info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " بروق ورعود "

مقدمة الكتاب

في ترجمته الإنكليزية

 

هذا الكتابُ الفذّ "بروقٌ وروعود" يتالف من مجموعةٍ من المقطوعات الشعرية الطريفة المُترجمة عن العربية. وهي تعرضُ بلغةٍ حيةٍ مشوقةٍ حدثان الحياة وقصة تقلباتها الغريبة، وتصفُ بعباراتٍ متوهجةٍ افراح الهوى المُثيرة، وأتراح الحبّ الخائب.

وفي جميع المقطوعات تعزُزُ الصورُ الرمزيةُ والمجازيّةُ التي قد لا يروقُ بعضها جميع فئاتِ القراء، ولكنها مع ذلك تمتلك جاذبية هي نسيج وحدها؛ وإنها لجاذبيةُ تبدو حينًا عذبة رقيقة، وحينًا آخر عنيفةً صاعقة.

        ولو عانى أيُّ إنسانٍ من المحن والتجارب ما عاناهُ مؤلف الكتاب الدكتور داهش، حسبما يصفُ ذلك بإبداع في مُصَنَّفِهِن فإنهُ من العجب حقًا للمترجم أن يتصور ذلك الإنسان قد استطاع أن يجتاز محنتهُ بسلامة!

        وقد يُدهشُ معظمُ قراء الإنكليزي من جراء الطِّباع الشرقية التي بوسع اصحابها أن يصمُدُوا بوجهِ الفواجع المزُلزِلَةِ تضربُ عواطفهم، ويبقوا رغم ذلك قادرين على الاستمرار في الكتابة.

        وتنتظمُ كتاب بُروُقٌ ورُعود" حركةٌ وجدانية بارزة في قوتها، مؤسية بسياق وقائعها، خارقة بمباهجها العارمة. والمؤلف مُشبعٌ بالأوصاف الدقيقة للذات، ومُفعمٌ بثروةٍ مِنَ الألفاظِ التي تصورُ شرورَ المدينة الحاضرة ورياءها.

والكتابُ، في الواقعِ روايةٌ صادقةٌ لتجارب المؤلف في الحياة. ولو كابدَ غيرهُ ما كابدَ من صدودِ الحّبِّ الذي هو أقوى من الموتِ لكانَ فقدَ اتزانهُ العقلي، وهدد بأن يُصبحَ ضجيع الرمسِ الصامت.

        وهذا المُصنفُ بليغٌ بصياغته الشعرية؛ ومعانيه تنبسطُ في أعمقِ أغوارِ اليأس إلى أرقى عوالم السعادة والمجد. وبينما يقفُ المؤلف لحظاتٍ على مشارفِ الغبطة، يعودُ ليغُوصَ في بحرِ الكآبة السوداءِ ومرارة الشقاء! وهو يتناولُ بوصفهِ مُجملَ مفاسدِ البشر، ورياء رجال الدين المُعاصرين المُطبِقَ المنُكْر، لكنه يحاكي ويمجدُ ربات الجمال والمفاتن الأخاذة بنشوةٍ ُعظمى.

ولا يدخُلنَّ في بالِ القارئِ أن المؤلف قد اقتبسَ أية فكرةٍ من سواه. فموضوعاتُ الكتاب جميعها من إلهام الدكتور داهش. وهي مزيجٌ من التأملاتِ والوقائع المُثيرة المُشوقة والمأساوية العنيفة. ونظراتُ المؤلف في الحياة مُكتنفةٌ، أحيانًا، بإيقاعاتٍ حزينة، وأحيانًا أخرى، مغمورةٌ بنشواتٍ من الغبطة. وسببُ ذلك لا بد أن يكون حبًّا مُخيبًا، تركت ثماره في فم ذائقها مرارةً بعد حلاوة. وهكذا امتزجتِ الحسراتُ الباقياتُ بالآمال المُضيئة، وتساوت في الكتاب بصدقٍ عميقٍ سيجعلُ قلوب القُراء ترتعشُ انفعالاً وتأثرًا!

        قال سليمان الحكيم: "الحب قوي كالموت... مياهٌ كثيرةٌ لا تستطيعُ أن تروي ظمأ الحب، ولا الفيضانات يمكنها أن تغرقه. وإذا أراد أمرؤٌ أن يهب كل ثروة بيته لقاءَ الحب، فإنه يحتقر احتقارًا". هذه الحقيقةُ البديهية المُشعة كالماسةِ الصافية تبقى صامدةً كواقع أكدتهُ التجارب والاختباراتُ الشخصيةُ حسبما عبَّر عنها أحكمُ إنسانٍ في العالم. وعلينا ألا ننسى "أن سليمان كان له سبعُ مئةِ امرأة وثلاثُ مئةِ سرية، وأن نساءهُ أملن قلبه"! (سِفرُ الملوكِ الأول، الإصحاح 3:11)

        وحدها الآدابُ الإنسانية السمحةُ يمكنها أن تُقيمَ الجسرَ بين الشرقِ والغرب، إذ إن الحقائق الخالدة يقبلها الجميعُ بدونِ طلاءٍ ولا ازدراء. وهذا الجسرُ الواصلُ ما زال ممُكنًا أن يُقامَ، رُغم وقائع الماضي المُحزنة، ورغمَ رأي كلنغ القديم المعروف: "الشرقُ هو الشرق، والغربُ هو الغرب! والإثنان لن يجتمعا أبدًا".

        لكن الإيقاع والحبُّ الجريئين ما زالت لهُمَا الزعامةُ في عالمِ المشاعر والمُغامرات البشرية. وبِهما قد اندمجَ الشرق والغرب!

        أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن الإبداع الأدبيَّ المُتجلي في الكتابِ لَم يُوفَ كلَّ حقِّهِ في عمليةِ الترجمة، نظرًا لاختلافِ الاصطلاحاتِ في اللغتين. زِد إلى ذلك صعوبةً أخرى ناتجةً عن المُغالاة المُذهلةِ في استخدام التشابيهِ والصور، والتي تناسبُ الكتابة الشعرية الشرقية، وكذلك استحالة نقلِ الإيقاعِ والتسجيعِ العربيين إلى ما يماثلُهُمَا في الإنكليزية.

                                                        يوسف مَالِك

 

مقدمة

 

هي بُروقٌ نفسية ورُعُود كلامية حاولتُ فيها شرحَ ما أشعرُ وأُحِسُّ به في مختلف شؤون هذه الحياة بصورةٍ موجزةٍ لا تتعدى السُّطور الستة لِكُلِّ قطعةٍ منها.

ومن يُطالعِ الكتابَ يظُنَّني قد غلوتُ في بعضِ الآراء والمواضيعِ التي يحتويها. ولكنني أُصارحُهُ القولِ أن ما كتبتهُ قد كتبتهُ عن اعتقادٍ ويقينٍ صادقين، وبالأخص في ما يتعلقُ برجال الدين وبالعادلة وبالمال وبالمرأة وبكثير غيرها مما لهُ صلةٌ بحياةِ الإنسان على هذه الأرضِ السقيمة.

        هذا رأيي أُعلنهُ على رؤوسِ الأشهادِ غير هيابٍ ولا وجلٍ من نقدِ الناقدين وألسنة المُتخرصين المُتطاولين والسلام.

بيروت، شباط 1943                                الدكتور داهش

 

 

أطلالُ وظِلال

 

أيْن أحلامُ الشبابِ الرائعة؟

وأيْنَ ثِمارُ الصِّبا اليانعة؟

وأينَ باقاتُ وُرُودي العطرة؟

وأينَ آمالي العّذبةُ النضرة؟

سألتُ القدر العاتي: "زهرةُ عمري أين صارت؟"

أجابني ساخرًا هازلاً: "أسفي عليها، ذَبُلَتْ وتَوارَتْ".

 

 

                حِسْرَة

 

لَهْفَ نَفْسي على الشَّباب يَهْوِي كالشُّهُب!

يمضي... وكأَنَّهُ البَرقُ قد وَمَضَ!

يا لَهُ مِنْ حُلُمٍ جَميلِ رَاوَدَني ثمَّ مَضى!

يا لَبُردةِ الشبابِ القشيبةِ وقد غابَتْ!

يا لأناقتها الفتانةِ وقد ذابتْ!

لقد مرَّتْ وتلاشتْ كتلاشي السُحُب!...

 

 

 

تفاهةُ الحياة

 

وَيْلي من حياةٍ أراها عِبْئًا ثقيلا!

وَويْحي مِنَ الدُّنيا بما فيها مِنْ أرضٍ وسَماء!

وكذلِك البشرُ فإنهم في حقيقتهم أدنياء

بل قُلْ: إنهم أفكَةٌ مُراؤُون

بل قُلْ: إنهم أثمةٌ مُداجُون

رحماكَ ربِّي... أبعدهُم عني، ولا تدعني ذليلا!

 

لوعة

 

أيُّها الشمسُ، ابزُغي واملأي البِطاحَ نُورًا سَاطِعا

وابعثي النشاط في قُلوُبِ الكَسالَى السكارى

وارقُبي مِن أعاليكِ أعمالَ أُولئكَ المساكين الحيارى

ثمَّ أرسلي خُيوطَكِ الذهبية على جدثِ فيه سِرٌّ رهيب

فهناك ترقُدُ الصبيةُ التي علا مني لأجلها النحيب

إذ إنَّ الموتَ احتفظ بها وأقام بيننا بُعدًا شاسِعا!