info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة العاشرة "

 

 

تنبسط وقـائـع هذه الرحلة على ٥٢ يوماً أمضاها الدكتور داهش في نيويورك وبوسطن وواشنطن (1976 /3/۹ - ١٩٧٦ /٤/30). وقد ترافقت فيها ثلاثة خطوط متوازية : سيرة المؤلف الذاتية في هذه الرحلة، وتطورات الحرب اللبنانية، وشريط من المشاهدات والفوائد السياحية .

 

وبدءاً من الصفحة الأولى نعرف أن السبب المباشر لرحلة المؤلف إلى أمريكا هو قلقه على كنوز «المتحف الداهشي» التي أرسلها إلى نيويورك ، قبل بضعة أسابيع من سفره، إنقاذاً لها من جحيم لبنان، فإذا بها تعلق في جمارك نيويورك رهن التحقيق . وكيف لا يقلق وبين أيدي موظفي الجمارك ٢٥٠٠ لوحـة زيتية، و400 قطعة من «الإستـامپ»، وآلاف القطع من «الـگـرافير» و«الأوفورت» و«الأكواريل» و«الديشان»، عدا مئات التماثيل ! لكنّنا ما نلبث أن نعرف أن «المتحف الداهشي » جزء من الرسالة الداهشية ، وأن الرسالة الداهشية تهاجر إلى بلادٍ تُصان فيها الحريَّات التي سُفِحَت وما زالت تسفح في لبنان .

 

وسـرعـان ما تسـري في أعصـابـك قشعريرة الأسى المُسيطر على المؤلف، ويهـزُّك توقـه العـارم إلى المـوت الـذي يرى فيه بداية لحياتـه الحقيقية، ونعمة له إلهيَّة. ونيويورك، فوَّارة الملاهي العالمية، لم تستطع أن تدع البسمـة تزوره، لأن عينيه عالقتـان بعالم غير هذا العالم، عالم

 

روحي «لا يعـرف الختـل والمـراوغـة والكذب والاحتيال، عالم لا يعرف البكاء والحزن، ولا يمت بصلةٍ للشقاء والتعاسة، عالم كل ما فيه بهجات سماوية وأفراح سرمدية . ..»

 

أما قضية الكنـوز الفنية العالقة في الجمارك، فتراها تتطور أحداثها وتتشابك وتتأزم حتى لتخال نفسك أنَّك قد دخلت أجواء قصة بوليسية ملأى بالتعاريج والمفاجآت والإثارة .

 

وكأنّما نيران الآلام النفسيَّة التي كانت تصهر نفسه لم تكن كافية، فإذا الأقدار تتمخض له، بعد شهر ونيف من وصوله إلى أمريكا، بحادثة مروّعة تعتصر منه الجسم والنفس معاً. فقد لاح له أن يدخل في سباق مع إحدى الأخـوات المؤمنات بتعاليمه، فتعثر، واصطدم وجهه وجسده بقوة صارمة بالأرض الصلبة، فإذا بفمه مُدمَّى، وبالعضل في يده ورجله اليسريين قد تمزق . وتبدأ مأساة آلامه الطويلة التي يستخلص منها العبرة القائلة : «رحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده» ؛ ذلك بأنه لام نفسه لخوضه مباراة العدو مع غادةٍ لا تُناهز الثامنة عشرة من عمرها، فيما هو في السابعة والستين.

ومنـذ هذه السقـطة الـرهيبة التي خلدها الدكتور داهش في كتاب له عجيب أصدره بعنوان «يدي المزلزلة»، تصبح «الرحلة» مزيجاً من الأوجاع والحسرات، ومن نفثات الحب الروحاني، وارتعاشات النشوة الفنية امام لوحـات متحفه الرائعة التي كان يستعرضها، بين الفينة والأخرى، فتنسيه الامه، وتدخله عالم الإبداع الفني الذي تذكره ومضاته بالجمال الإلهي الذي عرفه في وطنه الروحي، وافتقده في الأرض .

 

وكـانت مآسي الحـرب اللبنـانية تشـرئبُّ أعناقها المُخيفة بين سطور الرحلة، من حين إلى آخـر. فالمؤلف يتتبَّع أخبار الأهوال المزلزلة التي تضـرب لبنـان أرضـه وشعبه، تارة عبر المكالمات الهاتفية مع أنصاره من الداهشيين والداهشيَّات في بيروت، وطوراً على شاشة التلفزة الأمريكية . فمن معارك «البرجين» (برج المر في المنطقة الغربية وبرج رزق في المنطقة الشرقية) الشديدة الخطر على منزل المؤلف في بيروت، إلى معارك الفنـادق الضـارية التي كانت حصيلتهـا مقتـل كثيرين من رجال «الكتائب اللبنانية» واستيلاء اليسار على المنطقة الغربية، إلى القوارب الهوالع التي تفرُّ بالهاربين المروعين من المسيحيين إلى قبرص . . . مشاهد من الحرب المفجعة يعرضها المؤلف شريطاً مهدَّج الصور، حسبما تتناهى إليه الوقائع الـرهيبـة. وإذا بالمصـارف تنهب الـواحد تلو الآخر؛ وإذا بالقتل والقنص والـذبح والتشريد والاعتداء على الأعراض تتوالى أخبارها الصادمة؛ وإذا بالجوع يبدأ بسط ظلاله القاتمة، بسبب إقفال الأفران بعد فقدان الخبز والطحين .

 

ولكن ما هو، يا تُرى ، سبب هذه الكارثة التي اجتاحت لبنان فيتَّمت منه الأبناء، ورمَّلت النساء، وأثكلت الأمهات، وشـرَّدت وأفقرت السكان ، وهدَّمت فيه الاقتصاد والعمران؟ أهو فقدان العدالة الاجتماعية، أم مطامع بعض الفئات الأشعبية؟ أم هو استغلال رجال الدين لنفوذهم وتسعيرهم للقتال أملاً بتوسيع سلطانهم؟ أم غير ذلك من عوامل سياسية واقتصادية؟ .

 

مهما كانت الأسباب التي تتناقلهـا الصحافة ويدلي بها المُحلِّلون السياسيون، فهي أسبـابٌ مبـاشـرة يرى مؤسس الداهشية أن وراءها سبباً روحيَّا ويداً إلهيَّة مؤدِّبة. فلبنـان عاقبه الله لأن حكَّامه الطُّغاة اعتدوا على مؤسس الداهشيَّة اعتداء مجرماً من غير وزر ارتكبه . فقد ألقوا القبض عليه في ١٩٤٤ / ٨/٢٨، وسجنـوه وعذَّبوه ثم نفوه، بعد أن جرَّدوه من جنسيته اللبنانيَّة، من غير أن يقدموه إلى المحاكمة، خارقين هكذا دستور البلاد وقوانينها . ومع -  ذلك لم يرتفع صوت واحد من الشعب يناصره ويندِّد بالحُكم الظالم، لا من الوزراء أو النواب، ولا من القضاة أو الصحافيين أو الأدباء، فكـأنَّهم جميعـاً ماتت ضمائرهم وانخرطوا في مؤامرة جهنمية ضدَّ الرجل الصالح البريء الذي أتاهم بالهداية الروحيَّة، فبادلوه بطعنه لعمى بصائرهم وقسوة قلوبهم . ولذلك عاقبتهم العدالة الإلهية مثلما عاقبت الشعب الذي اضطهد المسيح، فشرَّدته ودمَّرت بلاده .

 

وبـالـرغم من أن الشـاعـر الـداهشيّ حليم دمُّوس نشر في الصحف اللبنانية في 1948 /1 /٤ نبوءة روحية تقول إن بيروت ستحترق بالكبريت والنـار، وإن لبنـان سيعمـّه الـخـراب من أقصـاه إلى أقصاه، وذلك نتيجة للموقف الظالم الذي وقفه الحكّام والشعب من الداهشيّة ومؤسِّسها، فإن أحداً منهم لم يصدق النبوءة آنئذ، ولم يحملها على محملِ الجدِّ. «ثرى هل يتعظون؟ ، إن الأيام سترد على تساؤلي هذا. ومن جهتي ، أنا لا أعتقد  أنهم سيتعظون مهما وعظوا. وطابخ السم آكله . »

ذاك كان حكم رجل الروح الخارق على مصير لبنان وشعبه .

 

* * *

 

لكن الفوائد السياحية التي تتيحها هذه الرحلة تبقى كثيرة . ففضلا عن المتـاحف الكبـرى التي زارهـا الـدكـتـور داهش في نيويورك وبـوسـطن وواشنطن، وأدلى بآرائه فيها، فإنه زار في نيويورك «الإمپاير ستايت»، ومدَّنا بمعلوماتٍ دقيقة عنها؛ وكذلك المكتبة الوطنية في الجادة الخامسة، فقد خرج من الجناح العربي فيها مُخيَّب الأمل، بعد أن اكتشف أن مجموع الكتب العربية فيه لا يتعدّى الألف . كما زار في واشنطن «البيت الأبيض» ، ومتحف العلوم الطبيعيَّة و«برج واشنطن»، وأفادنا بكثير من المعلومات والأوصاف عنها .

 

كذلـك يعـطى القارئ فكرة عن أسعار اللوحات الزيتية الفادحة التي ازدادت أضعافاً مضاعفة عمَّا كانت عليه قبل بضع سنوات ، وعن تزوير كثير من تلك اللوحات وبيعها، رغم ذلك، بأسعار باهظة على أنها أصليَّة؛ كما يُلمُّ بشيءٍ من أسعـار المنازل الفخمة المعروضة للبيع والضرائب الفادحة المتوجبة عليها .

 

ومن أهم ما يستفاد من هذه الرحلة تصوير المؤلف لجوانب من حياة الأمريكيين وطرق تعاملهم مع الأجانب وبعضهم مع بعض. وإليك أمثلة من ذلك : صعد الدكتور داهش تكسيا في نيويورك، فإذا فرشه قديم ممزق! فقال معلّقاً: «قلمـا شـاهـدت مثله في مدينة بيروت التي تبقى سياراتهـا برَّاقة جديدة، رغماً عمّا حاق بها من أهوال! تُرى، أهو حب الظهور أم ماذا؟ »

وولج متجراً في شارع المجوهرات ، فأخذ التاجر يعرض عليه العلب الذهبية زاعماً لكل منها أصلا ملكياً عريقاً أو قصة مُغرية . . . إيقاعاً لزائره في أحابيله.

 

والقارئُ يحصّل غير قليل من الفوائد من اطلاعه على وصف المؤلف لتعامله مع المتـاجـر والفنادق والمصارف والسائقين والسماسرة وموظفى الجمـارك . . . والحقّ يقـال إنـه سـجـّل كثيراً من النقاط السـوداء على الأمريكيين في خلال الأسابيع القليلة التي تعامل فيها معهم :

 

ففي جمارك نيويورك سُرقت له عدّة سلع ثمينة، الأمر الذي دفعه إلى التفكير بإقامة دعوى على موظفيها .

 

وفي فنـدق «نيويورك هلتـون» ـ أحد الفنادق الشهيرة فيها ـ سُرقت له خمس ساعات كما حكم على الموظف المفوض إليه إبلاغ المخابرات الواردة إلى أصحابها بإهمالِ واجباته .

 

وبعد اضطراره إلى التخلّي عن شقة استأجرها، نقض المالك شروط عقد الإيجار، وطالبه بما لا يحقّ له، الأمر الذي دعا المؤلف إلى اللجوء إلى محامٍ ليرفع الحيف عنه .

 

وفي حديقة الحيوانات بنيويورك يصف قسوة الشرطة على الفقراء . فبعد أن تقدَّمت إليه مُستعطية، بينما كان مع صحب له في مطعم الحديقة، دنا الشرطي منها وانتهرها، ثم دفعها دفعاً إلى الخارج .

 

لكن الدكتور داهش بالمقابل يسجّل عدة نقاط حسنة للأمريكيين في خلال هذه الفتـرة . منها سَهرُ الحكم على صيانة الأمن والنظام ؛ والجهود المشكـورة العـظيمة التي تبذلهـا السّلطات الأمريكية لإقامة المتاحف العـظيمة؛ واتِّصاف الشعب الأمريكي عامة بالنخوة وحبّ المساعدة كما بالنزعة الإنسانيَّة، ولا يقلِّل من هذه المزية وجود المجرمين واللصوص بينهم .

 

أخيراً توشح هذه الرحلة عدة طرائف تبدو كانفراجات الصحو في جو ملبّد بالغيوم، وتطرز نسيجهـا رقائق صافيات من الوجدانيات، فكانك، وأنت محمـول على صهـوة السهولة المهدهدة، تسير في دروب لينة بين المروج، وتدغدغ منك الأنف والسمع والبصر هبَّاتٍ رخيَّاتٍ من الأشذاء والأغاريد وجوقات الجمال. وإنه لأسلوب فريد امتاز به المؤلف في جميع «الرحلات الداهشية» .

 

غازي براكس نيويورك، في 15/ 1/ 1991

 

 

9 آذار 1976

حادث متحفي يقض مضجعي

 

إستيقظت في الساعة السادسة صباحاً في منزل الرسالة بمدينة بيروت . والحقيقة أن نومي كان عسيراً للغاية، لشدة القلق الذي استولى عليَّ منذ بضعة أسابيع . ذلك أن مُتحفي الخاص الذي أمضيت عمري في جمع كنـوزه من أرجـاء المعمـورة كافة، والذي يحوي ٢٥٠٠ لوحة زيتية رائعة ومئات من مختلف أنـواع التماثيل الفنية الثمينة، الـرخـامية والبرونزية والخشبية والعـاجية . . . قد أرسلتـه بالطائرة إلى نيويورك، بسبب ما يعرفه سكان الكرة الأرضية كلها من السلب والنهب اللذين يجريان في بيروت وفي مدن لبنان وقراه . آلاف المنازل نُهبت، وآلاف المتاجر سُلبت ثم فجِّرت ؛ حتى المصارف لم تسلم من السرقة . ناهيك عن القتل والذبح والتمثيل...

 ففي غمرة هذه الأهـوال المرعبة والمزلزلة للعقول، تعاونت أنا وعدد كبير من الإخـوة والأخـوات الـداهشيين والـداهشيَّات على ترتيب جميع محتـويات المتحف العـظيم وتـوضيبها. وقد أتيح لنا أن نُنقذ هذا التراث الجبَّار بعدما تخطيّنا المصاعب الهائلة، إذ نقلناها تحت القصف العنيف ونيران الـرشـاشـات ودوي المتفجّرات والصـواريخ بمختلف أنـواعـهـا الجهنمية. وقد تكبدنا نفقات ۲۰ کنتنياراً ، ( ۱ ) وقدرها 300 ألف ليرة لبنائية، أجرة نقل هذا المتحف الرائع .

 

ومـا إن وصـل إلى جمارك نيويورك حتى بدأت المتـاعب والعـراقيل تترى فقد هالهم هذا العدد المُذهل من اللوحات والتحف الثمينة يمتلكها فردٌ واحـد . وظنّوا أنها ربما كانت من منهوبات المتاجر والمنازل، فرفضوا تسليمها حتى يخابروا حكومة لبنان في شأنها. وبعد ذلك، ينظرون علام يقرُّ قرارهم .

 

وقـد شحن أول كنتنيار إلى نيويورك بالـطـائـرة في السـابـع من شباط المنصـرم . وهـا قد مضى زمن طويل دون الفراغ من التحقيقات المُملّة. ولهذا السبب، سأستقل اليوم الطائرة إلى باريس، ثم أستقل غداً طائرة ثانية إلى نيويورك لتوكيل محامٍ ينهي لي هذه المحنة التي أوصلتني إليها حوادث لبنان المؤسية .

 

والحقيقـة التي يجب أن تُقـال : لقد كنت جدَّ مهمـوم ، وأفكـاري مُضطربة، أعيش في قلقٍ جهنمي لا يفوقه قلق .

 

الإخوة والأخوات يودعونني

 

باشرت ترتیب حقائبي التي ستصحبني في رحلتي هذه ؛ وبدأ الإخوة والأخوات يفدون إلى المنزل بقصد توديعي وفي تمام السـاعـة الحادية عشرة إلا ربعاً، أنزلنا الحقائب الثماني ،