info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "مقارنة بين كتابين عملاقين جحيم داهش" و"جحيم دانتي"

الدكتور داهش

الأديب المعجز

 

مقارنة بين كتابين عملاقين

"جحيم داهش" و"جحيم دانتي"

 

تأليف

غازي براكس

دكتور دولة في الآداب

 

 

لقد تواروا

 

أين الملوك الذين ساروا في سالفِ الأعوام؟

أين القياصرة والأكاسرة والجبابرة العظام؟

أين قوّاد الكتائب وأين الفاتحون الطُّغام؟

أين الكرماء الأعزّة وأين الأذلّة اللئام؟

أين الكواكب الغيد الرائعات الحُسن والقوام؟

ويلاه...لقد أصبحوا جميعهم رُكاماً مُكّدسة العِظَام؟

 

 

                                                          الدكتور داهش

                                                      من كتاب "بروق ورعود"

 

أشباح الرعب الهائل

وأطياف الجزع المُزلْزل

 

أجل، إنّهما سفْران عملاقان لرجلين عملاقين. لكنّ دانتي أليغييري (1265-1321) شيّدت صرح عظمته الشامخة سبعة قرون وضعت في سياقها ألوف الدراسات عن شاعريّته؛ بينما بنى داهش برج عظمته السامقة- وهو ما يزال رهين الحياة- بخوارق أعماله الفائقة وعجائب أدبه الخارقة!

وليت" جحيم الدكتور داهش" و"نعيمه" كانا مطبوعين بجميع أجزائهما(1)، إذن لكنت عقدت مقارنة فذّة بين الأسفار الداهشيّة الستّة وأقسام" الكوميديا الإلهيّة"(2) الثلاثة: الجحيم والمطهر والفردوس. ولكنّ تهيّؤ "جحيم داهش" بجزئه الأوّل فقط في يدي اضطرّني لقصر الدراسة عليه في مقارنة بينه وبين" جحيم دانتي". والبحث العادل كان يقتضي مقارنة "الجحيمين" كاملين؛ ولكن، مع ذلك وجدت أنّ المقارنة بين ثلث "جحيم داهش" وكامل "جحيم دانتي" كافية لتؤكّد أنّ الرجل الذي طبّقت الآفاق أنباء مُعجزاته سرعان ما ستُبْهر الأحداق شموس مؤلّفاته، وأنّ الذي أدهشَ العقول بآياتِ الرُّوح المتجلّية على يديه، سيشدهها بآياتِ الأدب المتدفّقة من خياله الجبّار وينابيع أصغريه (3).

ومع أنّ كتباً كثيرة تناولت، قبل دانتي وبعده، أوصاف الجحيم، مُفصّلة أو مُوجزة(4)،فإنني لم أقف إلاّ عند أشمخ ذروة بلغها الأدب الوصفيّ لعالم العذاب والعقاب، قبل ظهور الدكتور داهش، وقد رأيتها متمثّلة "بجحيم" دانتي، ولذا لم أجد أيّ كتاب سواه حريّا بالمقارنة" بجحيم داهش". ونظراً لخصب الكتابين وإتّساع آفاقهما كان لا بدّ لي من الإيجاز والتكثيف.

وفي هذا البحث المقتضب الذي هو أشبه بالدليل لمن يودّ التعرّف لبعض المعالم البارزة التي سيلقاها خائض الرحلة المُدهشة المُذهلة الى العالم الرهيب العجيب، رأيت أن أنهج خطّة المقارنة التالية:

1-   عوامل تأليف" الجحيم" عند دانتي والدكتور داهش.

2-   مفهوم الجحيم عند كلّ منهما.

3-   بيئة الجحيم الطبيعيّة ودور الشياطين وزبانيتهم فيها.

4-   التعذيب: عناصره وفنونه.

5-   أحوال المُعذّبين.

6-   مقارنات بين أحوال وموضوعات متشابهة في السّفرين.

أخيراً، تقويم وخاتمة.

 

 

أولاً- عوامل تأليف" الجحيم" عند الدكتور داهش ودانتي

إنّ الموهبة الأدبيّة لا بدّ منها لتوليد أيّ أثرٍ أدبيّ حقّ، فمثلها مثل الطاقة الكهربائيّة، بدونها لا يكون ضوء ولا حرارة. لكنّ المواهب عند الأدباء أشبه بمياهِ الينابيع تتدفّق على تفاوت في الضُعْف والقوّة، فتراها ضحلة عند بعضهم، وزخّارة هدّارة عند آخرين، وقد تكون أصليةً لدى أناسٍ إذ تتفجّر من منابعِ نفوسهم وسيّالات أرواحهم، ومُستعارة لدى غيرهم إذ تكوّنها اقتباسات من التعابير والصّور والخواطر مُنتحلة من شتّى المصادر، شأنها شأن البئر الاصطناعية تُملأ بكلِّ هاطلٍ ماطر.

وإذا تراءى للقارئ الخبير البصير، وهو يجوس "جحيم دانتي"، أنّه أمام نهرٍ من الأفكارِ والأخيلة دافق، فلا بدّ من أن يشعر، وهو يجوس "جحيم داهش" أنّه أمام شلاّلٍ من عجائبِ الصّور والرّؤى هابط من شاهق، فيأخذه الدوَّار، ويهلع لعذاب الأشرار، ويخشع للقادر الجبّار، ذلك بأنّ الأدب العظيم يأسرك أسراً، ويسحرك سحراً، ويجعلك تعيش الثانية دهراً!

لكن، إذا كانت المواهب الأدبيّة أشبه بالينابيع المتفجّرة، فإنّ مجاريها تكوّنها عوامل مختلفة تتنوّع بتنوّع الدوافع النفسيّة الباطنيّة والظروف الطارئة الخارجيّة. وإنّما المجاري هي الموضوعات وما تنطوي عليه من أفكار ومواقف النظرات.

 

                                     ***

أ‌-    فما هي العوامل التي تضافرت فدفعت دانتي الى إبداع "جحيمه"؟

يبدو أنّ ثمّة ثلاثة عوامل: سياسيّ، وإصلاحيّ دينيّ، وعاطفيّ.

والعامل السياسيّ أهمّها، لأنّه كان القوّة الضاغطة الأقوى التي صهرت موضوع" الجحيم" بمصهرها ثم قولبته بقالبها.

فسنة 1266-أي بعد عامٍ واحد من ولادة دانتي- تسلّم حزب"الغلف"مقاليد السلطة في فلورنسا مسقط رأس الشاعر. وهذا الحزب يؤيّد استئثار البابويّة بالسلطة السياسيّة فضلا عن السلطة الدينيّة. ونتيجة لذلك أقصي عن الحكم خصومه المعروفون بإسم "الجيبلين" وهم يعارضون ممارسة الباباوات السلطة السياسيّة، لكثرة ما أساؤوا استخدامها في سبيل مآربهم الشخصيّة، فأضرّوا، على السواء، بالدين وبالسياسة الدنيويّة.

كذلك نشطت محاكم التفتيش الجهنميّة في فلورنسا ضدّ أعداء البابويّة دينيّين كانوا أم سياسيّين، إذ اعتبر البابوات أن كلّ خروج على إرادتهم، بل كلّ امتناع عن مناصرتهم حتى في غاياتهم الشخصيّة وأغراضهم الدنيويّة هو نوع من الهرطقة يستحقّ صاحبها النفي والسجن والإحراق حيّاً.

وسنة 1296 انتخب بونيفاس الثامن للكرسيّ البابويّ، فإنقسم أنصاره "الغلف" فئتين عرفت"بالسّود"، وكانت سوداء المقاصد النيّات، متطرّفة ومغالية في منحِ البابا جميع السّلطات؛ وفئة عرفت "بالبيض"، وكانت معتدلة في موقفها المؤيّد للباباوات.

وكان دانتي من " البيض" المعتدلين البارزين. لكن، سرعان ما تأكّد له أنّ تدخّل البابا في السياسة يمني البلاد بأضرار فادحة، فإذا به يغيّر موقفه فينقلب الى مناهض صريح للسياسة البابويّة.

وحدثَ نزاعٌ بين " البيض" و" السّود" حاول البابا بونيفاس أن يخمدَه بالمراوغة الثعلبانيّة السلميّة. وإذ كان دانتي عضواً في مجلس"السنيوريا" قصده في بعثة ثلاثيّة للتفاهم. لكنّه ما لبث أن اكتشف أنّ البابا خدعه، إذ أطلق رفيقيه واحتجزه عنده، مدّعيا أنّه يشكّل خطراً كبيرا عليه. وبعد مدّة أفرج عنه، فحاول دانتي العودة الى موطنه، لكنّه رأى أنّ الأوان قد فات، لأنّ البابا كان قد أوعز الى شارل ده قالوا الفرنسي باحتلال فلورنسا عسكريّأ فدخلها في أوّل تشرين الثاني 1301. وما لبثت السلطة الجديدة أن اتّهمت دانتي زورا- بتحريض من البابا- باساءةِ استخدام سلطته الوظيفيّة وجعلها وسيلةً لابتزاز الأموال عن طريق الغشّ والسرقة والرشوة، فأصدرت قراراً بمصادرة أملاكه وبإحراقه حيّا حالما يُقبض عليه.

وهكذا كُتِبَ على شاعر إيطاليا الأكبر أن يعيشَ في المنفى أعوامه العشرين الباقية، حتى وفاته سنة 1321.

وقد حاول في أثناءِ منفاه أن يتحالفَ و"الجيبلان"، خصوم البابويّة، لكنّه لم ينجح في القيام بأيّ عمل إيجابيّ (5).

وسبّبت له حياة المنفى التشرّد والجوع والتعرّض للإهانات ولأخطارِ قُطّاع الطرق؛ وكلّ ذنبه أنّه عارض سياسة البابا دفاعاً عن مصلحة بلاده. وفي مرحلة منفاه وتشرّده كتب دانتي" الكوميديا الإلهيّة"، فكانت له أشبه بمتنفّس فنّي لما احتشد في نفسه من انفعالاتِ العدائيّة والانتقام ضدّ خصومه، رجال دينٍ كانوا أم رجال دنيا.

وقد بدأها" بالجحيم" حيث زجَّ بأعدائه، منتقماً منهم انتقاماً خياليّا، بعد أن عجز عن النّيل منهم واقعيّاً.

وتتجلّى رغبته الانتقامية هذه في " المطهر"و"الفردوس" مثلما في "الجحيم". وحسبي الاشارة الى تنديده بفسادِ رجال الكنيسة وتدخّلهم فيما لا يخصّهم، وذلك في الأنشودة السادسة من " المطهر"؛ وكذلك تشهيره بالبابوات الضالّين، وبرجالِ الدين الذين نبذوا الكتاب المقدّس وآباء المسيحيّة الأوائل، وتعريضه بأديرتهم التي حوّلوها لمغارات لصوص؛ ثم جعله بطرس الرسول يغضب على فسادِ بابوات روما، معلناً أنّ رجال الكنيسة أصبحوا ذئاباً خاطفة بثيابِ رُعيان...وذلك في الأنشودة التاسعة ثم الثانية والعشرين فالسابعة والعشرين من "الفردوس".

لقد حاول دانتي أن يقارعَ أعداءه بالكفاح السياسيّ ، فباء بالفشل، فشهر قلمه سيفا رهيفاً يجول به ويصول ضدّهم، جاعلا من الانتقام عدالة إلهيّة تتمثّل بالله تعالى ذاته، إذ ينتقم من الآثمين فيسلّط عليهم عذابه المخزي المهين.

وهكذا خصَّصَ للبابا بونيفاس الثامن مركزاً في الجحيم ، ناعتاً إيّاه بالمُغتصب الجشع المُنافق(6)، وصبَّ جام غضبه ولعناته على شعبِ فلورنسا، رجالاً ونساءً، مُلصقا بهم أحقر الرذائل، وواصما إيّاهم بأقبحِ النقائص، لأنّهم لم ينصروه ولم يغيثوه وهو في بحرِ محنته غائص.

وكان يأمل أن تفعلَ "الكوميديا" فعلها العميق في نفوسِ أبناء وطنه، فيتأّلَّبون حوله ضدّ أعدائه، وقد تجلّى أمله هذا في استهلال الأنشودة الخامسة والعشرين من " الفردوس" حيث أعلنَ أنّه إذا انتصرت "الكوميديا" بما فيها من فنٍّ ومعرفة على خصومه من الوحوش فسيعود الى فلورنسا لكي يعقد على رأسه إكليل الغار. لكنّ شاعر إيطاليا الأعظم- وللأسف- لم يُمَجّد في مسقط رأسه إلاّ بعد أن مضى حوالى نصف قرن على وفاته.

ولقد تركت رغبته الانتقاميّة آثارها في موقفه من الآثمين في الجحيم. فبالرغمِ من بكائه وتأثّره حتى الإغماء، أحياناً كثيرة، لدى رؤيته مشاهد العذاب، فإنّه كان يتصلّب ويقسو على أعدائه ويعنّفهم ويسخر منهم كلّما صادفهم في حلقات العالم السفليّ.

ذلك كان العامل السياسي في تأليف" جحيم دانتي"، وبالتالي مُجْمَل "الكوميديا الإلهيّة".

أمّا العامل الإصلاحي الديني فقد كان ثانويّاً بالنسبة للعامل السياسيّ، بالرغم من أنّه قد يتراءى للكثيرين من القرّاء أنّه كان الباعث الأوّل لدانتي على تأليف كتابه، إذ إنّ "الكوميديا" تبدو مَعْرضاً لذمِّ الأشرار ومدح الأخْيَار.

والحقيقة أنّ الإصلاح الذي كان يرمي إليه يكاد لا يعدو الإصلاح الخُلقيّ. فهو يذمّ الرذائل التي عاثت فساداً، سواءً في بلاده أم في العالم، في أفراد الشعب أم بين الملوك والأمراء، في رجال الدنيا الأثرياء أم بين رجال الدين الخبثاء.

لكنّ حملته هذه لم تطل الكنيسة الكاثوليكيّة بأجهزتها الدينيّة المرائية، ولا بتعاليمها المختلقة المُداجية، بل نراه، على العكس، يُحاسب نفسه وصحّة إيمانه(7)  مثلما يُحاسب الآخرين على ضوء المُعتقدات الكاثوليكيّة. ولم يشذّ عن ذلك إلاّ في مهاجمته لصكوك الغفران التي اعتبرها ابتزازاً لأموال الحمقى من المؤمنين(8)، وفي مناداته بضرورة نزع السلطة السياسيّة من أيدي رجال الدين.

ويبدو أنّه كان على المسيحيّة أن تنتظر مئتي سنة أخرى ليظهر لوثر في المانيا فيضْطَلع بمهمّة الحملة العامّة على مُعتقداتِ الكنيسة الكاثوليكيّة المُختلقة، ومفاسد أجهزتها الدينيّة المطبقة. وإذا كان دانتي ينادي بضرورة توحيد العالم سياسيّا في ظلّ ملكٍ واحد، فإنّه كان ينادي، أيضاً، بإخضاعِه دينيّاً لراية البابا الواحد المُتحاشي عن تعاطي الأمور السياسيّة.

أمّا العامل العاطفيّ الذي دأب الدَارسون على وضعه بمنزلة المُحرّك الأوّل لنظم"الكوميديا الإلهيّة" فإني أراه أضعف العوامل الثلاثة، ومهمّته تكاد تكون فنيّة بحتة. ذلك بأنّ دانتي يُوحي لنا بأنه أحبّ بياتريس(9)(1266-1290) حبّاً غامراً، دون أن يؤكّد أنّها بادلته الحبّ . فضلاً عن أنّه تزوّج جِمّا دوناتي، وتغزّل بعددٍ من النساء(10).

ولكن ، كان لا بدَّ من عنصرٍ فنّي ينتظم الرحلة في العوالم الثلاثة نظير سلك شفّاف، فإذا بحبّ دانتي الأوّل لغادة اقتطفها الموت كوردة نضرة يرفده بهذا العون الضروري.

تلك كانت العوامل الثلاثة التي رأيتها قد دفعت دانتي، متضافرة ، لنظم "الكوميديا الإلهيّة" بدءاً "بالجحيم".

فما هي العوامل التي دفعت الدكتور داهش الى إبداعِ "جحيمه"؟