info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " أوهامٌ سرابيَّة"

 

مقدمة

                                                              بقلم الدكتور دَاهِش

الحياة وهمٌ باطل وظلٌّ زائل.

فالمتكالب على جمع المال سيحصده منجلُ الموت،

وسيواريه الثرى مخلفًا وراءه ذلك المال

الذي جمعه بشق النفس واختلاج الروح.
والمتهالك على النساء، سيغمصُ الموتُ عينيه

بعدما ينتزعه من بين أذرعهنَّ الغضَّة البضّة.

وإذا بالديدان تتسابق لافتراس جثَّته النتنة.

والمتفاني بحبِّ الأسفار والتنقل بمختلف الديار

سينقضُّ عليه ملاكُ الموت ويذهبُ به إلى مدينة الصمت الأبدي

حيث لا يستطيع بعدها العودة إلى عالم الأرض الفاني.

والمتصابي ستزحفُ عليه الشيخوخة وتعُلقي بظلها الثقيل على كاهله،

وإذا بشعره الأسود كدجنَّة الليل البهيم

وقد انقلب إلى لون ثلجي،

ثم يهبط عليه غرابُ الشؤم وينشبُ مخالبه فيه

فإذا به جثة هامدة لا نفع منها.

والمفتون بالبطولة والأبطال وبمن يرفعون الأحمال والأثقال

سيُثقل عاتقه مُهلكُ النفوس

إذ سينتزعُ روحَه من جسده فيذهبُ إلى عالم آخر.

الكل مفتونُ بهذا العالم،

وهذا العالم لا يُساوي شروى نقير.

والجميع يتمنّون المكوث فيه

وهو مواطنُ الآلام ومقرُّ الأحزان والأشجان.

الرجالُ والنساء، الشبَّان والشابّات، حتى الأطفال منهم

يؤدُّون أن يخلدوا في عالم المنغِّصات الرهيبة

بما يحويه من أكاذيب عجيبة غريبة.

ترى ألا يوجدُ غاندي آخر في دنيانا الفاسقة

يتمنَّى الولوج إلى عالم الحقِّ،

عالم النور والبهاء، عالم الخلود والبقاء؟

اللهم ادعني إليك كي أتمنَّع ببهائك

وأتنعم بأنوارك وأخلد في ديارك.

لله ما أقذر عالمنا الدنيّ، وما أسمى عالم الروح البهيّ

                                                              داهش

                                                       بيروت في 20/2/1971

                                                              والساعة الخامسة مساءً

 

 

 

استقبال عام 1945

أيُّها العام الزاحف بخيلك ورجلك،

المنتصر على سلفكَ، بعد أن عفَّرت جنينه برغام الذل والهوان،

لقد طردت فلوله المبعثرة المذعورة المدحورة،

وأبدت جيوشه بعد أن كسرتها شر كسرة،

وها هي فيالقُهُ الـ 366 تح0ف بك بقوادها وأعلامها،

وأنتَ تسيرُ بينها فخورًا مختالاً مأخوذًا بروعة الانتصار،

بينما أناشيدُ الفوز يتردد صداها في الأودية السحيقة

فترجعها جبابرةُ الجبال الشامخة الذُرى.

وها هي موائد الطعام والشراب تغص برجال حربك

وهم يضجون ويصخبون، ثم يثملون ويرقصون،

لأنك دخلت على عالم مهدم مردم

وفيه نصاب الأمن مفقود،

وكل بيت تقوم في جنباته مناحةٌ، وقلب قاطنه موؤود؛

والتعاسةُ تغمر شرقهُ وغربه، شماله وجنوبه؛

وشبحُ الموت يحصد الأرواح وهو يذرعُ آفاقه ويجوبَه؛

وصدى عويل الثواكل يتصاعد نحو بروج السماء فتهتزُّ أركانُها؛

ودمدمةُ احتضار قتلى المعارك يُزلزلُ أسُس أرضنا فيتصدع بنيانُها؛

والبؤسُ طابَ له المقام

في القعود والقيام،

فأصبح يذرعُ عواصم الدنيا دون أن يردعَهُ رادع؛

واليأس قطن في صدور البرايا دون أن يجد له من ممانع؛

والشقاءُ غمر السهل والجبل والوعر وكسبل معصم دنيانا،

والهلع بات أليفنا وسميرنا في حلنا وترحالنا،

والدمع المسفوح بمرارة لم ينجُ منه نساؤنا ورجالنا.

فعلامَ علام الانشراح والمرح؟

ثق أنني أصدقك القول، لا ليساورك القلق،

ولا لأتقرب منك بالمداهنة والملق،

ولكنها حقيقةُ ستلمسُ قريبًا آثارها

بعد أن تتكشف لك أسرارها.

نعم يا عام نعم،

فما أنبائك به هو اليقين.

إذًا، خفف قليلاً من غلوائك،

فعمًا قليل ستسفح الكثير من دمائك.

أما أنا يا عام،

فتراني أنظر إليك نظرة الوجل والحذر،

فقد شربت من العام الراحل كؤوس الآلام العلقمية،

وتقلبت على أسنته الحادة الشوكية،

ثم سفحتُ على أروقته دموعي ودمائي،

لأنني متأكد بأن الحرب الضروس ستنشبُ بيني وبين أعدائي.

فانصرني عليهم أيها العام الجديد،

ودعني أؤدبهم بعصا من الحديد،

فالخوف من الفشل والخذلان يقضان مني مضجعي،

ويحرمانني لذة الرقاد فتخيم في سماء حياتي غمامة كثيفة.

ولكن الطموح لاقتطاف ثمرة الفوز يشدد من عزيمتي،

ويبعثُ روح النشاط في أعصابي الثائرة.

وها إني أُحصي الثواني لا الساعات

لأشهرها حربًا عوانًا على أعداءِ المبدإ الذي أدين به،

ولن أعيد سيفي إلى غمده حتى أظفر برؤوس هؤلاء الخونة،

قاطعًا على نفسي عهدًا أمام الله جل جلاله

بأنني لن أتراجع إلى الوراء قيد أنملة،

فأمّا أن أنتصر وأفوز

وإما أن أسقط صريع هذا المبدأ السامي.

فهل سمعتَ أيها العام؟!..

                                                       بيروت، في 1 كانون الثاني 1945

 

 

 

 

الإنسان

مهداة إلى من أحبه كثيرًا

 

الإنسان هذا الوحش الشرس والذئب المفترس.

إنه أعدى أعداء نفسه فكيف بسواه من أبناء جنسه!

ينامُ والحقدُ ملء جفنيه، والضغينة تكمنُ بين جنبيه،

ودم ضحاياه يلوث يديه، وبسمة الغدر تعلو وجنتيه،

وتمتمة الإثم تقطنُ في شفتيه.

ويستيقظ بينما يتلظى في صدره بركانٌ ثائر يتأجج بالشهوات الملونة،

فيرتكب أحط أنواع الاعتداء الشائن،

شأنه منذ قذفت به أمه إلى مستنقع دنياه الأثيمة.

هناؤه في إيقاع الضرر بالغير،

وحُلمُه الذهبي زرع بدور الشفاق لمن يستطيع إليه سبيلاً.

راحته بالقضاء على فريسته براحتيه،

وسعادته بالاجهاز عليها بساعديه،

فلا بارك الله في صُنع يديه.

الشفقة لفظةُ خرافية لديه،

والعدالة كلمة لا يتلفظ بها سوى معشر المجانين،

ولذته الدائمة في سماعه عويل الثكالى وآلام المفجوعين.

يلقاك فيرحب بك كأنك شقيقه الوحيد،

ولو استطاع لنحركَ من الوريد إلى الوريد،

ول تكشفت لك دخيلته لهالك الأمر وذُعرت،

ولفررتَ من هذا الشيطان المتسجد، المتصنع الرقة، المتكلف الرحمة،

وما هو الا جلاد لا حياة له دون سفك دماء الأبرياء.

يراوغُ صديقه ويداوره،

وفي الفرصة السانحة يطعنه بخنجر خيانته فيصرعه،

ثم يطلق عليه عقارب نذالكته تشفيًا بمصيره.

كلماته المعسولة سم زعاف قاتل لا ترياق يشفيه،

وبسماته إذعرفت على حقيقتها يفضل عليها لذعات أرهب أفعوان كريه.

إنه ذئبُ كاسر يختبئ بجلد إنسان لأنه أبدي المخاتلة والروغان.

أنت تسعى بإخلاص لنعمته، فما يلقاك إلا بنقمته.

سعيه الحثيث حيث مواخير الشرور والموبقات،

يستقطرها خلاصة عهرها وحثالة فجورها.

واعلم أيها الغبي الأرعن أن البشر يخطبون ودك عندما تكون سيدًا لا مسودًا،

ولكنهم لا يتوانون عن تحطيمك وتهشيم عرشك وقصم ظهرك

إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاز

وهم يواصلون السعي ليل نهار في سبيل تحقيق هذا الحلم...

إذ لا يطيقون أن يشاهدوا من هو أسمى منهم...

سواءً أكان هذا السمو في المنصب أم في أي أمرٍ آخر سواه.

فلا يعرنك ما تجده منهم من خضوع أرغمتهم عليه ملابسات الحال،

وإذا قدر لهم النجاح، وكُتِبَ لهم الفلاح،

واستطاعوا أ، ينتزعوك من منصبك، ويغفروا بالرغام انفك،

إذ ذاك تجدهم قد تهللوا، وانشرحت خواطرهم، وانفرجت أساريرهم.

أولست أصبحت فردًا عاديًا مثلهم؟

أما إذا سألتني:

- وماذا يجديهم عملهم المحزن معي

ولم أجرم بحقهم حتى أنال هذا الجزاء منهم؟

أجيبك للحال:

  • أو تناسيتَ أيها الفطن الأريب

أننا معشر الإنسان قد أطلق علينا منذ القديم اسم: البشر،

ومختصر هذه الكلمة أيها الحصيف هو شر؟

والحقيقة التي لا مهرب لنا منها أن جميع أعمالنا هي شرب شر.

فيا رعاك اللهَ! كن يقظًا ولا تثق بمن جبلَ من طين ملوث.

أو ظننتَ أن الطين أيها المسكين

سيرتفعُ يومًا فينقلب إلى مادةً سماوية يوثق بها؟

وأنى لمثل هذا الموغل في الشرور والتائه في الديجور

أن يؤمن جانبه ويُطمأن إلى صحبته،

وليس سوى الجرائم في جُعبته.

إنه كالثعبان يطربُ الطرب كله عندما ينفثُ في الإنسان سُمَّه...

واسمع يا صحبي حقيقة صاحبك الإنسان،

فهو مسبوك في الرجس، مسكوك في الدنس،

مجبول في الرذيلة، منغمس في النقيصة،

مغتسل في البذاءة، معتمد في الدناءة؛

ينامُ في فراش الدنس دون أن يبكته ضمير،

وهل لمثل هذا الإنسان من ضمير؟

نعيمه في دنياه أن يُقيم في بيروت الآمنين مناحات متسلسلة،

وفردوسُه إصغاؤه لنشيج من أوقعهم في شباكه واصطادهم بأشراكه.

دأبُهُ السعي للخراب الشامل

وإن لم يكن في ذلك إفادةً مضمونة له.

فقد جُبل على حب الدمار وخرق الذمار.

وكم يطربه أن يرى جميع ما حوله بلقعًا خرابًا وقفرًا يبابًا.

واصغِ لما أقصُّه عليكَ من صفات هذا الإنسان المجبول بسماد الفساد.

إنه يرقُص فرحًا لنبأ صاعقة دمَّرت مساكن جيرانه،وجرفت مواطن إخوانه.

فما علين ما دام قد سلمت داره ونجت آثاره؟

ويثملُ عندما يتمكن من الاحتيال على ضحية من ضحاياه،

فيبتزُّ منه ما يكون قد أدخره لرد غائلة الجوع وعري أطفاله المساكين.

فهو يردد اسم الله تعالى ويقسم بابنه الحبيب بأغلظ الأقسام،

بينما يبتسم في أعماق فؤاده ممن يعتقدون بمثل هذه السخافات.

يتمنى أن يتحكم بأمرك وينفرد بإدارة دفة مصيرك

ليُذيقك من البلاء أصنافًا متعددة الألوان،

ويجرعك من كأس المذلة والهوان.

هو يكرهك كراهيةً عميقة جدًا،

ولكنهُ يُظهر لك الحب والارتياح لأنك أقوى منه وأثرى.

يهددك بقبضة يديه من وراء جدران غرفته

الشاهدة على جرائمه،

العارفة بحقارة نفسه وروحه.

يجالسكَ وهو يتمنى أن يخطف ملك الموت روحك،

وينتزعها من بين أضلاعك، ويستلها من سويداء فؤادك

إذا كان له فائدة مهما كانت ضئيلة من وراء ذلك.

يزدري بشؤونك ولا يهمُّه تعاستكَ وشقاؤك.

يتمنى سحقك ومحو اسمك كي يبرز اسمه ويتحدث الناس بشأنه.

ينشي بفحيح الصل، ويسكر من عواء الذئاب،

ويستأنس بنعيق البوم في أحلك الليال الداجية.

يهدد السماء بقبضة يده بينما بعوضةٌ حقيرة توردُه موارد التهلكة.

يشمخُ بأنفه وكأنه إلهٌ عظيم القدر، رفيع الشأن،

هبط تلطفًا منه إلى عالم الأرض

رحمةً منه بالإنسانية التي لا تستحق أن تشاهد له ظلاً،

ولو عرف حقيقته لصعُق هولاً، ولتوارى من نفسه خجلاً؛

فهو في حقيقته من أقذر المخلوقات وأتفهها شأنًا.

إنه دابةٌ دائبةُ التمرغ في حمأة النقائص المعيبة،

وجيفةٌ تعافُها جرذانُ المراحيض.

يتناول الفاكهة الرطبة الجنية ليعود فيُخرجها أقذارًا

تنبو العينُ من رؤيتها والنفس من تنسم رائحتها.

أما ما يخرجه أنفه من سوائل مخاطية

فمما تتقزز النفس من أوصافه الكريهة.

وحدث يا صاحبي ولا حرج عليك عندما يُصاب بالبثور،

ذات القيح والصديد والقشور.

واذكر يا عشضيري هذا المخلوق المتعجرف الحقير

عندما يتنفس ويصوت قسرًا عنه،

فتتصاعد على الأثر روائح خناقةى يستعيذ منها سيد الأبالسة،

فيطلق ساقيه للريح عائدًا إلى جحيمه

مفضلاً إياه على ما تنسمه أنفه من لوثة طاعونية موبوءة...

وقل له:

  • أما زلت تعتقد بعظمتكَ أيها المسكين الحقير؟

ثم حدث وحدث وحدث!!!

فيا قارئ مقالي،

تمعن في نصيحتي مليًا لأنني عجمتُ عُودَ الإنسان،

فعرفتُ أي ثعبان لئيم يكون،

فلا يغرنك حُسن مظهره، وحاذر من قُبح مخبره،

فقد نبهتك من حيلته، وكشفتُ لك عن دخيلته،

فحذار يا صاحبي منه حذار، وتذكر قول المعري:

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئب إذْ عوىا وصوَّتَ إنسانُ فكدتُ أطيرُ

                                                       بيروت، 4 كانون الثاني 1945