info@daheshism.com
الدكتور داهش والداهشيَّة في الصَّحافة

 

الديار

الى الدكتور داهش في ذكرى مولده

Saturday, June 11, 2011 - 10:37 PM

   أيها الغريب الاتي من مطالع الشموس الابدية والنجوم البعيدة، ماالذي جاء بك الينا في مثل هذا اليوم الاول من حزيران، بعد ان طال غيابك عن دنيانا؟! هل تُرى شاقك السير في الدروب التي شرّفتها في سالف الزمن بوطء قدميك، ام شدكالحنين الى الأزاهير التي غرستها بيمينك وسقيتها من معين قلبك وحدبت عليها برموشعينيك، ام هاجتك ذكريات الأيام التي تركتها خلف مساحب خطاك محملة بأفراحك وأتراحك،ومضمخة بدموعك وضحكاتك، ام أغضبتك ظلمات عالمنا ومظالمه وقد غطت الآفاق وحجبتالفضاء والأعماق بعد رحيلك، فآثرت العودة اليه، مرة أخرى، من اجل انقاذه؟!..
       ماأحيلاك، أيها الغريب، وأنت تهبط من مركتبك النورية. وجهك البهي الطافح بالبشر يضيءمن جديد وحشة ليالينا، وبسمتك الالهية المفعمة بالحب الخالص تشيع الأمل العظيم فيقلوبنا، ويدك الجبارة صانعة المعجزات تحيي الايمان في اعطافنا،و ترفعنا من الهوة،وتأخذ بأيدينا في الطريق الى حيث مقامك العلوي!
       على دروب القدس، مدينة الأنبياء، وبين أزقتها اليقظة وفوق رباها وفي بساتينها، سرت خطواتك الأولى، تماما كما سار من قبلك المعلم والثائر الاعظم، سيد الحب والفداء، السيد المسيح! من هناك،وقبل ان تتفتح ورود الصبا على خديك، بدأتَ مسيرتك الخالدة، تتقدمك المعجزات التي أودعتها يد الله العلي أمانة في عنقك، وتواكبك شمس العالم الآخر التي كللت بهاهامتك لتكون ينبوع معارفك العلوية وعنوان مجدك وفخارك! لم تضنّ على أحد، كائناً منكان، برؤية ظاهراتك الروحية الخارقة التي منحتك اياها القدرة الجبارة العليمة، والتي أعجزت الدنيا وبهرت الأبصار وأذهلت العقول! ولم تمنع أحداً قط من ولوج حدائق فكرك المزهرة بالحقائق الالهية الخالدة، والعابقة بشذا السماوات البعيدة! لم توصد بابك في وجه اي طارق له، وإن يكن عابر سبيل، ولم تردّ طلباً لكل من جاءك سائلاً، مؤملاً بك. كما لم توصد باب قلبك الفائق الرأفة والعطف، والمجبول بنور الرحمة الالهية، في وجه اي تواق للعبور الى رحباته وللعيش في حماه. وكانت يدك المباركة مثالاً للعطاء الأسمى الذي لا يعرف الحدود، تنثر نور الإيمان في كل مكان، وتكتب أسفار الهداية الخالصة لجيلنا، وللآتي من الأجيال، وتشد على كل يد تريد خيراًبالانسانية وتسعى لتحقيق وحدتها وسعادتها وارتقائها.
       وكما في فلسطين، كنت كذلك في لبنان الذي كُتب عليك ان تنتمي اليه. فلقد ألقيت بذارك العلوي في كل تربة مررت بها هنا او هناك، مانحاً إياها كل عنايتك. فأينع من تلك البذور ما أينع، وأزهر منهاما أزهر، لكن كثيراً منها داسته الأقدام، او حاصرته الأشواك، أو أكلته طيور السماء،على نحو ما جاء في مثل سيد المجد. فأحزنتك ندرة الجنى، وضياع المجهود، وآلمك يُبوس بعض التربة وارفضاضها عن جواهرك الثمينة بعد تقبّلها، مرتكبة معك أبشع ضروب الغدروالخيانة. لكن كل ذلك لم يثنك عن المضي قدماً في مسيرتك، وعن الاستمرار في حمل شعلتك. وكانت ارض مصر محط احلامك ومهوى آمالك، فارتحلت اليها، وأظهرت فيها معجزاتك العجيبة على رؤوس الأشهاد، من اجل مجد الله، ولرد التائهين عن درب الله اليه. هناك،في تلك المدينة التي احتضنت الطفل المقدس يسوع تحت جناحيها في اثناء محنته، والتيكنتَ تعدها «مهبط الفراعنة العظام»، و«ينبوع الرقي والحضارة، ومعدنه المتألق»،تبرعم بيانك، وتفتحت أولى أزاهيره، وتبسمت أكمامها لشمس الحياة. وفوق تربتها الضاربة في جذور الزمن، الهاجعة فوق بحر من أسرار دفينة، فاض قلـمك، أول ما فاض،شاعرية وحباً وجمالاً وسحراً ومُثلاً، ومعرفة عميقة بالحياة والمجهول وطوايا الأبد وخفاياه، وحكمة فريدة لم تتأتّ من قبل لشاب في مثل عمرك أتم للتو سنواته الإحدى والعشرين. ولقد ضاقت الصفحات على رحابتها أمام فيض قلمك، واستحالت دكنة المداد المنسكب منه نوراً، لفرط سموّ فكرك، وتقاطرت الكلمات درراً نضيرة تبهر النواظروتأسر الأفكار والألباب بسحر جمالها المبدع.
       ومن مصر العزيزة عليك، الأثيرة لديك، ناداك أرز لبنان للعودة اليه وقد رأى روح أشعيا النبي قادمة للقاء العروس الالهية التي حان موعد زفّها اليك، تلك العروس التي تجلت لناظريه قبل مئات السنين، فأنشدها قائلاً «هلمي معي من لبنان، يا عروس، معي من لبنان»، والتي وصفها بأنها «جنة مغلقة، وينبوع جنات، وبئر مياه حية، وانهار من لبنان...» ولبيت النداء، وعدت الى لبنان، فكان لك مجد عروسك. بعدها أطلقت صرختك الروحية الداوية التي ما فتئت اصداؤها تتردد في البرية منذ سبعين عاماً، وحتى اليوم، على الرغم من عنت الظلام يين الظالمين، ابناء الهاوية ووقودها المستعر، الذين ناصبوك العداء، واضطهدوك، فعصفتَ بهم الى يوم يُبعثون... وطرق صوتك مسمعي وأنا في السابعة عشرة من عمري، فأحببته،وسعدت به، على انني لم اشعر قط بأنه غريب عني. وحين اكتحلت عيناي بمرآك للمرة الاولى، ازداد يقيني بأن معرفتي بك ومعرفتك بي ليستا وليدة الساعة، وإنما تعودان الى قرون وأجيال بعيدة. ولقد أحببتك من النظرة الاولى، وكان لي من رؤية معجزاتك الجبارة نصيب كبير، ومن معرفتك السامية ما لا يقاس بكنوز الدنيا قاطبة.
       أيهاالغريب الحبيب، أنت لست غريباً الا ههنا، في دنيا ضلت عن نور الله وأنبيائه،وانزلقت الى دركات الأكاذيب السفلية التي تعود عليها بالويلات الرهيبة، وتحكمت فيهاالطائفية والمذهبية التي تكاد تقضي على القيم الروحية والانسانية، وسادت ارجاءها الظلمات والمظالم الشنعاء التي لم تُبق للأخوة مكاناً بين أبناء الحياة. لكنك، على الرغم من غربتك، دخلت قلوب الكثيرين ممن لم يزل في قلوبهم نور، وفي فكرهم نور،ويتزينون بالإيمان، ويسيرون في هدي العدالة، ويتعاملون فيما بينهم بالرحمة، على أنك دائماً وأبداً مقيم في قلوب سكان العوالم المضيئة الذين لا يُحصون، والذين يعرفونك حق المعرفة، ويقدرونك حق قدرك! لقد أتيت عالمنا غريباً، لكن كنت لنا هادياً وفادياً وحبيباً، وكنت خير معلم.


ماجد مهدي

 

 الدكتور داهش والداهشيَّة في الصَّحافة  BACK TO