info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " خطوات في رفقة الدكتور داهش " ل ياسر بدر الدين

 

 

خطوات في رفقة الدكتور داهش

كِتابُ الرُّوحْ

 

إنَّ الكتابةَ عن الدكتور داهش (الهادي الحبيب) هي كقراءتِه أو الاستماع إليه، طقسُ نشوةٍ روحيةٍ. هي دخولٌ في الغرابةِ، وتهيُّوءٌ للمفاجأةِ والسير على حِفافِ الذهول!

سمعتُ عنه كثيرًا، ورسمَهُ خيالي أشكالاً غريبة، ولكنِّي اعتدتُ أن لا أُطلقَ أحكامًا مُسبَقةً على الأشياء. لم أقبلْهُ ولم أرفضْهُ حتى التقيته في منزله الرحب، في محلة القنطاري ببيروت، فأحسنتُ أنني أمام رجلٍ آخر... أن الرجل حاملُ الرسالة، وأن الأمر ينطوي على حقيقة... قدرًا كان لقائي له... أتيتُه وعلى كتفي أثقال، ومن أعطافي ينبعث دخان السنوات. وما لبث أن اشتعل الصراع بين وهج الحاضر ورماد الماضي، بين ما أرى أمامي وما تركتُ ورائي، بين أشعة الحقيقة وركام الأوهام. واستمرت الزياراتُ وكذلك المعجزات. وشهدتُ ما يبهرُ ويذهل ويفتح باب الهواجس والتسؤلات. ومن خلال النظرة الموضوعيَّة، وجُرأة الاعتراف بالحقِّ ولو كان على حساب المسلمات والأعرافِ الموروثة، بدأتْ خيوطُ الحقيقة تتسرَّبُ إلى نوافذ العقل والقلب كما تنسرب قطرات الندى في مسام أزاهر الصباح، وتنغزلُ فجرًا من الرؤى والصور والأحلام. وما عتمت أحرفُ الرسالة الروحية المضيئة أن أخذت مكانها في كتاب الروح.

كان منزل الرسالة أشبه شيءٍ بواحةٍ وريفةٍ في صحراء، أو جزيرة نقية الهواء والتراب وسط بحرٍ من الصخب. كنا نفيءُ إليه كلما اشتد الهجيرُ وطغى على النفوس اللهيب... إلى حضرة الروح في معبد الجمال وتحت ظلال شجر المحبة والأمان، كأنَّ إلهةَ الفنِّ زارت المكان فامتلأت الجدران بالروائع، وازدانت الزوايا بالتُحف! وأنَّى التفتَّ تبهركَ الألوان والألحان، وتتفرجُ شفاهُ الفن عن لآلئَ ومَحار، وأسرارٍ وأشعار.

 

عاشقُ الفنّ

كان الهادي الحبيب شغوفًا بالفن عروفًا بقيمته الجمالية، مدركًا أنه لغة الروح والأحاسيس، وقد وصفه بـ"الموسيقى البصرية". كان يحسه نغمًا يداعبُ النظر ويتسرب إلى القلب. يُرهفُ الذوقَ ويسمو بالنفس. وقد وفق في الحصول على مجموعة كبيرة من اللوحات الفنية والتماثيل لكبار الفنانين العالميين كانت نواةً لمتحفه الذي يُضاهي بمحتوياته وقيمته كبارَ المتاحف العالمية. لقد كانت تلك المجموعة من اللوحات الفنية، التي حصل عليها بجهدٍ وصبرٍ كبيرين، كسفينة نوح النبيِّ تُعطي أكُلَها بعد حين... إنَّه الذكاءُ البشريُّ المتوقد والإلهام الروحي اجتمعا في شخص داهش.

كان الدكتور داهش عاشقًا للفنّ، يُقدِّر الفنانين الأصيلين، ويُميِّزُ بين الغثِّ والسمين من أعمالهم، فلا تنطلي عليه أباطيلُ العصر ومهازلُ الحداثة. زِدْ إلى ذلك اقتناءهُ لوحاتٍ فنية من أجلِ قيمتها الروحية، ومستوى سيَّالاتها العلوية. وقد خاطبته مشيرًا إلى هذا المعنى بقولي:

لجميل الفنون شيَّدتَ مجدًا

                           ولفنِّ الجنون نُكسًا وعارا

ولمجدِ الجمال أعليتَ صرحًا

                           وعمرتَ الآمال دارًا فدارا

فزَها صرحُ داهشٍ وتجلَّى

                           في نيويورك للنجوم مزارا

كُنانشعر في حضرته أننا في عالم علويّ؛ فالآياتُ الفنية في كل مكان، وجو من الأمان يرين، وهو جالسٌ كقبسٍ من الضوء في الممر الشرقي، أو متنقلاً بين الغرف، تطربُ لخطواته الجدرانُ والمقاعدُ وسائر الأشياء، فتنطلقُ أغاريدُ لا تعيها آذانُنا الصماء، بل تسمعها القلوبُ تحسُّ بها الأرواح. وقد تأكَّد لي لاحقًا أنَّ الفنَّ جزءٌ من رسالته السامية التي تهدفُ إلى نشر الفضيلة والخير والجمال ومحاربة الشر والفساد والكذب. وكأ،ه بأقواله واختياراته الفنية جاء ليقول لنا هذا هو الفن:

يا زارع الشوق أشواقي تُغالبُني

                     وتكثرُ النار في قلبي وتضطرمُ

أراك تبسُم إذ يبكي الوفاءُ دمًا

                     غدَر الزمان ويشكو نزفَه الألُم

أراكَ والزهرُ الولهانُ مُشتعلٌ

                     كالأنجم الزُهرِ في الأغصان يزدَحمُ

أراكَ والأرضُ غرقى في ضلالتها

                     ويغمرُ الخلقَ ظلمُ الخلقِ والظُلَمُ

أراكَ في المتحف الجبَّار منتصرًا

                     يزهور بكَ المجدُ أو يعلو بك الشممُ

تقولُ للحق، والأقلامُ صاغيةٌ:

                     هذا هو الفنُّ فاكتُب أيُّها القلمُ!

 

ضجعة الموت

عاشق للفن أهدى إليَّ رائعته الأدبية والفنية كتاب "ضجعة الموت"، فأخذتُ به شكلاً ومحتوى. كلام رومانسي شفيف، وشكل رائع أخاذ، جمع على صفحاته فن الأدب إلى فني الرسم والخط وفن الطباعة، فكان الكتابُ أميرَ كُتب، والكاتبُ أميرَ بيانٍ وسيدَ كلمة.
هذا السِفرُ الخالدُ نظمهُ شعرًا الشاعرُ الفلسطينيُّ الرقيق مُطلقعبد الخالق، وطُبعَ في القدس عام 1936 على ورقٍ صقيل، وهو مُزَّيَّنٌ برسوم الفنان الإيطالي مورلِّي، ومخطوطٌ بريشة كبير خطاطي العصر محمد حُسني، وخطاط الملوك نجيب الهواويني. فكان، حين صدوره، نجمَ المواسم الأدبية والمجالس الثقافية في فلسطين والشرق العربي وكل الأقطار الناطقة بالعربية.

هذا الكتاب كان زادي وغذاء روحي. كنتُ أتمهل في قراءته أو لدى تصفحه حتى لا يفوتني شيءٌ من لذاذاته. وأكرهُ أن أصل إلى الصفحة الأخيرة وأقرأ عليها عبارة "انتهى الكتاب". كان زادي كلما اشتقتُ إلى التحليق في أجواء الخيال والجمالّ وينبوعي النمير الأثير، أنهل منه الكلامَ العذب المُوصلَ إلى حقول النورِ ومرافئ المعرفةِ والحقِّ والجمال!

       لقد وقعَ الكتابُ في نفسي كما يقعُ البلسمُ على الجُرح كنتُ حينئذٍ وَلوعًا بالفنِّ على اختلافِ أشكاله، ومأخوذًا بالكتابةِ نثْرًا وشِعرًا وخطًّا.

       لقد وضعني الكتابُ في مَهبِّ تأمُلاتٍ وخيالاتٍ وأحاسيس وآلامٍ لا تقوى على احتمالها الأجسام. وكنتُ كلما قرأته أعثرُ بين سطوره على لؤلؤةٍ لم أرَها من قبل. حكايةٌ مشبعة بكل ما في قلب الكاتب الكبير من أحزان، وما في روحه من وهج ودفء وحنان وإلهام! لقد قرأتُ في كتاب "ضجعة الموت" من الأدب ما لم تأتِ بمثلهِ الكُتب، ولم تتفوه به ريشةُ أديب! كلُّهم يُصورون الحب لقاءً وعناقًا بين حبيبين، ويفهمونه إشباعًا لرغبات الجسد. لم يخطر ببال أحدهم أن يقولَ ما قاله الدكتور داهش، وهو أن روعة الحب في عدم اللقاء. بل يفقدان الحبيب للحبيب.

"مَن كان يعبدُ حبيبتهُ ونالها فقد فقدّها!    

ومَن لم يتصل بها وبقي فاقدًا إياها، فقد نالها!

لأن نفسه تطلبها، وشعوره الداخلي يبقى هائمًا بها،

وذكرياته الماضية، تبعثُ فيه آلامًا لا يُطيقُها جسدُهُ فتفيض"

(الأنشودة 8)

"وما دامت بعيدةً عنه، لا تقعُ منه العينان عليها،

عند ذلك يرى الملاحة ألتي لا ذواءَ فيها ولا عفاء،

وحبُّها يبقى مُلازمًا له إلى النهاية، ولا يتلاشى،

فهو يذهبُ إليها بعدما تنطلق روحه في عالم الأحلام،

ومهما شاخ الكون ومضت به طوال الأعوام

فإنه يراها مثلما كانت: حسناء بديعة رائعى الجمال

فسعيدٌ مَن فقدَ حبيبته، ولم يستطعْ لُقياها..." (الانشودة11).

هذا الكتابُ الذي تنطلقُ من حُنجرته هذه الأناشيد، لا يصعبُ على قارئه أن يكتشف أنه أمام أدبٍ من نوعٍ آخر؛ أمام قلم ليس كالأقلام؛ أمام عظمة الوحْي والإلهام في أروع تجلياته ومعانيه من حيثُ سلامة الإيصال، ومتانة التركيب، وعفوية التعبير، وقوة الإيحاء، وعمق المعاني وتواضُع الكلام. ولدى زيارتي للدكتور داهش، الهادي الحبيب، في العام 1973، (على ما أذكر)، وجدتُ أمامه نسخة واحدةً من كتاب "ضجعة الموت" صفحاتُها بيضاءُ خاليةٌ إلا من إطارات فنية كان قد رسمها الأديب يوسف الحاج. فاستأذنتُ الدكتور أن يسمحَ لي بكتابة نصوصها بخطي. وأخذتُ الكتابَ وأكببتُ على كتابته حتى أنجزتُه وسلَّمته إياه بعد بضعة أشهر. ولكن رأيتُ أنه قد فاتني كتابة عنوانٍ صغيرٍ ن عناوينه فأرجعته معي إلى المنزل، ثم أعدتُ تسليمَه إليه، فتناوله من يدي مبتسمًا وقال لي ما مفاده: عجيبةٌ هي الأمور  الروحية. مكتوب بخط الأخ حليم دموس في "الوقائع الداهشية" أنك سوف تنجز كتابة "ضجعة الموت" بخطك وتسلمني إياه في هذا اليوم نفسه.

 

تضحية

       لم يُفتني أن أكتشف أن الكتاب لم يكن معدًا للطباعة. كان نسخةً وحيدةً مرسومةً ومخطوطة باليد. إن خطي آنذاك لم يكن في المستوى الفني المطلوب، لا سيما إذا قورنَ بخط النسختين المطبوعتين. كان الكتاب الأول الذي أخطُّه بريشتي، وقد حولتني كتابته من الكتابة التجارية (الآرمات واليافطات) ذات القيمة الفنية المجدودة، إلى الكتابة بالحبر الصيني بالغزار والريشة المعدنية، حيث يتسعُ المجال للإبداع. ولو لم يدخلني الدكتور داهش في رحاب هذه الكتابة الفنية، لضاعت مني موهبة الخط في خصم مصاعب الحياة ومتاعبها. كان يريدلي أن أستمر في ممارسة الخط، وكان يشجعني على ذلك بمختلف الطرق؛ فقد عهد إليَّ كتابة عناوين كتبه التي كان يعدها للطباعة. ليس هذا فحسب، وإنما طلب أن لا يكلف احدٌ سوايَ بخط أي شيء يخصُّه. وقد أسرني بهذ الإلتفاتة المشجعة، إذ كان يستطيع الإتيان بكبار خطاطي الدنيا ليكتبوا له ما يشاء، لكنه آثر ريشتي المتواضعة المبتدئة، فكان لقراره هذا تأثيرٌ عميقٌ في نفسي وجميلٌ عليَّ لن أنساهُ ما حييت.

       وبعد فترةٍ وجيزةٍ مضت خططتُ كتاب "الإلهات السِّت"؛ وهو ككتاب "ضجعة الموت" يجمعُ بين الأسطورة والرمز في أدب الدكتور داهش، وكان الكتابَ الأول الذي يُطبعُ مخطوطًا بخطي. فشعرتُ باعتزازٍ كبير. وكنتُ ما زلتُ في بداياتي مع فن الخط العربي، لكن الدكتور نوَّه بكتابتي، وأثبت في نهاية الكتاب هذه الفقرة:

"يطالعُ القارئ في هذ الكتاب رسومٌ فنية بريشة الفنان قيصر الجميل ابتدع فكرها مؤلف الكتاب. أما هذا الخط الرائع الفتان الذي يراه القارئ في شتى صوره الفنية موشيًا الصفحات بمختلف روائعه وبدائعه، فحسب القارئ أن يتعلم أنه من قلم الخطاط الشاعر العاطفي الرقيق ياسر بدر الدين. والمؤلف يقدر في هذين الفنانين المبدعين روحَ الدقة والنظام وسلامة الفطرة وسعة الخيال.".
فلو كان المؤلف أديبًا عاديًا لما أثبت هذا الكلام. لكنها النبالةُ والخلقُ الكريم الذي حباهُ الله تعالى رجل الروح والمعجزات والفداء والتضحية.

       إن شغف الدكتور داهش بالفن واهتمامه به أمرٌ جديرٌ بالاهتمام. فكتاب "ضجعة الموت" مزين بأكمله بالرسوم الفنية؛ النص النثري المخطوط يقابله رسمٌ فني معبر مع إطار فني رسومه مستوحاةٌ من أجواء الكتاب. هذا النمط يلقى في كتابه "الجحيم"، وكثير من كتبه. زدْ إلى ذلك الورق الصقيل والتجليد الفني. وإذا تذكرنا الكلفة المرتفعة للطباعة، وكيف تحول دون انتشار الكتاب، وحِرصَ الدكتور داهش، من ناحيةٍ ثانية، على إيصال أفكاره إلى الجميع، أدركنا أن في تركيزه على الفن سرًا ربما بقي في دائرة الكتمان ولم يُكشف السترُ عنه ككثير من الأسرار التي تُحيطُ بالعُظماء والمُلهمين.

       إلا أن الباحث في أدب الدكتور داهش والمهتمَّ بشخصه لا يَفوتُه أن يُدركَ الرغبة الفنية الحادة لديه التي ظهرت جلية في كُتبه وعبر عنها في مناسبات عديدة. ولعل هذا السر يكمن في طبيعة الفن نفسه الذي يُدركُ الدكتور داهش قيمته الجمالية وقُدرته على التأثير في النفوس وتهذيبها والارتقاء بها إلى عوالم سعيدة؛ فما من حضارةٍ إلا كان الفن في أساس تبلورها وانطلاقها. وها هو العالم الألماني كأسيرر Cassirer (1874 – 1945) يَعتبر الفن أحد أهم العوامل في تكوين الحضارات إلى جانب الدين واللغة والأسطورة. هذا يذكر باهتمام الرسول الكريم والمسلمين الأوائل بفن الخط؛ إذ يُذكَرُ أنَّ كتبة الوحي تجاوز عددُهم الأربعين، وأنهم كانوا يتنافسون فيما بينهم لنيل رضا النبي الكريم وتقديره لخطوطهم. وقد أثبتت مراجعُ الخط العربي نماذج لصفحاتٍ من القرآن الكريم مكتوبة بالخط الكوفي المصحفي بريشة كل من الخلفاء الراشدين الأربعة. كما يُذكر اهتمام الدكتور داهش بالفنون بأقوال الإمام عليَّ عن الخط، ومنها: "الخط الحسن يزيدُ الحق وضوحًا"، وما ذكرهُ فلاسفةُ الإغريق عن الفن وارتباطه بالفضيلة والخير والجمال.

 

في رفقة حزيران

لقد سرتُ ف رفقة روائع الدكتور داهش الأدبية وتمتعت بكنوزه الفنية في رحلة النور والمعرفة وجولت في دركات "الجحيم" وبعض درجات "النعيم"، وفي صفحات "عشتروت وأدنيس"، و"نشيد الأنشاد"، و"الإلهاتُ الست"، و"كلمات"، وبعض "الدهاليز"... كما سرتُ برفقة حزيران ومطلع حزيران، ومطلع حزيران، ذكرى مولد مؤسس الداهشية. وكانت الرحلةُ محفوفةً بالشعر والعطر والصبر والسهر،  كرحلة السندباد إلى جزائر المحار. إلا أن أجمل ما فيها اللقاءُ وُمناجاةُ الحبيب، والإبحارُ في الورد... كان أجمل ما فيها الوفاء! وأنى لي أن أعثُرَ عليه في سائر الشهور؟ حزيرانُ كان الجرح المفتوحَ في شغاف العُمر ! ولطالما امتزج دمي ودمهُ في صناعة الشعر ونسيج الأحلام! كان خنجرًا من الورد يدمي ويدمى فتضوعُ الأطيابُ والألوانُ والآلام، وترتسمُ كلماتٍ وصورًا على صفحات العمر والقلب!