي الأعزّاء يرمقني بها شزراً عندما يزور الزريبة .
وسمع صوت حمار فتي منتظم النبرات وهو يقول :
- ليتك تخطف (كرنبة) ثانية علّه يفقد عينه الثانية .
وأكمل مداعباً :
- أم ربما يغادر هذه الفانية فيريح ويستريح .
ويظهر أن هذه المداعبة المليحة أعجبت الحمير مثلما أعجبتني ...
فضجّوا ضاحكين صاخبين . ولو استطعت لشاركتهم في الضحك . ولكن ... أين الحنجرة التي تساعدني ؟
وارتفع صوت متزن ظهر لي من براعته في الأسلوب أنه شيخ محنّك عرك الأيام وعركته وحلب من الدهر شطريه بل أشطره . فقال :
- أما أنا فقد كنت قبل أن أنتقل إلى مالكنا الجديد – الذي أصبح أعور بفضلك أيها الزميل – ملك أحد اللوردات الذين يهوون غواية إقامة حفلات يتسابق فيها الحمير . وقد ابتاعني من قروي وأنا في السنة الأولى من عمري وسلّمني للمدرّبين .
فبرعت في فنون السبق . وأكسبته جوائز التفوّق في حلبات السباق ستّ مرّات متواليات . وهذا ما دعاه أن يغدق عليّ عطاياه السنيّة السخيّة مما كان يقدّمه إليّ من أنواع الأطعمة الشهيّة . حتى السكّر الثمين ، كان يطعمني إيّاه بيده .
وكنا اثني عشر حماراً في الزريبة . ولما شاهدوا معاملتي الممتازة دبّت الغيرة في قلوبهم . وتآمروا على الإيقاع بي ، مقتبسين هذه الرذيلة مما كانوا يشاهدونه من مؤمرات البشر وإيقاعهم ببعضهم البعض بدسائسهم المتواصلة في سبيل أذيّة إخوانهم . وهذا ما حفّزني أن أقوم بينهم خطيباً وأنصحهم بإخلاص خوفاً من وقوعهم في هذه الجريمة النكراء ، وتخلقهم بأخلاق البشر ونسيانهم لنبالتنا الرفيعة نحن معشر الحمير .
ولما كان عنصرنا غاية في الشهامة ، وتربيتنا الأساسيّة بالغة المتانة ، أصاخوا لي سمعاً وندموا ندماً بالغاً . واعترفوا بخطاياهم ، ثم أقسموا على التوبة الصادقة . فعفوت عنهم وشكرتهم .
وماذا أحدثكم يا زملائي الأعزّاء عن المآسي التي كنّا نشاهدها تمثّل على مسرح هذه الطبقة التي يطلقون عليها لقب "النبلاء"!...
هذه الطبقة التي تدّعي بأنها متحدرة عن دماء شريفة ...
هذه الفئة التي تزعم أنها أرفع من طبقات الفقراء والمساكين ...
هذه الجماعة التي تفاخر بأنها من طبقة الشرفاء وهي لا تعرف من الشرف سوى اسمه ...
ففي إحدى ليالي الربيع المقمرة فتح باب الزريبة . وكانت الساعة التاسعة مساء .
وتقدّم (اللورد) من مكاني وبجانبه إحدى النبيلات القادمة من (اسكوتلندة) لتقضي في ضيافته أسبوعين . فانتخبني مع زميل لي حديث السن وجعل يربت بيده على ظهري مداعباً ومشجعاً .
وعندما قادني الخادم إلى خارج الزريبة امتطاني اللورد مثلما امتطت النبيلة ظهر زميلي . وانطلقا بنا نحو الريف كي يتمتعا بمشاهدة الأشجار الكثيفة وهي تعانق أشعّة البدر الفضيّة . واتجهنا نحو الغابة وتخللناها .
ولم ألبث أن ذعرت عندما سمعت عبارات المغازلة البذيئة التي سمعتها بإذنيّ الطويلتين المرهفتين عندما كان هذا اللورد المنتحل النبالة يلقيها على تلك (النبيلة) التي كانت تقهقه طروبة لما تسمع من فاحش الاستعارات التي يأنف من التلفّظ بها كل متمسّك بأصول الفضيلة وشرف الضيافة ....
وقد شجعت ضحكات النبيلة المستهترة اللورد . فخلع عنه عذار الحياء ، وطرح عنه وشاح الشهامة ... وإذا بعبارات خدشت فضيلتي فلم يسعني إلا أن أعلن استنكاري . فأطلقت العنان لنهيقي كي أمنع بلوغ صوته المتصابي إلى أذن الضيفة الصبيّة .
ولما ضاق اللورد بي ذرعاً أهوى على مؤخرتي بعصاه ذات القبضة الفضيّة الموشّاة بالذهب .
فأخرجت من حنجرتي صوتاً خاصاً نفهمه نحن الحمير وأنتم تعرفونه مثلي . ففهم زميلي الحمار إشارتي وإذا به يحرن ، ثم يتقاعس عن اللحاق بي ، بينما انطلقت أنا بكلّ قواي مخترقاً الغابة المتشابكة الأغصان ... وعبثاً ذهبت محاولات اللورد في إيقاف نشاطي فكأنني في حلبة السباق .
وبعد نصف ساعة وقفت بعد أن أمنّت لرفيقي فرصة العودة إلى القصر . وبعد أن أضعت على اللورد فرصة تبذله الجميلة .
وعاد اللورد الحانق يبحث عن رفيقته الضالة في أحشاء الغابة وهو يشتمني بغيظ شديد وأنا أتصنّع الغباء كي لا يبطش بي ....
وبعد أن نقّب الغابة ساعات متعددة دون جدوى عاد إلى القصر . وكان الليل قد آذن بالانتصاف . وإذا بالنبيلة طريحة الفراش للرعب الذي استولى عليها عندما قفز بها حمارها قفزات شيطانيّة عائداً بها إلى زريبته .
وما شاهدت اللورد حتى راحت تلعن الحمير ، ومن يقتنون الحمير ... ومن يركبون الحمير ...
فقال لها اللورد وهو يهديء من ثورتها ويلطف من حدّة أعصابها :
- إنني لفي حيرة مما حدث ... فلو كانت الحمير تفهم مثلما يفهم البشر لقلت أن هناك مؤامرة تمت على حسابنا ولكن ... أنّى للحمير أن تفهم !
وفي صباح اليوم الثاني زارني اللورد ، وأهوى على مؤخرتي بعصا غليظة آلمتني .
وقبل أن يغادرني رفسني على مؤخرتي عدّة رفسات قويّة كي يشفي حقده ، ويبرّد نيران غيظه لإفسادي نزهته الليليّة .
وتفشّت سورة الغضب في صدري ، وأحببت أن أثأر لنفسي ... ولكنني كظمت غيظي خوفاً من الانتقام الصارم الذي سيوقعه بي بواسطة خدمه فيها لو اعتديت عليه .
وقبل مغادرته للإسطبل أخرج من جيبه قبضة من السكر وأدناها مني ثم قال متهدداً متوعداً :
- هذا آخر عهدك بهذه القطع اللذيذة أيها الحمار الغبي !
ولكي يثير بي الشهيّة جعل يقضم بعض القطع وهو ينظر إليّ بعينين ... وكأنهما جمرتان متقدتان .
وللمرة الثانية رفسني بضع رفسات ، ثم بصق عليّ وخرج .
وهنا توقف هذا الحمار الذي يقصّ ما حدث له وتنفّس الصعداء . وقال للحمير رفاقه :
- غداً أكمل لكم ما تمّ معي وهذا اللورد ...
وإذا بأصوات الحمير الأربعة عشر تدوّي وكأنها صوت واحد طالبة منه متوسلة إليه أن يكملها الآن .
وكنت مأخوذا بحديثه مثلهم . فطلبت منه طلبهم بالرغم من تأكيدي أن صوتي الصامت لن يبلغ إلى أذنيه الطويلتين .
فنزل على إرادتهم وقال :
- إنّ ما شاهدته من ضروب التبذّل الذي كان يقوم به هذا اللورد لممّا يحتاج إلى مجلّدات ضخمة . وليت الأمر وقف عند هذا الحد ... إذن لهان الأمر ولتضاءلت المصيبة .
فقد كان له ابنة يانعة . وكما يظهر أنها تلقحت بأخلاق والدها لما كنت تشاهد من مباذله المتواصلة .
فما كان منها إلاّ أن علقت بحب رئيس الخدم .
ولما كان يستحيل عليها الاجتماع به في إحدى غرف القصر أو مرافقته إياها في نزهاتها ، كانت تجتمع به سرّاً في الإسطبل ويتغازلان على مرأى ومشهد منا .
وإليكم المسرحيّة الأخلاقيّة الكبرى التي تمّ بواسطتها انفصالي عن خدمته بعد تأديبه البالغ العبرة .
استضاف هذا اللورد رئيس "جمعيّة الرفق بالحيوان" ترافقه زوجته . وكانت تربطه به رابطة صداقة قديمة . وهما يزوران بعضهما البعض بين الحين والآخر .
واتفق الضيف والمضيف على قضاء متعة على ظهور الحمير . ففي الساعة الثامنة مساء دخل اللورد وبصحبته زوجة ضيفه . وقد دهشت عندما شاهدته يغلق الباب ويثبته بالمزلاج ... ولم ألبث أن عرفت السبب . فقد بدأ في مغازلتها ومطارحتها بوقاحة بذيء الكلام .
ويظهر أنه كان ذا صلة سابقة معها . وهذا ما فهمته مما تسقطته من الحديث الذي كانا يتطارحانه .
فاستأت من هؤلاء البشر اللؤماء الذين يدنسون إسطبلنا الشريف . واحتججت على هذه الخطّة المستنكرة برفعي لعقيرتي وإطلاقي النهيق المتواصل كي أنبّه سكّان القصر .
فذعر الإثنان . وهرول اللورد بعصبيّة متناهية رواح يركلني بقدميه ، ويرطم فمي ووجهي بقبضتيه المقفلتين .
فثرت لكبريائي العزوفة ، وما كان مني إلاّ أن بادرته برفسة مزلزلة أطارت له فكه وتساقطت على الأثر كميّة من أسنانه وأضراسه .
فهال الضيفة الأمر ، وأطلقت من حنجرتها صرخة عنيفة وسقطت مغمى عليها ... وهنا هرع سكّان القصر إلى الإسطبل وكان على رأسهم الضيف . فتكشفت لهم الحقيقة الهائلة بعدما شاهدوا زوجة الرئيس نصف عارية ....
وشده القوم وروّعوا من هول الفضيحة .
وتقدّم كبير الخدم يريد تحطيم رأسي بقضيب حديدي . وإذا برئيس جمعيّة الرفق بالحيوان يصفعه على خدّه وينقذني من شرّه .
ثم تقدّم مني وفكّ عقالي . فتبعته مثلما تتبع النعجة راعيها .
وقبل أن يغادر الرجل الإسطبل التفت إلى امرأته التي ابتدأت تستيقظ من هول الحادث وقال لها :
- إن خير مكان لك تقيمين فيه هو هذا الإسطبل !
ثم رمق اللورد بنظرة احتقار عميقة وقال :
- أما أنت ، فقد نلت جزاءك العادل .
وعندما انتهى الحمار الفيلسوف من قصّته الطريفة كان الفجر يرسل أوّل خيط من خيوطه العسجديّة . فالتفت إلى زملائه وقال لهم :
- لقد سمعت البعض منكم في شتّى المناسبات ينحون باللائمة على الأقدار التي لم تكونهم بشراً ليعيشوا برغد ورفاهيّة ، ويتمتعوا بالطيبات ، ويناموا على أسرّة باذخة ، أنيقة الوسائد ، دافئة الفراش . فهل ما زلتم مصرين على رأيكم أيها الإخوان الأعزّاء؟
وجلجلت جدران الإسطبل بدويهم الصارخ قائلين بصوت واحد خرج من حناجرهم وكأنّه الرعد القاصف :
- إنّنا نحمد العناية التي رحمتنا وخلقتنا حميراً . ولم تغضب علينا وتمسخنا بشراً ! فنحن معشر الحمير لا يمكن أحدنا أن يقدم على إرتكاب مثل هذه الجرائم النكراء المدنّسة .