info@daheshism.com
"الكتابُ الداهشيّ " المُجلَّدُ الثاني

د. غازي براكس

     (أَنـوار)

 

الكتابُ الداهشيّ

المُجلَّدُ الثاني

 

كتابُ التعاليم أَو كتابُ العقيدة

الجزءُ الأَوَّل

 

 

مدخـَــل عامّ للتعاليم الداهشيَّة

 

حقيقةٌ روحيَّة مُفصَّلة في نظامٍ فكريّ شامل:

       في كتابي "المسيح عاد باسمٍ جديد" الذي جعلتُه مدخلاً عامًّا  "للكتاب الداهشيّ" مرَّت لمَحاتٌ مُتفرِّقةٌ عن التَّعاليم الداهشيَّة فرضَها سياقُ الوقائع المُدرَجة. ولا بُدَّ من أَن يكونَ القارئُ اللبـيب قد شعرَ أَنـَّـه أَمام إِنسانٍ خارق، فائق بمزاياه، مُتفرِّد بمواهبِه لا سيَّما القوَّة الروحيَّة القُدسيَّة التي زُوِّدَ بها، فصنعَ المُعجزات المُذهِلة بواسطتِها ليؤَكِّدَ وجودَ العالَم الروحيّ الإلهيِّ الخالد وصِدقَ الرسالة السماويَّة التي أَنـزلَها عليه.

وقد ظهرَت هذه الرسالةُ في عصرٍ هو بأَمسِّ حاجةٍ إِليها، وذلكَ لتَهدي العقولَ المُشكِّكة الباحثة عن الحقيقة إلى الإيمان بالقوَّة الروحيَّة الموجِدة للكون وبالثواب والعقاب، ولتُقدِّمَ السلامَ والعزاءَ إلى النفوس الضائعة المُضطربة الراغبة في الطمَأْنينة، ولتبثَّ روحَ التسامح والعدالة والمحبَّة والرحمة في كلِّ قلبٍ ما زال يسري في دمائه شيءٌ من النـزَعات الإنسانيَّة، وبذلك تُبعِدُ شبحَ الانحلال والفناء التامّ عن بشريَّةٍ باتَتْ تُهدِّدُها أَخطارٌ داهمةٌ شاملةٌ ماحقة.

       وفي هذا الجزء من "الكتاب الداهشيّ" سأَبدأُ بعَرضِ التعاليمِ الداهشيَّة مُفَصَّلةً ومُرتَّبةً في نظامٍ فكريّ  يُعطي القارئَ صورةً واضحةً عن شُمول العقيدة الداهشيَّة وعظَمة القوَّة الروحيَّة التي أَوحَتها، وشاءتْ أَن أَكون، على ضَعفي البشريّ، وسيلةَ نَقْلِها إِلى العالم.

       وقد بنَيتُ عَرضي للتعاليم الداهشيَّة على ما التقَطتُه من فَمِ النبيِّ  الحبيب الهادي، وعلى ما قرأتُه من الوَحيِ الداهشيِّ الإعجازيّ ومن كتابات مُؤَسِّس الداهشيَّة المُلهَمة، كما على ما خصَّني الروحُ العَلِيُّ به من معلومات. كلُّ ذلك مدعومًا بـبراهينَ وإيضاحاتٍ زوَّدَتني بها تأَمُّلاتي واختباراتي وثقافتي الدينيَّة العلميَّة الفلسفيَّة. وإنِّي مطمئنٌّ إلى صحَّتِها، لأَنِّي مؤمنٌ بأَنَّ الروحَ العليَّ لم يحجب مُساعدتَه عنِّي، بل مَدَّني بإلهاماتٍ كثيرة، وذلك كلَّما اقـتـضى الأَمر، تنفيذًا لوعدِه الصريح لي، في رسالته التي أُنـزِلَت ودُوِّنَت عجائبـيًّا على ورقةٍ صفراء فارغة كنتُ أَقبضُ  عليها، وذلك في 20/10/1974؛ وقد جاءَ فيها:

 

       "أَيُّها العزيز غازي،

       يا مَن سيُخلِّدُ التاريخُ اسمَكَ

كقُطبٍ داهِشيٍّ عظيم،

       ويا مَن سيُـباركُ اسمَكَ البلايـين،

       وعندما يذكرون اسمَكَ،

       سيذكرونه مقرونًا بالإعجاب والخشوع،

       والآن نُعلمُكَ بأَنـَّهُ يجبُ عليكَ أَنتَ

كتابةُ "الكتاب الداهشيّ"،

       ومثلما أُلهِمَ تلامذةُ المسيح بما كتبوه بأَناجيلهم،

       هكذا أَنتَ ستُلهَم عندما يجبُ أَن تُلهَم،

       اللهُمَّ إلاَّ بعض المعلومات التاريخيَّة

       التي يُمكنُكَ سؤالُ النبيِّ الحبيب عن أوقاتها." 

      

وإِنَّ ما اجتهَدتُ به في "الكتاب الداهشيّ" لا يعدو كونَه إعلاءً في مداميك البناء الذي وضعَ الوَحيُ الروحيُّ والنبيُّ الحبـيبُ أَساسَه.

       ومع ذلك، فالداهشيَّةُ التي تُؤمنُ بالوَحْي تُؤمنُ أَيضًا بالعقل وبتطوُّره الدائم، لا سيَّما في ميادين العِلم. فإذا حصلَ في آتي الأَزمنة ما يُستشَفُّ منهُ أَيُّ تناقُضٍ بين العِلم والوَحْي في ما أُقدِّمُه الآن، فسبَبُ ذلك يعودُ إلى عَجزي الشخصيِّ وسوءِ فهمي حقيقةَ العلاقة بينَ مُعطَيات الوَحْي ومُعطَيات العِلم في هذا العصر، ولا يعودُ في أَيِّ حالٍ إِلى الوَحيِ نفسِه. فالروحُ مُحيطٌ بكلِّ شيء، قادرٌ على كلِّ شيء، وهيهاتِ أَن يُدركَ العلمُ أَعماقَه وأَسرارَه. لِذا قال مُؤَسِّسُ الداهشيَّة:

       "رغمًا عن تقدُّمنا في العلوم، وقَطعِنا بها شوطًا عظيمًا، فإنَّنا ما نزالُ أَمام معرفة أسرار العالَم الآخَر خاشعين لا نستطيعُ كشفَ ذلك الحجاب الذي تقنَّعَ به، ولن نستطيعَ ذلك."

وقد رأَيتُ من واجبي أَن أُلِحَّ على إيضاح حقيقة الإنسان في كيانِه وتعليلِ أَحواله وأَحداثِ حياته، وعلى جلاء حقيقةِ التطوُّر الحضاريّ، لأُظهرَ أَنَّ الدينَ الداهشيَّ ليس نظريَّاتٍ تتعلَّقُ بالغَيـبـيَّات، بل هو حقيقةٌ تشملُ الإنسانَ والمجتمعَ والحياةَ مادِّيـَّةً وروحيَّة؛ ونظرتُه وتعليلاتُه تطالُ جميعَ الميادين التي تطالُها الفلسفةُ والعلومُ الإنسانيَّة، من غير أَن يكون، أَصلاً، مذهبًا فلسفيًّا أَو عِلميًّا، لأَنَّ مبادئَه الأَساسيَّةَ وقواعدَهُ الكُبرى موحاةٌ كلُّها أَو مُلهَمة، ولا علاقةَ للاجتهاد العقليِّ بها. الدينُ الداهشيُّ هو الحقيقةُ الروحيَّةُ العُظمى التي قدَّمَها العالَمُ الروحيُّ المجيد، في القرن العشرين، إلى أَبناءِ الأَرض.

 

مصادرُ التعاليم الداهشيَّة:

       للتعاليم الداهشيَّة مصدران خارقان: الوَحْيُ  الإِعجازيُّ ومؤَلَّفاتُ النبيِّ الحبيب المُلهَمة.

أَ- الوحيُ الإعجازيّ:

       "نحنُ كالأَسماكِ نجوبُ بحارَ الحياة دونَ أَن نعرفَ ما هو خارجٌ عن مُحيطِنا."[i] 

       هذه الكلمة التي دوَّنَها مُؤَسِّسُ الداهشيَّة سنة 1936، إذْ كان في السابعة والعشرين من عُمرِه،  تُوضِّحُ حدودَ الإِنسان العلميَّة المرسومة بحواسِّه العاجزة وعقلِه القاصر ومُحيطِه الماديّ. أَمَّا ما يتعدَّى هذه الحُدود، فهو من سلطان الروح.

       إنَّ الحضارات التي عرفَها البشرُ في أُمَمِهم المختلفة وأَجيالهم المُتعاقبة كانت وما تزالُ تستمدُّ عناصرَ غذائها الجوهريِّ من مصدرَين كبيرَين:

       الأَوَّلُ مصدرٌ بشريّ قِوامُه قِوى الإِنسان النفسيَّة. فنشاطُ العقل المبنيّ على الاختبارات الحسِّيَّة والتجارب المتكرِّرة أَدَّى إلى اكتشاف القوانين العلميَّة في شتَّى المجالات الرياضيَّة والطبـيعيَّة. ونشاطُ مُجمَل القِوى النفسيَّة أَفضى إِلى توليد الآداب والفنون والفلسفات.

       أَمَّا الثاني فمصدرٌ إِلهيّ قِوامُه قوًى روحيَّة غيرُ أَرضيَّة مَدَّت أُناسًا مختارين بتعاليمَ موحاة، في أَزمنةٍ مختلفةٍ مُتباعدة، بحيثُ نشأَتِ الأَديانُ السماويَّة.

       فخطُّ المعارفِ ذاتِ المصدر البشريّ شهدَ تنوُّعًا عجيـبًا وتناقُضًا أَعجَب. فالآدابُ تشكُّلاتٌ فكريَّةٌ وجدانيَّةٌ في قوالبَ لفظيَّةٍ ذَوقيَّةٍ كثيرةِ التعدُّد والتـنوُّع، قليلٌ منها يـبقى على الزمان، وكثيرٌ منها يسقطُ سقوطَ الأَزياء. والعلومُ يُصحِّحُ اللاحقُ منها السابق على الدوام، ومع كلِّ عصرٍ يسقطُ منها شيءٌ وينهضُ آخَر. والفلسفاتُ أَبنيةٌ نظريَّةٌ كثيرًا ما تـقومُ على بعض المُسَلَّمات في الواقع العلميِّ المعاصر لها، فإِذا انهارَت الفَرضيَّةُ العِلميَّةُ، انهارَت الفلسفةُ المبنيَّةُ عليها معها. آخِرُ مَثلٍ على ذلك هو فلسفةُ "المادِّيَّة التاريخيَّة والجَدَليَّة" التي كُوَّنَت من تعاليم كارْل مارْكس (1818 - 1883) وفْريدْريك إنجِلز (1820 - 1895). حَسْـبُنا الإشارة إلى ما قالهُ مارْكس في مقدِّمة كتابه "نـقْدُ الاقتصاد السياسيّ" (1859): "إنَّ طرُقَ إنتاج الحياة المادِّيَّة تُكيِّف، بصورةٍ عامَّة، تطوُّرَ الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والعقليَّة؛ فليست الطاقاتُ النفسيَّةُ الواعية Consciousness في البشر هي التي تُحدِّدُ كيانَهم، بل على العكس إنَّ كيانَهم الاجتماعيَّ هو الذي يُحدِّدُ طاقاتهم النفسيَّة."

        فهذه الفرضيَّة انهارَت بعد التقدُّم العظيم الذي أَحرزَهُ عِلمُ المُورِّثات Genetics بَدءًا من الثُّلثِ الأَخير من القرن العشرين. فقد تأَكَّدَ بفَضلِ مئات الدراسات أَنَّ كلَّ إِنسانٍ يحملُ في مُورِّثاتِه، عندَ ولادته، أَهمَّ مُقوِّمات شخصيَّته المُتفرِّدة التي تُميِّزُه عن سواه. أَمَّا التأْثيراتُ التربويَّة الاجتماعيَّة والعواملُ الاقتصاديَّة فتُكوِّنُ طبقةً إِضافيَّةً في شخصيَّته تُزادُ على الأَساس الفِطريّ الذي فيها، لكنَّها لا تُلغيها.

       و"الكيانُ الاجتماعيّ" الذي كان يُفتَرَضُ، وَفقَ رأيِ مارْكس, أَن يُقَولبَ نفسيَّات الشعوب التي خضعَت للأَنظمة الشيوعيَّة الصارمة أَكثر من سبعين سنة انهارَ أَمام انطلاقة الطاقات النفسيَّة التي كانت مقموعةً في تلك الشعوب طوالَ هذه المدَّة.[ii]

       أَمَّا خطُّ المعرفةِ ذاتِ المصدر الإلهيِّ فهو مازال قائمًا منذ ثلاثة آلاف سنة ونَـيِّف، لم ينـقُضْ بعضُه بعضًا، بل اللاحقُ من الرسالات الروحيَّة يُصدِّقُ دائمًا السابق، بحيثُ يستمرُّ  خطُّ الوَحيِ مُتكاملاً، ناهضًا على الأَركانِ نفسها: إنَّها الإيمانُ بقوَّةٍ روحيَّةٍ سرمديَّةٍ موجِدة للكون، وبثوابٍ وعقابٍ على ما يصنعُه الإنسان، وبوجوبِ العملِ الصالح والعدالة والتحابّ.

       تعاليمُ العقل تُصدِّقُها التجاربُ الخاضعة للأَنظمة الطبـيعيَّة. أَمَّا تعاليمُ الوَحي فـتُصدِّقُها المُعجِزاتُ "الخارقة" للنواميس الطبـيعيَّة إذا نظَرنا إليها من منظار المعرفة البشريَّة المحدودة. لكنَّ المعجزات تـتَّفقُ مع القوانين الروحيَّة وتُجاري علمَ الروح غير المحدود.[iii] 

       هكذا تدخَّلَت القوَّةُ الروحيَّةُ فنـقشَتِ "الوصايا العشر" بطريقةٍ إعجازيَّة، على لوحَين حّجَريَّين، أَمام موسى النبيّ، فكانت نواةَ تعاليمه، ثمَّ أَيَّدَت النبيَّ بالخوارق؛ فكانت أُسُسُ الموسويَّة (اليهوديَّة).

       وهكذا تدخَّلَت القوَّةُ الروحيَّةُ فأَنطقَت يسوعَ المسيح بالعِظاتِ والأَمثال والرموز مؤَيِّدةً تعاليمَه بالمُعجزات؛ فكانت أُسُسُ المسيحيَّة.

       وهكذا تدخَّلَت القوَّةُ الروحيَّةُ فأَوحَت إلى النبيِّ مُحمَّد الآياتِ القرآنيَّة، وجعلَتها، صياغةً وموضوعًا، مُعجزةً أَدبـيَّة؛ فكانت أُسُسُ الإسلام.

       غيرَ أَنَّ الوحيَ إلى النبيِّ العربيِّ كان عمليَّةً إلهاميَّةً باطنيَّةً ذاتيَّة لم تُجاوِزْ شخصَه ولم تُؤَيَّد بمُعجزاتٍ مادِّيَّةٍ ملموسة؛ ولذلك اتَّهمَه الكافرون والمُشكِّكون —وكانوا الأَكثريَّةَ بين العرب عهدئذٍ— باختلاق القرآن وافتراء آياته زاعمين أَنَّه قَولُ ساحرٍ أو شاعرٍ أو كاهنٍ أو مجنون.[iv] فكان ردُّ الروح العَليّ: "أَم يقولون افتراهُ، قُلْ فأْتوا بعَشرِ سُورٍ مثلِه مُفتَريات، وادْعُوا مَن استَطَعتُم من دون ﷲ إن كنتُم صادقين. فإِلَّم يستجيبوا لكم فاعلموا أَنَّما أُنزِلَ بعِلم ﷲ وأَن لا إلهَ إلا  هو، فهل أَنتُم مُسلمون." (سورة هود: 13)[v] 

       لقد أَراد "الروح" أَن يُخاطبَ رسولُ الإِسلام عقولَ قومه حتَّى يفطنوا لِكَون السُّوَر القرآنيَّة بـبلاغتها ومضامينها مُعجزةً معنويَّةً حقيقيَّةً تخرقُ العاديَّ المأْلوفَ عند العرب، وتتخطَّى مستواهم الأَدبيَّ والذهنيّ، عصرئذٍ، وليس في مقدور البشر صُنعُ المُعجزات. لكنَّ عقولَهم الغافلة وقلوبَهم المختوم عليها رفضَت هذا البُرهان، وطالبَت النبيَّ بمُعجزةٍ مادِّيَّة، كأَن تـنـزلَ الآياتُ مكتوبةً في القراطيس بغيرِ يَـد، حتَّى يُصدِّقوا بالوَحي: "يسأَلُكَ أهلُ الكتاب أن تُنـزِّلَ عليهم كتابًا من السماء" (سوؤة النساء: 153). فكان جوابُ الروح: "ولو نزَّلنا عليكَ كتابًا في قرطاسٍ فلمسوهُ بأَيديهم لَقال الذين كفروا إنْ هذا إلاَّ سِحرٌ مُبـين" (سورة الأنعام: 7)؛ ذلك لأَنَّهم بأَكثريَّتهم غِلاظُ الأَفهام لا يستطيعون أَن يُميِّزوا بين المُعجزة الحقيقيَّة والشعوذات الكاذبة. وﷲ قادرٌ على أَن يفعلَ ذلك، ولكنَّه عَزَّ وجَلّ هو الذي يُوقِّتُ المواقيت ويختارُ مُعجزاتِه.

       إنَّ ما طالبَ به الجاحدون والمُشَكِّكون منذ 1400 سنة ونَـيِّف حقَّقَته الأَرواحُ العَلِيَّة في القرن العشرين على يدَي المسيح العائد، داهش النبيِّ الحبيب الهادي، حتَّى لا تبقى أَيَّةُ حُجَّةٍ بعد اليوم لمُنكِري وجود الروح الخالد وجاحدي وجود ﷲ.

       فكثيرٌ من تعاليم الداهشيَّة ارتسمَ على أوراقٍ عجائبـيًّا، أي إنَّها لم تُكتَب بـيَدِ النبيِّ الحبيب أو بأيـَّة يَدٍ بشريَّة، بل رسمَتها أرواحٌ قُدُّوس بأسرعَ من الفكر. وهذا التدوينُ العجائبيّ كان يحصل على ثلاثة أنماطٍ رئيسة:

       أوَّلاً، الرسائلُ الروحيَّة: لقد زارَ آلافُ الأَشخاص النبيَّ الحبيب، وكانوا بمعظمهم من ذَوي الثقافة العالية. وكثيرون منهم حضروا جلساتٍ روحيَّة.[vi] وبصورةٍ عامَّة، كان حاضرُ الجلسة الذي من أجله عُقِدَت الجلسة الروحيَّة يكتبُ "رمزًا"[vii] مقدَّسًا ويُحرقُه بـيَدِه، إعدادًا للجلسة، ثمَّ يضَعُ رمادَه طَيَّ ورقةٍ فارغة ويقبضُ عليها. وفي أَثناء انعقاد الجلسة يتجلَّى روحٌ قدُّوسٌ في وجهِ النبيِّ الحبيب ويُحوِّل الرمادَ إلى ورقةٍ مرسومة عليها رسالة من العالم الروحيّ. وذلك من غير أن يلمسَ الورقةَ المُنطوية على الرماد والتي تبقى في قبضة الشاهِد.

       وكثيرًا ما كان النبيُّ الحبيبُ يطلبُ إلى زائريه، خارجَ الجلسات الروحيَّة، أن يختاروا أوراقًا فارغة ويتحقَّقوا من فراغِها على الوَجهَين، ثمَّ يطووها في قبضات أيديهم. وبلَمح البصر، كانت هذه الأَوراقُ، وهي في أيدي الشُّهود، تمتلئُ بكتاباتٍ موحاة فيها إرشاداتٌ أو إيضاحاتٌ خاصَّةٌ أو عامَّة.

       كذلك غالبًا ما كان ابنُ السَّماء يطلبُ إلى الزائر أن يكتبَ على ورقةٍ فارغة يختارها "رمزًا" مقدَّسًا ثمَّ يحتفظَ به ليكونَ نموذجًا يكتبُ على غراره فيما بعد. وعندما يفتحُ الشاهدُ "رمزه" في منـزله، يراهُ قد تحوَّلَ إلى رسالةٍ روحيَّة.[viii] 

       ذلك فضلاً عن الرسائل الروحيَّة الخاصَّة بالنبيِّ الحبيب، إذْ كانت ترتسمُ عجائبيًّا على أوراقٍ خاصَّةٍ يضعُها رجلُ الروح في "الجارور المقدَّس"،  أو على المُفكِّرات الخاصَّة به، فتأْتي بصورة إيعازاتٍ روحيَّةٍ يوميَّة.[ix] و"الجارور المُقدَّس" دَرْجٌ عاديّ كان النبيُّ الحبيبُ يُخصِّصُه لِوضع"الرموز" المقدَّسة فيه والأَسئلة الموجَّهة إلى العالَم الروحيّ.

وقد أُتيحَ لي أَن أَفتحَه وأُخرجَ منهُ رسائلَ روحيَّة مرارًا كثيرة بناءً على طلبٍ من النبيّ أو الروح العَلِيّ.

       ثانيًا، الأَجوبةُ الروحيَّة: قلَّما زارَ رجلَ المُعجزات زائرٌ إلاَّ كان يُضمِرُ سؤالاً أَو يطرحُه على النبيِّ الحبيب. ففي الحالة الأُولى كان يطلبُ رجلُ الروح إليه أن يختارَ ورقةً فارغةً ويقبضَ عليها، وإذا الجوابُ يرتسمُ عجائبيًّا على الورقة المطويَّة في قبضة الشاهِد؛ وفي الحالة الثانية، كان السؤالُ يُدَوَّنُ على ورقةٍ فارغة، ويقبضُ السائلُ عليها، وإذا الجوابُ يرتسمُ عجائبيًّا تحت السؤال.

       ومن أَهمِّ الأجوبة الروحيَّة ما حصلَ للمُحامي والوزير اللبنانيِّ السابق إدوار نون. فقد كتبَ 72 سؤالاً مُوَزَّعةً على ثماني صفحاتٍ كبيرة، فرُسِمَت الأجوبةُ بأسرع من الفكر، كلٌّ منها تحت سؤاله.  

       كذلك أُتيحَ لي أن أكونَ واحدًا من كثيرين مِمَّن كتبوا أسئلةً عن أُمورٍ مجهولةٍ مُعقَّدة، ثمَّ طلبَ النبيُّ الحبـيبُ إليهم أن يضعوا الأَسئلة في "الجارور المُقدَّس". وبعد حينٍ هبطَتِ الأَجوبةُ من العالَم الروحيِّ مرسومةً بصورةٍ عجائبيَّة على أوراق الأَسئلة.

       ثالثًا، القَصَصُ الروحيّ: كثيرًا ما كان يُلهَم النبيُّ الحبيبُ بأن يضعَ مجموعةَ أوراقٍ بـيضاء أو دفترًا فارغًا في "الجارور المقدَّس"، أو أحيانًا على طاولةٍ أمامنا، فتملأُها القوَّةُ الروحيَّةُ، بأَسرعَ من الفكر، بقِصَصٍ تُوضِّحُ أسرارَ الحياة والموت وتقمُّصات الإخوة والأخوات. وقد أُتيحَ لي أن أكونَ شاهدًا لعدَّة قِصَصٍ منها، فأضع بـيدي كدسةً من الأوراق البيضاء، ثمّ أُخرجها وقد خُطَّت عليها قصَّة موحاة! [x]

       رابعًا، الشروحُ الروحيَّة: بعضُ الشروح كان يُؤَيِّدُها الروحُ العَلِيُّ بالمُعجزات المُبرهِنة على صحَّة ما يقوله، كما الحال في مُعجزة إنماء البذور الفَوريّ[xi] دلالةً على أنَّ ما يُعَدُّ مُعجزةً بالنسبة للمعرفة البشريَّة إنَّما هو معرفةٌ طبيعيَّةٌ بالنسبة للعالَم الروحيّ الذي تكشَّفَت له أسرارُ الطبيعة والحياة والموت؛ لكنَّ بعضَ الشروح الأُخرى كان يُدلي بها الروحُ العَلِيّ  في الجلسة الروحيَّة أو خارجها، وذلك في أثناء تَجلِّيه في النبيِّ الحبيب.

       وإذْ أشعرُ بعَجزي صادقًا، لا بدَّ لي من أَن أرفعَ للّه وللنبيِّ الحبيب عظيمَ شكري، على ما خصَّني به العالَمُ الروحيُّ القُدُّوسُ من شروحٍ فضَّت لي أسرارًا كثيرةً وفتحَتْ أمام بصيرتي مغاليقَ المجهول. وبعضُ ما علمتُه سأذكرُه في هذا الكتاب، لكنَّ بعضَه الآخر سيبقى مكتومًا لأَنَّني نُهيتُ عن البَوحِ به، ولا سيَّما "السرُّ الأعظم" سرُّ القُدرة الموجِدة. غيرَ أنَّ معرفتي به ستعصِمُني من الزَّلَل أوانَ أبحثُ في ماهيَّة القُدرة الموجِدة وفي العوالِم الروحيَّة مثلما في أُمورٍ عسيرةٍ أُخرى. كذلك عليَّ أن أُشيرَ إلى ما خصَّني النبيُّ الحبيبُ به من جلساتٍ طويلةٍ كان ينفردُ بي فيها ويُفيضُ في شَرحِ الغوامض من الحقائق الروحيَّة حتَّى إذا ما أطلَّ علينا أخٌ أو أختٌ في الإيمان الداهشيّ توقَّف عن الشرح. ومرارًا كنتُ أكتشفُ، بعد وقتٍ قصير، أنَّ مَن كان يُوضِّحُ لي الحقائقَ الروحيَّةَ لم يكُن النبيَّ الحبيب بل إحدى شخصيَّاته العُلويَّة المُتجسِّدة إلى حين.

 

 ب - مؤَلَّفاتُ النبيِّ الحبيب المُلهَمة:

       الإلهامُ الروحيُّ يقومُ به سَيَّالٌ عُلويّ يوحي بالأفكار والعواطف والصُّوَر، فلا تبقى لمَن يتلقَّاها إلاَّ سرعةُ التلبـية في تدوينها. وهو في كتابات النبيِّ الحبيب قد يُقابلُ الوَحيَ الذي أنزلَ القرآن، أي إنَّه عمليَّة باطنيَّة ذاتيَّة لم تُحَقَّق بطريقةٍ إعجازيَّة مَرئيَّة كما الحالُ في الوحي الإعجازيّ.

       هذه الحقيقةُ الإلهاميَّة أعلنَها ابنُ السَّماء في مقدَّمته لكتاب "ضجعةُ المَوت" عام 1933 إذْ قال:

       "لقد كتَبتُها وأنا تحت سُلطان قوَّةٍ قاهرة، غير منظورة، إذْ كانت توحي إليَّ ما أُسَطِّرُه، فأُصوِّرُ ما يكمنُ في أعمَقِ أعماقِ نفسي من آلامٍ مُرزِحة مُضنِية، وأفراحٍ مُبهِجة سارَّة، وشكوى قاسية مريرة، وأتراحٍ مُكئبة مُبكية، وغيرها... فجاءَت بعد ذلك مسكوبةً في قالبٍ طبيعيّ، لا زخرفَ به، ولا تكلُّفَ فيه.

       "وأيمُ الحقِّ، لم أُمسِكْ قلمي لأدفعَه لِيَدي كي تخطَّ ما تخطُّ دونَ فكرٍ وتَرَوٍّ، ولكنِّي شعرتُ بنداءٍ خفيّ يدعوني لخَوضِ هذا العُباب، فأَصَختُ لذلك الهَمْسِ الخفيّ، وشعرتُ بدافعٍ قَهريّ غريب غيرِ منظور يُحرِّكُ يَدي للكتابة، فاندفَعَت الأفكارُ إلى مُخيِّلتي مؤَلِّفةً كلماتٍ مُرتَّبةٍ سطَّرَتها يَدُ الإلهام، فجاءَت مُتتابعة، مُتناسقة، مُتكاملة، ذاتَ معانٍ سامية ترمزُ إليها، وتخيُّلاتٍ واسعة تسبحُ فيها فتسرُّ..."[xii] 

       القاعدةُ الإلهاميَّة عرفتُ روحيًّا أنَّها تنطبقُ على جميع كتابات النبيِّ الحبيب إلاَّ الوقائع التاريخيَّة والوقائع اليوميَّة والخُلاصات التي كان يُدوِّنها في مُفكِّراته ومُذكِّراته أو كُتُب رحلاته. غيرَ أنَّ الروحَ العَلِيَّ كان يتدخَّل أحيانًا في كتابة ما يجبُ كتابتُه حتَّى في مُذكِّرات النبيّ.[xiii] 

       لكنَّ ابنَ السماء لم يكن يُفرِّقُ بين كتاباته التي كان يخطُّها بدافعٍ إلهاميّ وتلك التي كان يوحى بها إليه فترتسمُ بطريقةٍ إعجازيَّة، مثلما الحالُ في كثيرٍ من "قِصَص غريـبة وأساطير عجيـبة"، لأنَّها جميعها مُتساوية في القيمة الروحيَّة التي تحملُها. ولا يُستَـثـنى من ذلك إلاَّ الرسائل الروحيَّة والأجوبة الروحيَّة، فهي ذاتُ صِفةٍ قُدسيَّة مُمَيَّزة.

       فاستـنادًا إلى الوَحي الروحيِّ الصادق بأنماطه الأَربعة وإلى كتابات النبيِّ الحبيب المُلهَمة بَنَيتُ التعاليمَ الداهشيَّة في هذا الكتاب.

       إنَّ قيمةَ أيِّ رأْيٍ يُدلي به إنسانٌ ما تتوقَّف على ثلاثة معايـير:

       الأوَّل الكفاءةُ العلميَّةُ أو الثقافيَّة التي يتحلَّى بها صاحبُ الرأي في الحقل الذي ينتمي الرأيُ إليه. فآراءُ العلماء، بصورةٍ عامَّة، أعظمُ قيمةً من آراء الآخرين، ويجبُ أن تُقَدَّم على غيرها.

       الثاني الجدارةُ الخُلقيَّة، إذْ إنّ كثيرين من العُلماء، حتَّى البارزون منهم، تعصفُ بهم أحيانًا رغباتٌ نفعيَّةٌ شخصيَّة (كحُبِّ الظُّهورِ والشُّهرةِ والكَسبِ السريع للمال) أو اللامُبالاة، فتحملُهم على الكذب والتـزوير  والإدلاء بآراء فاسدة.[xiv] 

       ومن أبرز الدراسات التي زُوِّرَت بها الحقائقُ العلميَّة حديثًا دراسةٌ عن ردَّات الفِعل في جهاز المناعة تورَّط في المشاركة بالتوقيع على صحَّتها العالِمُ البيولوجيّ دايفِد بَلتيمور David Baltimore، حائز جائزة نوبل، إذْ كان أستاذًا في جامعة M.I.T الشهيرة. وقد أثارَ الكشفُ عن تزوير وقائعها العلميَّة الصحافةَ والرأي العامّ العلميّ ودفعَ الكونغرِس إلى النظَر فيها عبر لجنةٍ فرعيَّة.[xv] 

       ومن بين الأمثلة الشهيرة المُعاصرة تزويرُ حقيقةٍ علميَّة پاليونـتولوجيَّة بجَمع القِحف الواعي للدماغ من جُمجُمة إنسان إلى فكِّ قِرد (أُوران أُوتان)، وذلك كسَدِّ ثغرةٍ في مجرى التطوُّر من القرد إلى الإنسان. وقد انطلَت هذه العمليَّة التزويريَّة مدَّة أربعين عامًا على العُلماء حتَّى اكتُشِفَت. وما يُدرينا أنَّه ليس ثمَّة حقائق علميَّة مزوَّرة لم تُفضَحْ بعد؟[xvi] 

       الثالث مِحَكُّ الزمان بالاختبارات المُكرَّرة التي تُصحِّحُ ما انحرَف، وتكشفُ بُطلانَ ما كان يُظَنُّ أنَّه صحيح أو ضُعفَ ما كان يُعتقَد أنَّه ثابتٌ قويّ. فكثيرةٌ هي الأخطاءُ التي يرتكبُها العُلماءُ ثمَّ تُصَحَّحُ بالتجارب والاكتشافات اللاحقة. يكفي ذِكْر مثَلَين منها: سنة 1968، سألتُ مُؤَسِّس الداهشيَّة عن مدى صحَّة الأعمار التي ينسبُها علماءُ الجيولوجيا والباليونتولوجيا للآثار العُضويَّة القديمة بواسطة ما يُعرَف بالكربون 14؛ فأجابني: "لا يستطيعون معرفةَ الأعمار بدقَّة بهذه الواسطة، فضلاً عن أَنَّ المسافةَ الزمنيَّةَ التي يُمكنهم قياسُها قصيرة جدًّا نسبيًّا." وعام 1990، اكتشفَ العُلماءُ أنَّ مقياسَ الكربون 14 يُمكنُ أن يُخطئَ بـ 3500 سنة، والمسافةُ الزمنيَّة لا تتعدَّى 40 ألف سنة.[xvii] 

       فهذه المعايـيرُ الثلاثة، التي لا بُدَّ من تطبـيقها على آراء أيِّ عالِم، لا تنطبقُ على الروح الإلهيِّ الخارق بمعرفته الحقائق، والقادر بصُنعه المعجزات على "خَرقه" القوانين الطبيعيَّة بالنسبة لمعرفتِـنا المحدودة ، والمُنـزَّه عن الأغراض والرَّغبات البشريَّة، وبالتالي هي لا تنطبقُ على الأنبـياء الذين يستمدُّون معرفتهم من الأرواح القُدُّوس ومن الإلهام الروحيِّ العُلويّ.

       ومِمَّا جاء في الرسالة الروحيَّة التي رسمَتْها عجائبيًّا روحُ أَفلاطون إذْ تجلَّت في النبيِّ الحبـيب:

       "وُجِدْتُ على أرضكُم الحقيرة، قبل مجيء المسيح بـ 427 من الأَعوام. وكان البعضُ من الإخوة والأخوات أيضًا، في التاريخ نفسه، يُصغون إلى تعاليمي وآرائي في العالم الفاني.

       "وكنتُ، إذْ ذاك، أخبطُ خبطَ عشواءَ في تعاليلي التي بتُّ أراها سخيفة؛ وذلك بعد اطِّلاعي على أسرار الحياة الروحيَّة منذُ خلَعتُ عنِّي ردائي الماديّ.

       "وقد سبقَني طاليس وهيرقليطس وپارمانيدس وزينون الإيليائي وفيثاغورس[xviii] في محاولاتهم لمعرفة المجهول، واكتـناه أسرار العالم الروحانيّ الخالد، إذْ كانوا يدرسون الطبيعةَ وظواهرَها. وكانت مباحثُهم في صميمها تدورُ على الأشياءالنواميس والمقاييس التي تجري بموجِبها الأشياء والعناصرُ التي تتألَّفُ منها؛ ولكنَّهم ما عادوا بطائل، ولم تتكشَّفْ لهم الحقيقةُ التي نشَدوها عَبَثًا.

       "أمَّا أنتُم، أنتُم يا مَن تكشَّفَت لكم الحقيقةُ الخالصة، فهنيئًا لكم! وما أعظمَ سعادتَكم!

       "أنا أغبطُكم، وأتمنَّى أن تـثبُتوا حتَّى اللحظة الأخيرة، كي تجنوا الثَّمرات الطيّـِبات في الفراديس الإلهيَّة؛ لأنَّني حاولتُ كثيرًا، عندما كنتُ على أرضكم، أن أطَّلعَ على الحقيقة، فما استطَعتُ...

"فالوَيلُ لِمَن يُحاولُ أن يُعلِّمَ الناس أَسرعَ مِمَّا يستطيعون أن يتعلَّموا..."[xix] 

       ومِمَّا وردَ في قطعةٍ مُلهَمة للنبيِّ الحبيب عنوانُها "الإنسانُ حُلمُه الخُلود:

       "أنا لا أُنكرُ أنَّ للإنسانِ يدًا بـيضاء بما استطاعَ الوصولَ إليه في عالَم الطبِّ والاختراع والأدب والفلسفة؛ ولكنَّ كلَّ ما أمكَنهُ بلوغُه ما هو إلاَّ نقطةٌ من بحرٍ مُتلاطمةٍ أمواجُه، ثائرةٍ أثباجُه. فما طالَهُ فَهمُه أشبهُ بِرملةٍ إزاءَ جبلٍ شامخٍ من الرمال المرصوصة رَصًّا. وجميعُ ما توصَّلَ إليه لا يستطيعُ أن يجعلَه غيرَ خاضعٍ لنواميس الطبـيعة التي أوجدَها الباري عَزَّ وجَلّ...

       "ورغمًا عمَّا ذكرتُ، يتبجَّحُ الإنسانُ، على ضَعفه تجاهَ الناموس الطبيعيّ، ويرفعُ عقيرتَه مُدَّعيًا بأنَّه خَضَدَ شوكةَ المجهولات، وفضَّ مغاليقَها، وأنَّهُ قُطبُ الوجود ومركزُه الثابت..."[xx] 

       فمُؤَسِّسُ الداهشيَّة مع تعظيمِه العلمَ واعتباره ضرورةً حضاريَّة،  يُحذِّرُ من الغرور العلميّ ومن اعتبار مُقرَّراته حقائقَ نهائيَّة ثابتة.

الحقائقُ الروحيَّة المُنـزَلة نسبيَّةٌ كالمعرفةِ البشريَّة:

       مع أن  المعرفةَ الروحيَّة تـتفوَّقُ على المعرفة البشريَّة تفوُّقًا لانهائيًّا مُستَمدًّا من طبـيعة الروح الإلهيِّ اللانهائيَّة، فهي ليست مُطلَقة في ما أُنـزِلَ من الوَحي الدينيّ سواءٌ في الداهشيَّة أو في جميع الأديان السابقة. ولو كانت مُطلَقة لأصبحَ الإنسانُ مُساويًا للروح الإلهيِّ في معرفته، ولَما خفِيَ عنه شيءٌ من أسرار الكون، ولانكَشَفَت له حقائقُ الأزَل والأبَد المكنونة. لكنَّ جميعَ الحقائق التي أُتيحَ للبشر أن يعرفوها عن طريق الوَحيِ الروحيِّ المُنـزَل على الأنبـياء هي نسبـيـَّة؛ أمَّا الحقيقةُ المُطلَقة فكامنة في العوالِم الروحيَّة الإلهيَّة وبالتالي في القوَّة الموجِدة. وليس بِوِسع الإنسان الإحاطة بهذه المعرفة المُطلَقة ما لم يتحرَّر من الحدود الزمانيَّة - المكانيَّة ويتخلَّص من الشوائب المادِّيـَّة، ويُصبح كائنًا روحيًّا محضًا. وفي الفصل الأوَّل من هذا المجلَّد مزيدٌ من الإيضاح حولَ هذا الأمر. وقد قال لي الروحُ العَلِيّ في إحدى تجلِّياته: "إنَّ الكائنات المُتفوِّقة في عوالِم النعيم تنظرُ إلى معارف الأرض بل حتَّى إلى ما عرفَه البشرُ من الحقائق الروحيَّة نظرة البشر إلى معارف الأطفال." فكيفَ بالأحرى تنظرُ الأرواحُ الإلهيَّة إلى المعارف البشريَّة!

       إنَّ فهمَنا لأنفُسنا ولِما يُحيطُ بنا من الوجود يتطوَّرُ بتطوُّر مداركِنا ومُستوياتِنا النفسيَّة. ومثلما يحدثُ الارتـقاءُ في إدراك الأفراد من طفولتهم إلى أوج نُضجهم، فهو يحدثُ كذلك في الشعوب المُتعاقبة المُرتـقية من العصورِ الحجريَّة إلى عصر الفضاء والتوجيه الإلكترونيّ Cybernetics  .

       فإنسانُ النصف الثاني من القرن العشرين تبدَّلَت نظرتُه العلميَّةُ إلى الكَون تبدُّلاً جَذريًّا عمَّا كانت عليه قبل بضعة قرون. فبعد اكتشاف الطاقة الكهربائيَّة-المغنطيسيَّة، وقانون حفظ الطاقة، ووحدات الكَمّ Quanta، ونظريَّة النسبيَّة، والتوجيه الإلكترونيّ عبَر المسافات الكونيَّة، وبَدء البحث عن حضاراتٍ غير أرضيَّة، وبعد الاكتشافات الأخيرة في الفَلَك والجيولوجيا والفيزياء النَّوَوِيَّة وعِلم الحيوان وعِلم النبات والبـيولوجيا ولا سيَّما فَضُّ رموز المُورِّثات Genesبعد هذا التقدُّم كلِّه، أصبحَ الإنسانُ مُهيَّــئًا، بدرجةٍ لم تكن من قبل، لتقبُّل إيضاحاتٍ روحيَّة جديدة عن أسرار الحياة والكون والعوالِم الروحيَّة.

       ذلك لا يعني أنَّ المعرفةَ الروحيَّة الداهشيَّة الجديدة تُناقضُ المعرفة الروحيَّة القديمة، أو أنَّها نهائيَّة مُطلَقة، لكنَّه يعني أنَّ حقيقةَ الوجود المادِّيِّ والروحيّ يُسلِّطُ الروحُ الإلهيُّ عليها ضوءًا أكثر، بحيثُ تبدو منها دقائقُ وتفاصيلُ وأعماقُ ما كانت تظهرُ في الأديان السابقة. فالحقيقةُ الروحيَّةُ واحدة لا تتغيَّر، لكنَّ كَشفَها يكون بنسبة ارتـقاء المدارك البشريَّة.

       إنَّ كلَّ ما يُدركُه الإنسانُ هو نسبيّ، وسيـبقى نسبـيًّا ما دامَ الإنسانُ إنسانًا مُقيَّدًا بحواسَّ ذاتِ فعَّاليَّةٍ محدودة وإدراكٍ ذي استيعابٍ محدود. ومهما تطوَّرَت اختراعاتُ الإنسان وأجهزتُه الإلكترونيَّة ومعرفتُه العلميَّة، فإنَّها تبقى مُقَيَّدةً بحدودٍ لا يستطيعُ الإنسانُ تجاوزَها.[xxi] كما إنَّ النتائجَ والحلولَ النهائيَّة حتَّى في علوم الطبيعة تبقى محصورةً في حيِّزٍ ضيِّق.[xxii] وإذا كانت المعرفة في علوم الطبيعة المعنيَّة بالواقع المادِّيّ  نفسِه نسبيَّةً وغير نهائيَّة بمعظمها، فإنَّها لَكذلك بالأحرى في العلوم النفسيَّة والاجتماعيَّة.[xxiii] فالمذاهبُ السيكولوجيَّة القائمة منذ قرنٍ ونَـيِّف لم يستقِم  أَيٌّ منها حقيقةً علميَّة نهائيَّة ثابتة، إذْ إنَّها ما تزال موضوعَ جدالٍ ونقاش شديدَين، وخاضعة للامتحان وغربلة الزمان. مِثالُ ذلك أنَّ التحليلَ النفسانيّ الفرويديّ، بعد أن احتلَّ دوائر السيكولوجيا في الجامعات وعيادات الأطبَّاء النفسيّـين عشراتِ السّنين، أَبعَده السيكولوجيّون عن برامج التدريس واعتبروا نظريَّاته جُثَّةً مُحنَّطة، حتَّى إنَّ الانقلابَ على فرويد جعلَته صحيفة "نيويورك تايمز" عنوانًا رئيسًا بتاريخ 25 تشرين الثاني 2007. كذلك فالمُطَّلعون على تطوُّر عِلم النفس ما يزالون يَرَون أَنَّ اليومَ الذي قد ينظر فيه جميعُ السيكولوجيِّين النظرةَ نفسَها، ويرضى كلٌّ منهم بعمل الآخرين، يتراءَى بعيدًا جدًّا.[xxiv] والحالُ نفسُها تسودُ العلاجَ النفسيّ، فالمنطلقاتُ النظريَّة والتعليلاتُ النفسيَّة والأَسبابُ العلاجيَّة ما تزال مختلفة جدًّا. [xxv] 

       والمعرفةُ الداهشيَّة الموحاةُ أو المُلهَمة لا تُناقضُ المعرفةَ العلميَّةَ في نتائجها  النهائيَّة القليلة، بل تستوعبُ أجزاءَها المُشتَّـتة في تضاعيف مُختلِف العلوم، وتـتخطَّاها في ما تستبقُ به النتائجَ العلميَّةَ التي قد تُؤَدِّي إليها الاكتشافاتُ في المستقبل. يقول العالِمُ الألمانيُّ ماكْس پلانْك    Max Planck (حائز جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1918): "إنَّ العالِم، باعتمادِه البحثَ الاستقرائيّ، يسعى جُهدَ المُستطاع إلى الاقتراب من ﷲ ومن نظام الكَون اللذَين يعتبرُهما حدًّا أسمى لتـنقيـباته العِلميَّة يستحيلُ بلوغُه. فـﷲ، بالنسبة للدين، يَمثُلُ، في مُنطَلق كلِّ فكر، بينما يَمثُلُ، بالنسبة للعِلم، في نهاية المطاف من كلِّ فكر. وفي حين أنَّهُ في الدين أساسُ رؤية العالَم، فهو، في العلم، تتويجُ المساعي العلميَّة..." [xxvi] فليس  من تضادّ بين العلم والدين في أيِّ مجال، بل بينهما تلاقٍ في النِّقاط الجوهريَّة. وليس صحيحًا أنَّ أحدَهما ينفي الآخَر وَفقَ ما يظنُّ ويخشى كثيرون من أبناءِ هذا القرن، بل هما، على العكس، يتكاملان. فإنَّ أبرزَ رجال العِلم، أمثال كِپلر ونيوتن ولايـبنـتـز، كانوا مؤمنين وَرِعين أيضًا.

       كذلك فالمعرفةُ الداهشيَّة تستوعبُ الحقائقَ الروحيَّة الموحاة في جميع الأديان السابقة وتـتخطَّاها. فعوالمُ الأرواح، والحضاراتُ الكونيَّة، والسيَّالاتُ الروحيَّة، والحياةُ النفسيَّة في النبات والحيوان والجماد، وحقيقةُ التقمُّص، والسَّبَـبِـيَّةُ الروحيَّة، ووحدةُ الكون الروحيَّة الجوهريَّة— مع أنَّها جميعًا موضوعاتٌ جليلةُ الشأْن، بالغةُ التأْثير في سلوك الإنسان وتوجيه قِـيَمه ومواقِـفه، لم يَرِدْ في الكتاب المقدَّس بعَهدَيه القديم والجديد، ولا في القرآن الكريم، أيُّ إيضاحٍ مُفصَّلٍ عنها. وهذا لا يعني أنَّ الروحَ الإلهيَّ الموحي بالحقائق الروحيَّة يجهلُ ذلك، بل يعني أنَّ مداركَ البشر ومُستوَيات علومهم وضرورات حياتهم، في العصور الماضية التي شهِدَت تأْسيسَ تلك الأديان لم تكن تُتيحُ إيضاحًا أعمقَ أو تفصيلاً أكثر. أمَّا الداهشيَّة فستَرفعُ الحجُبَ عن هذه الحقائق الخطيرة بتسليطها أضواءً قويَّةً جديدةً عليها استَلزمَتها ضروراتُ الحياة في عصرنا وسمحَ بها تطوُّرُ علومنا ومداركنا.

       وإنَّه لتَجميدٌ للروح الدينيّ وانتقاصٌ لقيمة الوَحي الإلهيّ أن يعتبرَ مؤمنٌ ما أنَّ دينًا من الأديان قد حوى الحقيقةَ الروحيَّة النهائيَّة كلَّها. فالرسالاتُ السماويَّةُ جميعُها يُكملُ بعضُها بعضًا إلى ما لا نهاية، لأنَّ الحياةَ لا تـنـتهي إلاَّ بالأُلوهة اللانهائيَّة، والمعرفةُ لا تكتملُ إلا  بكمال ﷲ.

       فكم كثيرة هي الرموز والغوامض والنبوءات في أسفار العهد القديم التي كان يستحيلُ جلاؤُها لولا مجيء يسوع المسيح واتِّضاحُها في وقائع حياته حسبما عرضَتها الأناجيل المُلهَمة.[xxvii] 

       ويسوعُ الناصريُّ الذي قال: "لا تظنُّوا أنِّي أَتيتُ لأَنقضَ الناموس أو الأنبـياء، إنِّي لم آتِ لأَنقضَ لكن لأُتمِّم،" (متّى 5: 17)  هو نفسه قال أيضًا لتلاميذه: "إنَّ عندي كثيرًا أقولُه لكم، لكنَّكم لا تُطيقون حَمْلَه الآن. ولكن متى جاءَ ذاك روحُ الحقّ، فهو يُرشدُكم إلى الحقِّ جميعًا، لأَنَّه لا يتكلَّم من عنده بل يتكلَّم بكلِّ ما يسمع ويُخبرُكم بما يأْتي." (يوحنّا 16: 12-13)

       فالناصريُّ أعلنَ إكمالَه للرسالة الموسويَّة، وبشَّرَ بوَحيٍ روحيّ يُتَمِّمُ رسالتَه عند عودته ثانيةً إلى الأرض. فهو من جهةٍ أكَّد نسبـيَّة المعرفة الروحيَّة التي أعطاها تلاميذَه، إذْ أعلنَ أنَّ مداركَهم لا تُطيقُ أن تحملَ أكثر مِمَّا مَدَّهم به نظرًا إلى مستوى العلوم في عصره. ومن جهةٍ ثانية أَكَّد الناصريُّ عودَته ليُرشدَهم إلى الحقِّ جميعًا. فليس صحيحًا التفسيرُ القائل بأنَّ المقصودَ من عبارة يسوع المسيح هو حلولُ الروحُ القُدس على تلاميذه بعد قيامته من الموت. فأيَّةُ معرفةٍ شاملةٍ أو حقيقةٍ جامعة استفادَها المسيحيُّون بعد ذلك الحدَث؟ لقد كانت الإفادةُ محدودةً جدًّا لأنَّ المسيحيَّةَ ما زالت حافلةً بالأسرار، عاجزةً عن الإجابة عن أسئلةٍ كثيرةٍ تتعلَّقُ بالكون وتركيـبه والحياة وأحداثها والأرواح وماهيَّتها والبشر وأحوالهم والجحيم والنعيم إلخ... بالرغم من مُضِيِّ ألفَيْ سنة عليها. وأين الحقُّ الروحيّ الذي أرشدَ "روحُ الحقِّ"، أَي روحُ ﷲ، المسيحيّـين إليه والمسيحيَّةُ نفسها مُنقسمة إلى مئات المذاهب المُتـناقضة المُتـناحرة! وهذا لا يعني أنَّ المسيحَ العائد سيُعطي الحقيقةَ النهائيَّة المَطلَقة، بل الحقيقة الروحيَّة وقد جُمِعَت جوانبُها الموحاة المُنبثَّة في مختلف الأديان لتتجلَّى في الوَحدة الدينيَّة التي تُنادي بها الداهشيَّة. فأيُّ شرحٍ للحقائق الروحيَّة الجديدة التي انطوَت الداهشيَّةُ عليها توجِبُ قدرًا من المعرفة العلميَّة الحديثة التي لم تتهيَّأْ إلاَّ  لأبناء القرن العشرين وما بعده.

       والقرآن الكريم أكَّدَ حقيقتَين: الأُولى أنَّ الكتابَ المُنـزَل يشملُ التوراةَ والإنجيل والقرآن معًا، وذلك بقوله: "وأنزَلنا إليك الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقًا لِما بين يديه من الكتاب ومُهيمنًا عليه" (سورة المائدة: 48)، وأنَّهُ مثلما صدَّقَ الإنجيلُ ما بـين يدَيه من التوراة، فالقرآن يُصدِّقُ ما بين يدَيه من التوراة والإنجيل،[xxviii] إذْ إنَّ خطَّ الهداية الروحيَّة واحد. والحقيقةُ الثانية أنَّ كلامَ ﷲ الذي تمثَّلَ بعضُه في الكُتُب المقدَّسة الثلاثة المذكورة لا ينفد؛ وعدمُ نفادِه يعني أنَّ رسالاتِ ﷲ الحاملة كلماته إلى خَلقه لا نهايةَ لها. يقول القرآن: "قُل لو كان البحرُ مِدادًا لِكلمات ربِّي لَنفِدَ البحرُ قبلَ أن تنفَدَ كلماتُ ربِّي ولو جئْنا بمثْلِه مدَدًا" (سورة الكهف: 109).[xxix] والحقيقةُ الروحيَّةُ التي وراء ذلك هي أنَّ مداركَ البشر وعلومهم وحاجاتهم النفسيَّة تتطوَّرُ باستمرار، وأنَّ الحياةَ العاقلة مستمرَّةٌ في الكون، إن تلاشَت مظاهرها على الأرض، فلا بُدَّ من وجودها في كواكبَ أُخرى، وهذه الحياة سيبقى أبناؤها بحاجةٍ إلى هدايةٍ روحيَّةٍ تُلائمُ مداركَهم وعلومَهم وحاجاتهم النفسيَّة المُتطوِّرة، الأمرُ الذي يستوجبُ عدمَ انـقطاع الرسالات الروحيَّة عنهم، وعدم تـقيـيد إرادة ﷲ القدير وكلماته بعَصرٍ من العصور. من أجل ذلك وردَ في القرآن: "يمحو ﷲ ما يشاءُ ويُثبِتُ وعندهُ أُمُّ الكتاب" (سورة الرعد: 39).[xxx] وعبارة "أُمُّ الكتاب" إنَّما تعني الكتابَ الروحيَّ الشاملَ الجامعَ الذي هو بمنـزلة أُمٍّ روحيَّة والكتبُ المُقدَّسة بمنـزلة أبنائها.

       وحاملُ الوحيِ الروحيِّ الجديد إلى الناس هو المسيحُ نفسُه وقد عادَ باسمٍ جديد، اسم داهش، وفي تجسُّد جديد، تجسُّد النبيِّ الحبيب الهادي؛ وقد بُشِّر به في الأناجيل مثلما في القرآن. ورسالتُه تُصدِّقُ ما أُنزِلَ على موسى ويسوع المسيح ومُحمَّد وسائر الأنبياء والرُّسُل، وتُشدِّد على وحدتهم وعلى ضرورة التسامُحِ الدينيِّ في العالم. وإذا كانت غايةُ العلوم البشريَّة القُصوى توضيحَ علاقة الإنسان بالوجود كلِّه، مثلما يرى جاك مونو، العالِمُ البيولوجيّ، حائزُ جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطبّ سنة  1965،[xxxi] فالتعاليمُ الداهشيَّةُ التي نزلَت وَحيًا أو إلهامًا إلى أبناء القرن العشرين، وأتَت مُؤكَّدَةً بالمعجزات الباهرة، يُمكنُها أن تُحقِّقَ هذه الغايةَ مثلما لم يُحقِّقها أيُّ جُهدٍ علميّ من قبل، لأَنَّها مُنبثقة من مصدرٍ روحيٍّ خارق تشملُ معرفتُه الوجودَ المعلومَ وغير المعلوم.[xxxii] 

 

إدِّعاءُ الحقيقة المُطلَقة وأخطارُ التعصُّب الدينيِّ الأعمى:

       يتوهَّمُ المُتَديِّنون المُتطرِّفون أنَّ الحقيقةَ المُطلَقة هي في حوزتهم، وأنَّهم بفَضلها أصبحوا معصومين من الزيغان في الرأي والخطإ في التصرُّف، وبذلك يشعرون أنَّهم فوق البشر الآخَرين؛ فهم المختارون عند ﷲ، وجنَّاتُ الخُلد لهم وحدهم، والجحيمُ الأبديَّة لسواهم.

       وهذا التوهُّمُ المُعمي للبصائر يجعلُهم يُـبدِّلونَ القِيَمَ العُليا التي أقرَّتها الأديانُ في مُنطلقاتها النَّبَويَّة مثلما الحضارات الراقية. فالمحبَّةُ والشفقةُ والتسامُح والسلام والتواضع والنزعاتُ الإنسانيَّة التي هي أساسُ القِيَم الروحيَّة التي نادى بها الأنبـياءُ طُرًّا وكذلك الهُداةُ الروحيُّون نظيرَ غاندي وبوذا ولاوتسو وكونفوشيوس— جميعها تُصبحُ هامشيَّة في نظرهم حيالَ التطبيق الحرفيِّ للطقوس والشعائر والشرائع الاجتماعيَّة التي يعتقدون أنَّها جزءٌ لا يتجزَّأُ من الحقيقة المُطلَقة. ومن أجل حقيقتهم هذه يُضَحُّون بسواهم بل حتَّى بأنفُسهم. لكنَّ الواقعَ هو أنَّهم بتضحيتِهم بمبدإ المحبَّة الشاملة، يُضحُّون بالمُطلَق الصحيح الذي لا يُمكنُ أن يحوزَه أحد أو يُدركَه أحد، أعني بإيمانِهم بالقوَّةِ الموجِدة، مصدرِ المحبَّة والرحمة الشاملة. وإنَّما يُقدمونَ على ذلك إشباعًا لغرورهم ولنَـزَوات نفوسِهم المريضة؛ وهكذا يُصبحُ معنى تديُّنهم مبنيًّا فقط على مُمارسةِ الطقوس والشعائر والشرائع الاجتماعيَّة من الدين، وهي تُشكِّلُ الإطارَ لا اللُبابَ من الحياة الدينيَّة الحقيقيَّة التي تهدفُ إلى ترقية النفس ونَشر الإخاء الصادق بـين الناس.

       وإيحاءُ المُتديِّنين المُتطرِّفين لأنفسهم أنَّهم دائمًا على حقّ في آرائهم وتصرُّفاتهم يُخدِّرُ ضمائرَهم ويدعُهم يقترفون الجرائمَ بـبرودة؛ يُغذِّيهم ويمدُّهم للثبات في موقفهم شعورٌ جماعيٌّ مَرَضيّ بالتفوُّق يُمكنُ أن يُسَمَّى "جنون العَظَمة الجَماعيّ".

       وذهنيَّةُ المُتطرِّف الدينيّ يتعذَّرُ عليها أن تحيا في مناخ الحرِّيَّة الفكريَّة، لأنَّ الحرِّيَّةَ تُهدِّدُ وجودَها، ولذا تُصبحُ من أعدائها. فالحرِّيَّةُ تمنحُ الفردَ حقَّ التأويل والاجتهاد والاعتـقاد، وتُتيحُ له مجالاً للتفاعُل بينه وبين الآخرين؛ في حين أنَّ عقيدةَ المُتطرِّف الدينيّ تقومُ على التمسُّك بما يتوهَّمُه حقيقةً ثابتةً مُطلَقة، لا مجالَ فيها لإبداءِ أيِّ رأيٍ مُخالفٍ ولا لتَفاعُل.

ولذلك تـتَّصفُ آراءُ المُتطرِّفين الدينيِّـين بالحَسميَّة، فإمَّا أسود أو أبـيض. فدقائقُ الأَلوان والظلال لا يُريدون معرفتَها ولا الاعتراف بها. من أجل ذلك هم يقطعون كلَّ حوارٍ بينهم وبين الجماعات الأُخرى. وباستغراقهم في نرجسيَّتهم وغرورهم تُصبحُ ذهنيَّتُهم أشبهَ بذهنيَّة الأطفال، أي ذهنيَّةً غير ناضجة مُوجَّهة إلى التحدِّي غير الواقعيّ، ومبنيَّة على الاقـتـناع الأَعمى القائم على التوهُّم بأنَّ القدرةَ الكُلِّـيَّةَ هي في حَوزتهم. وهذه الذهنيَّة من شأنها، إذا شملَت مجتمعًا ما، أن تشلَّ فيه التقدَّمَ العلميَّ والحضاريّ، لأنَّ كلَّ ارتـقاءٍ شاملٍ لا بُدَّ له من أُناسٍ يرضَون بأن يقتبسوا عمَّن سبقوهم في مضمار الحضارة علومَهم وفنونَهم وأنظمتَهم وإنجازاتهم. وفي الغالب لا يقوى أبناءُ المجتمع المُتطرِّف دينيًّا على ذلك، لأنَّهم يعتبرون أنَّ الآخرين هم دونهم، وأنَّ إنجازاتِ الناس لم تصدر عن إدراكهم للحقيقة المُطلَقة. وإن اقتبَسَ المُتطرِّفون دينيًّا شيئًا من العلوم، فيكون في الغالب من أجل تعزيز قوَّتهم الحربـيَّة، لأنَّ ذلك ينسجمُ مع نزعتهم العدائيَّة الإرهابـيَّة نحو الآخَرين. وهذا الموقفُ الشاذّ ينـتهي بهم إلى عَزل مُجتمهم عن سائر المجتمعات، فتُهدَّد حضارتُهم بالتخلُّف والتـقهقُر ويتـقَوقَع مجتمعُهم أو تكتُّلُهم حتَّى التلاشي.

       وهذا المجتمعُ الدينيُّ المُنعزلُ يزيدُ في دَفْعِه القَهقَرى أنَّه يـبقى على الدوام رازحًا تحت أعباء مُتعاظمة هي أعباءُ أعدائه الذين تنداحُ حلقاتُهم أوسَعَ فأوسَع كلَّ يوم، لأنَّ كلَّ مَن كان خارجَ الدائرة المُغلَقة التي يعيشُ فيها المتطرِّفون الدينيُّون المنعزلون يُصبحُ بحُكم الحال، وبحُكمِ منطقهم، من أعدائهم. وبناءً على ذلك يلجأون إلى الإرهاب يُقاتلون به أعداءَ وهميِّـين في أكثر الأحيان؛ والإرهابُ تنعكسُ ردَّاتُ فعلِه العالَميَّة عليهم، فتـزيدهم عزلةً عن المجتمعات المُتحضِّرة الآخِذة بمبادئ الحُرِّيـَّة والتسامُح والأَخذ والعطاء المُتبادلَين.

       ويُشجِّعُ المتطرِّفين دينيًّا على ثباتهم في موقـفهم العدائيّ من الآخَرين وفي استعلائهم وانعزالهم أنَّ كلَّ جماعةٍ منهم تُنصِّبُ لها قائدًا "هاديًا" يُصبحُ كالوَثَن المعبود. منه يصدرُ التحريمُ والتحليلُ والأمرُ والنَّهي، حتَّى يُصبحَ دورُه واقعيًّا أهمَّ من دَورِ ﷲ عّزَّ وجَلّ، إذْ إنَّ أقوالَ الأَنبـياءِ أنفسِهم وما أُوحيَ إليهم يُصبحُ فهمُها وتفسيرُها مبنيَّـين على موقفِ هذا القائد وآرائه. والروابطُ التي تقومُ بـين المتطرِّفين الدينيِّـين ومِثالهم الأعلى —الذي كثيرًا ما يكونُ قائدًا انتهازيًّا— هي روابطُ لا تُستَمَدُّ من أيَّة معرفةٍ يقينيَّةٍ أو ِعلميَّة، بل من عواطف بدائيَّة وحاجاتٍ نفسيَّة بحاجةٍ إلى الإشباع.[xxxiii]  

       إنَّ خُلُوَّ الأديان من المحبَّة والتسامح ومن مُمارسةِ القِيَم الروحيَّة والنَّزعات الإنسانيَّة يجعلُ من الأديان بُؤَرًا للأحقاد والكراهية وأدواتٍ للقمع والترهيب ووسائلَ استعجالٍ لتقَهقُر الحضارات.

       فإذا نظرَ العاقلُ إلى مجرى التاريخ الدينيّ، لَرأى فيه من الفظائع والجرائم أكثرَ مِمَّا حدثَ في التاريخ السياسيِّ المَدَنيّ.

       فبعدَ أن اطمأنَّ رجالُ الدين المسيحيُّون إلى قوَّتهم وأخذوا يستفيدون من دَعمِ السلطة السياسيَّة لهم، وذلك بعد انعقاد المَجْمَعِ المسكونيّ الأوَّل بـنيقيا، في العام  325، برعاية قسطنطين، ثمَّ المجمع المسكونيّ الثاني في القسطَنطينيَّة، في العام 381، بدعوةٍ من ثيودوسيوس، أصبحَت السلطاتُ المسيحيَّةُ شرِسةً في قَمع ما اعتبرَتهُ هرطقات، أي انحرافاتٍ دينيَّة عن مبادئ العقيدة التي يحميها الإمبراطور. ففضلاً عن أعمال العَزل والإبعاد والنَّـفْي التي استَهدفت مُخالفيهم في الرأي، لم يتورَّع الرؤَساءُ المسيحيُّون حتَّى عن قَـتل مُناوئيهم العقائديِّين أفرادًا أو جماعات. ففي العام 385، حكمَ الإمبراطور الرومانيُّ المسيحيُّ مكسيموس Maximus بالإعدام على پريسِلْيان Priscillian وأتباعه لشكِّه في صحَّة عقيدتهم المسيحيَّة. وكان پريسِلْيان يعيشُ مع أتباعه حياةً مُتقشِّفة. وسنة 415، أَوعزَ الرُّهبانُ في الإسكندريَّة إلى زبانيتِهم بفَتلِ هيـپاتيا Hypatia —المرأة العالِمة الفيلسوفة التي أَحيَت الأفلاطونيَّة، والتي كانت رئيسة مكتبة الإسكندريَّة—  فانهالوا عليها بضَربٍ مُبرِّح حتَّى قتلوها وقطَّعوها وجرَّروا أَشلاءَها في الشوارع، ذلك لأنَّ الرّهبانَ الذين أَعمَتهم العصبيَّة الدينيَّة المتطرِّفة رأوا في آرائها العِلميَّة والفلسفيَّة انحرافًا عمَّا يعتقدونه. وحوالى سنة 550، فتكَ الإمبراطور المسيحيُّ البيزنطيّ، يوستنيانوس Justinian بتحريضٍ من الأساقفة، بكثيرين من المسيحيِّين مِمَّن كانت لهم آراءٌ مُخالفة بعض الشيء للخطِّ العقائديّ الذي تبنَّاه. وسنة 1022، أحرقَ الملك روبرت التقيّ Robert The Pious، في أُورليان، ثلاثة عشر مسيحيًّا بتُهمة أنَّهم هراطقة. وسنة 1051، حُكِمَ على جماعةٍ كبيرةٍ من المسيحيِّين بالإعدام شَنقًا في غوسلار Goslar بجرمانيا لأنَّ ضمائرَهم أبَت عليهم أن يقتلوا الفراريج.[xxxiv]  

       وبدءًا من أواخر القرن الحادي عشر عمدَت السلطاتُ الكاثوليكيَّة رجالَ دينٍ وحُكَّامًا إلى الترهيب والتَقتيل الجماعيِّ في خَطَّين مُتوازيَين:

       أوَّلاً، في حملاتٍ صليبـيَّةٍ خارجيَّة بدأها البابا أُربانوس الثاني Urban II سنة 1095، لانـتـزاع الأراضي المقدَّسة من أيدي المُسلمين. لكنَّ هذه الحملات العسكريَّة جرفَت في طريقها آلافَ اليهود أيضًا قتلاً وحَرقًا، وآلافًا من المسيحيِّـين المساكين فضلاً عن المسلمين. فكانت هذه الحملاتُ التي حملَت اسمَ الصَّليب ورسمَه أقذرَ لطخةٍ لُطِّخَ الصليبُ بها، مدى ألفَي سنة، بأيدي الذين يدَّعون أنَّهم يُمثِّلون المسيح ويصونون تعاليمَه التي مِحورُها المحبَّة والتسامُح والرحمة. فرجالُ الحملة الصَّليـبـيَّة الأولى التي قادَها بُطرُس الناسك Peter The Hermit قَتلت، وهي في طريقها إلى فلسطين، آلافَ اليهود في وادي الرايْن بجرمانيا وأحرقَت منازلهم؛ وكذلك أوقعَت مجزرةً مُماثلةً في يهود باڤاريا. ولم يتحرَّج الصليـبـيُّون من قَتل أربعة آلاف مسيحيّ في يوغوسلاڤيا من أجل سَلْب مُمتلكاتهم ونَهبها. وفي قتالِهم المُدُنَ الإسلاميَّة التي اعترَضَتهم، كانوا يقطعون هاماتِ المُسلمين ويحملونها على رؤوس الرِّماح، ثمَّ يقذفون بها إلى داخل المُدُن المُحاصَرة، أمثال نيقيا وأنطاكيا وصور. وبعد افتـتاحهم المُدُن، كانوا يـبقرون بطونَ النساء ويرتكبون الفظائع. وفي الحرب الصَّليبـيَّة الثالثة، بعد أن افتَـتحَ رِتشارد "قلب الأسد" مدينة عَكَّا سنة 1191، أمرَ بأن يُقتلَ ثلاثة آلاف أسير، كثيرون منهم نساء وأطفال. ثم  فُتِحَت بُطون الضَّحايا بحثًا عن جواهرَ ظنَّ الصَّليـبـيُّون أنَّ المُسلمين يُمكنُ أن يكونوا قد ابتلَعوها إخفاءً لها. وجميعُ تلك الفظائع كان يُـباركُها الأساقفة المُرافـقون للحملات. وسنة 1291، بعد قَرنَين من المجازر المُتبادَلة بين المسيحيِّـين والمسلمين، وبعد التضحية بمئات الآلاف من الناس، ومن بـينهم آلاف الأولاد الذين غرَّروا بهم وعبَّأوا الحملةَ الصليبيَّة الرابعة سنة 1212، عادَت الأراضي المقدَّسةُ كلُّها إلى أيدي المسلمين.[xxxv] 

       أمَّا خَطُّ الترهيب والتقتيل الَجماعيّ الثاني، فكان في "حـملاتٍ صليبيَّةٍ داخلية". فالسلطةُ البابويَّة أنشأَت "محاكمَ التفتيش المقدَّسة" The Holy Inquisition التي لم يكن لها من المحاكم والقداسة سوى الاسم، إذْ كانت وسيلةً جهنَّميَّةً للبابوات والأساقفة والرهبانيَّات الإرهابـيَّة ومَن ناصَرَهم من أصحاب السلطة السياسيَّة وذلك للتخلُّص من خُصومِهم الدينيِّـين والسياسيِّـين على حَدٍّ سواء، وللاستيلاء على أملاكِهم. وقد كانت مُلاحقةُ هذه المحاكم مُوجَّهة، أصلاً، ضدَّ "الهراطقة"، أي المسيحيِّـين الخارجين عن العقيدة الرومانيَّة الكاثوليكيَّة وَفقَ تشكُّلِها بعد مَجْمع نيقيا سنة 325 م. لكنَّها، في الواقع، تعدَّت هؤلاء لتشملَ أيضًا اليهودَ والمسلمين في إسپانيا، والمُتَّهمين بتعاطي السِّحر المزعوم، والأعداء السياسيِّـين والفكريِّـين في كلِّ منطقةٍ يُسيطرُ عليها النفوذُ البابَويّ.

       أمَّا طرُقُ المحاكمة وأُصولُها فقد كانت مأساةَ المآسي ومهزلةَ المهازل. فالأُسقُف أو رئيسُ المحكمة المحلِّيَّة المُكلَّف كان مُطلَق الصلاحيَّة في اتِّهامه الناس. وكان يقبلُ شهادة المُجرمين من لصوصٍ وشاهدي زور... ومع ذلك لم يكن مسموحًا للمُتَّهَم بمواجهة الذين شهدوا ضدَّه أو بمعرفة أسمائهم. علاوةً على ذلك حُرِّمَ على المُحامين، بصورةٍ عامَّة، مُساعدة المُتَّهمين. وكان المُتَّهمون يخضعون لأقسى أنواع العذابات ليعترفوا بالذَّنب الذي تُريدُ المحكمةُ أن يعترفوا به؛ وهيهاتِ أن يَسْلموا بعد اعترافهم. ومن تلك العذابات الضربُ بالسِّياط، والضَّغطُ بالآلات على الأيدي والأَرجُل حتَّى تُحطَّم العظام، ورفع المُتَّهَم بآلةٍ رافعةٍ ثمَّ صَدمُه بالأرض، والكَيّ بالجَمر الخ...[xxxvi] ذلك فضلاً عن القيود والصِّيام الإكراهيّ وحرمان النَّوم التي تمتدُّ عقوباتُها أحيانًا إلى بضع سنوات.

       أمَّا الأحكامُ فكانت حرقَ المُتَّهَم حَيًّا أو سَجنَه مُؤَبَّدًا، هذا إذا لم يقضِ نحبَه من جرَّاء فنون التعذيب الرهيب. وكانت أملاكُه تُصادَر، ويُحرَمُ أفرادُ عائلته من أيِّ إرث؛ بل إنَّ ما سَمَّوه "بالمكتب المُقدَّس" ذهبَ أبعد من ذلك، فكان يأمرُ بنَبشَ جُثَثِ الذين يُشَكُّ في "هرطقتهم"، مِمَّن ماتوا دونما مُحاكمة، فتوضَع عظامُهم وبقاياهم على  المسامير وتُجَرَّر في الشوارع، ثمَّ تُحرَق.

       وقد بدأَ اضطهادُ السُّلطة الكاثوليكيَّة الِجدِّيّ للمسيحيِّـين الذين يأبَون التعامي عن القبائح والفضائح التي تجري في قُصور البابوات أو الذين لا يخضعون لأوامرهم ومبادئهم الدينيَّة والسياسيَّة، في أوائل القرن السابع للمسيح. لكنَّ محاكمَ التفتيش الرهيـبة ترقى في نشأتها إلى أواخر القرن الثاني عشر. ففي سنة 1179، قرَّر البابا ألكسندر الثالث، في مجمَع لاتِـران Lateran، وجوبَ التصدِّي "للهراطقة" بقوَّة السِّلاح، ومُصادرةِ مُمتلكاتهم، واستعبادهم. وفي 4 تشرين الثاني سنة 1184، أصدر البابا لوسيوس الثالث Lucius III، في مجمع ڤيرونا، دستورًا يُمكنُ اعتبارُه الأَصل التـأسيسيّ لمحاكم التفتيش الأُسقفيَّة.

       واستَخدمَت السلطةُ البابويَّةُ عدَّةَ مُنظَّمات "رهبانيَّة" لمُساعدتها في مهمَّتها، من بـينها الدومينيكان والفرنسيسكان والواعظون.

       وكان الكاثاريُّون (الألبـيجيُّون) Cathars الضَّحايا الأوائل لمحاكم التفتيش. فقد أُحرِقَ حَيًّا أو وُئدَ الأُلوفُ منهم في أُوروبَّا، ولا سيَّما في فرنسا وإيطاليا وألمانيا بـين سنة 1233 و1278 . ثمَّ تـتابَعت المجازرُ الرهيـبةُ، وكان من أبشعها تلك التي حدثَت في فرنسا، في عهد الملك فيليپ له بِـلْ Philippe Le Bel، إذْ أُوقِـفَ في 24 آب سنة 1307 أعضاءُ الجمعيَّة المعروفة "بفُرسان الهيكل" Les Chevaliers du Temple في جميع الأراضي الفرنسيَّة، ثمَّ أُحرِقوا أَحياء، بعد أن قضى كثيرون منهم في السجون من جرَّاء التعذيب الوحشيّ؛ كذلك في عهد فرانْسوا الأوَّل إذ قُتِلَ، سنة 1545، ألوفُ الأَشخاص من الڤودوا Vaudois.

       لكنَّ أرهبَ محاكم التفتيش هي تلك التي عرفَتها إسبانيا، لا سيَّما في عهد رئيس الدَّير الدومينيكي توركويمادا Torquemada، إذْ قضى على ألفَي شخص في مدَّة أربعةَ عشرَ عامًا، بين 1484 و1498 .

       وقد ثابرَت محاكمُ التفتيش الكاثوليكيَّة حتَّى القرن التاسع عشر على إرسال خصوم البابويَّة إلى المُحرقَة.

       ولم تكتفِ البابويَّةُ والأجهزةُ التابعةُ لها باضطهاد العاديِّـين، بل تعدَّتهم إلى اضطهاد العُلماء والمُفكِّرين والمُصلحين، بحيثُ أظهرَت نفسَها أنَّها، في الغالب، مُناهِضة لكلِّ إصلاحٍ روحيّ أو اجتماعيّ أو تقدُّمٍ علميّ. فمن العُلماء الذين حاربَتهم كوپـرنيك Nicolaus Copernicus  (1543-1473)، العالِمُ الفلَكيّ الپولونيّ الذي برهنَ على دوَران الأرض حول مِحوَرِها وحول الشمس، فحكمَت البابويَّةُ على نظريَّته بالبُطلان مُعتبرةً إيَّاها ضدَّ الدين، وذلك لأنَّها أزاحَت الأرضَ عن مكانتها المُمَيَّزة كمركزٍ للكَون. فكَونُ الأرض مُجرَّدَ كوكبٍ كسائر الكواكب السيَّارة يُخفِّضُ منزلةَ الإنسان وبالتالي مكانةَ السلطة الدينيَّة التي تدَّعي أنَّها تحملُ مفاتيحَ خلاصه، مثلما تحملُ الحقيقةَ المطلقة.   

كذلك غاليلي   Galileo Galilei (1642-1564)، العالِمُ الإيطاليّ في الرياضيَّات والفيزياء والفَلَك، أُجبِرَ على أن يركعَ، وهو في السبعين من عمره (في 21/6/1633)، أمام محكمة التفتيش الكاثوليكيَّة Inquisition، ويُنكِرَ تأييدَه لصحَّة نظريَّة كوپرنيك حتَّى ينجوَ من عقاب الموت بإحراقه حيًّا؛ ففعل ما أكرهوه عليه وهو يقول: "ولكنَّها (أي الأرض) مع ذلك تدور" E pur si muove. وقد أمضى الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في إقامةٍ جبريَّةٍ بمنزله.

       كذلك أحرقَت محكمةُ التفتيش حَيًّا، في السنة 1600، الفيلسوفَ الإيطاليّ برونو  Giordano Bruno (1600-1548)، وهو فيلسوفٌ وعالِمٌ في عِلمَي الفلَك والرياضيَّات، وذلك بتُهمة الهَرطقة، لأنَّه أيَّدَ نظريَّة كوپرنيك وذهبَ أبعدَ منه في نظريَّته التي تـقول إنَّ في الكَون عوالمَ كثيرة وليس عالمٌ واحدٌ مركزُه الشمس. وقد قال لقُضاته في محكمة التفتيش، بعد أن استمَع إلى حُكمهم في 8/2/1600: "قد يكونُ خوفُكم من إدانـتي أعظمَ من خوفي تقبُّلَ الحُكم."

كذلك أحرقَت محكمةُ التفتيش حَيًّا أيضًا، في السنة 1619، الفيلسوفَ الإيطاليَّ الآخَر ڤانيني  Giolio Cesare Vanini (1585-1619)، الكاهنَ الفيلسوفَ الذي عُرِفَ بفَلسفَته الطبيعيَّة، وذلك بتُهمة السِّحر والإلحاد.

       وكانت السلطةُ البابويَّةُ قد أصدرَت، سنة 1559، اللائحةَ الأولى للكُتُب المحظورة   (Index Expurgatorius) Index Vaticanus وأتبَعَتها، سنة 1564، بلائحةٍ أوسع. ثم  دأبَ "مجمعُ الحَظْر" التابع لها على تحريم كلِّ كتابٍ لا يروقُه منذُ سنة 1571 حتَّى سنة 1917 . إذْ ذاكَ أخذَ يقومُ بهذه المهمَّة ما سُمِّيَ بـ"المكتب المقدَّس". وقد أدانَ البابا پـيوس العاشر، سنة 1907، الحركة العلميَّة الحديثة حاكمًا بـبُطلانها وبأنَّها ضدّ الدين المسيحيّ.

       أمَّا عددُ ضحايا محاكم التفتيش الكاثوليكيَّة فيُعَدُّ بمئات الأُلوف.  فوَفقَ شهادة جوان أنطونيو لورنتِه: Juan Antonio Lorente الذي كان يشغلُ منصبَ أَمين سرّ محكمة التفتيش في مدريد في أثناء سنوات الثورة الفرنسيَّة 1789-1791، بلغَ عددُ ضحايا محاكم التفتيش الإسبانيَّة وحدَها حوالى ثلاثمئة وخمسين ألفًا، بينهم 31912 شخصًا أُحرِقوا أحياء. وقدَّر كورْتس Kurtz عددَ النساءِ الضحايا المتَّهمات بالسحر بثلاثمئة ألف امرأة، بينهنَّ مئَتا ألف في ألمانيا وحدَها.[xxxvii] 

       ولم تقتصر الفظائعُ الدينيَّة المسيحيَّة على ما تقدَّم. فما إن قامَت حركةُ الإصلاح البروتستـنـتيَّة في القرن السادس عشر حتَّى تصدَّى لها الكاثوليك، ونشَبَت الحروبُ الدينيَّة بـين الطرفَين؛ فسادَ التقتيلُ والتنكيلُ معظمَ أنحاء أوروپَّا مدى قرنٍ ونصف. وفي هذه الحروب تبقى مجزرة "سانت بارثولوميو" St. Bartholomew التي حدثَت في ليلة 23-24/8/1572 من أنكر فظائعها، إذ إنَّ ملكةَ فرنسا الكاثوليكيَّة كاترين ده ميدِتْشي  Catherine de Medici (1519-1589) تآمرَت مع القوَّات الكاثوليكيَّة على الغدر بجماعات البروتستانت في باريس، فحاصروهم وقتلوا آلافًا منهم، ثمَّ امتدَّت المجازرُ إلى كثيرٍ من أرجاء فرنسا. وبعد حوالى 45 عامًا نشبَت حربُ الثلاثين سنة (1618-1648) فقضَت على الملايـين في أوروپَّا الوسطى.[xxxviii] 

       كان لا بُدَّ من إطالة الوقـفة عند أخطار التعصُّب الدينيِّ الأَعمى وادِّعاء الحقيقة المُطلقة في المسيحيَّة، لأنَّ مبادئَ التسامُح والمحبَّة والرحمة لم يُجسِّدها مؤَسِّسُ دينٍ مثلما جسَّدَها السيِّدُ المسيح؛ والمسؤوليَّةُ تعظمُ بعِظَمِ انحراف المؤمنين عن تعاليم مُؤَسِّس دينهم.

       لكنَّ تاريخ الإسلام حافلٌ أيضًا بالمجازر المروِّعة بين السُّنَّة والفِرَق الإسلاميَّة المختلفة؛ وأُولاها حدثَت، سنة 656 م، في "وقعة الجَمَل" بين عَليّ بن أبي طالب وأَنصاره من جهة وعائشة زوجة النبيِّ وأَنصارها من جهةٍ أخرى. وقد سقطَ في تلك المعركة أكثرُ من ثلاثة آلاف من الصّحابة (أي المسلمين الذين عرفوا النبيَّ وصحبوه).

       ثمَّ أدَّى الاقتـتالُ على حقِّ الخلافة إلى نشوء مذهب الشيعة وإلى تكرار المجازر بـينهم وبـين السنَّة طوالَ قرون. وكان عهدُ الخليفة السنيّ المُتَوَكِّل (847-861 م) من أشأم العهود وأقساها على المؤمنين غير السنّـيِّـين شيعةً كانوا أم مسيحيِّـين أم يهودًا.

       ولم تـقتصر الجرائمُ المُرتكَبة باسم الدين وباسم امتلاك الحقيقة المُطلَقة على العصور الماضية. فها نحن في بدايات القرن الحادي والعشرين وما زلنا نشهدُ فظائعَ "الرُّعب الدينيّ" في أنحاء كثيرة من العالَم.

       ففي لبنان كان التعصُّبُ الدينيُّ الأعمى الفارغ من أيَّةِ قيمةٍ روحيَّةٍ حقيقيَّة سبَـبًا رئيسيًّا في تدمير البلد وتشريد شعبه والتـنكيل بأبنائه على السواء، موارنةً كاثوليك كانوا أم أرثوذكسًا أَم سُنَّة أَم شيعةً أم دُروزًا... فبين 1976 و1990 سقط حوالى مئة وسبعين ألف ضحيّة.

       وفي الهند ماتزالُ المذابحُ قائمةً بين السِّيخ والهندوس وبـين الهندوس والمسلمين.

       وفي إرلندا سقطَ آلاف القتلى ضحايا التعصُّب الدينيّ المُتبادَل الذي أدَّى إلى التناحر بين الكاثوليك والبروتستانت.

       وفي كثيرٍ من البلدان العربـيَّة أو الإسلاميَّة التي اشتدَّت فيها حركاتٌ إسلاميَّةٌ أُصوليَّة كأَفغانستان والعراق وإيران وپاكستان والسُّودان وغيرها، تتكاثرُ الاعتداءاتُ وأعمالُ العنف والإرهاب ضدَّ المسيحيِّـين كما بـين المسلمين أنفسهم مِمَّن لا يُجارون الحركات الأُصوليَّة المُتطرِّفة حتَّى أصبحَ الضحايا يُعَدُّون بمئات الأُلوف.

       وهكذا الحال في كثيرٍ من بلدان العالم الأُخرى كالبوسنه  وسريلانكا وقبرص وأرمينيا وآذربـيجان... حتَّى يُمكنُ القولُ إنَّهُ لم يخلُ دينٌ في التاريخ من وجهٍ نَيِّرٍ ووجهٍ قاتِم، والوجهُ القاتمُ هو الذي يستأثرُ بأكثريَّة المؤمنين مثلما بالمدَّة الأطول من التاريخ.[xxxix]   ومَرَدُّ ذلك إلى فراغ المُحتوى الدينيّ، مع كرور الزمن، من القِيَم الروحيَّة الحقيقيَّة، وعلى رأسها المحبَّة، وتحوُّلِ الأديان إلى مُجرَّد مُمارسات لطقوسٍ وشعائرَ وعقائد ليس لها أيّ تأثير في تقدُّم الحضارات الصحيح وفي الرُّقِيِّ الروحيِّ الحقيقيّ. هذا الإكراهُ الدينيّ والفراغُ الروحيّ عبر العصور جعلا توماس جفرسون Thomas Jefferson (1743_1826) يقول:

       "منذ ظهور المسيحيَّة، ملايـينُ من الأبرياء رجالاً ونساءً وأطفالاً قد أُحرِقوا أو عُذِّبوا، أو غُرِّموا أو سُجِنوا، ومع ذلك فإنَّنا لم نـتقدَّم قيراطًا واحدًا نحو الاتِّساق. وماذا كانت عاقبةُ الإكراه؟ جعلَ نصفَ البشر حمقى، ونصفَهم الآخر مُنافـقين." [xl] 

       إذًا في ضوءِ ما عرَضتُه في هذا المدخل العامّ للتعاليم الداهشيَّة، وانطلاقًا من أنَّ الحقائقَ التي أُتيحَ للبشر أن يعرفوها —بما فيها ما أُنزِلَ وحيًا أو إلهامًا— إنَّما هي حقائقُ نسبـيَّةٌ غير نهائيَّة ولا مُطلَقة، سأعرضُ بمحبَّة وانفتاح ما أُتيحَ لي أن أستَوعبَه أو أن أُلهَمَه من التعاليم الداهشيَّة؛ ذلك مع تشديدي على أنَّ القارئَ لو استَظهرَ كلَّ ما في هذا الكتاب من معرفةٍ روحيَّة وزادَ إليها معارفَ الأرض طُرًّا وخلَت نفسُه من المحبَّة والفضيلة والقِيَم الروحيَّة، فلن يستطيعَ إنقاذَ نـفسه، لأنَّ الغايةَ من المعرفة الروحيَّة توسيعُ إدراك الإنسان لأسباب شقائه وهنائه وانحطاطه وارتقائه، وتوسيعُ دائرة عِلمه في رَبط الأَسباب بالنـتائج المُترتِّبة عليها؛ وبقَدر المعرفة تكون المسؤوليَّة.