info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " ناثر وشاعر "  الجزء الثالث

الدكتور داهش

 

                           ناثر وشاعر                  

                          الجزء الثالث

 

 

                                شاعر متمرّد

 

قرأوا وقالوا : شاعر متمرّد                         صدقوا فشعري غضبة تتجدّد

من لم تهزّ العبقريّة شعره                           هيهات تيهم في الخيال ويُنجد

وإذا تمرّد شاعر فيراعه                             يوم الجهاد على الرّقاب مُهنّد

حطّمت أقلام السّلام لأنّني                            جرّدت سيفاً بالجوانح يُغمدُ

يا أخت روحي لم أكن متمرّداً                       لولا مظالم في الحمى لا تُحمد

أأكون ظمآناً ووحيك جدولي                         وهواك في قلبي يقوم ويقعد

أقسمت لن أُلقي اليراعة من يدي                   حتّى يُطلّ على الجموع الفرقد

أيُهان نابغة ويُسجن شاعر                           وأخو الجهالة في البلاد يُمجّد

ضاقت بوجهي الأرض وهي رحيبة                 لمّا رأيت المصلحين تشرّدوا

أمسيت في سجن الرّمال مُقيّداً                      لكنّ فِكر الحرّ ليس يُقيّد

قولي لمن طرحوا البريء مُكبّلاً                     يوم الجناة كليل سجني أسود

إن يسألوا يا أخت روحي من أنا                    قولي لهم : هو شاعر متمرّد

                                                                   حليم دمّوس

 

 

                                   مقدّمة

                                                                   بقلم ماجد مهدي

هذا الكتاب ضُمّة من الأزاهير الحالمة التي تزدان بها حديقة الأدب الداهشيّ . أزاهير فردوسيّة ضربت جذورها في تُربة ممراع ، وشمخت أفنانها تُعانق نسائم الحياة ، وتفتّحت أكمامها عن رنوة جريئة إلى وجه الشمس . فجاءت الكمال في الجمال ، والإبداع في تعدّد الأشكال والألوان ، والسّحر في الأفاويه التي تحكي عبق الجنان .

ضُمّة اختارتها يد الدكتور داهش لتعهد بها إلى "بلبل المنابر"(1) الذي غدا في تلك الفترة مستهاماً بتلك الحديقة الأدبيّة ، يتنقّل صادحاً على أفنانها ، ويغتذي بشهيّ ثمارها ، ويرشف من خمر كوثرها . فيستسلم ذلك الشاعر الغرّيد عروس شعره ، ويحوكُ لها من قوافيه وأوزانه بُردة جديدة ، فتغدو تلك الصفحات – الأزاهير مزدهية بحلّتين بهيّتين : حلّة النثر ، وحُلّة الشّعر .

                                  ***

إنّ أوّل ما يلفت في هذه الصفحات من الأدب الداهشيّ تلك الظاهرة التي تفرّد بها الدكتور داهش دون سواه من الأدباء ، والمتمثّلة في اهتمامه بنقل كامل تراثه الفكريّ إلى صيغة الشّعر . فهو يؤثّر الترافق بين النثر والشّعر ، رغم أنّ الكثير من كتاباته حفلت بالشّعر الموزون ، وبالكثير من الشّعر المنثور ، الموسيقيّ الجرس والإيقاع ، والذي لا مرية في أنّه من الشّعر الذي طلّق الوزن والقافية ، وتحرّر من قيودها .

هذا النهج الفريد لم يكن وليد السنوات المتأخّرة من حياة الدكتور داهش الأدبيّة ، بل جاء مواكباً ولادة ذلك الأدب ، بدءاً بباكورة كتبه المطبوعة "ضجعة الموت" الذي نظمه الشاعر الفلسطيني مطلق عبد الخالق ، والذي صدرت نسختاه النثريّة والشعريّة متزامنتين . كما يستمرّ هذا النهج واضحاً في العشرات من مآثره الأدبيّة التي نظمها شعراء فيما بعد ؛ فينظم الشاعر صلاح الأسير كتاب (عشتروت وأدونيس)، والعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي كتاب (الجحيم)، وينظم حليم دمّوس العديد من تلك الكتب المتنوّعة المواضيع .

بُعيد هذه النظرة الأولى ، تطلّ علينا مقتطفات من عشرة كتب مختلفة للدكتور داهش ، فنقرأ بعضاً من "مذكّرات يسوع الناصريّ" التي كشف فيها بإلهام روحيّ حقبة من حياة الناصريّ المجهولة ، " ونشيد الأنشاد" الذي يُعيد فيه إلى الأسماع صدى النشيد الخالد الذي أطلقه النبيّ سليمان الحكيم . كما نقرأ "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" وأسطورة" عشتروت وأدونيس". وتطالعنا أيضاً قطعُهُ الوجدانيّة في كتاب "نبال ونصال" وكتاب "أوهام سرابيّة وتخيّلات ترابيّة"، ونخشع معه ونشاركه الضراعة في "ابتهالات خشوعيّة". كما نطلّ من خلال روايته الشهيرة "مذكّرات دينار" على واقع الحياة المأساويّ الذي تتخبّط فيه الشعوب والأمم . ونشعر بالأحزان الفيّاضة والآلام الممضّة والثورة الجارفة تفيض من كتاب "من وحي السجن والتجريد والنفي والتشريد" الذي تضمّن وقائع المظلمة التي أنزلها به زبانيّة الظلام والشرّ . وبعد كلّ ذلك ننحني لوعة ونحن نستمع لمرثياته الخالدة في " روح تنوح" والتي فاض بها قلمه الموجع المفجوع بزهرة الداهشيّة (ماجدا حدّاد) التي استُشهدت في سبيل مبدإها ودفاعاً عن البريء المظلوم داهش .

                                      ***

أما ما يُشدُّ للوهلة الأولى في شعر حليم دمّوس ، ومن خلال تأريخه لتلك القصائد ، فهو سرعته وعفويّته في النظم التي تحكي سرعة الطائر في تنقّله على الأفنان وعفويّته في صداحه وإنشاده . والذين عرفوا الحليم يشهدون بأنّ سرعته في النظم تماثل سرعته في كتابه النثر ، وأنّ له في نظمه سلاسة الجدول الرقراق المنساب بسلام واطمئنان على بساط الطبيعة النشوى.

كما يتأكّد ذلك من غزارة مؤلّفاته التي تركها في الفترة القصيرة من حياته التي أعقبت اعتناقه للداهشيّة . ولربّما أخذ عليه عدم إعادة النظر في شعره وعدم اختياره لما هو أصلح ، بيد أنّ الأولويّة في رأي حليم كانت للصدق في التعبير دون الإغراق في أساليب البديع والبيان .

والملفت أيضاً هو دقّته في النقل ومحافظته على الأصل النثريّ روحاً وشكلاً . ومردّ ذلك إلى قوّة إبداع وخلق تميّز بها الشاعر ، وإلى الرابط الفكريّ والروحيّ الذي يربطه بالناثر .

فالتقاء حليم دمّوس بالدكتور داهش ، وتعرّفه إليه ، واعتناقه لعقيدته الروحيّة ، وإعجابه المطلق بأدبه وفكره كان نقطة تحوّل في حياة حليم الشعريّة فصلت بين ماض شعريّ هزيل رهين المناسبات ، ومستقبل منفتح على الآفاق الداهشيّة الغنيّة بالمعاني الروحيّة والقيم السامية . حتى الشاعر نفسه يعترف بهذا الانقلاب العظيم في حياته وشعره ، فيأسف على الماضي الذي انطوى ، ويُخاطب قلمه في اعتذار التائه الذي اهتدى :

إنّي لمعتذرٌ والله من قلم                     يجري على الطّرس مثل العارض الهتن

فكم مدحت به قوماً بلا خلق                فكنت أنثر أزهاري على الدّمن

شربت من كأسهم صاب العذاب ولم       أجد صديقاً لدى البأساء يعرفني

فيا يراعي بحقّ الحبّ معذرة               فقد ندمت على ما فات من زمن

إنّي اهتديت لروح الناس قاطبة             وكلّ أرض غدت بين الورى وطني

فإذا كان أدب الدكتور داهش بالنسبة للشاعر يشكّل فعل إيمان ، فلا عجب أن يأتي ذلك الشّعر وكأنّه تعبير عمّا يجول في خاطر الشاعر دون الوقوع في متاهات النقل . فالقارئ لقصائده التي تضمّنتها " مقتطفات من وحي السجن والتجريد والنفي والتشريد" سيرى بجلاء أنّ الأحزان والآلام التي عبّر عنها المؤلّف متدفّقة في الشعر كما في النثر . ومردّ ذلك إلى أنّ اضطهاد المؤلّف وسجنه ونفيه وتشرّده كانت جميعها سبباً في آلام الشاعر وأحزانه في تلك الحقبة المريرة .

وكذلك الحال في "روح تنوح" إذ إنّ الشعور بالمرارة يفيض من القصائد بقدر ما يفيض من القطع النثريّة .

هذه الوحدة الشعوريّة بين الناثر والشاعر هي عامل أساس في إبداع حليم الشعريّ .... فإذا رقّ الناثر في غزليّاته ترى قيثارة الحليم قد شفّت ، وإذا ثار ثارت ، وإذا ابتهل خشعت وتضرّعت ....

                                        ***

ختاماً ، فإنّ (ناثر وشاعر) بأجزائه الثلاثة قد أضاف أفقاً جديداً لعالم الأدب يستمدُّ ألوانه من امتزاج رائع بين فنّي النثر والشّعر ، كما إنّه يتيح المجال للإطّلاع السريع على أدب الدكتور داهش الذي تصعب الإحاطة السريعة بمجمله لما اتّصف به من غزارة وغنىً وشمول .

 

                                                               ماجد مهدي

                                                         بيروت ، 20 تمّوز 1983

 

 

                             مقتطفات

                             من كتاب

                     مذكّرات يسوع النّاصريّ

 

 

                               453- استسلام

 

هذه هي إرادة أبي السماويّ ، وإلاّ ما كنت لأحيا الآن في عالم الرياء .

لقد تعبت نفسي من كلّ شيء ، وعافت روحي هؤلاء البشر الأدنياء .

إنّ التعاليم السماويّة لا تُجدي فيهم نفعاً ، ولا المواعظ التي تُلقى عليهم بوحي من السماء .

الفقراء والبؤساء والمصابون هم وحدهم يُصغون لي ؛ أمّا الأغنياء فإنّهم يعبدون المال وحده.

فالويل لهم عندما تدقّ ساعة حسابهم الرهيبة !

ها قد قطعت اثنتي عشرة مرحلة من مراحل حياتي وأنا لا أصطدم إلاّ بكلّ نقيصة وكلّ رذيلة!

ليس من صالح واحد ! نعم ، ليس من يعمل صلاحاً سوى الله جلّ اسمه .

أمّا أنا فقد قطعت على نفسي عهداً بأن أسير على طريق الحقّ والحقيقة !

                                                                             بيروت ، 1943

هذي إرادة أبي باري الورى                بأن أعيش زمناً فوق الثّرى

قد تعبت نفسي من الأيّام                    وعافت الروح بني الآثام

كم من تعاليم من السماء           لم تُجدِ نفعاً ساكني الغبراء !

فالأغنياء يعبدون المالا                      والفقراء يشتكون الحالا !

يا ويلهم من ساعة الحساب                 في موقف العقاب والثواب !

قطعت من مراحلي الثاني عشر            ولستُ ألقى صالحاً بين البشر

لا لا ، فليس بينهم من صالح               ولا ترى عيناي غير الطالح

عاهدت نفسي نصرة الحقيقة               بعون ربّي خالق الخليقة

                                                                   بيروت ، آب 1943