info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "التائه في بيداء الحياة"

التائه في بيداء الحياة

 

استقبال عام 1970

                                       

أي إلهي وخالقي،

لقد عصفت بي رياحُ العام البائد عصفًا رهيبًا،

وصواعقُهُ المُتلاحقة حطَّمتْ أركاني،

ورعودُهُ الهادرة لاحقتني في خلال أيامه المشؤومة،

مُحيلةً أفراحي إلى أتراح،

وبروقُهُ المومضة أتاحتْ لي مشاهدة المآسي

التي كبلتْ نفسي وقيدتْ روحي،

ونُسُورُهُ المنقضَّة مزقتْ حُشاشتي وهي تنوشني بوحشية رهيبة،

وصقورُهُ المفترسة التهمتْ كُلَّ ما كنت امتلكه وأُحافظُ عليه،

وجيوشُ أحزانه أحاطت بي إحاطة السوار بالمعصم،

وإذا بالكآبة الخرساء القاتلة تتملَّكُ كياني وتحتلُ وجودي.

وعند ذاك، طوقتني الأشجان، وأصبحتْ سميرتي الفاحمة الدجنات،

إذ فيه فقدتُ أحبَّ الناس إلى قلبي،

وأخلصهم لي، وأنبلهم، وأكثرهم حاتمية وإنسانية.

فيا خالقي، يا مُكوِّن العوالم، وموجد المعروف منها والمجهول،

سدِّد خطواتي، وثبِّتْ إيماني،

ودعني أسير في مفاوز هذه الحياة المخيفة،

قاطعًا قفارها المحرقة، وفيافيها الشاسعة،

المليئة بالمشقَّات والأتعاب،

مُذللاً صعابها، مرتقيًا شوامخها، ناشرًا في أرجائها

العقيدة الجديدة، لمن استحقَّها،

حتى إذا دنتْ ساعةُ انطلاقي منها،

أكونُ قد أديتُ رسالتي على وجهها الأكمل،

علَّني بعد ذلك اجتمعُ بشقيق روحي،

أخي الحبيب، الدكتور جورج خبصا.

 

                                                        الساعة السابعة صباحًا
                                                                        في 1/1/1970

 

 

حقيقةُ مُخيفة

                                       

أعوامٌ تتلوها أعوام،

وتقتربُ منيةُ الأنام.

فما يكاد المرءُ يفتح عينيه على هذه الفانية،

حتى تراه قد شبَّ عن الطوق وترعرع.

ثم تدورُ الأيام دورتها، فإذا به شابٌّ قويٌّ العضلات.

ثم تنقضي الأعوامُ، فإذا به كهلٌ وقد صقلته العوادي،

وبوتقته بآلامها الرهيبة.

ثم يشيخ، وغذا ظهرُهُ قد تقوَّس، وأضراسُه قد تساقطتْ،

وشموخُهُ قد تعفَّر، ويداهُ عرتهُما رجفةُ الزحف للحدث،

وهمَّتهُ قد تقاعستْ، وآمالُهُ قد ذوَتْ، ورغباتُه قد تلاشتْ،

ثم تفترسُه شتى الأمراض والعِلل،

فيضيق به ذَرعًا أقربُ المقربين إليه،

ويتمنَّى كلٌّ منهم أن ينقض عليه غُرابُ الشؤوم فيوردُه حتفه.

ويصدقُ حدسهم إذ يهوي عليه منجل الموت،

فإذا هو بغمضة عينٍ وقد طواه الردى،

ساخرًا به وبآماله في أيام شبابه الراحلة.

وهكذا يتنفسُ ذووه الصُعداء،

ويسرعون به إلى حفرته الأخيرة،

ثم يُهيلون عليه التراب ويعودون إلى منازلهم

ليُعيدوا تمثيل آثامهم ومهازلهم.

فواهًا ما أتعس حياةَ الإنسان المسكين،

منذ ولادته، وحتى يُواره الموتُ،

وتُلحدهُ الحفرة الرهيبة.

                                                بيروت، منتصف الليل

                                                تاريخ 2/1/1970

 

يا فاتنة

                                       

وجهكِ بدرٌ منير،

وقوامُكِ يعصفُ بأغصانِ البان،

وبقربكِ أشعرُ بهدوء واطمئنان.

جفنُكِ أيتها الكاعبُ الحسناءُ وسنان،

وصدركِ، صدركِ المُثقل بأشهى ثمر الجنة الدانية القطوف،

أتمنى أن أضع رأسي عليه واستغرق في سباتٍ عميق.

وعندما استيقظُ، أرى نفسي أجوسُ برفقتكِ جنة النعيم

وهناك معكِ أبدَ الدهر أقيم.

فمتى تتحقق أحلامي، متى؟

                                                        بيروت، في 26/1/1970

 

 

يا نفسي القلقة

                                       

يا نفسي القلقة!

أيتها النفس الحيرى!

يا من أثقلتكِ أوزارُ هذه الكرة الأرضية!

يا من أرهقتكِ متاعبُ هذه الفانية!

أيتها السجينةُ في هذا الجسد المادي الحقير!

يا من تريدين الانطلاق فتكبلُكِ المادةُ بكبولها الممقوتة!

أيتها التواقة للانعتاق، الراغبةُ بالتحليق نحو العلاء!

يا من تنشدين عالمًا غير عالمك المادي هذا!

أيتها النفثة القدسية والنفحة العلويّة!

لقد حُكِمَ عليك أن تنزوي في جسد مادي أرضيّ، لأمد قصير،

ومن خلاله تنظرين – والألم بمعن فيك تعذيبًا.

ما يُرتكب في هذا الكوكب من شرورٍ هائلة، وآثامٍ مرعبة،

تشاهدينها فتتمنين لو لم تهبطي إلى عالم الأضاليل المدنسة.

تحاولين هداية الناس، والناس قد اندمجوا بالشرور،

وتمنطقوا بالآثام، ونطقوا بأفحش الكلام.

أفراد، أيتها النفس، يُعدُّون على الأصابع،

فهموا الحقيقة، وتبعوها، ولكن بمقدار أيضًا.

وما دام الإنسان أيّامُه معدودة، ولياليه ستتصرم حبالها،

فلماذا لا يرتفع بروحه نحو الأعالي،

ليُكافأ على احتقاره مغريات الحياة، بفراديس غنّاء

تمضي آلاف من الأعوام وهو رائع بسعادة

لا يمكن لقلم بشري أن يصفها،

لعظيم ما تحتويه من لذاذاتٍ روحيَّة ومُتَعٍ إلهية.

إن جميع مغريات هذه الحياة لا تستطيع إدخال الفرح إلى نفسي،

أو تدعني أشعر بسعادة وهمية،

سرعان ما يبترها سيف الموت الرهيف الرهيب.

ويومَ تنطفئ شعلةُ حياتي،

ويومَ يدعوني إليه داعي الموت ويبسطُ ذراعيه ليضمّني إليه،

ويومَ تتوارى عن عينيّ مرئياتُ هذه الأرض المفعمة بالآثام الهائلة،

يومذاك أشعر بالسعادة الحقيقية،

وأتذوَّقُ لذة العالم العلوية،

وأحيا هناك في تلك الربوع السحرية،

الحافلة بمتُعٍ لم تشاهد مثلها العيون، أو تسمع بها الآذان!

يومذاك تكتملُ أفراحي وتتمُّ مسراتي الروحية.

فمتى أنطلق من ربوع الأسر إلى فضاء الحرية؟ متى؟!

                        فندق شراتون بالكويت، والساعة 9.30 ليلاً، 27/6/1970