info@daheshism.com
الدكتور داهش والداهشيَّة في الصَّحافة

 

النظام الروحيّ والمسؤوليّة الخلقيّة


(الحلقة 62 ، مجلّة "الدبّور "، 4 تمّوز _1949 )

 امّا اختلاف الأديان والألوان البشريّة فهو ناتج عن اختلاف هذه السيّالات وما يخلقه هذا الاختلاف من أهليّات واستحقاقات في المرء .

فمن الأديان مثلا ما هو قريب الى المادّة , وهو صالح لفئة من الناس . ومن الأديان ما هو في نصف الطريق بين المادّة والروح , وهو صالح لفئة اخرى من الناس . ومن الأديان ما هو روحيّ محض , وهو صالح لفئة أخرى من الناس .

ولكنّ جميع هذه الأديان ضروريّة تتمّم بعضها بعضا , ويتدرّج فيها البشر على مرّ العصور , فيأتي كلّ امرى في الون والدين الذي يستحقّه ويتقبّله ويستطيع أن يسير بموجب تعليمه , إذ إنّ رحمة الله وعدالته تغمران الكائنات بأسرها ولا تستثنيان أحداً على الإطلاق .

ولكلّ دور من أدوار الأرض يوم حساب . ففي ذلك اليوم الرهيب تتلاشى المادّة وتضمحلّ العناصر وتبقى الأرواح ماثلة ً أمام الديّان . فمنهما من فاز وانتصر , فجنى ثمار أعماله بانتقاله إلى عوالم سعيدة . ومنها من شطّ واندحر , فهبط إلى درجات الشقاء التي استحقّها .

فاعلمْ , أيّها القارىء , انّ كلّ فكر وكلّ عمل وكلّ قول تقوم به في يومك يترتّب عليه مصير رهيب بنتائجه : فإما مصير سعيد عظيم , وإمّا مصير شقيّ ذميم . فالله الذي خلق لأتفه الموجودات قوانينها وأنظمتها الثابتة , والله الذي يثّبت بإراته الأنظمة التي تثّبت الحياة في الأجساد , وتسيّر كلّ جزء دقيق من هذه الأجساد الانهائيّة العدد , إنّ الله – جلّ جلاله وتباركت أسماؤه الحسنى -  قد خلق نظاماً دقيقاً جبّاراً يحصي عليك كلّ عمل من أعمالك وكلّ اتّجاه من اتّجاهاتك .

فهنيئاً لك إذا أقلعت عن الشرور وخلعت عنك النزوات المادّيّة واتّجهت إلى الخالدات الباقيات . الويل ثمّ الويل لك إذا تمرّدت على إرادة العادل الديّان . فما هي قيمة الحياة أذا قضّيناها في كلّ تافه وضيع , ومرحلة حقيرة تتلاشى كتلاشي الغيوم والأحلام  ؟

وما هي قيمة الحياة إذا قضيّناها في كلّ تافه وضيع , تاركين تلك الغاية العظيمة النبيلة التي أعدّتها لنا العناية , ومتمسّكين بتلك النفايات الدنيئة والزائلات الدنيويّة ؟فالعمر مهما طال , فهو قصير كبرق خاطف. والأيّام تكرّ والأعوام تمرّ, والطفل يشبُّ, والشابُّ  يشيب , والموت في المرصاد ,وعين باري الأنام لا تنام .

فهل نبقى في جهلنا السخيف الأعمى , أم هل نستيقظ إلى معرفة الى معرفة حقيقتنا فنتوب ونثوب ونعود إلى الحظيرة الإلهيّة ذات الصدر الرحب والأمل العذب والأحلام الهنيئة والحياة السرمديّة , فنقضّي حياتنا الأرضيّة بما هو شريف رفيع في أروع معركة يمكن أن يمرّ بها المرء , ألا وهي معركة ’’ الروح والجسد‘‘ ؟

           ليس من يقطعُ طُرْقاً بطلاً                   إنما من يتّقي الله البطلْ

وليس من يتعامى عن حقيقة وجوده وخلوده بالعاقل الحكيم . فالعاقل من يتّعظ بحادث الزمان . وما الرسالة الداهشيّة إلاّ ذاك الحدث العنيف الحنيف الذي مزّق الأستار , وكشف الأسرار , ووضع الإنسانيّة أمام مسؤوليّتها . فهنيئاً لمن يتّعظ ثمّ يعظ ...

 

بين أبناء الجسد وأبناء الروح
الصراع العنيف بين الأنظمة الماديّة والأنظمة الروحيّة

أيّها القارئ العزيز ,

لقد لمست معي في سلسلة المقالات التي نشرتها في هذه الصحيفة ’’ الحدث الداهشيّ ‘‘ الذي هو أهمّ الأحداث العالميّة في  الساعة الحاضرة في نظر الروحيّين المؤمنين بخلود الروح بعد انعتاقها من هذا الجسد الترابيّ البالي . فما اختراع القنبلة الذرّيّة , وما اكتشاف أشعّة جاما , وما اختراع التلفزيزن والرادار وسواها من الاختراعات الحديثة الباهرة التي توصّل إليها الإنسان إلاّ أحداث ضئيلة , بل طفيفة تافهة , إذا قيست بذاك الحدث الجليل العظيم الذي يكشف لنا عن الآفاق الانهائيّة .

نعم, إذا فكّرت قليلاً فستضطرّ للوصول إلى هذه النتيجة مرغماً خاضعاً خاشعاً  أمام الحقيقة الساطعة التي خفيتْ أسرارها عن جميع أبناء العصور الخالية لحكمة إلهيّة .فهذه الاختراعات العصريّة الحديثّة التي ذكرهتها لك يمكنها أن تؤثّر على حياة الانسان على الأرض وعلى تطوّره الاجتماعي . ولكنّها ليست جوهريّة على الاطلاق لأنّ البشريّة قد عاشت بدونها مئات الأجيال وملايين السنين – قبل آدم وبعده – دون أن تشعر بالحاجة اليها وضرورة استعمالها . وفضلا عن ذلك ، يمكننا القول بكلّ صراحة انّ هذه الاختراعات وأمثالها ، مهما بلغت من الخطورة والأهمّيّة ، فهي لا تتجاوز نطاق عالمنا الأرضيّ الصغير المحدود ، وهي لا تفكّ لغزا ولا تحلّ طلسما وحدا من أسرار هذا الوجود لأنّها لا تتناول الاّ العلل ، ولا يمكنها أن تتوصلّ الى السبب الجوهريّ .

أمّا الحدث الداهشيّ فهو يتجاوز محيط هذا العالم البسيط .

نعم ، انّه يتجاوز عالم المادّة الملموس المنظور ليتناول العالم الغير المنظور : عالم الغيب ، عالم الروح .

فمنذ أجيال وأجيال واجتهادات البشر موجّهة لتحطيم ذلك الحاجز المنيع الحصين القائم بين الروح والمادّة .

ومنذ أجيال وأجيال وهذه الاجتهادات البشريّة مندحرة منكسرة لأنّه كتب علينا نحن معشر البشر ، منذ البداءة والى النهاية ، أن لا نمدّ يدنا الى ما هو فوق الأرض وتحتها . وقد قال الله لأبينا الأوّل في سفر التكوين :" تسلّط على الأرض وعلى حيواناتها وطيورها ." ولم يسمح للانسانيّة أن تتسلّط على ما وراء الأرض .

واذا برجل المعجزة يظهر .

واذا بروائع آياته ينبلج فجرها ، ويسطع بدرها .

واذا بتلك السدود المنيعة تتحطّم وتتهدّم . 

واذا بنا أمام عوالم ما وراء الطبيعة ومعرفة قوانينها وأنظمة سكّانها .

وكلّ ذلك بطرق عمليّة واقعيّة مادّيّة يخشع أمامها المرء مروعا ، بل يبتهج لها ويهلّل ، لأنّها فتح جديد لا تقدر قيمته . وسوف يكون له أثره المجيد في توجيه الفكر البشريّ عامّة نحو الحقائق الروحيّة ، وتغيير كثير من أنظمة هذه الأرض الجائرة .

وما مثل الدكتور داهش ونشأته العجيبة الغريبة وما تحمّله من اضطهاد ومشاقّ ، وتعذيب وارهاق ، في سبيل عقيدته السامية المقدّسة الاّ برهان ساطع وبيّنة دامغة على تجرّد الغاية ونبل المقصد وسموّ الهدف وحرارة الايمان وطهارة الوجدان .

فكلّ من يرغب في الأرضيّات يتذلّل ويتزلّف ويراوغ ويصانع ويتوصّل الى الى أهدافه بالطرق الثعلبانيّة المألوفة المعروفة عند أبناء هذه الأرض من سياسيّين واقتصاديّين وغيرهم من رجال دنيا ودين .

أمّا رجل العقيدة الراسخة ، أمّا رجل الايمان بالله ، أمّا رجل الايمان بالحقّ الخالد والعدالة السرمديّة والقيم الروحيّة المقدّسة ، فهذا الرجل الجبّار لا ولن يلتوي ، ولا ينحني ، ولا يراوغ ، بل يصمد في وجه أعدائه الى أن ينصره الله وتسطع حقيقته الباهرة أمام الملاء .

 

الدكتور داهش والداهشيَّة في الصَّحافة  Back to