info@daheshism.com
إفتتاحيَّة صوت داهش السنة الثالثة، العدد الرابع، آذار 1998

 

صوت داهش

السنة الثالثة، العدد الرابع، آذار 1998

الطريقُ إلى الكمال الإنسانيّ

 

في ۱۹۶۸/۱/۳۰ ، انتقل المهاتما غاندي إلى عالم الروح الخالد، بعد أن تداعي بنيان جسمه من قسوة التقشف الذي فرضه على نفسه علَّه يُلجِمُ الوحش الضاري الكامن في شعبه، فإذا أحقاد الوحش تتجسَّد برصاصاتٍ تلهبها نيران العصبيَّة الدينيّة والقوميَّة العمياء فتغتاله؛ لكنّ الشعلة الروحيَّة التي انطفأت في جسده، ازداد توهُّجها خارجه حتى كاد يملأ العالم. وها نحن اليوم ننحني مع الملايين إجلالاً لذكراه الخمسين.

وفي ۱۹۷۳/۱/۱ ، انتقلت الأديبة الفنَّانة والمجاهدة البطلة، ماري حداد، إلى الملأ الأعلی، بعد أن تهاوی بنيانها على مَهَل تحت مطارق الأحداث الفاجعة والأحزان الصاهرة وشدائد الحياة، وكأنَّما اغتالتها اغتيالاً بطيئاً عنجهية الأقرباء والعصبيَّة الدينيَّة الحقود، فأخذت كالشمعة تذوب. لكن ها نحن اليوم، مع الألوف من الداهشيين المُنتشرين في أرجاء العالم، ننحني تكريماً لذكراها الخامسة والعشرين.

المهاتما غاندي وماري حداد كلاهما جعل المحبَّة الشاملة ناموسه في الحياة، وزهد في الدنيا، وعاش بأقلِّ ما يمكن من الحاجات، ولم يطمع حتى بمترين من التراب ليواري جثمانه، فاختار إحراق جثَّته لئلا يبقى منه في الأرض أي أثرٍ إلاً حفنةً من رماد.

 

كان بإمكان غاندي أن يتمتَّع برفاهية الحكَّام محفوفاً بالخدم والحشم، وأن تزحف إليه طيِّعة السيادة والأمجاد الدنيويَّة في الهند، لكنَّه أعرض عن بهارج الأرض مختاراً، وألهبه شوقٌ عارم إلى هجرة الدنيا ومعانقة عالم الروح.

وكان بإمكان ماري حدَّاد – وهي من عائلةٍ أرستقراطيَّة، وشقيقتها زوجة بشاره الخوري، رئيس لبنـان الأسبق أن تعيش حياة البذخ والمجون في قصور أصحاب ” الدم الأزرق، لكنها أعرضت عن جواذب الدنيا ومغرياتها وفقاقيعها حُبَّا بالارتقاء الروحيِّ الحقيقيّ.

غاندي سُجِن وتألَّم من أجل الحقيقة التي جـاهد في سبيلها، وصمد في وجه الطُّغاة الغاصبين حتى تمَّ جلاؤهم عن بلاده؛ وماري حداد عانت الحجر والسجن والعذاب والجلد؛ وكان ألمها أعظم، لأن أعدائها ومُضطهديها كانوا أنسباءها الأقرب إلى لحمها ودمها؛ لكنها صمدت في وجه الطاغية حتى أنزل عن كرسي الحكم.

كلاهما آمن بالوحدة الجوهريةَّ في الأديان كُلِّها، فكانت له الحقيقة هاديًا، والفضيلة قائداً، والتسامح الدينيّ منهجاً للتعامل مع الناس. غاندي تعاظم حجمه الروحيّ، بعد نصف قرن، حتى قارب الأنبياء، وفرض نفسه على التاريخ مشعلاً روحياً لا ينطفئ في الأرض ما لم تنطفئ الشمس. وماري حدَّاد اقترن اسمها باسم مؤسِّس الداهشيَّة، وبقدر ما سيعظم اسمه سيكبر اسمها حتى تهمدُ الحياة في هذه الفانية.

آيتانِ للفضيلة وللجهاد من أجل الحقيقة والحريَّة والعدالة. آیتانِ حيَّتان تجسَّد الصدق فيهما واندمج القول بالعمل، والظاهر بالخفيّ. وما حقَّقته ماري بإمكان كل امرأة أن تحقِّقه، وما أنجزه غاندي بوسع كل رجل أن يُنجزه، هذا إذا جاهد الإنسان میوله وأهواءه الدنيويَّة بلا هوادة، ومضى في ارتقائه الروحيِّ صعداً لتحقيق الكمال الإنسانيّ. ( أنظر مقالاً عن ماري حداد، ص ۳۲ ، ومقالين عن غاندي مع مقتطفات من أقواله ص 5 و ۱۹ و ۲۸ )*

 

رئيس التحرير