info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى الخوارق الداهشيَّة في عشرين عاماً " الجزء الثاني "

 

 

مقدمة

هـذا الكتـاب هـو الثاني في سـفر من ثلاثـة أجـزاء أرّخ فيه المؤلف خوارق روحية حدثت في القرن العشـرين، وكان شـاهدا لها سحابة أعوام طويلة. وقد كان الدكتـور داهش رجل تلـك الخوارق وسيدها المؤيد بقوة الـروح العلوي الذي لا يعجزه مستحيل، ولا يخضع إلا لإرادة الله.

في خلال عام ١٩٤٢، تعرف الدكتور فريد أبو سليمان إلى الدكتور داهش، وعايـن المعجـزات التي كانت تجري على يديه، وتفهـم الغاية مـن حدوثها. كما اطلع على تعاليمـه الروحية، وأدرك حقيقة الأهداف السامية التي كان يرمي إليها من خلالها. وما لبث أن اعتنق رسالته التي عرفت باسـم «الرسالة الداهشية». وفي أوائل عام ١٩٦٠، كُلف روحيا بمهمة تأريخ الظاهرات والجلسات الروحية – وكان الشاعر حليم دموس، «مؤرخ الرسالة الداهشـية»، قـد اضطلع بتلك المهمة بعيد إيمانه بالداهشية عام ١٩٤٢، وواظب عليها حتى وفاته عام ١٩٥٧. فشرع المؤلف يدون تلك الوقائع الخارقة في شكل يوميات، ويجمع ما تيسّر من الوثائق المتعلقة بها، إيمانا منه بعظيم قدرها وبليغ أثرها على الحياة الإنسانية.
والحـق أن الكتـاب فريد في موضوعه وتوجهاته. فالخـوارق التي ضمها بين دفتيه ، وما رافقها أحيانا من شروح روحية ورسائل إرشادية، شكلت بحد ذاتها حدثا تاريخيا فريدا، نـادر الوقوع، تنقضي أجيال طويلة قبل أن يأتي إلى الدنيا حدث آخر يماثله. ولا شك في أن ظهور تلـك الخوارق في هذا العصـر كان دليلاً على عودة الإرشـاد الإلهـي المباشـر إلـى الأرض، متمثلاً في شـخص رجل اصطفـاه الله كي يحمـل رسـالته من جديد، ويكون هاديـا ومنقذا. وأمثال هذا الرجـل إنّما يأتون إلى الدنيا ليكونوا علامات فارقة في التاريخ البشري، لا تلبث أن تبرز وتكبر مع الزمن.

كانت الخوارق الداهشية صنيعة قوة روحية عظمى قادرة على خرق قوانين الطبيعة واختراق حجب المجهول واكتناه مخفيات الصدور. وقد اجترحها الدكتور داهـش لتكـون البرهان القاطع على وجود الله، ووجود الـروح وخلودها، ووجود العالم الثاني، والختم الإلهي على صدق الرسالة التي جاء بها. وعليه، فهي لم تكن غاية في حد ذاتها، بل كانت وسيلة تهيب بالإنسان إلى الاطلاع على حقائق الروح، وإلى محاولة الارتقاء الروحي. ثـم إنها كانت خوارق محسوسـة ملموسـة، مثبتة بالوقائع والشهود والوثائق والصور، ولا تندرج في باب الخيال العلمي، أو ألعاب الخفـة التي يؤديها محترفـون مهرة، أو المخاريق الزائفة التي يقوم بها المشعوذون لأغراض مشبوهة.

ولقـد تفـاوت أثر الخوارق الداهشية في نفوس مشـاهديها. فمنهـم من كان يمجد الله ويسبح بعظائمه عند حدوثها؛ ومنهم من كان يبحث دون طائل عن سر القـوة الكامنة خلفها، فيصيب أو يخطئ في تعاليله؛ على أنّ فيهم من فاتته السانحة العظيمة، فاكتفى منها بتحقيق مبتغى آني كان يرمي إليه، وأغضى عن كل ما عداه.

على أن الدكتور داهـش لـم يكن رجلاً يأتي الخوارق فحسب، بل كان أيضا رجـل صـلاح وإصلاح يختزن في قلبه حبا ورحمة وفـداء وهداية تفيض على الدنيا بلا حساب، من غير أن تنضب. وكان يحمل في صدره معرفة روحية سامية أمضى العمر كله ينثر بذورها، ويوليها العناية والرعاية بصبـر وعطف وحكمة قلّ نظيرها. ومع ذلك، لم يدّخر وسعا في الاستزادة من المعرفة البشرية بكل أشكالها. فقد تتلمذ على نفسـه ينهل من الثقافات ما وسـعه، ويشق طريقه في عالم الكتابة الأدبية، حتى لقد خلّف تراثا أدبيا فكريا جليل الشـأن يبوئه منزلة مرموقة بين ممثلي الأدب الإنساني في العصر الحديث. وفضلاً عن ذلك كله، فقد أنشـأ فلسـفة رفيعة تناول فيهـا شـؤون الحياة في الأرض والعوالم الأخرى. وهـي تُعد قـوام عقيدته، وتقوم على مبادئ «السيالات الروحية»، والدرجات الروحية، والاستحقاق، والتقمص، والعدالـة الإلهية، والارتقاء الروحي، ووحـدة الأديان الجوهرية. وقـد انبثّت تلك المبادئ، بشكل أو بآخر، في شـروحه الروحية، وفي مؤلفاته الأدبية، على اختلاف موضوعاتها والفنون الأدبية التي تنتمي إليها. ومن البيّن أن الخوارق الداهشية كانت تقدم أحيانًا، بشكل غير مباشر، الدليل الحسّي القاطع على صحة تلك المبادئ أو بعضها. كما كانت تكشف عن أسرار مجهولة في الحياة والكون.

وكان الدكتور فريد أبو سليمان طبيبا طيبا، صادقا، متواضعا، لا مكان في قلبه لغيـر الحب. وقد لمس عظمة الدكتور داهش المحتجبة خلـف غلالة من التواضع الكبيـر، وأدرك مـا يمثلـه وجـوده على الأرض، فعاهد نفسـه على أن يكـون وفيا له الوفـاء كـلـه. وما لبث أن خرج إلى الصحافة اللبنانية متحدثا عن معجزاتـه، معلنا مـن علـى صفحاتها إيمانـه برسـالته، واعترافه بفضلها عليـه في فهم جوهـر الديانة المسيحية التي ولد فيها ونشـأ عليها، وفي تفهم مبادئ الديانات السماوية الأخرى واحترامها والسير في هدْي تعاليمها. ونتيجة لذلك، أصبح مقصدا لكثيرين من أبناء المجتمع اللبناني، على اختلاف فئاتهـم وطبقاتهم، ومن رجال الصحافة اللبنانية والعربية والأجنبية، يأتون إليه في عيادته القائمة وسط بيروت، ويستوضحونه حقيقة الدكتـور داهـش وأعماله، ويسـألونه أن يعرّفهـم بـه، نظرا لقربه منـه. وكان يعمل ما وسعه من أجل تلبية رغباتهم. وكثيرا ما أتيح له أن يكون شاهدا أمينا للخوارق التي كان الدكتـور داهـش يجريها أمامهم، وللأحاديث التي كانت تدور بينه وبينهم. وفي أثناء الجلسات الروحية التي كانت تعقد لهم، بأمر من الروح العلوي، كان يسمح له، أحيانا كثيرة، بالحضور معهم ليكون لهم بمثابة مرشـد الجلسـة. عندذاك، كانت الأرواح العلويـة تحتل جسـد الدكتور داهش، وتتحدث بلسانه، وتصنع بواسطته المعجزات. كما كانت تُرشـدهم في بعض الأمور إلى ما فيه خيرهم، وتجيبهم عن أسئلتهم، وتستجيب مطالبهم؛ وقد تكشـف لهم بعض خفايا أفكارهم وأحاديثهم.


وربما خصّت المؤلف بمعلومات وأسرار روحية أو بأمور خاصة طالبة إليه كتمانها إلى أن يحين وقتها. وكان يدون مشـاهداته ومعلوماته تلك في يومياته، أولاً بأول، بالإضافة إلى ما كان ينقله إليه بعض شـهود الخوارق عن مشـاهداتهم، إن لم يكن حاضـرا معهـم في أثنـاء حدوثهـا. والحق هـو أنه كان موضع ثقة الدكتـور داهش والأرواح العلويـة، فـي آن. وليـس بالقليـل كـسـب مثل هـذه الثقة، إذ إنّهـا لا تُمنح إلا لمـن يقـدر الأمـور الروحية حق قدرهـا، ويتمتع بالإيمان والاستقامة والصدق والأمانة والوفاء والوعي، وينفذ التعليمات الروحية بالحرف، وباحترام مطلق؛ وقد كانت جميع تلك الصفات بارزة في شخصه.

لقد عاين المؤلف طلوع فجر الداهشية في لبنان، فكحل عينيه بنوره، وهرع إلى ملاقاته ومعانقته. كان عظيم الإيمان بالرسالة، وكان على حماسة متوقدة لا نظير لهـا في خدمة أهدافها. وكان في إيمانه وحماسته نظير الرسـل والصحابة الأوفياء. ولولا وعيه الكبير بعظمة الخوارق الداهشية لما انبـرى إلى تدوين وقائعها ولملمة مـا أمكنه من الوثائق العائدة إليها، بصبر وأناة، وبلا كلال، ولانطوت تلك الخوارق في غياهب العدم، وما عرفت سبيلها إلينا، ولا إلى الأجيال الآتية من بعدنا. لقد بذل جهدا مشكورا من أجل إنجاز هذا العمل الضخم. وكان جلّ مناه أن يرى كتابه النور ذات يوم؛ فهو وديعته الغالية، ومحط أمله في أن ينوب عنه في حمل الشعلة الخالدة غداة تنطفئ شعلة حياته لتنير في عالم آخر .

مونتريال في ٢٥-١١-٢٠١٣
ماجد مهدي