صوت داهش
السنة التاسعة، العدد الرابع، ربيع 2004
العبقرية لا تخضعُ في الغالب للمؤثرات الوراثية والثقافية
وإن فريقاً من السيكولوجيين يوكِّدون ما أخذت به الداهشيّة من وجودِ قوَّة نفسية سابقة لتكوُّن الجنين، تبثُّ الحياة فيه وتمنح الفرد طابعه المميَّز. أنَّها قوَّة ديناميَّة كان أفلاطون قد أشار إليها بأسلوبٍ ميثولوجي ليس لها إلاَّ علاقة ضعيفة بالمؤثّرات الوراثيّة التي يتلقَّاها الإنسان وبالتأثيرات البيئية التي يتعرَّض لها فيما بعد. هذه القوَّة الدافعة المُستقلة التابعة للأب أو للأم من غير أن تكون فيهما - هي السيَّال الرئيسي الذي لا حياة بدونه. هذه الحقيقة إذا صعُبَ تأكيدها علميّا في الناس العاديين، يسهل إثباتها في العباقرة الذين لا تفسّر تفوقهم مدارك والديهم أو أنسبائهم الأقربين إذا كانت عادية، ولا تأثيرات مجتمعاتهم التي كثيرًا ما يثورون على أوضاعها وقيمها مُحاولين تغييرها؛ وفي رأس هؤلاء المُتفوقين الأنبياء والهُداة الروحيون والمُصلحون الاجتماعيون وكذلك الذين أبدعوا من الفنون والآداب والعلوم وتأسيس الدول ما يحدث أثراً لا يُمحى في مجرى التاريخ (أنظر د. براكس، ص 5، ومسعود ، ص 68).
لكنَّ كثيرين من المُتفوقين الذين ظهروا في الشرق الأوسط خاصة والبلدان العربية عامَّة، لم يكن مصدر عبقريتهم مُنبتَّاً عن الموثِّرات الوراثيّة والتأثيرات البيئيّة. فالدكتور سالم يعرض لنا سلالة من أطباء آل زهر الدين بعد انتقالهم إلى الأندلس في القرن العاشر للميلاد أخذوا يبرزون في الطبّ متوارثين براعته أباً عن جَدّ، الأمر الذي ساعد في نهضة الطبّ في أوروبا التي كانت ما تزال تتخبَّط في عصور الظلام (ق. إنكليزي، ص 4 ). كما يعرض د. سعد الدين وجوهاً مُشرقة من الفنّ الإسلامي في الهند، مركِّزاً على الإبداع الحضاري الذي قام به اثنان من أباطرة المغول: أَكبر و شاه جهان (ص 56 ).
أما في العصر الحديث، فالدكتورة سميرة ماضي تعرض، تمهيداً لدراسة أكاديميَّة لفكر الشيخ خالد محمد خالد، وجوه بارزة من حركة المُصلحين الدِّينيين والمجدِّدين في الإسلام، كجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، الذين أصرّوا، مُتأثرين ببيئتهم المُتمسِّكة بأصالة التراث، على رَبِطِ السلطة السياسيَّة بالسلطة الدينيَّة، مع بعض التكييف والتحديث؛ كما تعرض وجوهًا بارزة من التيَّار الفكريّ التحرُّري الذی ينقد مفهوم الخلافة، وينادي بفصلِ الدين عن الدولة متأثراً بالحركة التحريريَّة الغربيّة، أمثال علي عبد الرازق، وعبد الله القصيمي (ص ۱۹ ).
من جهةٍ أخرى، يُتابع الأستاذ الأعرجي بحثه في أزمة التطوُّر الحضاريّ في الوطن العربي مؤكِّدا أن قيم البداوة الجاهليّة ما تزال معظمها تسود العرب، الأمر الذي جمَّد ”عقلهم المجتمعي " وساعد في إبعاد الديمقراطية عنهم، وَنقضِ حقوق الإنسان فيهم، وتمزيقهم بين فئة تنكصُ إلى التراث السالف من غير فهمه على حقيقته، وفئة ترتمي في أحضان الآخر (ص ۳۳). كذلك كتب د. حويلي في الأمن الثقافي العربي مظهراً أنَّ مسيرة النهضة لم تكتمل، وأن العرب يوَاجهون اليوم بتحدِّياتٍ خارجية، أهمّها السيطرة الفرانكوفونية والأنكلوساكسونية على الثقافة العربية، بل حتى على اللغة نفسها، وبتحدِّياتٍ داخلية إمَّا من قبل سلطات الحُكم المستبدّة أو الحركات الأصولية المغالية. ويخلص الكاتب إلى أن العلَّة الأساسيّة تكمن في هجر الديمقراطية (ص ۵۰ ).
كما عرض الدكتور عبد الله عاصي الوضع الثقافي التربوي للجاليات العربية في كيبيك - كندا مُلقياً نظرة سريعة على المدارس المسيحية، ثم مركِّزاً على الخطاب الإسلامي والمدارس الإسلاميَّة، ومُظهراً التقاليد الدينيّة في الفئتين (ص 43 ). كذلك عرض الدكتور جورج الحاج ملامح من شخصية الأديبة غادة السَّمان ومراحل من حياتها محاولا البناء عليها لتعليل روايتها بيروت ۷۰ ‘‘ (ق. إنكليزي، ص ۱۰ ). وأتمَّ حسن النصَّار مُراجعتّه لقصّة " موسيقا صوفية " بقلم لطفية الدليمي (ص ۷4).
أخيرا، تضمَّن هذا العدد، كالعادة، قصّة قصيرة رائعة من أدب الدكتور داهش تكشف عن وفاء الكلاب وأفضليتها الخُلقيّة على البشر أحيانا ص ۶۲ )؛ ومقالاً ُمشوّقاً مؤثّراً عن وفاء الكلاب وحزنها على أخطائها وفهمها لأصحابها بقلم الكاتب البارع دوغلاس جونسون (ق. إنكليزي، ص ۲۱ ). *
رئيس التحرير