info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "كيف عرفتُ الدكتور داهش"

كيف عرفتُ الدكتور داهش

العلاَّمة الشيخ عبدالله العلايلي

 

مقدمة

ليس في هذا الكتاب , أو هذه الحفنة المضمومة من الأوراق – أسمه كيف شئت- حروف استوت في ألفاظ ,. مثلما تعود ان يجد الناس في الكتب.

انما هو حشاشة ارفضّت قطراتها , بمواقع الاثم في منازل الناس, و جرت في خطوط رسمتها, ثم جمدت فيها. فكان الكتاب ,و كانت حروفه.

هذه الحروف التي غمستها طويلا ً بدم القلب, و خمرتها طويلاً في قطرات تلك الحشاشة , التي ذوت الاّ من الذكرى.

فأنا من هذا الكتاب , كتلك الشجرة التي اصطلح الناس – و بالأحرى علماء النبات منهم- على تسميتها " بالشجرة الباكية"... و من خبرها: ان كل ما فيها يندى, و ليس كما يندى الشجر بل كما يبكي السحاب.

فهي أبداً تهطل, و عند جذعها أبداً مثل بحيرة, كأنما لتسبح فيها.. و هي ترتسم عليها بعريها حيناً, و بتبرج أوراقها حيناً , كما لو كانت لها مراة.

انها تدمع- فيما يراه الناس دمعاً – لتبقى و تدمع-فيما يسميه الناس دمعاً- لترقى ... أما هي في حسّ طبيعتها , فتنمو و تشتد و تزدان, من ذوب ذاتها  لذاتها.

أو ... كذاك الذي أجرى النهر من متحلب آلامه في الأساطير , ثم ذهب يغتسل فيه ليتجدد, و ينبت من بعد مثل كائن سعيد.و دائماً لن تجد الطريق الى اليم المحيط,الاّ اذا فجرت ينابيع نفسك هذا التفجير, فينعطف ينبوع على ينبوع, و يلتقي رافد على رافد... و يرتفع بالينابيع المد و لا يزال يرتفع, حتى يكون لك النهر الذي يطلب البحر.

و هو انما ينشده بالشوق, الذي لا يكون جاذباً الاّ اذا كان لاهباً أي موقد الام...

انا , و أنت و هو... ذرات ماء كنا في عرض المحيط , تبخرت, و احتملتها السحابة الى كل مكان.

 و كانت ترفضّ هنا و هناك, عنها في مثلها, لتنعقد على شكل و تتبلور في لون.. و تعالت عليها الأشكال و الألوان فتحجرت و استدارت دونها السدود.

و ما كان ليؤذن لها فتعود, الاّ بالانصهار الذي يرد اليها خصائص وجودها .. و من هنا كان الألم السامي سبيله...

و في هذا الكتاب ألم ساميّ, لنفس انسانية ظمئت, و أحبت الظماء يوم أحست بمكان الريّ... و ما كادت تهتف بهم ,  حتى امتدت اليها يد تسمرت عليها الجريمة... و شاع في الناس, ان يداً في البلد عطبت.

و أنا- علم الله- ما كنت لأجري حرفاً على قرطاس, لو ان من أكتب عنه يقرأني, أو يقرأ في يومه عن أمسه.

و لكن هي مأساته التي أملت عليّ, و كانت طليعة الماسي في هذا الشعب المرهق.. يوم باتت أكبر من حدود اللحم و الدم, و أوسع من واقعها في الزمان و المكان.. و يوم أضحت معنى فيما تملك الانسانية من وجوه الصراع الأقدس:

بين الحق و الباطل ... بين المستصرخ و الناكل, بين الإباء و الإستعباد ... بين الكبرياء و الأصفاد, بين المرؤة و الجريمة... بين المحبة و السخيمة , بين الشعب الغاضب و المتحكم الغاضب...

و نحن- ابناء النضال- نصفق, كلما سقطت في الميدان ضحية, لأنها الاعلان بانتصار الحق , بانتصار الحرية...

و بعد قد يعجب ناس اني أجريت قلماً بحرف مما يقرأون... و لكني بعجبهم – اذا وقع ذلك حقاً- أكثر عجباً, كأن المأساة هي أيضاً لا تكون كذلك , الا اذا هم عادوا فقاسوها بقياس عرفهم- و هو انانيات تدور على شهوات – و باركوها, و منحوها الحق بالاسم... و الا ظلت أشلاء لا اسم لها , مهدورة  مطلولة.

أترى ان حروف المأساة , هي أيضاً, مثل حروف  الألقاب و الأوسمة. هم أنفسهم ينفخون فيها الروح و يركبون خلقها على ما أرادوا, بينما في وعي الحياة – تقدست و تبارك اسمها- ان أضأل ذي نفس حية, هو أكرم من كل دنياهم, و سخريات دنياهم.

ذوا الدنيا على ما شئتم, عابثين أو لاهين... و لكن دعوا المفاهيم دعوها , اياكم و العبث بها... فانكم بذلك تعتدون على المفرغها من ذاته, تعتدون على ضمير الكون في معنى الكون.

ان من هو موطن الجريمة أو يصنعها, ليس هو الذي يسميها أي يقدر لها حدودها, و الاّ جاء عمله جريمة أخرى ... فالجريمة لا تقدر الأشياء و تقيسها الاّ بذاتها, و ذاتها كلما تحركت كان المعنى : ان جريمة جديدة ولدت... على ان ما ترفعه و تعليه و تتلع جيدك طويلاً لتراه , اذا سئل عنه اخر , يجيب:

أذكر انني أتعبت بصري كثيراً- و انا أجيله في المنحدر البعيد دون مواطئ الخطو- فلم أرى الاّ شيئاّ تناهى في الضمور... و اذا صدقت أخمصي يوم حدثت فانه يكون ... فقد قالت: ان عهدها به في عالمها, و كثيراً ما كانت تراه جيداً.

و انا لا يهمني فيما أقص للناس , ما كان هذا الرجل ؟ في خياله , في استمداد خياله, في غايته, في قصد غايته... بقدر ما يهمني: انه اراد و فكر , و ناضل و صبر, و ثبت لزمر من ورائها زمر , وتحدى الطواغيت من البشر , وما هانا على المكروه او تثنى في ايديهم وانكسر ,و لكن مثلما نشره قدر... عاد فطواه قدر, ثم ما هم وقيم الحق؟ . و ما أقدارهم في الإعطاء ؟ ليقولوا: خاطئ فجر.. و مارق كفر.

و غداة التحدي, أروني أي الناس قال:" انا" , و رمى المرأة بالحجر.

ثم هو – فوق انه ضحية بغي لا يتورع, و على الدروب من مجتمعنا مساحب اذياله- كان صديقاً كريماً لصداقته طعم الصدق.

فإن فاتني في ساحة الصداقة , ان أصدقه العون في بلواه, فلا اقل من ان أصدقه الكلم الطيب في ذكراه.

و هذا مداي, و ان كان قليلاّ في جنب مداه.

و انه قصاراي, و لعله يفي- و هو سماح- في جنب قصاراه.

و ها يدي بأفاويق نداي, و عسى ان يكون له عبق نداه...

في الطريق يومذاك . . لا اذكر جيدا", لم وقفت ؟انا الذي من عادة قدمي انها لا تقف حتى في الوقوف نفسه, او في ايّ وضع اخر لا يعتمد القدم و بالأحرى ينحّيها. فهي لا تفتأ تتحرك على نفسها , وتشتد بها الحركة احيانا , في مثل رجفة جمدت على ضوء , او رعشة انعقدت على مقرور .

لقد عودتني ذلك منها . فكان شأني أني أسير ولا أقف ألا قليلا .. وفي هذا القليل ليس كما تعود الناس أيضا . فأنا لا أهدأ أو أستقر. ولكني يومذاك وقفت , ولا أدري لماذا ؟.. لعل ذلك مني كان فضولا , أو عفوا , أو استجابة لخاطرة شرود , أوتمادياً مع انتباهة كانت هاجعة في أعماقي فأصحيت وطفت فجأة .

وأذكر أيضا أن وقوفي كان في مأتاه , حيث تشق صدر الطريق آلة تزحم الناس وتزدحم بالناس .. يدعوها من يشأ التذحلق "حافلة " وان كان اسمها عند جمهور العامة كما انتهى اليهم , وكما تحطم في منطقهم "ترمي"

أحسست حيالها احساسي بنعش مجلل بمثل اردية الموت , وان كان يمر في خطوة سيره الى غير غا يته ..  انه يسعى بأحيأ الى معايشهم , أو الى لهواتهم ,أو الى أي شيء آخر من هموم حياتهم .

و كانت حياة امتد الى قلبها الحديد, و مشت في عروقها روح الآلة فقست قسوة الحديد, و دارت دورة الآلة الصماء, دون ما نشوات ودون ما مشاعر, و في ماتي الطرق عندما ينحدر الأحياء كعهدك بالسيل... و كانت هذه الآلة تخب بينهم, فلا تحسبها الاّ كما تراءيت فيها , نعشاً استوى على صهوة الموج و أكف الخصم, و هو يلتف و يدور مترامياً الى أفق بعيد .

و أخذتني- و انا لم أزل عرض الطريق- إطراقة اتصلت فيها صحوة نفس, ماجت بأفانين شتى و صور شتى.. خلتني منها , اني لست في شيء من دنيا الطريق هذه, و انما انا إنسان من أفق اخر , شق له سبيل النظر الى أفق كأنه يتوارى .. و كان يرى فيه ما يرى, على الرغم مما ضرب دونه من ضفائر الضباب, واحتبك في وجوه من غلائل عتمة رقيقة كتلك التي تنعقد أول ما يتنفس الغروب.

في حس نفسي لحظة إذن , انني حقيقة حيال نعش هو الإطباقة الأولى لفكي الموت في حركة مضغه الدائم.

و النفس في مثل هذا التوتر من يقظتها , لا تجد حقيقة وراء ما تحس به... و في جو ما تحس به, لا يقع تمثيل أو تشبيه هناك, يبدو هو الحقيقة التي لم تفصح عنها طاقة الرموز فيما يدعونه اللغة , الا بهذا الضرب من التشبيه المشير...و لكنه في جو النفس, هو الحقيقة التي تجردت , و المعاناة التي أطلت دون قناع.

خلتني من هذه الآلة أمام نعش حقيقي فيما أتراءى, و لكنه استبد بي في مثل الدهشة , أنه يحمل أحياء و يسعى بهم.

فأنكرت انني أبصر جيداً و أسمع جيداً, و ظننتني واهماً في هذا و هذا... وطفقت أرود نفسي عما تسمع و ترى بيد أنه كان يتضح, في مدارات أذني شيئاً بعد شيء , و يستوي, في مطارح بصري شيئاً بعد شيء, أنهم أحياء حقاً بلحم و دم , يقبلون على نعشهم إقبال الرغبة المتلهفة , و يزدحمون في مطاويه ازدحام الغصة و قد امتدت التماعة منادية بالري, و يشتدون عليه اشتداد التائه و قد رأى في أثر الطريق أثر الرفيق. فراعني ما لبثت أسمع و أرى , و هالني ان كل ذلك أيضاً عند يدي.. فاستدرت على نفسي أنطوي الى أعماقها, لعلي أفلح في الهرب مما يقع قريباً:

نعش يسير بأحياء .. تلك كانت المأساة التي شهدتها... و قهقهت نفسي قهقهتها.. فكنت تحت أطباق الذهول كأني أسمع اليها من بعيد, و كانت كأنها تتراخى الى أذني من وراء أكوار التفت على أكوار.

و تماديت مع نفسي على مذاهبها.. فاذا بي منها , امام  مراة انعكست عليها ظلال ما رأى , و لكن في حقائقها التي تعرت, فأرتني  الحياة في معنى حضارتها الآلية الحمقاء : كائناً بشعاً, له شكل ما يسمونه عندنا في بيروت " ببور الدحديلة " , و هو يبثق أدخنته الكثيفة التي لا تلبث حتى تتغشاه و تلفه في مطاويها . و أرتني الأحياء : أكواماً من رمم, تتحرك حركة التشنج دون حركة الحس.

      و أرتني المعنى الإنساني: قلباً يرعف دماءه من ثقوب أحدثتها في نواحيه أنياب قاسية.

      و أرتني إنساناً ملفعاً, كأنما نسج من خيوط الأطياف, ينحني على هذا القلب الممزق الأديم , يرممه و يمسح جراحاته.. وانتبهت بغتة على دنيا الطريق و الناس, كمن ارتد من أعماق حلم كثيف, بيد سقطت على كتفي كانت يد " حليم" و كان صديقاً قديماً.

      فألقى عليّ و التقيت عليه ما تعودناه من عبارات تقليدية لا تحمل معنى , و لا تقصد الى أكثر مما تقصد حركة اليد للسائر المجد ... و حين تعتمد لتعبر عن معنى , فثق ان حظ الصدق قليل.

      و لقد استرعى انتباهي انني رأيت حليماً على غير ما أعهد ... فبصره سادر أو يكاد , و هو مع خواطره كمن هو في شأن مع نفسه.

      فصمت و صمت .. و مر وقت قبلما أخذته بقولي: فيم ؟ أنت كالمأخوذ أو الغريب التائه.. فردّ: أحقاً تجدني غريباً؟ ... قلت : على ما أرى , أظن انك غريب حتى عن وجودك , عن ماضيك, بل عني انا.. و كأنما استخفه انه كذلك, أو استخفه اني اكتشفته, لا أدري.. و لم يزد على الأخذ بيدي و أشار الى " فتى" كان لا يبعد عنه الا لفتة الرائي لأول ما تقع .. ثم قال:

      انه هو... و تبينت الفتى , فعرفت في ملامحه ملامح رجل رأيته لهنيهة في المراة , كان يحمل بلسماً.. فعقلتني الدهشة كالمذعور المستبشر.. فابتسم حليم لما ساورني و لم يدر سره.

      و انصرفت.. و لم أدر الى أين.

      و كان هذا أول لقاء...