info@daheshism.com
إفتتاحيَّة صوت داهش السنة الثالثة العدد الثاني أيلول 1997

 

 

صوت داهش

السنة الثالثة العدد الثاني أيلول 1997

 

ثلاثة شعراء في رحاب الخلود

 

من الشعراء من يقتحم عالم الخلود لإدراكه السرّ في فتح أبوابه الموصدة دون أبناء الأرض. لكن بين الشعراء قلائل يُناديهم الخلود فاتحاً ذراعيه لضمهم بين أبنائه، لأنهم شهدوا عوالم الجمال والحقيقة قبل أن يهبطوا إلى هذا الكوكب. من هؤلاء المعاصرين الخالدين، في الشرق العربي، جبران خليل جبران ومُطلق عبد الخالق و حلیم دموُّس. فعلى تفاوت الأساليب البيانية التي أخذ بها كل منهم، وعلى تباين عمارات الجمال التي شادوها، فقد جمعهم أنهم فهموا الشعر رسالة قوامها ثالوث الحقّ والخير والجمال؛ وأنهم آمنوا بأفكارٍ وقيمٍ جسَّدوها في حياتهم تجسيدا رسولياً، فلم تعرف سيرهم ازدواجية الصدق والمُراءاة؛ وأنهم كانوا غرباء في محيطهم، حتى بين أهلهم وذويهم، لأن قيمهم لم تكن قيم أهل بجدتهم، وحنينهم العميق لم يكن إلى وطنٍ أرضيّ بل إلى وطنٍ روحيّ. الثلاثة آمنوا بأن الموت انتقال من حالة إلى أخرى، وليس فناء، ولذلك ناجوه وأحبّوه ونشدوه بشوقٍ عارم. والثلاثة آمنوا بأن الحياة لا نهاية لها، تبدأ في الله ، وتنتهي فيه، وأن ما بين الألِف والياء أبجدية من التحوّلات الشكليَّة لا تُحصرُ ولا تُحصى، ومعراجاً طويلاً من الآلام المطهّرة لا بدَّ من ارتقائه .

والثلاثة أحبُّوا ذويهم ببعض حُبُّهم لوطنهم، وأحبُّوا الإنسانيَّة بكلِّتهم، لكنَّهم ذابوا حُبَّلً في الروح الإلهيّ.

 

والثلاثة آمنوا بوحدة الأديان، وبأن الأنبياء كالأصابع المتفرِّعة من يَدِ الألوهة الواحدة، وبأن تقوى الله ليست في الشعائر والطقوس بل ممارسة القيم الروحيَّة والمُثل الإنسانيَّة العليا وتجسيدها في الحياة العمليَّة.

مطلق عبد الخالق (۱۹۱۰-۱۹۳۷) يبدو لنا اليوم أكثر إشراقاً وفذوذيَّة وأقرب إلى قلب الحياة ممَّا عرفه العرب من خلال شعره الروحانيّ والوطنيّ في سباق حياته القصيرة، و حلیم دمُّوس (۱۸۸۸–۱۹٥۷) يبدو لنا اليوم أعظم من كثيرين ممَّن روِّجت أسماءهم الألاعيب السياسيَّة والطائفيَّة أو الأزياء الأدبيَّة الآنية. وکلا الشاعرين عرف مؤسّس الداهشيَّة عن كثب، ولازمه، وعاين خوارقه الروحيَّة وآمن بتعاليمه السامية. غير أن مُطلق عبد الخالق لم يتسنَّ له أن يشهد إعلان الرسالة الداهشية، عام ۱۹۶۲، مثلما أُتيح للحليم الذي عانى السجن والاضطهاد في الأربعينيات من أجلِ تمسّکه بعقيدته؛ أما الذين اضطهدوه من رجال دنیا و دین فقد أصبحوا لعنةً في فم الزمان وسبَّة على الأفواه الحرَّة الجريئة .

 

جبران خليل جبران ومُطلق عبد الخالق و حلیم دمُّوس ثالوث ينتمي إلى مدرسة الروح في عصر استعبدته الماديَّات وأذلَّت أهله مطامعُها، وما زلنا، منذ سنتين، تخصص جزءاً وافياً مـن هذه المجلَّة للبحث في فرادة جبران وعبقريته بمناسبة مرور قرن على دخوله البلاد الأمريكية. وها نحن الآن نحتفي بالذكرى الستين لوفاة مُطلق وبالذكرى الأربعين لوفاة حليم، فيضمُّ هذا العدد من صوت داهش دراستين ضافيتين في الشاعرين اللذين أدركا أن من أسرار الخلود تحطيم صدفة الحياة للقبض على جوهرها. *

 

رئيس التحرير

غازي براكس