info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "مدخل الى الداهشيّة"

مدخل الى الداهشيّة

 

تمهيد

دواعي ظهور الرسالة الداهشيّة

 

هذا الكتاب لن يكون موضوع لهو وتسلية . حسبنا ما تستنزف ألهيات الحياة من جراح الناس . شئته مشحوناً برعد الروح , مصهوراً بلهب الإيمان , مطروقاً بمطرقة العقل والحجّة الحاسمة .

جئتكم بطعام لم يذقه البشر منذ ألفين من السنين : طعام سيكون منأً وسلوى لبعض , وسمّاً زعافاً لبعض ؛ به سيقوى ويستيقظ كثيرون , وبه سيسقط ويخزى عديدون ؛ لكنّ الحياة المتصاعدة لا تبالي إلاّ بالأقوياء الأنقياء من أبنائها , فلهم وحدهم تسلم قيادها .

لم يشهد التاريخ البشريّ , منذ فجره الجليّ , قلقاً متفاقماً , ويأساً متعاظماً , وحياةً مأساويّة يقاسيها معظم الناس , كما يشهد في هذه الحقبة من القرن العشرين .

فالفرد يقلقه إضطراب العيش , وغموض الغد , وفقدان النظام النفسي الصحيح , وتضعضع الفكر في غمرة المذاهب والفلسفات المضطربة المتناقضة , وفراغ الحياة من معنىً يبعث فيها الأمل والعزاء والقوّة .

والمجتمع يقلقه تنافر مصالح أفراده , وتمزّق وحدة أبنائه , وتلمّس شيعه وأحزابه سبلاً متضاربة للخلاص , وطرقاً يائسة لإقامة دولة آمنة عادلة فاضلة .

والعالم يقلقه تنافس دوله في التبشير بالسلام , وتسابقها في إيقاد الحروب وزرع الخصام , وتخوّف الشعوب الضعيفة من مطامع القويّة , وضياع الثقة ما بينها , وتباري الأمم في تطوير أسلحة الفناء وامتلاكها , وإقتراب شبح حرب ذرّية عالميّة تقضي على الحياة والحضارات . وفي كل ذلك أمسى العلم مطيّة مسخّرة لأهواء النفس ونزوات الشرّ , وتقلّص دور العقل ليخلي مكانه للجنون .

هذا القلق المأساويّ , بل هذا التمزّق النفسي , ما كان ليفترس عالم القرن العشرين , لو لم يهن الإنسان لديه , ويجعل نفسه شلواً بين شدقيه . فالبشر زاغوا عن المثل العليا الصحيحة التي بوسعها أن تنفخ فيهم روحاً يدفعهم في طريق الإتّزان الشخصي , والسلام النفسي , والتكامل الحضاري , وبالتالي الرقيّ الحقيقيّ ؛ وانجذبوا الى مثل عليا زائفة , إستمدّوها من قيم عارضة إعتباطيّة , وقوىً بشريّة وهميّة ظنّوها الحقيقة المعزّية الكبرى , فاذا هي سراب علقت به عيون مخدوعة , وعقول أوهنتها أهواء النفس , فعجزت عن الرؤية الجليّة الصائبة . وقد ظهرت آثار هذا الإنحراف بتفاقم يأس الأمم , يوماً بعد يوم , وبدء إنهيار آمالهم القديمة , في بناء عالم يسوده السلام والعدل والمحبّة والفضيلة والسعادة .

المصير الفاجع الذي صار الإنسان إليه , ما كان إستحقّه لو لم يختاره راضياً . فقد آثر أن ينهج المسلك الماديّ الخارجي , لأنّه يشبع غرائزه البهيميّة , وميوله الفرديّة الأنانيّة , ونزعاته الإجتماعيّة العدائيّة , بما يقدم له من لذّة حسّية آنية سهلة , ومجد دنيويّ سريع , وعصبيّة إقليميّة طمّاعة ؛ وتنكّب عن المسلك الروحيّ الداخلي الذي في إنتهاجه التصاعدي وحده , يكون تكامل الإنسان , وتساميه االحقيقي , وصحة مخطّطاته , وسلامة مؤسّساته , بما يتيح له من هيمنة النزعات الإنسانيّة الخيّرة على الميول السفليّة الشرّيرة , في الفرد والمجتمع . لقد فضّل الإنسان , لإنحلاله النفسي , وتقاعس الإرادة السامية فيه , مدنيّة مادّية صخابة سطحيّة تمتع حواسه , وترهق نفسه , على حضارة روحيّة هادئة عميقة , تجذب السفلي فيه الى العلوي , والخارجي العرضي الى الداخلي الجوهري , وتغمره بسلام وسعادة دائمين .

وقد أغرى البشر في سلوك ذاك الطريق المنحرف تخلّيهم عن الإيمان اليقيني الثابت بوجود الروح وخلودها ؛ وفهم اليوم , بأكثريّتهم الساحقة , إمّا كافرون أو مؤمنون مشكّكون . هذا الوضع النفسي القلق , الجاحد أو المشكّك , المتأثّر بنزعة مادّية خارجيّة في الرؤية والحكم والتصرّف وبضغط الجوّ العلمي , الواقعي , التجريبي , دفع الجميع الى مطالبة واعية أو غير واعية بإثبات واقعي غير نظريّ , لوجود الروح : إثبات علمي يطمئّن قلق الإنسان , ويبلسم جراحه النازفة , ويضيء الأمل بالخلاص في نفسه , ويزيل الشكوك التي أثارتها الإكتشافات والإختراعات التي بهرت عينيه , إثبات يكون بحجم العصر ومستواه .

وما كان للمذاهب الفلسفيّة أن تقدم ذاك الإثبات الواقعي , وهي عمارات عقليّة نظريّة متباينة , كلّ منها بني على قاعدة تقرّها فئة وتنكرها أخرى . وما كان للمذاهب الدينيّة الراهنة أن تأتي أيضاً به , ما دامت براهينها كلّها نظريّة .

وما كان للعلوم العقليّة المعروفة نفسها , أن تقدّم ذاك الإثبات الواقعي أيضاً , ما دام الروح لا يحدّ بمقياس , ولا يسخّر لمشيئة الإنسان , وما دامت وسائل العلم تجريبيّة محدودة . وإزاء هذا العجز البشري الشامل , وضرورة الإيمان الملحّة لإنقاذ الكثيرين , لم يبق إلاّ للروح نفسه , وهو الأعلم والأقوى , أن يعلن ذاته ووجوده للناس,  بإذنه تعالى ورحمته .

وإذا الروح يتنزّل من لدنه تعالى على رجل من لبنان , هو الدكتور داهش , ليملأ بحقيقة وجوده العظمى فراغ نفوس الكثيرين , وليبهر أبصار المنكرين , ويذلّ عتو المستكبرين ... ويعزّي قلوب المتواضعين .

وما كان الإنسان يمكنه التحقّق من وجود الريح , وهو لا يراها , لولا تحريكها الأغصان والأشياء , ولفحها وجهه ؛ فآثارها تنبىء عن وجودها .

وما كان الإنسان ليستطيع التثبّت من وجود العقل لولا ثماره وآثاره . فليس بوسع المرء أن يعاينه أو يتلمّسه أو يتحسّسه ؛ ومع ذلك لا يخامره أن يجحده , لأنّه يتّخذ من أفعال  العقل ومنتجاته شهوداً حاسمة على وجوده . كذلك الروح , ما كان للإنسان أن يتيقّن من وجوده لولا آثاره وثماره الخارقة , فهي الشاهد الأصّدق عليه .(1)

والعلوم , ثمرة العقل الفضلى , لا تعدو أن تكون في سيرها التصاعدي , سعياً الى مزيد من الكشف عن القوانين الطبيعيّة التي هي ملمح من ملامح الحقيقة الإلهيّة الأزليّة اللامتناهية ؛ ومع ذلك فهي برهان كاف على قدرة العقل ومدعاة لإجلاله . أفلا تكون معجزات الروح – تلك التي تتحدّى العقل البشري في حشوده وطاقاته وإمكاناته وإختباراته , فيقف دونها قزماً عاجزاً مدهوشاً – حجّة أقوى على عظمة الروح وسلطانه , وقدرته الخارقة الفائقة !  وهيهات ما بين قوّة تحدّها أبعاد المادّة وتخضعها قوانينها , وقوّة تتفلت من نواميس المادّة وأبعاد الزمان –المكان ! هيهات ما بين سراج باهت هو العقل وشمس وضّاءة هي الروح !

العقل البشريّ الذي عجز فاستعلى فأنكر , هو الذي سيقف موقف الحرج , هذه المرّة , أمام إستطاعة الروح وسطوع وجوده . فإمّا أن يأتي بما يأتيه الروح من ظاهرات ومنجزات معجزات , وإمّا أن يخضع لرسول الرحمن مسلّماً تسليماً .

ولدى تأكّد وجود الروح المفارق لعوالم  " المادّة " , المتخطّي لأبعادها , القاهر لقواها , المعجز لبني البشر , ماذا يتأتّى لنا من فائدة ومغزى ؟ فيما إذ تتبدّل نظرة الإنسان الى كل شيء وكل قضيّة , وتتغير مواقفه وتعليلاته وتقويماته ومعانيها . فبدل أن يكون تفسيره للكون  " مادّياً " يصبح " روحيّاً " , وبدل أن تكون قيمه ومثله مستمدّة من قولى مادّية إعتباطيّة عارضة , قوىً خارجيّة وهميّة زائفة , تستمدّ من قوى روحيّة جوهريّة حقيقيّة خالدة . إذ ذاك يتيسّر له فهم أن وراء المنظور لا منظوراً , ووراء المحسوس لا محسوساً , وأن ذلك اللامنظور , أللامحسوس , سرمديّ , قوي , عادل , يعطي كل نصيبه من الحقّ ثواباً وعقاباً ورحمة ؛ وعندئذ يتشوّف  الإنسان الى ما بعد القبر , وقد ثبت لدي تواصل بقاءه النفسي , وارتباط مصيره اآتي بواقعه الحالي , وبناء حياته اللاحقة على حياته السابقة, وتجلّى له الخالق سبحانه مصدراً أعظم للقوى الروحيّة , وغاية نهائيّة لتطوّر الكائنات , وتكامل الحياة , فتدفعه يقظته الروحيّة الى توجيه سلوكه وتفكيره توجيهاً يضمن له رقيّاً حقيقيّاً , وخلاصاً حقيقيّاً , وسلاماً نفسيّاً فرديّاً وجماعيّاً حقيقيّاً .

آمل أن يكون الكشف عن دواعي ظهور الرسالة الداهشيّة نوراً يساعد القارىء على متابعة السير في دروب هذا الكتاب الثلاث :

1 – حياة الدكتور داهش الإعجازيّة .

2 – معجزات الدكتور داهش .

3 – الحقائق الروحيّة الداهشيّة مؤيّدة بالخوارق .

 

 

القسم الأول

حياة الدكتور داهش الإعجازيّة

 

الطفل المعجزة:

 

في القدس , مدينة الأنبياء , ولد الدكتور داهش , في مطلع حزيران سنة 1909 .

والده موسى الياس أليشي ( نسبة الى أليشع النبي ) , و والدته شمونة ابنة حنا مراد كانون . عاشا , قبل زواجهما , في مـا بين النهرين , الأب في بلدة إفسس , و الأم في بلدة آزخ ؛  و كانا ينتميان الى الطائفة السريانية , تلك الطائفة التي تتكلم الآرامية , لغة المسيح , حسب كثيرين من المؤرخين .

ثم اعتنق موسى البروتستنتية , و أنشأ مدرسة , في مسقط رأسه , انصرف فيها الى تعليم الناشئة بنفسه .

و كانت شمونة احدى تلميذاته , فاجتذبت نظره باستقامتها وذكائها , فمال قلبه اليها , و اقترن بها .

ثم هاجرا الى فلسطين , في ظروف خطيرة و مؤلمة , و استقرا في القدس , حتى ولد لهما صبيّ , بعد ثلاث بنات .

و تشاورا في ما يسميانه ,فقر رأيهما على ان يفتح الوالد الكتاب المقدس , عفوياً , و يضع إصبعه , دونما نظر , على احدى الصفحتين .و اذا بأنمله على عبارة وردت في العهد القديم : " فولدت ابناً , فدعاه سليمان , و أحبه الرب"  ( سفر الملوك الثاني 12: 24) . فسميا طفلهما سليمان , ثم خففا اسمه , فصار (سليم) (2).

و ما إن أخذ الصبي يدرج , حتى ترك والداه القدس الى حيفا , ثم انتقلا , مع أولادهما , الى بيروت , حيث سكنوا في حي المصيطبة , بملك جرجي ناصيف.

و في فلسطين , حرّف اسم العائلة من (أليشي) الى (العشي) .

 

 

المعجزة الأولى : في المهد تكلم :

 

كان الطفل ما يزال في المهد , عندما أصابه مرض عضال . فقلق عليه والده الذي كان يعمل في مطبعة الجامعة الأميركية ببيروت, واتصل بطبيب أمريكي اسمه الدكتور سميث . فحضر,  ووجد الطفل في غيبوبة ؛ فعالجه بالعقاقير حتى يسترد وعيه ؛ لكنه فشل . و إذ بدأ اليأس يتسرب الى نفس الأم , و همّ الطبيب بالإنصراف , نهض الطفل فجأة , و قد شفي بصورة عجائبية , و أخذ يتحدث الى الطبيب الأمريكي , بالإنكليزية التي يجهلها  تماماً, ذاكراً له الدواء الذي كان عليه ان يعالجه به . فكان عجب الطبيب أعظم من عجب الأم , و راح يحدث معارفه بما رأى و سمع .

 

 

تكلمه بالهندية :

 

حدثني رجال مسنون كانوا يعيشون , في محلة المصيطبة ببيروت , قبيل الحرب العالمية الأولى , و بينهم السيد انطوان بارود , أنه بينما كانوا واقفين في تلك المحلة يتحادثون , اذا برجل غريب يمرّ, فيطرح عليهم أسئلة بلغة لم يفهموها , فيلتف الناس حوله, يحاولون التفاهم معهم , دونما جدوى .

و اذا بصبيّ في حوالي الخامسة من عمره, يدخل بينهم , متقدماً الى الرجل الغريب الزيّ    واللسان , و يروح يحدثه بطلاقة باللغة نفسها التي كان يتكلّم بها . و تبدو علامات السرور على وجه الغريب , فيشكر الطفل , و يمضي في سبيله , بينما تأخذ الدهشة الناس ؛ فيسألون الطفل كيف استطاع ان يتفاهم معه , و بأية لغة ؟ فيجيبهم :

-كان يتحدث بإحدى لغات الهند , و قد سألني عن وجهة يقصدها , فبينتها له .

و يسأل الناس المدهوشون الصبي عن اسمه , فيعرفون انه سليم العشي .

 

 

الصيد الإعجازي :

 

روى لي السيد أنطوان بارود انه , بعيد الحرب العالمية الأولى , قصد شاطئ بيروت , صباحاً , يبتغي صيد السمك . فأمضى ساعات وهو يلقي شبكته , في البحر , ثم يخرجها فارغة .

و فيما هو يهم بالعودة الى منزله , يائساً , اذا بصبي في حوالي الحادية عشرة من عمره , يقفز على رمال الشاطئ , متقدماً اليه . فنصحه بأن يلقي شباكه في مكان عينه له ؛ لكن الصياد رفض , مؤكداً أنه ألقى شباكه في المكان نفسه مراراً, و لم يظفر بشيء . و اذ ألحّ الصبي عليه , ألقى الصيد بارود شبكته , ثم جذبها ؛ فإذا هي مثقلة بالسمك . وأعاد الكرة , مراراً , فكان يخرج بصيد وافر , كل مرة , حتى استولت عليه الدهشة . و لم يلبث ان عرف ان الصبي هو جاره في محلة المصيطبة , و انه هو نفسه الذي كلم الهندي , منذ بضع سنوات .

 

 

الشفاء العجائبي:

 

فيما كان المسيحيون من أهالي محلة المصيطبة يحتفلون بعيد مار الياس ( إيليا النبي) سنة 1920 , اذا بأحد الصبية يذهب و يجيء بسرعة , على دراجة , بين الناس , في الشارع . و فجأة يحدث له اصطدام , فيسقط أرضاً , و يجرح , و تصاب دراجته بالتواءات ؛ فيأخذ بالعويل .

و بينما كانوا الناس يتجمعون حوله ليساعدوه , و قد علا نواحه , شق الطفل الخارق زحام الجموع الى الصبي الجريح ,  ووضع يده عليه قائلاً :

- قم , واذهب الى بيتك بسلام . شفيت جروحك بإذن الله .

و تلتئم جراحه في الحال .

ثم يضع الطفل العجيب يده الثانية على الدراجة فتختفي منها الإلتواءات و الكسور.

و يتحدث سكان المحلة بهذه المعجزة في حيرة و بلبلة من أمر قوة الطفل العجائبية.

 

 

اليتيم المعذب:

 

في 25 كانون الأول سنة 1920, توفي والد الطفل المعجز , بعد ان اصيب بالسل, و أعيا داؤه الأطباء ؛ فدفن في مصح هملن , في الشبانية ( لبنان ).

فوضع سليم و شقيقته الصغرى أنتوانيت في  مدرسة للأيتام تابعة للإرسالية الأمريكية في غزير, إحدى قرى جبل لبنان .

لكن الصبي ساءت صحته , بعد مضيّ أشهر قليلة ؛ فترك المدرسة ، و كان آخر عهده  بها .

وروى رفاقه عنه معجزات ونبوءات كثيرة قام بها , في المدة القصيرة التي أمضاها بينهم .

و قد لازمته الأمراض حوالى ثلاث سنوات , بعد ان أصيب بالعدوى من أبيه , حتى قارب الموت ؛ لكن العناية الإلهية أنقذته و عافته .

 

 

الفتى الشغوف بالمعرفة :

 

كان سليم شغوفاً بالمعرفة ؛ لكن وضع أسرته الإقتصاديّ لم يسمح له بمتابعة دروسه في مدرسة كبيرة , ولا بابتياع الكتب .

 فما ان تحسنت صحته مع بداية عام 1923 , حتى أخذ يستأجر الكتب من المكتبات , فيطالعها و يطيل السهر عليها .

 

 

عينان تشع نوراً:

 

ذات ليلة من عام 1923 , أطال الفتى العجيب سهره , في منزل خالته بالقدس , و هو يطالع أحد الكتب المقدسة . فما كان من خالته الأميّة الاّ ان اسرعت و اطفأت قنديل الكاز الذي يستضيء به , ودعته الى النوم حرصاً على صحته و على زيت الإنارة .

 إمتثل الفتى لرغبتها . لكن , لم يمض هزيع من الليل حتى استيقظت الخالة , فرأت نوراً يضيء زاوية الغرفة , و الفتى جالس يقرأ. فنهضت مغضبة , و في نيتها اطفاء القنديل و إخفاؤه , وأيقظت زوجها , ليؤدبا معاً الفتى العاصي .

 لكنهما سرعان ما تسمرا في الأرض مشدوهين , مذعورين ؛ اذ كان القنديل غير مضاء , و نور ساطع غريب يشع من عينيّ الفتى العجيب .

 لم يفهما من الأمر شيئاً , ولم يحصّلا منه الا الخوف , فاتّصلا , عند الصباح , ببعض رجال الدين المسيحيين , و شرحا لهم ما حدث للفتى . فأكّد رجال الدين  لهما ان " مسّاً شيطانيّاً "  قد أصابه , و ان الكتاب الذي يطالعه قد يكون تلبسه روح شرّير .

عادت المرأة و زوجها الى المنزل , و الفتى غائب , فبادرا الى الكتاب الذي كان يطالعه , و أحرقاه في إحدى زوايا المنزل .

 و ما ان عاد الفتى حتى طالبهما بالكتاب ؛ فأنكرا ان يكونا على علم به . فتوجّه غاضباً الى حيث آثار الرّماد , و ضرب بيده عليها ؛ فإذا الرماد يتكوّن كتاباً  كما كان.

و شاع الخبر في الجوار , زارعاً في نفوس الناس الجاهلين الخوف من الفتى الخارق.

 

 

مشيه على صفحة الماء:

 

بدءاً من سنة 1926, أخذت عجائبه تتكاثر , و يزداد شهودها . و في عيد مار الياس, من هذا العام , صنع خوارق كثيرة , أمام جمع غفير , في بيروت , حتى أصبحت أخبار معجزاته موضوعاً يومياً في أحاديث الناس.

ثم انتقل الى بيت لحم . وذات يوم كانت ضفاف برك النبيّ سليمان التي تقوم قرب المدينة التي شهدت ولادة المسيح , تغصّ بالروّاد و المتنزهين , و فيهم كثيرون من السريان , بينهم السيّد كوريّة ملكي عبد الله . و كان الفتى المعجز حاضراً. فذكر أحدهم مشي المسيح على الماء ؛ فقال الفتى الخارق :

- ماذا تقولون عني , اذا مشيت فوق ماء البحيرة , ذهاباً وأيّاباً؟

فاستعظموا الأمر , و استبعدوه .

و على التوّ , بدأ يسير على صفحة الماء رويداً رويداً كأنما يسير على الأرض , حتى اجتاز البحيرة كلها , ثم عاد أدراجه الى نقطة انطلاقه .

و فحص الشهود المشدوهين الكثيرون حذاءه , فوجدوه غير مبلّل ؛ فإزداد عجبهم . و سأله كوريّة عبد الله كيف حصل ذلك ؟ فأجابه :

- أنا أسير فوق المياه كما أسير على اليابسة (3).

 

 

الفتى المؤدب:

 

ما ان بلغ الفتى العجيب الرابعة عشرة من عمره , حتى أخذ يشفع خوارقه التي يصنعها , في مدن فلسطين , بتقريعه رجال الدين على انحرافهم عن تعاليم المسيح , و اتّجارهم  بتعاليمه المقدسة , وبفضحه سلوكهم الشائن و أعمالهم الخفية المنكرة, داعياً الصبية الكثيرين الذين كانوا يلتفون حوله , الى عدم الإنخداع بأقوالهم ؛ حتى بلغ ذروة حملته عليهم , في بيت لحم , سنة  1927؛  فضجّ الكهنة منه , و استعدوا عليه رجال السّلطة و كان رجال الدين يتهدّدونه في كنائس بيت لحم , و يتوعّدون كل من يتردد اليه , محذّرين الشعب منه . لكن خوارقه كانت تزداد , و نفوذه في الناس كان يتعاظم , على صغر سنه , لأن الله أيّده بسلطانه .

 

 

داهش الناس:

 

ما ان ناهز الفتى الخارق العشرين من عمره , حتى أخذ يلتف حوله عدد من المثقفين الفلسطينيين ممن مالت قلوبهم الى الأمور الروحية , فتتلمذوا له . وكان بينهم الشاعر مطلق عبد الخالق والوجيه توفيق العسراوي (4) .

و ذات يوم من سنة 1929 , ألهم الفتى العجيب بأنه يجب ان يغير اسمه و يتخذ اسماً روحيّاً  , و بأنه سيعطى الإسم الجديد عن طريق القرعة . فأخبر تلاميذه بذلك ؛ فعمدوا الى كتابة اسماء كثيرة , على قصاصات من الورق , ثم طووها و خلطوها . و اختار"سليم " واحدة منها , فإذا فيها إسم " داهش" . لقد أراد الله أن يعرف رسوله من بعد , بهذا الإسم الروحيّ , وبه تشيع عجائبه بين الشعوب  ,  ليكون داهش الناس .

 

 

الدكتور داهش :

 

بعد ان اّتسعت شهرة داهش , و تناهت أخبار معجزاته الى المحافل العلمية في باريس, أرسلت اليه جمعية المباحث النفسية الفرنسية تستضيفه . فسافر اليها برفقة شقيقته أنطوانيت .

و اذ طلب اليه ان يري المجتمعين معجزة من معجزاته , أجابهم أنه سيريهم آية يونان النبيّ .

فطلب أن يوضع في صندوق حديديّ و يحكم إغلاقه , و يدفن في قعر نهر السين , سبعة أيام , تحت الحراسة المشددة .

أجفل المجتمعون , أولاً بخطورة العرض ؛ لكنهم عادوا فقبلوا , عندما كتب لهم إقراراً بأنه هو المسؤول عن عاقبة طلبه .

و بعد أن  فحصته لجنة طبية قاموا بتنفيذ طلبه .

و بعد مضيّ سبعة أيام , و أمام  150 شاهداً من المهتمّين بالأمور النفسية , رفع الصندوق و فتح . و اذا بالجسمان الساجي يتحرّك , و بالوجه الواجم يبتسم .

بعد هذه المعجزة المذهلة , منح داهش شهادة العلوم النفسية من قبل " الجمعية النفسية الدولية " SOCIETE PSYVHIQUE INTERNATIONALE  بتاريخ 6 أيار 1930 , ثم شهادة الدكتوراه من قبل " معهد ساج " SAGE INSTITUE   الإنكليزي في باريس , بتاريخ 22 أيار 1930 .

و هكذا اقترن لقبه العلميّ  بإسمه الروحي , ليعرف بهما بين الناس . ألم يشتهر ابن داوود النبيّ بحكمته , حتى بات لا يعرف الا بإسم (سليمان الحكيم ) ؟