info@daheshism.com
في الفكر الداهشيّ

 

   السببية الروحية في مجرى الأحداث العامة (5)

 في ضوء المفاهيم الداهشية: اليونان

                                                      بقلم الدكتور غازي براكس

لا بد من الإلماع مجددًا إلى أن النظرة الداهشية إلى سببية الأحداث العامة (وكذلك الأحداث الخاصة) تتخطَّى نظرة معظم المؤرخين وعلماء الإجتماع والمحللين السياسيين التي تجعل القوى الاقتصادية والعسكرية والثقافية وغيرها المؤثرات الوحيدة في تطور المجتمعات البشرية. فهذا التعليلُ، على صحته الظاهرية، يفترض أن الإنسان هو السيدُ المُطلق لمصيره، وأن كيانه الحياتي محصورٌ بوجوده الحاضر، فلا وجود له قبله، وليس من نظام إلهيّ مبني على العدالة والاستحقاق الروحيين يسود الكون كله. فالداهشية تنفي الصدفة وتقولُ بأن ما يحدِّد مصير كل مجتمع هو خلقية أفراده ومستوى مداركهم وصلاح أو طلاح أعمالهم، لا في جيل واحد بل في عدة أجيال، وخصوصًا تقيّدهم بالإرشادات والتعاليم التي تنفحهم بها الهدايةُ الروحية التي ظهرت بينهم. فكيف نُعلل تطور المجتمعات الإغريقية في ضوء المفاهيم الداهشية؟

عصور الاستبداد والغوغاء

 لن أبحث في أصول الأغارقة، فالتارليخُ فيها يختلطُ بالأسطورة. لكن من المفيد أن أشير إلى أن العالم الإلهي الأولمبي مثلما تجلّى في ملحمتي هوميروس، "الإلياذة" و"الأوذيسة"، يكاد يكون على غرار المجتمع الإغريقي. فمن القرن العاشر، عصر هوميروس، إلى القرن السادس (ق.م.) كان الأغارقة قبائلُ مستقرة في أماكن مختلفة من اليونان، كل منها تسودها العشيرة الأقوى ويرئسها زعيمها. وكانت الزعامة وراثية. وكل عشيرة تدعي الانتساب إلى شخص أسطوري ينتمي إلى بعض الآلهة. وكانوا يؤمنون بأن الآلهة يخالطون البشر ويتدخلون في شؤونهم مباشرة ويتحيزُ كل منهم لفريق أو شخص معين. في هذا الإطار وقعت، في القرن الثاني عشر (ق.م.) حربُ طروادة التي أتحدت فيها جيوشُ المدن اليونانية تحت إمرة أغاممنون لاستعادة هيلانة، زوجة الملك مينلاوس Menelaus، التي خطفها باريس Paris، ابنُ بريام Priam ملك طروادة، من عُقرِ دارها. لم يكن في تلك الحقبة من وجودٍ لدينٍ عقائدي ذي نظام خُلقي ملزم وإجلالٍ حقيقي للألوهة. فممارسة الدين تختصر بطقوسٍ واحتفالات تخاطب الحواس وترمز إلى الظاهرات الطبيعية والعناصر الأولى وعلاقة الآلهة والأرض والإنسان، بها. ولم يكن المجتمعُ الإلهي الأولمبي نفسُه يدعو إلى الفضيلة والإخاء والمحبة والرحمة. فلا بأس من أن يسقط ألوفٌ من القتلى وتقوض دولة من أجل استعادة امرأة، ذلك بأن الثأر للشرف كان هو القاعدة. وعلى ظهور هزيود Hesiod، في القرن التاسع (ق.م)، الذي نادى في ملحمته "الأعمال والأيام" بعدالة الآلهة وكمالهم، فإن صوته لم ينفذ إلى ضمائر

لم يكن في تلك الحقبة من وجود لدين عقائدي ذي نظام خلقي ملزم وإجلال حقيقي للألوهة. فممارسة الدين تُختَصر بطقوسٍ واحتفالاتٍ تخاطب الحواس وترمز إلى الظاهرات الطبيعية والعناصر الأولى وعلاقة الآلهة والأرض والإنسان بها

الأغارقة ولا غير شيئًا من عاداتهم وخلفيتهم. ولذلك انتشر الاقتتال بينهم، وتكاثر المستبدون كما المظالم. وكان القدر الذي لا يرد جزءًا من ثقافتهم. فقوَّته الغامضة كانت تسيطر حتى على الآلهة. لكن الأقدار تبدو أحيانًا غير جامدة، فمجاربها تتغير بتغير الأعمال. مثاله إذا تزوج زوس ثيتيس، فابُنه سيطيح به عن عرشه. فالإتيان بالعمل حر، لكن نتيجته محتومة. والآلهة يُرشدون البشر بإلهامهم لتفادي الأعمال التي تؤدي بهم إلى المهالك أو المصائب، لكنهم لا يتدخلون في ما تؤدي إليه تلك الأعمال إذا اختارها البشر. لكن قلما كانت العقلانية تُداخل أعمال العامة وسلوكهم.

وفي أواخر القرن السابع وخلال القرن السادس (ق.م.) ظهر حكام في اليونان أدخلوا بعض الإصلاحات العملية السياسية والاقتصادية، فسموا بـ"الحكماء السبعة"؛ وكان أبرزهم سلولونSolon  (639؟-559؟ ق.م) الذي خفف أعباء البؤساء، وأعاد الأتزان إلى أثينا بمنحها دستورًا أكثر ديمقراطية. لكن "الحكماء السبعة" جميعًا وجدوا مقاومةً من فئات مختلفة. وقد ظهرت قوةُ العقل المستنير مقابل الإيمان بالقدر المحتوم، أول مرة، في خطبة وجهها سولون لمواطنيه قال فيها: "إن مدينتنا لن تهدم بقوة قدرِ زوس... بل إن المواطنين أنفسهم سيهدمونها بجنونهم". وقال أيضًا "إذا كنتم تعانون الشر من جراء الفساد الذي قمتم به أنتم، فلا تلوموا الآلهة، لأنكم أنتم بأنفسكم جعلتم ظالميكم كبارًا" (ص 273). بهذه الكلمات أنار سولون أول مصباحٍ من مصابيح العقلانية في أثينا. لكن يبدو أن بذوره لم تلق أرضًا خصبة. وما قاله تحقَّق.

   وبعده بحوالى ثلاثين سنة أسس فيثاغورس جمعية دينية وعلمية انضم إليها أتباعٌ من العلماء والفلاسفة ومئات من طلاب المعرفة رجالاً ونساءً، كثيرون منهم كانوا يعتبرونه أبولو مُجسدًا. وكان أول من منح النساء، قبل أفلاطون، حقوقًا وفُرصًا متكافئة. كان هدفُ جمعيته إصلاح المجتمع إصلاحًا خلقيًا. وكان لها نقاطُ التقاء كثيرة مع "الأورفية" Orphism (نسبةً إلى أورفيوس الاسطوري)، إذ إن هدف الجمعيتين كان تنقيه النفس من أجل تمكينها من التحرّر من "عجلة الولادة". ويمكن إيجاز تعاليم جمعية فيثاغورس في ثلاث نقاط: أولاً، التقمص حقيقة؛ لكن يستحيل أن يتحرَّر نهائيًا من الجسد إلا النفوس التي تبلغ درجةً عالية من النقاء. ثانيًا، الجسد سجن للنفس، وواجب الفلسفة أن تقضي إلى التأمل في معنى الموت وطرق التحرُّر من الجسد. ثالثاً، الحياة النقية تقوم على إطاعة النواهي التي نتجت عنها المحرمات الأصلية، وعلى الإنسان أن يسأل نفسه كل مساء: بماذا سقط؟ ما الخير الذي فعله؟ ما الذي لم يفعله وكان يجب أن يفعله؟

لكن كيف عومل فيثاغورس – الذي قال عنه المؤرخ البريطاني، ديورانت Durant، "إنه مؤسس العلم والفلسفة مثلما عرفناهما في أوروبا" – من قبل شعب مدينته، كروتونا Crotona؟ لقد أحرقوا المنزل الذي كان أتباعه يجتمعون فيه، وقتلوا كثيرين منهم، والبقية طردوهم من المدينة. أما فيثاغورس فقد تضاربت الرواياتُ في مصيره. فمنهم من قال إنه قُتِل بأيدي الغوغاء، ومنهم من قال إنه غادر المدينة إلى مكان آخر حيثُ اعتزل ثم صام 40 يومًا مات على أثرها. وهكذا أضاءَ فيثاغورس المصباح الأول للهداية الروحية في اليونان، لكن الغوغاء أطفأته! فما الذي جعل الأغارقة عُصاةً للإصلاحِ الخُلقي؟

   تنهضُ عدة أسباب؛ أهمها أن الدين اليوناني السائد منذ حرب طروادة (القرن الثاني عشر ق. م.) لم يكن عاملاً ايجابيًا ذا تأثير حسن في سلوك الناس وخلقيتهم. فقد كان أشبه بنظام "سحري"، لأن ممارسة الطقوس ممارسة صحيحة تبعًا للتقاليد كانت أهم من السلوك والخلقيات؛ فخلاصُ الإنسان كان بالطقس الصحيح، لا بحياته النقية. زِدْ إلى ذلك أن الآلهة، في المفهوم الشعبي، لم يكونوا كاملين في نزاهتهم واستقامتهم وعدالتهم وعفتهم ولُطفهم، ولا يُمكنُ أن يتخذوا مِثالاً أعلى في المحبة والرحمة. ولذلك لم يكن من رادعٍ روحي واضح للأغارقة ينهاهم عن المحرمات ويضعُ لهم حدودًا. فالمجتمع الإغريقي كان أشبه بالشاب الغرير، ينفعل حتى البكاء ويعطف على أهل بيته من جهة، ومن جهة أخرى يأخذ بالثأر، ويسطو على المراكب بالقرصنة، وإذا اجتاح بلدةً، قتل جميع رجالها أو باعهم عبيدًا، وسبى نساءها وأطفالها أو استعبدهم. والكذبُ والحنثُ بالوعد لدى أبطالهم عند مواجهة أعدائهم كانا يُمدحان. يقولُ وِلَ ديورانت: "سر ذلك أن مقياس الآخيين Achaeans في الحُكمِ على الأمور يختلف عن حُكمنا اختلاف فضائل الحرب عن فضائل السلام... فالرجل الفاضلُ ليس اللطيف الصبور، الصادق المعتدل، المجتهد الشريف؛ إنه من يقاتل قتالاً شجاعًا ممدوحًا. أما الرجل الرديء فليس من يُسرِفُ في شُربِ المسكرات، ويكذبُ، ويقتل، ويخون، بل من يكونُ جبانًا، أحمقَ وضعيفًا". ولعل لُحمةَ الأسرة هي الميزةُ الإيجابية الوحيدة التي اكتسبها الإاغريقُ من دينهم3 (ص 50 و 200 – 202).

   وقد مرت قرونٌ على مدن اليونان من غير أن تعرف قوانين تضبط أوضاعها السياسية والاقتصادية. فالمساواة أمام القانون، والأسسُ الخلقية في التعامل، والديمقراطية لم تكن معروفة، والثرواتُ والممتلكاتُ كانت محصورة بين أيدي قليلين، بينما الأكثرية كانت في عوزَ. و"الحكماء السبعة" – على سنِّهم بعض الشرائع العملية للمواطنين – لم يكونوا حكماء فاضلين حقًا، ولا استطاعوا إنشاءَ مفهومٍ مجرد للدولة. فالدولةُ في إسبرطة أو أثينا كانت في الوجودِ الحي لأبنائها ومظاهرها وهياكلها ومذابحها وحياتها الاجتماعية وتقاليدها. وإن يظهنر في مدينة ما حاكم يحاول أن يكون عادلاً، فما تلبث الارستقراطية أو الغوغاء أن تعترض أعماله، أو يتكاثر حوله المتملقون والمتزلفون حتى يدفعنم الحسدُ إلى الطعن بفضله. وزاد الطين بلا أن القادة والحكام، بصورة عامة، كانوا يلجأون إلى "وسطاء الوحي" المزيفين من الكاهنات أو الكهنة ORACLES لاتخاذ قراراتهم، قبل خوض حرب أو اتخاذ موقف حاسم في إدارة الشؤون العامة، الأمر الذي شل الأحكام العقلانية.

لكن بالرغم من ضعف الأغارقة الخلقي وتنافرهم داخليًا حتى في مدنهم نفسها، فإن الحماسة وحَّدت كثيرين منهم ضد أعدائهم الخارجيين. فقد استطاع جيشُ اليونان الصغير أن ينتصر على جيش الفرس الهائل الضخامة، أول مرة، في معركة ماراثون (490 ق.م.) ، وثاني مرة في معركة سالاميس (480 ق.م.). وبعدهما فُتحت جميعُ المرافئ في البحر المتوسط للتجارة اليونانية. فهل كان دهاء اليونان ووحدةُ صفوفهم الآنية كافيين لانتصار جيشهم الصغير على جبروت جيش داريوس ثم أحشورش الأول الذي كان قد أخضع مصر وبلاد الكلدانيين وثراس Thrace ومقدونيا وثيسالي Therssaly واجتاح اليونان ودمر أثينا، وأمعن تشويهًا بآلهتها؟ هل كان طبيعيًا أن يقتل من القوة اليونانية، وفق المؤرخين، 159 جنديًا فقط مقابل 260,000 جندي من الفرس؟ (ص 234 – 242) لا بد من أن يكون لذينك الانتصارين العجبيين أسبابٌ روحية.

العصر الذهبي: بريكليس وسقراط

يقول الفيلسوفُ الألماني هيغل: "لم يحدث قط في التاريخ أن تجلى تفوق القوة الروحية على الضخامة المادية – وهي ضخامة لا يستهان بها – مثلما تجلى في هذه الحرب ]اليونانية الفارسية[  التي أصبحت لما استتبعت من نمو في المدن المشاركة فيها أسطع حقبة في تاريخ اليونان (ص 258).

   إن القوة الروحية التي أشار إليها هيغل منبعها السيالات الروحية (أي القوى الإداركية التروعية الإرادية) التي ستبدأ تباشيرها بالإطلاع بتولي بريكليس Pericles الحكم (463 – 430 ق.م.). فأثينا عرفت فيه أعظم حاكم في تاريخها، وبلغت في عهده أوج عظمتها ومجدها وحضارتها، إذ اجتمع فيها إلى جانب سقراط الحكيم العظيم، أبي الفلسفة الخلقية، أعظم أدباء اليونان، كإسخيلوس Aeschylus وسوفوكليس Sophocles ويورييديس Euripide وغيرهم وأكبر فنانيها كفيدياس Phidias و زكيس Zeuxis وكثيرون آخرون من العباقرة. فالرحمة الإلهية صانت اليونان إلى أجل معين من أجل هؤلاء لأنهم سيكونون القاعدة الروحية (الخلقية والفكرية والأدبية والفنية) التي ستُبنى عليها حضارةُ أوروبا فيما بعد، والتي ستمد التعاليم الموحاة المقبلة على العالم، من خلال المسيحية والإسلام، بمبادئ عقلانية وجمالية.

   أحاط بريكليس بثقافة عصره من جوانبها جميعًا، الفنية والأدبية والفلسفية والاقتصادية والعسكرية حتى رآه المؤرخون ذروة ما أنجبته اليونان من حكام. وكان بليغًا في خطاباته، رزينًا، رابط الجأش، عظيم التأثير في العقول المستنيرة. ولم يكن نفوذه مستمدًا من ذكائه فحسب، بل من استقامته ونزاهته أيضًا. وقد أدخل الديمقراطية على أثينا، وعمل على ازدهار العُمران والحياة الاقتصادية وتعميم الرخاء؛ ومع ذلك لم يزد شيئًا على ما ورثه عن أبيه طوال حياته. ومن أهم منجزاته أنه صان حرية الكلام حتى على نقد شخصه وزوجته، وحمى الفنانين والأدباء والفلاسفة، وسعى إلى رفع مستوى الشعب الثقافي بدفعه مكافآتٍ لكل مواطن يحضرُ المسرحيات والألعاب في الأعياد العامة. (ص 245 – 254).

من الامتحان إلى المحنة

حكم بريكليس أثينا حكمًا عادلاً فاضلاً أحبَّه الشعب عليه وحمده. لكنه بعد 13 عامًا من بداية حكمه (حوالى 450 ق.م.)، تعرف إلى امرأة جميلة من أصل ميليزي Milesian تُدعى أسبازيا Aspasia. فاجتذبه جمالها مثلما اجتذبته حركتها النسائية التحررية التي أنشأتها ودعت فيها إلى حرية الزواج خارج نطاق الشرعية، وإلى حقوق المرأة في حرية التحرك والسلوك والثقافة والاختلاط بالرجال. وقد فتحت مدرسة للخطابة والفلسفة كان يحضرُ دروسها كثيراتٌ من فتيات الأسر المعروفة، بل إن كثيرين من الأزواج كانوا يصطحبون زوجاتهم للاستماع إليها. وقد حضر دروسها رجالٌ كثيرون بينهم بريكليس وسُقراط نفسُه الذي كان ما يزالُ في أوائل العشرينيات من عمره. ويقولُ المؤرخون إن بريكليس تولع بها حتى تزوجها زواجًا غير شرعي، لأن القانونن اليوناني الذي سنَّه هو نفسُه عام 451 (ق.م.) يمنعُ الرجل الأثيني من أن يقترن بامرأةٍ غير أثينية اقترانًا شرعيًا. بل إنه أوصى بثروته للولد الذي ولدته له، بالرغم من وجود أولادٍ شرعيين لديه. وقد نشأت بينه وبين زوجته الشرعية خلافاتٌ حادة أدت إلى طلاقها. وقد جعلت أسبازيا من منزله، وهو منزلُ الحاكم، صالونًا يتلاقى فيه الفنانون والأدباءُ والفلاسفة ورجالُ الدولة، حتى قيل فيها إنها أصبحت ملكة أثينا غير المتوجه. ذلك كان كافيًا لتنطلق ضد بيركليس ألسنةُ السوء من المحافظين ومدعي التقوى الدينية، وليتهموا أسبازيا باحتقار آلهةِ اليونان. فأحيلت على محكمة اختير لها 1500 محلف Jurors. واتخذ بيركليس موقف محامي الدفاع، فدافع عنها ببلاغة ودموع حتى أُبطلت الدعوى. لكن منذ هذه اللحظة (432 ق.م.) بدأ بيركليس يفقد سطوته على الشعب الأثيني (ص252 – 254).

   هل استطاع بريكليس تغيير خلقية الأغارقة؟ بالرغم من ازدهار الحياة اليونانية، وخصوصًا في أثينا، في المجالات الاقتصادية والفكرية والفنية طوال 60 سنة (بدءًا من الحروب اليونانية – الفارسية عام 492 ق.م. حتى آخر حكم بريكليس)، فإن خلقية الأغارقة لم تستطع أن تنهد إلى المثل العليا المتطلعة إلى اللانهائي والمتفلتة من العنصر الطبيعي، العنصر الكامن في المحسوس من الجمال والتمثل الإلهي. ذلك فضلاً عن أن تلك الخلقية تمحورت حول الذاتية الضيقة التي شكلت بذرة الانهيار اليوناني. وقد تجلَّى الإنحلالُ السياسي أولاً، في التنافس على السيادة بين المدن اليونانية، وكذلك في تنازع الفضائل في المدن نفسها. فخلقية الذاتية الضيقة جعلت بلاد الإغريق غير جديرة بتكوين دولة واحدة من مدنها المتنافسة. أما تجربة حرب طروادة التي اجتمعت فيها مدن اليونان فكانت عابرة. يؤكد ذلك أن محاربة الفرس الضارية للأغارقة لم تستطع أن توحِّد جميع المدن اليونانية؛ فالأواصر بينها كانت واهنة، لأن التحاسد كان ينهشها، والتنافس من أجل السيادة كان يعكّر صفوها (ص 261 – 266).

أما أثينا تنعم بالحرية والديمقراطية في عهد بريكليس، لكنها كانت تطمع بالسيطرة على المدن والشعوب الأخرى. فثراؤها الفاحش بَلا المدن الأخرى بالحسد، ونزعتها الإمبريالية للسيطرة على التجارة دفعت سائر المدن لبغض شعبها. وحب بريكليس لأثينا وتفوقها حفزه إلى المغامرة من أجلها. فكان يعمل للسلام مع المدن الأخرى. وفي الوقت نفسه يتأهبُ للحرب التي رأى أنها لا بد واقعة. عرض على إسبرطة الحوار، لكنها رفضته مع أكثر حلفائها. ثم تعاقبت الأحداثُ بين أثينا وسائر المدن اليونانية التي حالفت إسبرطة، إلا واحدة هي أرجوس Argos. فطلبت إسبرطة من أثينا تخليها عن سيادتها الإمبريالية ومنحها جميع المدن التي تحت سيطرتها الاستقلال. لكن بريكليس أقنع الأثينيين برفض طلب إسبرطة التي ما لبثت أن أعلنت الحرب. فما كان من بريكليس إلا أن منع جنوده من التوجه إلى القتال، وأمرهم أن يبقوا مع الشعب كله داخل أسوار أثينا. ويبدو أن محنة أثينا أطلقها سبب روحي اتخذى مجرى طبيعيًا، إذ سرعان ما تفشى وباءٌ استمر زهاءَ ثلاث سنوات، بدءًا من عام 430 ق. م فقضى على ربع الجنود الأثينيين وكذلك على أعدادٍ كثيرة من السكان. فأتَّهم الشعب بريكليس الذي أحبّه كثيراً بأنه سببُ الحرب والوباء، ووضع المسؤولية على عاتقه، فأقاله المشرِّعون من الحكم. وبعد سنة واحدة (429ق. م.) قضت شقيقته وأبناه الشرعيان بالوباء. وعندما رأى الأثينيون أن لا حاكم لديهم بإمكانه أن يحل محل بريكليس، استصرخوه أن يعود إلى اللحكم لائمين أنفسهم. لكنه مات بالوباء نفسه بعد عدة أشهر؛ وبموته مهَّد الطريق لانحدار حضارة أثينا ومدُنِ اليونان جميعها، لأن خلفاءه من الحكام كانوا مُنحرفين فاسدين، لا همَّ لهم إلا جمع الثروات الفاحشة. ولعل أبرزهم وأضرهم كان ألسيبيادس Alcibiades. فقد نشأ في أسرة ثرية بارزة، إذ كان والده قائدًا لجيش أثينا، والقيم عليه بيركليس، ومعلمه في المرحلة الأولى سقراط العظيم. لكنه كان شابًا محبًا للإسراف، مزدهيًا بنفسه، متلونًا، سيالاته الروحية المتدنية المستوى تغلبت على ثقافته. ولما بلغ الثلاثين من عمره تخلّى عن النزاهة التي كان سقراط ينصحه بالتزامها، ليخوض غمار السياسة المتقلبة المتناقضة المواقف. وكان لهذا التلون اثرٌ سلبي في تسعير الحرب بين أثينا وإسبرطة التي لم ترتدع حتى عن الاستعانة بفارس لضرب أثينا والمدن التابعة لها. لكن ألسيبيادس جوزي على فساده. فإسبرطة، التي صادقها ثم انقلب عليها والتجأ إلى ملك فارس، استطاعت أن تقنع الملك بقلته. وبعد ذلك خربت الديمقراطية في أثينا، وتسلمت فارس السلطة على المدن اليونانية في آسيا الصغرى (ص 266 – 267).

النذيرُ الهادي والسقوط

عام 424 (ق.م) وقعت معركة ديليوم Deluim بين أثينا من جهة وإسبرطة وطيبة من جهة أخرى. كان سقراط في الخامسة والأربعين من عمره، وقد بدأ ينثرُ أفكاره الفلسفية الخلقية، لكنه لم يكن بعد قد نشط في دعوته الإنسانية، ولا انتظمت تعاليمه. وبصفته يونانيًا بين الثامنة عشرة والستين من العمر، كان مُلزمًا بالاشتراك في القتال. كان سقراط في فرقة حملة السلاح الثقيل. وقد قتل من رفاقه أكثر من ألف جندي، أي بنسبة 15% منهم؛ بكلمة أخرى، كانت الموقعة كارثة على أثينا. لكن سقراط فضل أن يفرَّ من المعركة عائدًا إلى أثينا. تُرى، هل كان يخافُ الموت؟ إن رفاقه الذين نجوا يروون أنه كان شجاعًا. ونهايته المعروفة تظهر أنه كان جريئًا في الموت كما في الحياة! بل إنها دفعت الباحثين فيها، وخصوصًا جماعة الأفلاطونية الحديثة، إلى جعله سابقًا للمسيح. إذًا ما الذي جعله يفر من القتال؟ لا شك بأن قوة روحية خفية دفعته إلى أن ينجو بنفسه، قوةً كان يسمعُ صوتها في نفسه، لأن حياته ستكون ذات تأثيرٍ إيجابي لكثيرين، ولأنه يحمل دعوةً روحية، خُلقية فلسفية عليه أن يتمِّمها. فلو قُتل سقراط في تلك المعركة لما كانت حواراته ولما كان أفلاطون وأرسطو مثلما نعرفهما، ولما كانت الحضارةُ الغربية بأعمق وأجمل ما فيها من فكر وخلقيات. إذًا لا صُدفة في مجرى الحياة. وأحداث البشر العامة والخاصة ذاتُ أسباب روحية مبنية على الاستحقاق الروحي وعلى نظامٍ إلهي مهيمن على الأرض ليس فيه ظلم مقدار ذرة، بل رحمةً وهدايةٌ يعقبهما ثوابٌ أو عقاب.

يقول هيجل: "سقراط مشهور بأنه معلم النظام الخلقي، لكن بالأحرى أن نسميه مبتكر النظام الخلقي. فالأغارقة كان لهم نظام خلقي مبني على الأعراق؛ لكن سقراط اضطلع بتعليمهم ماهية الفضائل والواجبات الخلقية... فالإنسانُ الفاضل ليس من يريدُ ويعمل ما هو حق، ليس الإنسان النقي السريرة فحسب، بل هو من يمتلكُ وعي ما يفعله" (ص269). لم يكن سقراط نبيًا، لكن بعضًا من سيالات الأنبياء الروحية كان يحييه، وفقًا للتعاليم الداهشية. ولذا كان واعيًا دعوته،, مؤمنًا بها؛ وقد قامت رسالته على محاورته الناس ليوقظ فيهم ما هجع من الخير والحق وليعلمهم التمييز بين الصواب والخطأ. وكان منطلقه وشعاره في الحوار: "أعرف ذاتك". ذلك بأن معرفة النفس بابٌ لكل معرفة إنسانية؛ وهي طريق لتعرف كُنه النفس ومصدرها ومصيرها ولإيضاح قواها واستعداداتها ودوافعها ونزعاتها، وجلاء مناهجها السلوكية، وما يجب أن تمتنع عنه، مثلما هي سبيل إلى فهم القوانين المنطقية للتفكير السليم. واعتبر سقراط أن المعرفة الصحيحة التي هي وليدةُ الحق لا تقوم إلا مقترنةً بالفضيلة التي هي وليدةُ الخير؛ ولذا فالإنسان السليم لا ييبنيه إلا اتحاد الفكر الحق فيه بالعمل الخير. وقد آمن سقراط بوجود قوة إلهية مدبرة ترعى البشر، وبنظام ثابت يهيمنُ على الكون، وبوجود حقيقة ثابتة وعالم روحي، وبخلود النفس والثواب والعقاب والتقمص.

   وكان سقراط مثالاً خُلقيًا أعلى لكل من سعى إلى الفضيلة بعده. كان متحمسًا بنفسه، ضابطًا لترعاته، متقشفًا، ولا سيما في سنواته الأخيرة. ومع ذلك لم يكن يدعي الصلاح التام والتباهي، ولا كان يقسو على مواطنيه بالرغم من معرفته سوء أخلاقهم وسلوكهم، لأنه كان مؤمنًا بأن ارتقاء مواطنيه خُلقيًا – وليس ارتقاءه فحسب – هو رسالةٌ ائتمنه الله عليها؛ وهذه الرسالة يجبُ أن يؤديها بوجه لا يعرف العبوس مهما حدث له. لكن تعاليم سقراط السامية مقرونة بخلقيته الصارمة أثارت السيالات الروحية السفلية التي كانت تحتلّ معظم أعضاء مجلس الشعب، فأصدروا حكمهم عليه بالموت عام 399 (ق.م.) بتجريعه سم الشوكران. وهذه الإدانة التي تمت بموافقة 280 عضوًا ضد 220، على الأرجح، كانت، في نظرهم، بسبب "تعديه على شرائع البلاد، وعدم إيمانه بآلهتها، وتبشيره بمعتقد جديد، وإفساده الناشئة". وقد أمضى شهرًا كاملاً في السجن حيث كان يستقبل أصدقاءه، ودبرت خطة لفراره، لكنه رفض ذلك وآثر أن يشرب السم. كذلك سنحت له فرصة في أثناء المحاكمة لتخفيف الحكم عليه شرط أن يتنازل عن رسالته؛ لكنه رفض التراجع معتبرًا نكوصه عارًا. بل إنه خاطب ممثلي أثينا بقوله في أثناء محاكمته: "أتنبأ لكم، أنتم يا من تحكمون عليَّ: عقابٌ وشيكٌ سينزلُ بكم بعد موتي، وسيكونُ أصرمَ جدًا من عقابي" أما الكلمة الأخيرة التي تفوه بها قبل موته فكانت: "إني لا أكنَّ أي حقدٍ خاص على الذين يدينونني والذين يتَّهمونني " فكان موقفه شديد الشبه بموقف السيِّد المسيح بعد أربعة قرون.

والداهشيُّون يستمدّون تعظيمهم لسقراط من تعظيم مؤسس عقيدتهم له. فكثيراً ما حدَّثهم عن فضائله وتفوّق تلميذه أفلاطون. حسبي أن أشير الى ما قاله في أثناء زيارته للأكروبول في 22/2/1971: " وقفتُ بخشوعٍ كأنني في معبد، أنظرُ الى الأعمدة الجبَّارة التي قارعت الأجيال... وكيف لا أخشع والصَّمتُ يهيمن عليَّ! أو ليس سقراط كان يأتي الى هذا المكان الذي أقف فيه الآن؟ سقراط الفيلسوف العظيم، وكذلك أفلاطون الجليل، صاحب  "المدينة الفاضلة "، الذي سبق بتفكيره الصائب أهل زمانه، فخلَّد التاريخ إسمه العظيم!... كذلك كان مؤسس الداهشية يشبه مضطهديه بمضطهدي سقراط، وقد أشار إلى ذلك في رسالةٍ منه إلى الدكتور حسين هيكل باشا.

وقد تحققت نبوءه سقراط بخراب اليونان مثلما تحقَّقت بعدها نبوءه المسيح بخراب أورشليم؛ ونبوءةُ الدكتور داهش بخراب لبنان بدءًا من 1975، تلك النبوءة التي نشرت في جريدة الحياة البيروتية بتاريخ 4/1/1948، ولم يصدِّقها أحد إلا تلاميذه!

وقد بطش الشعبُ الأثيني ببعض متَّهمي سقراط، والآخرون شنقوا أنفسهم أو عزلوا حياتهم.

أما الثورة الفكرية الخلقية التي أطلقها سقراط فقد كان مُعينًّا أن تستفيد منها شعوب أخرى. أولاً، عبر أفلاطون، تلميذ سقراط، بشرحه أفكار معلمة في حواراته. قال برتراند راسل: "على كثرة الفلسفة، قليلون الذين استطاعوا أن يجاروا أفلاطون، ولكن ليس من أحدٍ حاكاه في عُمقه، ولا أحدٌ تخطاه".

ونافلٌ القول إن من تلاميذ أفلاطون أرسطو الذي شق لنفسه نهجًا فلسفيًا خاصًا، لكن أسَّس فلسفته مُدينٌ بها لمعلمه. ومن اندياحات الموجة الأفلاطونية تولدت الأفلاطونية الحديثة التي أسسها أفلوطين (نحو 203 – 270 ب.م.)؛ وقد امتدت تأثيراتها ألف سنةٍ ونيفًا. كذلك امتد تأثيرُ أفلاطون، في سياق التاريخ، إلى كثيرين من المفكرين الكبار؛ منهم أوريجينس، وأوغسطينس، وتوماس مور، وكبلر، وغاليليو، ولايبنتز وغيرهم كثيرون.

ثانيًا: إن أفكار سقراط وأفلاطون انتقلت إلى شعوبٍ كثيرةٍ أخرى بواسطة شاب عبقري التمع فيه شيء من وهج الهداية الروحية. إنه تلميذ أرسطو، الإسكندر الكبير (356 – 323 ق.م.)، الذي تسلَّم الحكم وهو في عمر العشرين، بعد مقتل أبيه فيليب المقدوني على يد أحد ضباطه؛ فتخلَّص الإسكندر سريعًا من مناوئيه داخل مقدونيا، وزحف بجيشه على المدن اليونانية مدفوعًا بإيمانه العظيم برسالته الحضارية، ففرض سلطانه عليها جميعًا إلا إسبرطة’، وألغى الحكم الدكتاتوري في بلاد اليونان، وأمر بأن تعيش كل مدينة وفق قوانينها الخاصة. وما لبث أن قام بفتوحٍ عظيمة في الشرق ناشرًا الحضارة اليونانية الأثينية حيثما حطَّ بالإسكندرية، وفارس، والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ولما كانت فارس أعظم الدول قوة، عهدئذٍ، ولمس الإسكندر أن أشراف الفرس ذووو خلقٍ حسن ملحوظ لم يجتذب نظره في الديمقراطيات اليونانية، قرر مزج الدم اليوناني بالدم الفارسي، فأمر بأن يقام عُرسٌ عظيم في السوس (سنة 324 ق/.م.)، تزوج فيه الإسكندر ابنة داريوس الثالث، ملك الفرس الذي كان قد قتله قائد فارسي من جنوده، بعد فراره من وجه الإسكندر؛ وكذلك تزوج ثمانون من ضباطه، بناءً على رغبته، بنساء فارسيات، ثم اقتدى بهم ألوفٌ من جنوده. وقد وهبَ الإسكندر ضباطه الذين تزوجوا بائناتٍ كبيرة. ودفع الديون عن جميع جنوده الذين حذوا حذوهم. ورغبة أن يقيم الإسكندر دينًا مشتركًا تؤمن به شعوب إمبراطوريته المختلفة المعتقدات، أعلن أنه ينحدر من أبٍ إلهي هو زوس – أمون، أي الله بتسميته اليونانية – الفارسية. فاستمالت هذه الدعوة كثيرين وأغاظت كثيرين؛ فتكاثرت المؤامرات عليه لقتله. وبعد آلامٍ وهمومٍ شديدة، لازمته حمى مرتفعة قضت عليه بعد عشرة أيام وهو في بابل، وعمره ثلاثة وثلاثون سنة. وبموته انطفأت مشاعل الهداية الروحية ثلاثة قرون لتتوهج في يسوع الناصري. عام 146 (ق.م.) أصبحت اليونان ولايةً رومانية. وبعدئذٍ اجتاحها البرابرة ثم شعوب أخرى. والحضارة العظيمة التي شهدتها عهد سقراط وبركليس لم تشهدها من بعد إطلاقًا.

                           (في العدد المقبل: السببية الروحية ونشأة المسيحية)

 

  Back to   في الفكرِ الداهشيّ