info@daheshism.com
مقدِّمة إلى " حليم دمّوس والاتّجاه الرّوحيّ في أدبه" نجوى سلام براكس

نجوى سلام براكس

                                                

حليم دمّوس

والاتّجاه الرّوحيّ في أدبه

 

 

التراث الداهشيّ

الكتاب الأوّل

حليم دمّوس والاتّجاه الروحيّ في أدبه

 

 

نجوى سلام براكس

ماجستير في اللغة العربيّة وآدابها

هذه الدراسة حازت صاحبتها بموجبها شهادة الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها من كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة .

 

 

                           حنين الروح

 

أنا من أنا يا ربُّ إن                        قارنت قولي في فعالك

أنا نسمة مرّت على                        هذي الرُّبى وعلى جبالك

أنا من ضبابك قطعة                       بيضاء ترقد في تلالك

أما موجة من بحر جودك                  ترتجي صافي نوالك

أنا نجمة لمعت وغابت                     فجأةً والليل حالك

أما رملة صغرى تقلّبها                    الرياح على رمالك

أنا دمعة سالت على                       خدّ الطبيعة من زلالك

أنا ظلّ طيف عابر                         في ممرّ وعر المسالك

يجتاز في وادي الحياة                    ولا يرى إلاّ المهالك

ويخوض في بحر المنى                  متمسّكاً بعرى حبالك

 

                                                         حليم دمّوس

                                                  من ديوان "يقظة الروح"

 

 

لقد جهلوا قدر الفتى في حياته                  فمات شقيّاً وهو للعم شيّقُ

فتىً خدم الأوطان عشرين حجّة                 وذاب كمصباح به النّور يخفق

وما أدباء الشّرق إلاّ كأنجم                      تُرى في ظلام الليل إذ تتألّق

وكم من أديب عاش في الأرض مُهملاً          وبعد الرّدى في ظلمة القبر يُشرقُ

 

                                                         حليم دمّوس

                                                     من كتابه "رباعيّات وتأمّلات "

 

 

يا حبيبي ، أنت داويت جراحي               أنت روحي ، أنت ريحاني وراحي

فأعِن ضعفي قليلاً لأرى                      وجهك الوضّاح من خلف الوشاح

أنت في فردوس ربّي ، وأنا                  طائر حلّق من غير جناح

أطيب السّاعات للرّوح متى                  حان عن دنياي للخلد براحي

 

                                                   حليم دمّوس

                                            من كتابه "رباعيّات وتأمّلات"

                                            مرفوعة إلى الدكتور داهش

 

 

 

إهداء

إلى روح حليم السّابحة في بحار العوالم الروحيّة الأبديّة

حيث العدالة الإلهيّة تقتصّ من ظُلاّم البشريّة

والسّعادة تسكب من توهّج الأنوار السّرمديّة

 

إلى السَّيَّال الذي اهتدى بالداهشيّة وبنار إيمانها التهبا

فاستلّ مرقمه سيفاً توقّد في سماء الهدى كوكباً

اضطُهد ، جُلدَ ، سُجن ، أُهين ، عُذّب ... لكنّه ما كبا

 

إلى المجاهد البارّ صاحب القلم الحقّاني البتّار

الذي دافع عن هاديه " داهش" بعزم جبّار

أرفع هذه "الرسالة" فهي من وحي حياة شاعر "تمرّد وثار"

فالسّلام على روحه الراتعة بين الأطهار الأبرار .

 

                                                                 نجوى

 

 تقدير وشكر

 

تعاقب في الإشراف على هذه الرسالة عدد من الدكاترة ، كان بعضهم – وللأسف – ينكص دونها تهيّباً أو تعصّباً . لكنّني تجلّدت وثابرت وصبرت حتى قيّض الله عزّ وجلّ لي أستاذاً مشرفاً تُختصر الحياة عنده بكلمات ثلاث :" وقفة جرأة وحقّ " هو الدكتور غازي براكس . وما كنت لأنتظر منه ، بعد أن قرن حياته بحياتي ، التساهل في العمل ، بل على العكس ، فإنّ شهرته الصرامة إزاء طُلاّب الماجستير – لما يكلّفهم به من عمل دائب مضنٍ لتخرج دراساتهم على المستوى الأكاديمي الرفيع – جعلتني أتوقّع شهوراً بل سنين من العمل الشاقّ في ظلّ إشرافه . وفي الواقع ، ما كان يرضى عن هذه الدراسة إلاّ بعد أن بذلت في إعدادها حوالي ألفي ساعة . وقد رافقني فيها ، رافعاً مشعل أصغريه ، مضيئاً لي بإرشاداته الثمينة طريق البحث المعتمة . فله عرفاني وعظيم شكراني .

كذلك أتقدّم بخالص الشكر للدكتور وجيه فانوس الذي استقبل رسالتي بالترحاب ومدّني بالنصائح المفيدة ، فكان موقفه جريئاً ومشجّعاً ومشرّفاً ، في حين اعتذر سواه ! وذكّرني موقفه المشرّف بموقف طه حسين القائل :

" يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربيّ وتاريخه أن ننسى عواطفنا القوميّة وكلّ مشخّصاتها ، وأن ننسى عواطفنا الدينيّة وكلّ ما يتّصل بها ، وأن ننسى ما يضادّ هذه العواطف القوميّة والدينيّة ".

 

                                                               نجوى  

 

 

 مقدّمة

 بقلم نجوى براكس

 

لقد استهوتني أشعار حليم دمّوس مذ كنت يافعاً ، فاستظهرتها ، ورويتها . وما إن اضطلعت بمهمّة التعليم ، حتى انبريت ، بدوري ، أعلّمها ، لسهولتها وعذوبتها ومعانيها الوطنيّة والروحيّة والإصلاحيّة . وعندما واجهت مسألة تسجيل موضوع لرسالة الماجستير ، لمع اسم الشاعر الداهشيّ في ذاكرتي ، فأدبه الروحيّ لم يتناوله أيّ باحث بجرأة وجدّيّة ومنهجيّة ، وحياته في ظلّ الداهشيّة لم يتصدّ لتفاصيلها أيّ قلم جامعيّ . وهذا الجانب الروحيّ في أدبه وحياته هو الذي أحببته وأكبرته ورأيت فيه دواءً ناجعاً لكثير من أمراضنا النفسيّة والاجتماعية.

وشاءت الأقدار أن تنشب الحرب اللبنانيّة بعد بضعة أشهر من تسجيلي الموضوع ، فازداد حبّي للشاعر وإكباري له ، لأنّ صوته كان صوت الضمير الأنقى في هذا الوطن ، وأدبه كان النذير المدوّي بما سيضرب الشعب من ويلات وأهوال إذا اجتاحته أنواء الصراع الطائفيّ . بين يديّ كان أدب المحبّة التي تجمع الصفوف وتوحّد القلوب وتسمو بها إلى الخالق عزّ وجلّ ، وفي البلاد كان البغض الذي يفرّق الصفوف ويمزّق القلوب ويهبط بها إلى جحيم الشياطين . لولا سنوات الحرب وما جرّته وما تزال تلده من شقاء ونكبات لما استطعت أن أدرك مدى العمق والسّموّ في فكر حليم وأدبه ، ولما انجلت لي حقيقة قيمته العظيمة ، لأنّ الأحداث الرهيبة والظروف القاسية التي عصفت بنا كانت ترجمةً حيّة للرؤى التي حملها شعره نقلاً عن تنبّؤات مؤسّس الداهشيّة .

كانت الدكتورة نبيلة إبراهيم أوّل من أشرف على هذه الرسالة . تحمّست للموضوع ، وشجّعتني ، ووافقت على المخطّط الذي أعددته ؛ فلها الشكر . ولكن الحرب الداهمة حالت بيني وبينها ، فغادرت لبنان إلى القاهرة ، وخلّفتني وحيدة .

لكنّني لم أقف ، بل صمّمت على متابعة المسير . فمشيت بتؤدة ، مقتحمة سدود المصاعب ، متجاوزة حدود المتاعب . وكأنّما كتب عليّ أن أخترق حصناً منيعاً لم يجرؤ طالب قبلي على اقتحامه .

ورحت طوال السنة الأولى من الأحداث الدامية أتردّد إلى منزل آل حدّاد الكائن في حيّ القنطاري من بيروت ، والذي أصبح مقرّاً للدعوة الداهشيّة . والحقّ يقال إنّني ولجت عالماً جديداً نقيّاً رحباً تجتمع فيه شتّى الملل والنّحل إخوة متحابّين ، متضامنين ، بينما نيران الاقتتال الطائفيّ تتعالى ألسنة لهبها في الخارج ، مدمّرة ، قاتلة ، مرمّلة ، ميتّمة ، وباسم الأديان ، وربّ الأديان ، وأصحاب الأديان ، يُقتل بنو الأديان !

تعرّفت عن كثب إلى مؤسّس الداهشيّة وإخوان الحليم في الإيمان الذين لازموه سحابة خمس عشرة سنة ، فكانوا عائلته الروحيّة التي آثرها على أسرة الرّحم . أصغيت إليهم يتحدّثون عن مؤرّخ رسالتهم وعن دفاعه المستميت لنصرتها ، تلك الرسالة التي وقف عليها حياته وقلمه وعقله ولسانه ، رافضاً أن تضطهده ظلماً وجهالة !

وتكرّرت زياراتي للمنزل الداهشيّ ، حيث كانت تفتح لي ، في كلّ زيارة ، الوثائق والمخطوطات ، فضلاً عن الصّحف والمجلاّت التي كانت متوافرة بجميع أنواعها وعشرات الألوف من أعدادها منذ بدء صدورها ؛ لكنّي ، وللأسف ، لم أستطع الإطّلاع عليها بأكملها بسبب نقل المكتبة الداهشيّة الضخمة المذهلة إلى خارج لبنان . ثم قصدت مكتبة الجامعة الأمريكيّة ، فاطّلعت على جريدة "الأقلام" بطريقة " الميكروفيلم" . كما تسنّى لي الإطّلاع على بعض آثار المرحلة الأولى من حياة حليم من مخلّفاته المخطوطة المتواضعة في منزله الذي يشغله حاليّا ابنه فؤاد .

وأقولها حقيقة عاريةً : " إنّ رؤيتي عن كثب للدكتور داهش وأتباعه كانت مخالفة لما يشاع عنه وعنهم في الخارج ! فالناس ما عادوه إلاّ لأنّهم جهلوه ، فتناولته ألسنتهم بالمتناقضات والإشاعات والمفتريات ! ولا عجب ، فكلّ حقيقة لا بدّ من أن تشوّه قبل أن تنتصر ويكتب لها الخلود !

وكانت محطّة السلام الأولى لقطار الحرب مع بداية سنة 1977 . ففتحت الجامعة أبوابها ، وعُيّن الدكتور أسامة عانوتي مشرفاً جديداً على رسالتي . وإنّني أقولها بجرأة ودونما مواربة : لقد ذقت مرارة " الإعنات" في ظلّ إشرافه . فبعد أن اطّلع على مخطّط بحثي الذي باشرت توسيعه ، بناء على موافقة الدكتورة نبيلة إبراهيم ، أبى التوقيع حتى يوافق عليه رئيس قسم اللغة العربيّة وآدابها الدكتور الشيخ صبحي الصالح .

وأيم الحقّ ، لقد صدمني موقفه ! فأين الجرأة الأدبيّة التي يجب أن يتحلّى بها أساتذة الجامعات؟! وما علاقة رؤساء الأقسام والإدارات بالموافقة على موضوعات الرسائل ومخطّطاتها وهي ، في العرف الأكّاديمي العالميّ ، من صلاحيّات الأساتذة المشرفين عليها فقط (1)؟!

حملت مخطّط رسالتي وقصدت رئيس القسم ، فما إن ألقى نظرةً عليه حتى صرخ "الداهشيّة"؟! لا ، لن يسجّل هذا الموضوع في قسم الأدب العربيّ ؛ سجّليه في فرع الفلسفة !"

أدركت فوراً أنّه إنّما قال ذلك من أجل إعناتي وإحراجي وتغيير موضوعي . فأجبته :" وكيف يكون ذلك والاختصاص يجب أن يكون متكاملاً مع شهادة الإجازة ؛ وإجازتي هي في الأدب العربيّ وليست في الفلسفة ؟ ثم إنّني سأعالج موضوع الداهشيّة معالجة أدبيّة من خلال إنتاج حليم الأدبيّ ، وحليم دمّوس شاعر مشهور وليس فيلسوفاً ". فأردف قائلاً :" هناك من يعتبر الدكتور داهش Charlatan ومن يعتبره نبيّاً ! فيكف نوفّق بين هذا وذاك ؟" أجبته :" جميع الأنبياء والمصلحين والهداة والعظماء لهم أنصار ومحبّون ولهم أيضاً أعداءُ ومبغضون ! فحقيقة الشخص لا تحدّدها مواقف الناس منه . وهل حرّمت الدامعات دراسة المتنبّي ، لأنّ فريقاً من الناس زعم أنّه ادّعى النبوءة ؟ ثم ما يهمّ كلّ ذلك إذا كانت الدراسة منهجيّة علميّة ؟"

وكان جدال طويل ... وكانت زيارات متكرّرة ... أخيراً ، بعد جهد جهيد ، ألزمني بأن أغيّر مخطّطي الأوّل الذي صدّقت عليه الدكتور نبيلة إبراهيم ، وأعيد كتابة بحثي .

من هنا بدأ يستضام في حرم جامعة وطنيّة ؛ لكنّي تجلّدت وصبرت ، فاختصرت التصميم الذي سأبني عليه صورة الحليم الداهشيّ . وشعرت أنّ الأستاذ المُشرف ، أصبح أشرافه مجرّد صورة ، وأنّ سياسة الأمر الواقع فرضت عليّ أن أتعامل مع الشيخ الصالح . لكنّ الشيخ لم يكتف بذلك ، بل تناول قلمه وشطب كلمات "الداهشيّة" ، و"الرسالة" وكلّ ما يستشفّ منه معنى "العقيدة الروحيّة " و"الهداية" وهي المحاور الضروريّة التي ستقوم عليها رسالتي الجامعيّة ، ثم ... وقّع إمضاءه بتاريخ 1/7/1977 . إذ ذاك أسرع الأستاذ المشرف إلى الموافقة على المخطّط !

وهكذا غدت رسالتي ، وأنا معها ، كطائر قصّ جناحاه ، ثمّ سجن في قفص التزمّت والأغراض غير الأكاديميّة ؛ ومع ذلك أوعز إليه بأن يطير !

حاولت أن أطير بدون جناحين ، لكنّي عجزت عن ذلك . فالدكتور عانوتي طلب إليّ أن أتحدّث عن شعر حليم دمّوس الداهشيّ من دون أن أتحدّث عن الدكتور داهش ، وأن أبحث في أدب حليم الداهشيّ من غير أن أتكلّم على الداهشيّة بأكثر من أربعة أسطر !

هذا مع العلم أنّ الدكتور أسامة تعرّف إلى مؤسّس الداهشيّة ، وعقدت له جلسة روحيّة اجترحت خلالها الخوارق والمعجزات الدامغة ؛ وقد ألّف حموه الشيخ العلاّمة عبد الله العلايلي كتاباً في مؤسّس عنوانه " كيف عرفت الدكتور داهش "(2).

وقد تبيّن لي ، بعد تعمّقي في درس آثار الحليم ، أنّ "الاتّجاه الروحيّ في أدبه" لا يمكن ، على الإطلاق ، معالجته بدون التوضيح الكافي للداهشيّة ، لأنّ معظم ما كتبه بعد اعتناقه هذه العقيدة الروحيّة يتمحور حولها ، وكذلك يستحيل أن نتحدّث عن الداهشيّة بدون الكلام على الدكتور داهش ، إذ هو مؤسّسها وحامل لوائها ، وتأثيرها الشخصيّ جدّ بارز في أدب حليم دمّوس ؛ فضلاً عن أنّ الشاعر لازمه خمس عشرة سنة ، جنّد في خلالها قلمه للتبشير بمبادئه ، وللمنافحة عنه ، وعانى السّجن والاضطهاد من أجله .

ثمّ كيف تقبل أستاذة جامعيّة مخطّطاً وتصدّق عليه مرحّبة بموضوعه البكر ، ثم يأتي آخر فيحذف ما شاء له الحذف ممّا وافقت عليه ؟! فوالحالة هذه أين النهج الأكاديمي الموحّد ؟ وأين المبدأ الذي يسير عليه الأساتذة ؟ بل أين الجرأة الأدبيّة الصادعة بالكلمة الحقّانيّة ؟

فالجامعات يجب أن تكون المهد الذي تولد فيه الحقائق وتنمو وتحتضن ، لتصدّر بفخر واعتزاز إلى العالم أجمع . ويجب أن تصان فيها الحريّات المقدّسة التي هي هبة المنّان للإنسان ، وأن يطلق فيها العنان لشتّى الآراء والأفكار والمعتقدات ، شرط أن تُعالج بمنهجيّة أكاديميّة موضوعيّة لا تُراعي العواطف والأهواء الدينيّة أو السياسيّة أو الشخصيّة ....

فإذا فقدت الجامعات مرتكزاتها الأكاديميّة القائمة على البحث المنهجيّ ، وعلى الحريّة ونشدان الحقيقة ، فقدت شرف رسالتها النيّر ، وتحوّلت إلى شبه معاقل وسجون تُنفى إلى غياهبها الكلمة الجريئة وتُستعبدُ فيها الحريّات ، ثم ... تدرّ على نفسها الويلات والنكبات !

وإذا كانت مثل هذه الجامعات الوطنيّة وسيلةً لطمس أنوار الحقائق ، ألا فالسلام على البلاد الجائرة السائرة نحو الذبول والغائرة في ضباب الأفول .

ولست أدري لماذا تخاف الجامعات في لبنان موضوع الداهشيّة الذي اقتحم جامعات أمريكا وأوروبا . تُرى ، ألأنّ الداهشيّة دعوة روحيّة شاءت العناية الإلهيّة أن يكون منبعها لبنان ؟! وأن يتفرّد بها هذا البلد عن سائر البلدان ؟ حقّاً ، لا كرامة لنبيّ في وطنه ، ولا مسند لرسالة روحيّة في مسقط رأسها !

إنّ جون ستيورت مل الهادر صوته بقدسيّة الحريّة وضرورة صونها ، يعلن أنّه لو ظهر امرؤ ينادي بأنّه اكتشف أنّ في الحجر إلها ، وأنه سيدعو إلى عبادة الحجر ، ثم تألّب الناس ضدّه ليمنعوه عن التصريح برأيه ، لتوجّب على الحكومة العادلة أن تحميه وتصون حريّته في الجهر بعقيدته ، ولو كلّفها ذلك سجن شعب بأكمله ، لأنّه من يدري بأنّ المستقبل لا يكشف عن أنّ مزاعم ذلك الرجل تحمل نواةً حقيقيّة قد تفيد البشريّة كلّها !

والحقُّ يُقال إنّني أضعت سنوات وأنا أتأرجح بين هذا وذاك ، فما حدث معي لا أتمنّاه لطالب جامعيّ ، ولا تُغبط عليه جامعة حريصة على أن تصون مستواها الأكاديمي بعيداً عن الأهواء والأغراض غير الأكاديميّة .

وكأنّما أراد الله تعالى أن يكافئني على صبري وثباتي ، فقيّض لي الدكتور غازي براكس ، المعروف بجرأته ومنهجيّته الصارمة ، مشرفاً جديداً في أواخر 1981، فنشطت الدراسة بسرعة ، وشعرت معه أنني أبني على أرض صخريّة يعلو عليها البناء فلا تزعزعه الأواء والأهواء .

وما إن أنجزت رسالتي وتدبّرها القارئ الثاني الدكتور وجيه فانوس برويّة وموضوعيّة ، حتى أُعجب بها وهنّأني ، وطلب إليّ أن أزيد الداهشيّة إيضاحاً . فشتّان ما بين الناس !

وها أنذا فخورة بالكنوز التي نبشتها بمعول الدأب والتعب ؛ أقدّمها للقارئ ثمرة طيّبة من دوحة الداهشيّة التي كان حليم دمّوس غصناً من خير أغصانها .

 

                                                                        نجوى سلام براكس

                                                                بيروت ، مطلع آب 1983

 

 

 

توطئة

مُبَرِّرُ الدراسة

 

قليلون من الأحداث لم يستظهروا لحليم دمّوس ، على مقاعد الدراسة ، قصائد في حبّ الوطن ، واستنهاض الهمم ، وتمجيد اللغة العربيّة ، وحنان الأمّ ، وتهذيب النفس الخ ....

وأنا ، إذ كنت طريّة العود ، استهوتني أشعاره الرقيقة السهلة العذبة ، فحفظت كثيراً منها . وهكذا تأصّل حبّه في نفسي ، حتى إذا ما كبرت واضطلعت بمهمّة التعليم ، رحت أعلّم ، بدوري ، قصائد الحليم . فهو بحقّ ، شاعر الناشئة الأوّل في لبنان . وبصفته هذه ذاع اسمه في المعاهد والأندية والجمعيّات في الثّلث الأولّ من هذا القرن (3).

لكنّ لحليم جانباً شعريّاً آخر طغى على شخصيّته في المحافل الأدبيّة حتى سنة 1942، وهو الجانب الاتّباعيّ الذي برز في قصائد المدح والرثاء ، وسائر شعر المناسبات والمجاملات ، فغضّ من قيمته الإبداعيّة ، لا سيّما أنّ النزعات القوميّة والوجدانيّة كانت تشتدّ في الشعر العربيّ ، وأنّ المذاهب الأدبيّة الحديثة من رومنسيّة ورمزيّة وغيرهما أخذت تظهر ملامحها على أقلام الأدباء .

لنكن ، في حين أنّ حليم دمّوس تحوّل سنة 1942 إلى منعطف جديد في حياته وأدبه ، فانتقل من الماديّة إلى الروحانيّة ، ومن شعر التكسّب إلى شعر الهداية ، فاكتسب إنتاجه الجديد بُعداً خطيراً وقيمةً جُلّى ، فإنّ دارسيه ظلّوا واقفين عند حدود سنة 1942 ، فما تجاوزوها ، وبقيت أحكامهم على الشاعر تُرسل مقصورةً على عهده الأوّل متجاهلين عن عمدٍ أو عن عجز أهميّة إنتاجه في عهده الروحيّ .

وقد يُردُّ تجاهلهم إلى تخوّفهم من الغوص في العقيدة الروحيّة الجديدة التي اعتنقها حليم دمّوس ، وهي الداهشيّة ، إذ اكتنفتها الأسرار ، ورافقت ظهورها وانتشارها الخضّات الدينيّة والسياسيّة ، فارتدّ الدارسون عنها هيّابين . لكنّني أقدمت من حيث أحجموا ولم أكن بنادمة . فقد اكتشفت عالماً جذّاباً ، ونبشت كنزاً ثميناً كان مدفونا .

وإذا كانت قيمة الأدب ، على الصعيد الإنسانيّ ، لا بدّ من أن تعظُم بقدر ما تزداد حاجة الأمّة إلى صوته ، إذ إنّ المشعل الذي يحمله يحتاج شعبه إليه أكثر عندما يخوض في الظلمات ، فإنّ حليم دمّوس – أديب الهداية الروحيّة والوحدة الدينيّة والأُخوّة الوطنيّة والمحبّة الإنسانيّة – لا بدّ من أن يعلو شأنه اليوم وتمسّ الحاجة إلى دراسته ، لا سيّما في بلد تناهشته الفتن والأحقاد ، وتقاسمته النعرات والعصبيّات ، وجعلت حكمه فوضى ، وشعبه شراذم ، وعمرانه خراباً ، ومصيره على فوهة بركان .

قال الأديب لبيب الرياشي في حليم ، في الثلاثينات :

" لو كنت أُسقفاً أو رئيس كنيسة أو شيخ دين ، لأسميتك (شاعر الكنيسة ) أو (شاعر الجامع) ، ورسمت أشعارك في ذاكرات النّشء " (4).

وإنّما قال ذلك ، لأنّ حليم – وهو المسيحيّ – كان يدخل الجوامع ، ملقياً القصائد الروحيّة والوطنيّة ، مبشّراً بوحدة الأديان ، ومنادياً بالإخاء الإنسانيّ ، بدافع من أصالته الروحيّة ، قبل أن يعتنق العقيدة الداهشيّة ، ويتفرّغ لدعوة المحبّة والوحدة الدينيّة . وإن صحّ كلام الرياشي في حليم – وهو يخوض حياته الماديّة – فالأحرى أن يصحّ فيه ، وأن يُسمّى "شاعر الروح والهدى والمحبّة"، وهو يحيا في ظلال الروحانيّة .

قال الدكتور غازي براكس في المهرجان التكريميّ الذي أقيم لحليم في زحلة بتاريخ الثاني من تشرين الأوّل سنة 1966:

" ظلم وأيّ ظلم أن لا يعرف الناس في حليم دمّوس ، بعد تسع سنوات من خلعه ثوب التراب ، إلاّ شاعر مدح وتعزيةٍ وتهنئة ، شاعر مجاملات ومناسبات ، ذاك هو الوجه الهزيل الزائل  من الحليم الذي ولده لبنان التجارة. حليم الذي يخلّد ويُكرّم هو الذي ولدته ، ذات يوم ، لا مشيئة اللحم والدم ، بل مشيئة الروح ، مشيئة لبنان الرسالة (5).

وقال الدكتور محسن جمال الدين الأديب العراقيّ ، وأحد أساتذة الأدب العربيّ في جامعة بغداد:" إنّ هذا الشاعر كان مظلوماً حيّاً وميّتاً ، منسيّاً في وطنه الذي أحبّه ، مهملاً في دراسات الجامعات العربيّة ومدارس العالم العربيّ "(6).

يُستنتج من القولين أنّ دراسة حليم دمّوس بصورة عامّة قد تكون ضرورة أدبيّة ، وأنّ دراسته في عهده الروحيّ لها الأفضليّة . وهذا ما اعتزمته هذه الرسالة . ذلك بأنّ الأبحاث التي كتبت فيه لا تعدو أن تكون مقالات وجيزة تناولت نُبَذاً من حياته ، أو أرسلت أحكاماّ سريعة في أدبه، وخصوصاً الذي وضعه قبل سنة 1942 ، باستثناء دراسة جامعيّة أعدّها رضوان وديع أبو فيصل ، عنوانها "حليم دمّوس : حياته وآثاره"، وقد وضعها لإنجاز مقرّرات شهادة الكفاءة في اللغة العربيّة وآدابها ، بإشراف الدكتور كمال اليازجي ، وذلك في كليّة التربية بالجامعة اللبنانيّة سنة 1979.

تقع هذه الرسالة في 161 صفحة ، يشغل المُلحق منها – وهو يضمّ منتخبات من شعر دمّوس العائد إلى المرحلة الأولى من حياته – ثلاثين صفحة . وتنطوي الدراسة على ثلاثة فصول ، تناولت الباحث في الأوّل منها مراحل حياة الشاعر ، عارضاً أحداثها عرضاً سريعاً مقطّع السياق ، مارّاً على الداهشيّة مروراً خاطفاً لم يستغرق سوى بضعة أسطر ، مع أنّ هذه العقيدة الروحيّة استأثرت بكلّ اهتمامه ، وشغلته عملاً وكتابةً سحابةَ خمسة عشر عاماً .

ومع أنّه جعل عنوان رسالته يتضمّن حياة حليم دمّوس وآثاره ، فقد أهمل دراسة شخصيّته ، أما آثاره فقد عرضها عرضاً سريعاً هو أقرب إلى التعداد منه إلى التعريف ، باستثناء "قاموس العوامّ" الذي عرّف به في سياق حديثه عن نشاط حليم اللغوي ، و"في سبيل التاج "، و"من أناشيد الملحمة العربيّة الكبرى " اللذين عرّف بهما في أثناء معالجته القصص المترجم والقصص الملحميّ .

وعلى تأكيده أنه أورد "أسماء جميع آثاره المطبوعة وغير المنشورة "(7)، فقد غفل عن ذكر عدد غير قليل من مؤلّفات الشاعر المطبوعة أو التي ما تزال مخطوطة والعائدة إلى مرحلتي حياته . ويبدو أنّه تنبّه لهذا الأمر ، فاعترف قائلاً في خاتمة دراسته : "هنالك الكثير الكثير من الأمور التي لم أستطع التعرّف إليها ، لا تقصيراً ، وإنّما نتيجة لعدم توفّر كامل نتاج الحليم ، وخاصّة المقدّمات التي قدّم بها كتب داهش وما نظمه ، وكان نثراً ، من الكتب التي تتعلّق بالداهشيّة (8)؛ وهو تبرير غير كافٍ ، ولا مُقنع .

أما الفصل الثاني فقد تناول فيه شعر دمّوس وشاعريّته . فعرض ، أوّلاً ، نزعاته التقليديّة ، والوجدانيّة ، والملحميّة ، والداهشيّة التي خصّها بصفحة واحدة ، ثم درس أسلوبه وخصائصه حسبما تمثّلت في شعره العائد إلى ما قبل اعتناقه الداهشيّة ، بالدرجة الأولى .

أمّا الفصل الثالث فقد عرض فيه أغراض حليم الشعريّة ، معرّجاً إلى المنحى التأمّلي الروحانيّ في بضع صفحات .

وخير ما توصف به دراسة أبي فيصل قوله فيها إنّها :" إنارة بسيطة لحياة رجل أعطى كثيراً وجاهد أكثر من سبيل بلاده "(9).