info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "قصص غريبة و أساطير عجيبة" الجزء الأول

قصص غريبة و أساطير عجيبة

الجزء الأول

 

الحق  أحق أن يتبع

بقلم الدكتور داهش

 

بتاريخ 10/3/1976، و في الساعة الثالثة و النصف بعد الظهر، وصلت إلى نيويورك ابلطائرة الجامبو. و مكثت في أميركا عامين و نصف العام. و بأثناء إقامتي فيها كتبت معظم هذه القصص و الأساطير و عددها 85 قصة و أسطورة سيضمها مجلدان.

 و هي المرة الأولى التي أكتب فيها هذا النوع من الأدب الحافل بشتى الصور العجيبة الغريبة.

و القصة يعالج فيها الكاتب أحداث الحياة ووقائعها الحافلة بشتى الغرائب التي هي مزيج من الخير و الشر. و في النهاية يخرج بعظة و نتيجة تحضّ على الخير و تشجب الجريمة.

والقارئ لقصصي و أساطيري سيذهل لحكمي الصارم على كل ما تزخر به الحياة من شؤون و شجون.

 و سيرى أنني قسوت بحكمي على المرأة و الرجل أيضاً. و لكن الحقيقة أحق أن تذكر دون أن يسدل عليها رداء عاره، متسربل بشناره.

إن على الكتاب واجباً مفروضاً هو قول الحقيقة دون سواها. فلماذا يحاول الجميع صياغة قصصهم بإلباسها رداء الفضيلة،بينما الرذيلة هي السائدة في ربوع دنيانا!

عليهم أن ينقضوا انقضاض النسور على فرائسها، و قول الحق الصريح الواضح دون محاباة أو مواربة.

لهذا يرى القارئ أن حكمي على أبناء الكرة الأرضية من رجال ونساء هو حكم صارم، و لكنه حقيقي.

فأنا لا أتحامل عليهم تحاملاًً  غاشماً، إطلاقاً. و لكني أصف واقعنا الحياتي الحافل بالمعاصي، و المطوق الجميع حتى النواصي.

فالغش هو الاسائد، و الباطل سوقه رائجة،والاعتداء لا ينكره منكر، و الفساد متفشّ في عواصم الكرة الأرضية بأسرها، والفسق و الفجور مسيطران على الجنس البشري بأسره، و الأطماع حدث عنها ولا حرج، و كسب المال، و لو بطريق الحرام، غاية و ليس وسيلة، و الرذيلة صرعت الفضيلة، والشر بسط جناحيه وراح يرود أرجاء الكرة الأرضية، نافثاً فيها سمومه الرهيبة. و قد استجاب له أبناء الغبراء بقضهم و قضيضهم.

هذه هي الحقيقة، و الحقيقة لا يستطيع إنكارها إلا كل جاحد كاذب.

لهذا يرى القراء أن قصصي موسومة بهذا الطابع الذي لا يرحم رجلاً ولا يبرئ امرأة من الأوشاب و الاوزار الواقعية. و أنا لا يهمني آراء الغير إطلاقاً إذا كانت تشجب رأيي، فما كتبته عن السلوك البشري أؤمن به إيماني بوجود الخالقي، إذ إنه حقيقة واقعة، و بذله نفسه عن الآخرين، و تمسكه بالفضيلة المثلى، إنه:

 

غاندي نبي القرن العشرين

 

وبانطلاق غاندي إلى عالم الأرواح النقي التقي، أقفل الباب إذ لم يأت إلىعالمنا رجل صلاح آخر يماثله إطلاقاً.

وغاندي رحل عن دنيانا في الساعة  الثالثة بعد ظهر الجمعة الواقع في 30 كانون الثاني 1948، تاركاً أرضنا الغارقة في أقذارها و دناستها المشينة. و يوم مصرعه هلعت نفوس كبار رجال العالم و سياسييه، و غمر الحزن النفوس و ساد الذعر الأفئدة، و راحت صحف الدنيا ترثي أعظم رجال الكرة الأرضية.

وها إني أعيد نشر الكلمة التي صدرت في جريدة"الدفاع" الفلسطينية، بتاريخ شباط 1948، إذ قالت تحت هذا العنوان:

 

غاندي-نور وروح!

 

"من الغرب  و الشرق تجاوبت الأصداء تعليقاً على خسارة العالم بغاندي. و ما سبق في هذا العصر، أن شاع الحزن في نفوس الملايين على رجل، شيوعه على معلم الهند ومحررها ووالدها. و هذا وحده كاف لإيضاح تلك المنزلة التي كان يحتلها المصلح العظيم في نفوس الشعوب و الأفراد. و هو برهان، كذلك، على أن الشرق ما زال يدفع إلى العالم بالمصلحين ذوي الدعوة الإنسانية الشاملة.

لقد كان غاندي أرق و ألطف من أن يواجه بالقتل. كان نوراً له ما للنور من طبيعة الإضاءة في الظلام. و في عالمنا جوانب مظلمة كبيرة، فكان غاندي ساطعاً فيها باستمرار يهدي الحائرين، أقوياء و ضعفاء، إلى طريق الخلاص.

و في دنيا تفتقر إلى التضحية و المحبة، كان غاندي يلقي الدروس الرائعة فيهما. و حسبه أن احداً لم يستطع الرقيّ إلى مستواه. و إلى أن يستطيع الناس ذلك، سيبقون في حاجة ماسة إلى الاستقرار و سكينة النفس.

وما نحسب أذناً في هذه الدنيا لم يطرق سمعها اسم غاندي. و هو اسم رحيم ينزل على القلوب رخيماً كالغنم، عذباً كالفرات، مهيباً كالقداسة."

فغاندي من امجده، و غاندي من أجله و أقدسه.

وبانطلاقه من ربوع دنيانا قضي على الفضيلة، إذ لم أر في عالمنا من يتشبث بناصيتها. فالجميع عبيد لشهواتهم البهيمة، كما هم عبيد لمصالحهم و عن يكن على آلام سواهم ممن يعتدون على حقوقهم ليكونوا الفائزين بالغنيمة الملوثة بطاعون الاغتصاب الدنيء.

وأخيراً، إنني أعلن بصوتي الجهوريّ قائلاً:

 

إن عالمنا مصاب بطاعون الشرور المحيقة، و قاطنوه أشرار فجار.

فيا ويلهم، يوم حسابهم، و هم يتقلبون بين أشداق النار الأبدية الاتقاد، جزاء وفاقاً.

 

الدكتور داهش

بيروت، في 4 كانون الثاني 1979

 

 

توطئة

 

بقلم غازي براكس

 

هوذا الدكتور داهش الذي تفرد بين الناس بأعماله، يتميز بين الادباء بخوارق قصصه!

وإذا كان هوميروس قد عرف بأساطيره الميثولوجية؛ و فولتير بقصصه الغريبة الاحداث، و دانتي برحلاته إلى النعيم و الجحيم، و إدجار ألن بو بأقاصيصه العجيبة، و جول قرن برواياته الخيالية، و تولستوي بتصوير الحياة الواقعية، فإن الدكتور داهش استطاع أن يجمع فيه ميزاتهم جميعهم، و يتفوق عليهم بما وهبه الله من خصائص روحية فريدة تتيح له غماطة اللثام عن أسرار الحياة و الموت و ألغاز الوجود المادي و الروحي.

فبعد كتابه المعجز " مذكرات دينار" الذي هو أشبه بأوذيسّة القرن العشرين، يطلع الدكتور داهش على العالم الأدبي بخمس وثمانين قصة موزعة في جزءين. و هي قصص قصيرة جذابة، من أي جانب أتيتها عدت منها وملء راحتيك جنى لن ينسى مذاقه اللذيذ العجيب!

فان نشدت المتعة و التسلية و جدتها في موضوعاتها الطريفة، و أحداثها الغريبة و حبكها المشوقة المثيرة، و عقدتها المحيّرة المربكة،وحلها المدهش المذهل. و إن توخيت الفائدة و العبرة لقيتهما حيثما مررت،بلا وعظ مملّ أو إرشاد مزعج أو إسهاب مسئم. فالحياة هي التي تتكلم بألسنتها اللامحدودة، و تنطق بأحداثها اللانهائية، فإذا أنت محمولفي زورق الخيال، فوق أمواجها المتدفقة، تارة متهادياً،  طوراً مندفعاً، تشهد تحوّل الأسباب إلى نتائج و البذور إلى ثمار، في شريط من الأفراح و المآسي، و الآمال و الآلام، و الدمع و الابتسام، حتى لكأنك تسيح بين الآزال و الآباد، و قد تجمعت الحياةبين يديك نهراً خالداً!

تجول المؤلف في عالم الأرض. و الدهشة مستبدة بك، فكأنك لم تعرف الناس و لم تألفهم! فوجوههم غير التي عرفتها، بعد أن سقطت عنها الأقنعة! و حقيقتهم غير التي ألفتها، بعد ان بدت عارية، وكالحربة تطعنك في الصميم!

فالمرأة تغلب الشهوة الجامحة على رغباتها، و الخيانة على تصرفاتها،و  الرياء يقود خطواتها، ومع ذلك، فعرشها في الأرض لا يتزعزع، و سلطانها على قلوب الرجال لا يتضعضع! و إن وجدت صادقة مخلصة فلا تكون من طينة الأرض لكن هابطة من بعض الكواكب القصية!

و الرجل يهيمن الطمع عليه، و تطوقه الغيرة، و يحف به الغدر و الظلم. فإن اطمان قلبك إلى امرئ فأكبرت أعماله و حمدت سيرته، فسرعان ما تكتشف أن هذا النور ليس من ذلك الظلام، و أنه كالذهب بين الرغام!

وقد يخطر على بالك أن الحياة قد تكون أصابت المؤلف بلطخات منها سوداء.فأظلمت نظراته، و قست عليها عباراته،واشتد تشاؤمه فتوهم أن الشر قد تسلطن على الأرض، و المفاسد قد عششت و فرخت في قاطنيها، لكنك لا تلبث أن تدرك، إذا كنت من ذوي الألباب، أنه أصاب بتصويره الفذ كبد الحقيقة، لأن رايتها هي رايته، و محجتها هي غايته،فهو رجل العدل و الصدق، و كلامه هو الفصل و الحق، و إنما نحن نعيش في مخادعة أنفسنا، نزين وجه الحياة القبيح حتى لا نفجع ببشاعة وجوهنا. في حين انه يصدقنا القول و التصوير و إن جرحتنا مدية الحقيقة، من أجل أن يقينا مخاطر الحياة المخيفة، و يعلمنا الأمثولة الشريفة.

و يعرج خيال المؤلف بك إلى الكواكب و العوالم العلوية، فتفتح امامك أبوابها الدهرية، و ترفع حجبها الأزلية، فإذا أنت تجوس ربوعها السعيدة، تشارك قاطنيها النشوة العظمى، و تدهش لأسرارها المذهلة، و أساليب حياتها العجيبة، فتوقن،إذ ذاك، بأن سعادة الأرض ليست إلاّ وهماً زائلاً و ظلاً حائلاً إزاء سعادتها الدائمة، و تدرك ان الحضارة البشرية ليست سوى درجة في سلّم الحضارات الكونية،إذ تكشف لك جوانب قليلة من علوم الكواكب الباهرة، فتتوق لأن تحرز نصيباً، و لو هزيلاً، من سامي معارفها، و حظاً، و لو ضئيلاً، من نعيم لذائذها.

و يفتح لك صاحب الكتابأبواب الجحيم، فتتعرف إلى أبالستها و قد تجسدوا في الأرض بشراً أسوياء، فساكنوا الناس و خالطوهم، حتى إذا  ما اطمأن هؤلاء اليهم، كشف زبانية الجحيم عن حقيقتهم المرعبة، فكانت المأساة المفجعة!

أو يفتح لك أبواب  القبور، فيطفر أمواتها يغرون الغواني بالقصور، حتى إذا دقت ساعة الحساب، و أسفر الميت عن وجهه الرعاب، حلّ العقاب و أي عقاب!

و تجول مع المؤلف في رحاب الطبيعة، فإذا أرضها وفضاؤها، نباتها و حيوانها جميعها كائنات عاقلة تدرك و تشعر و تريد، و تعاني الصراع بين الشر و الخير، فتعجب، إذ ذاك، من انك لست العاقل الوحيد بين الكائنات، و ترهف  أذنيك لتلتقط همسات قد تبوح بها عرائس الانسام و القصب، أو طوائف الخضار و ألواح الخشب. و تغلغل بصيرتك- و قد شحذها لك المؤلف-إلى جواهر الأشياء، تكتشف معانيها الخفية و العلاقات بينها و بين الناس، فإذا الكل قائم على ناموس التقمص و على قانون العدالة الإلهية التي لا يختلّ ميزانها.

و تعترضك في أحداث التاريخ ثغرات تودّ أن تملأها، و أسئلة تتمنى الإجابة عنها، فإذا المؤلف يعطيك الجواب الشافي و التعليل العجيب اللذين لا يقدر عليهما إلا الرجل العجيب.

هكذا، يرى القارئ نفسه، وهو في سياحته الاخاذة، مدفوعاً إلى أن يعيد النظر في مفاهيمه التي ورثها عن الاجيال البائدة، و في اعتباره لنفسه و لحضارته. فليس الإنسان دائماً هو الأفضل بين المخلوقات حتى الأرضية منها فقد يفضله الكلب أحياناً، ذلك بأن القيمة الحقيقية هي للسيال حيثما هو و ليس للإنسان. و السيال- تلك الطاقة الإشعاعية الخفية الحية المشتركة بين الكائنات جميعها- قد يرتقي و قد يتسفّل حسب الميل الذي يحركه، ومسؤولية ارتقائه أو انحطاطه يتحملها هو وحده. أما الحضارة البشرية فليست سوى حلقة صغيرة في سلسلة الحياة الكونية المتصاعدة حتى اللانهاية.

وعلى ضوء ذلك، تكشف هذه القصص سر علاقات العوالم بعضها ببعض، و سر تفاهم الناس أو اختلافهم، و هناء الأزواج أو أشقائهم...فقد يرد ذلك إلى تلاقي سيالاتهم في دورات سابقة، كما إلى توافقهما أو تناقضها. فقد يعيش الفقيران سعيدين، و الغنيان شقيين، و قد يلهم الإنسان سيال من عالم علويّ، أو يوسوس له سيال من عالم  سفليّ!

وقصص الدكتور داهش تمتاز بالعمق، على بساطة أدائها. و عمقها في أنها تنقلك من الاحداث العارضة إلى الجوهر، و تفتح بصيرتك فترى الحياة بأبعادها الحقيقية واستمراريتها الأبدية التي هي أعجب من الخيال. من هنا أن الخيال في هذه القصص جله حقيقة واقعية، لكنها تخفى عن عيون البشر العاديين.

وهذا الأدب القصصي ينقلك إلى ما يعادل الفلسفة الحية، الفلسفة التي ليست بشعوذات فكرية أو افتراضات متناقضة وهمية، إنما  هي الحقيقة العارية التي أتيتك على أجنحة الخيال فتبهر عينيك، فلا يبقى ماثلاً أمام ناظريك إلا ميزان العدالة الإلهي!

وطرافة هذا الأدب ليست في البهلوانيات اللفظية، و الاستعارات البيانية، و الزخارف البديعية، و التدجيلات الفنية التي كثيراً ما يلجأ المحدثون إليها حينما يأخذهم هوس التجديد،بل هي في أفكاره السامية العجيبة، و موضوعاته الفريدة المبتدعة، و في إزاحة الستر عن حقيقة موجودة و ليست مخترعة،لأن حقائق الحياة كالقوانين الطبيعية يماط اللثام عنها. لكنها في صميم الوجود كائنة؛ و فضل الأديب العبقري في أنه يستطيع أن يحطم قشور الحياة لينفذ إلى لبابها، فيرى، إذ ذاك،ما لا  يراه الذين ينظرون بعيون وجوههم فقط.

أخيراً، لا غنى عن الإشارة إلى أن العالم الطريف العجيب الذي يقدمه الدكتور داهش، في الأرض و البحر و الفضاء، و في داخل الأشياء، ليصلح أن يكون مادة غنية خصبة للسينما و التلفزيون. و لن فيها التشويق و الإثارة،و التعليم و الإفادة، و العمق و البساطة. فهي قصص خارقة من رجل خارق. إنها ألف ليلة و ليلة القرن العشرين كتبت بأسلوب حيّ أخاذ بجمال بساطته، لتكون متعة  وفائدة للكثيرين.

 

غازي براكس

بيروت  4 كانون الثاني 1979