info@daheshism.com
الدكتور داهش والداهشيَّة في الصَّحافة

 

لا كرامة لنبيّ في وطنه

مائة عام خلت، مذ ومض نور اخّاذ خطف الابصار في لبنان لبرهة ثمّ ما لبث أنْ توارى. هذا القبس الذي شعّ من خلف ربوات الأرز حمل خيوط الحقيقة لغير مستحقّيها آنذاك، إنّه ذلك الفيلسوف العظيم والأديب المتجلّي والرسام الشفّاف، جبران خليل جبران.

آمن بأنّ الحقيقة والخلاص ليسا حكراً على دين أو طائفة ما، لا بل راح يكرّز بوحدة الأديان ووحدانية ينبوعها الزلال. لأجل هذا رفضه أبناء بجدته وساطوه بألسنتهم اللاذعة التي لم تكن أبداً لتنطق سوى بكلمات التعصّب الأعمى الساري في عروقهم والممتزج في خلاياهم. فكان إختياره أنْ نفى نفسه وفكره وقلمه الى ما وراء البحار . من هناك أطلق أحكامه الصاعقة التي بترت أفاعي المصالح والغايات المتسربلة بلباس الدين، ومزّق الأقنعة الصفيقة عن وجوه من يحكمون باسم العدل والحرّية المقدّسة وجلّ ما يختلج في ثناياهم حبّ المال والسلطة ضاربين بذاك العدل وتلك الحرّية عرض الحائط، فقال بصوتٍ ردّدت صداه الآفاق تلك الكلمات الخالدات ، " الويل لأمّة كثرت فيها طوائفها وقلّ فيها الدين … الويل لأمّة تلبس ممّا لا تغزل وتأكل ممّا لا تزرع … الويل لأمّة ممزّقة والكلّ ينادي أنا أمّة …" .

مرّت أعوام وأعوام على ذلك القلم الثائر في منفاه يسطّر حروف الحقّ على صفحات مجّدت إسمه ليصبح الأديب الأشهر والروحانيّ الأعمق والأكثر وعياً وإدراكاً للحقائق الأزليّة في بلاد الإغتراب . عندها فقط تبنّى لبنان هذا الولد البار ونسي أبناؤه لا بل تناسوا ما قذفته ألسنتهم الرعناء في وجهه قبل أعوام. إنْ كان جبران قد غفر لهم ذلك، فلم ولن يفعل التاريخ .

ومرّةً أخرى تجود السماء بأحد أسطع أنوارها على لبنان، ألا وهو داهش الأديب المعْجزْ والروحانيّ العظيم. جاء مبشّراً ونذيرا، يحثُّ العالمين للعودة الى الفضائل والتمسّك بحياض الحقّ ونبذ التعصّب. بشّر بالسماء وحسن المآل إنْ أنكر المرء ذاته ووضع نفسه في خدمة خالقه وسار حسب تعاليم دينه الحنيف، أي دين كان، فكلّ درب شائك يحارب فيه الإنسان شهواته الوضيعة وميوله السفليّة ويمحقها بقوّة إيمانه بحبال العزّة الإلهيّة لا شكّ سيقوده الى الفراديس العلويّة .

ضمّن الدكتور داهش أفكاره السامية تلك في حوالي 150 كتاباً تناولت مختلف ميادين الأدب من شعر منثور، وقصّة مثيرة، ورواية. كلمات لا بل آيات يفيض منها الضياء فتكون منارة هدى للنفوس التائقة للإنعتاق من كبول الجسد والتحرّر من عبوديّة الرغبة والسلطة والمال. تلك الكلمات فعلت فعل السحر في قلوب العطشى للحقائق الروحيّة، لكنّها كانت كالمهنّد الباتر يشهر في وجه وائدي الحقّ ومضطهدي الحرّيات. فما كان من أولئك الأخيرين إلاّ أنْ أنكروا هذه الهبة السماويّة لا بل عذّبوا منْ أُرسل بينهم سراجاً منيراً، ووضعوه غياهب سجونهم، وسلبوه جنسيّته ، ومن ثمّ نفوه خارج البلاد ليأمنوا صوت اللّه فيه الذي زلزل كيانهم، وأقضّ مضاجعهم.

لكنّه عاد، وأبى إلاّ أنْ يبعث بنات أفكاره رسلاً تتغلغل في نفوس مستحقّيها. وبعد إتمام ما كان قد وهب نفسه ووقته وكلّ ما أوتي من طاقة لإرسائه، هاجر الى الولايات المتّحدة وأنشىء متحف داهش في جادة ماديسون في مدينة نيويورك، ذلك المتحف الذي يضمّ الآلاف من اللوحات والمنحوتات الغنيّة بقيمتها الفنّية والمادّية . أضف الى ذلك المعبد الفنّي، أسّس الدكتور داهش مكتبة عملاقة تحوي الآلاف من الكتب المتنوّعة بمضمونها وهي بمثابة مرجع موثوق للحضارة الإنسانيّة.

أفواج إثر أفواج من الأميركيين وغير الأميركيين يتوافدون الى متحف داهش شهريّاً، وحين ولوجهم ترتسم على وجوههم علامات الدهشة والإعجاب بهذا الشخص المعجز الذي قام وحده بما قد تعجز عن إتيانه مؤسّسات كبيرة لا بل قل دول.

هو مفخرة ومحطّ إعتزاز لكلّ من آمن بما بشّر فيه من قيم سامية وتعاليم راقية. ينال التقدير والتكريم على صفحات المجلاّت والجرائد في بلاد الغربة القصيّة، ولكنّي أقولها وفمي ملؤه ماء، ليست هذه هي الحال في بلاد منشئه.

تساؤل يطرح نفسه في الختام، أما آن للبنان أنْ يتعلّم إكرام بنيه في أرضه؟ ألا يرى بأنّ التاريخ يعيد نفسه؟ النور ينبثق دائماً من جنباته لكنه يأبى أنْ يحتضن النور في مشكاته، فترى ذاك الأخير يمتطي الأثير ليضيء عبر البحار والأمصار، تاركاً لبنان ينعي ما أصابه من الخسران ولكن بعد فوات الأوان …

ياسر عطوي

 

الدكتور داهش والداهشيَّة في الصَّحافة  Back to