info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "ناقوسُ الأحْزَان أو مَرَاثي إرمْيَا"

ناقوسُ الأحْزَان

أو

مَرَاثي إرمْيَا

 

              النداء الخفيّ

 

أُحبُّ أَنْ أَعُودَ إلى المجرَّة الأزليَّة

التي تضجُّ بملايين كواكبهَا الأَبديَّة؛

إنَّ هذه الرغبَة الجامحة لازَمَتْني منْذ طفولتي الحَالِمة،

ومَا زَالتْ تُرَافقُني في يَقْظَتي وَرُقَادي،

إنّي أَتُوقُ إلى الذّهابِ إلى بحَارٍ مَجْهولة،

وأنهارٍ لم تسمعْ خريْرها أيَّةُ أُذْنٍ بشَريَّة،

كما إنّي أُصغي إلى نداءٍ خفيّ

يَهيبُ بي أَنْ أخْلَعَ عنّي رِدَاءَ المَادّة

كي أسْتَطيعَ وُلوُجَ هذا العَالم السّحْريّ البهيّ.

 

                                        داهش

 

 

أنا ثائِرٌ وثورتي جَبَّارة

ثائِرٌ على الوجود والموجود

ثائِرٌ على البشَريَّة بأسْرها

بقَضِّها وقضيضِهَا

فالشرُّ تأصَّلَ فيها

واسْتَشْرى بخَوافيهَا

فليتَ اللهَ يعصفُ بهَا

ويُدَمِّر بجَبْروتٍ كلَّ ما فيهَا

                                داهش

 

 

 

 

تعريفْ

 

إنَّ أَشْهَر المَراثي المَعْروفة هي مَراثي النبيّ إِرميَا(650-585 قبل المَسيْح)؛هذا النبيُّ الذي تَنَبَّأ بدَمَار القدسْ، وَرَثى بكَلمَاتٍ تَفِيضُ بالحزن الشَّديد والأسى البالغ مَا أَصَابَ قومَه اليَهُود من السَّبْي وَالتَّشْريد على يَدِ الفَاتِح الغاصِبْ.

لقَد رَثى النَّبيّْ إِرميَا مَدينَة القدْس رثَاءً فاجِعاً ومُوجِعاً لِلغَايَة.فقَارئ مَراثيه المدَوَّنَة بالكِتَابِ المقَدّسْ يَشْعُرُ بحُزنٍ عَظيمٍ ومَرَارَةٍ فادِحَة،لِعِظَم النَّكْبَة التي عَصَفَتْ بالشّعْبِ اليَهُوديّ فشَرّدَتْهُ تَشْريداً هَائِلاً.

إِنَّ مَرَاثي إرْميَا لا يَعْلوُ عَليهَا أَيَّةُ مَراثٍ سِوَاهَا،لما تَحْويه مِنْ عِبَارَاتٍ حَزينَة،وأَسَفٍ بَلَغَ غَايَتَهُ من المَرَارَة الحَنْظَليَّة. وَقَد وَصَفَها كِبَارُ الأُدَبَاء،وأَلمَعَ الكُتَّابُ، إِلى أَنَّها بَلَغَت القِّمَّة بوَصْفِهَا المُحْزِنِ المُؤسيْ.

أَمَّا أنَا فَلَمْ أجِدْ مَنْ نَسَجَ عَلى مِثَالِهَا،فصَاغَهَا بأسْلُوبِهِ، وأَصْدَرَهَا في كِتَابْ. فَسِفْر(نَشيد الأَنْشَاد)لسُليْمَان الحَكيمْ قَد نَسَجَ عَلى منْوَالِهِ الشَّاعِرُ شكسْبير، وَسِوَاه من الكُتَّابِ الكِبَار، بَعْدَمَا اسْتَهْوَاهُم أُسْلُوبُه الرّائِع البَالِغ الرّقَّة. وَمِنْ بَيْن الأُدَبَاء العَربْ تَأَثْر توفِيْقُ الحَكيمْ بهَذَا النَّشِيد المُبْدع فكَتَبهُ بأسْلُوبهِ، وأصْدَرَهُ في كتاب. وَقَد صُغْتُهُ أنا، أيْضاً، بدَوْريْ، وَطَبعْتُه في كِتَاب، وَذَلِك في عَام 1943.

وَهَا إنّي أَصُوْغُ، الآنْ، مَرَاثي إرْميَا بأسْلُوبي، بَعْدَمَا حَاوَلتُ جَاهِداً أَنْ أَجِدَ أَدِيباً مَا قد سَبَقني في هَذَا المضْمَار.وَلَكنّي فَشِلْتُ، رغماً عَن بَحْثي الشَّاقْ لَعَلّي أَفُوزُ ببُغْيَتي.

إِنَّ قَارئ هَذهِ المَرَاثي الحَزينَة سيتأكّد لَهُ أَنَّ إرْميَا هُو أستَاذُ كُلَّ مَنْ رَثى وَدَوَّنَ أحْزَانَهُ وَمآسيه لِيَقْرأهَا الخَلَفُ عَن السَّلَفْ. والأحْزَانُ والمنَغِّصَاتُ وُجِدَتْ منْذُ وُجِدَ الإنسَان. وَلوْلاهُ ما اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَجُوبَ هَذَا العَالَمَ، لِتُضْفي عَليه بُرْدَة الأَسى التَّعِيسَة.

وَبَعْد، فهَاكم مَراثي النَّبيّ إرْميَا المَشْحُونة بالأَسى،العَارِمَة بالحُزْن، الفيَّاضَة بالشَجَن.

وَقاكُمُ اللهُ وَوَقاني من عَادِياتِ الزَّمَن الغَادِر.إنَّه السَّميعُ المُجِيبْ.

 

                                                الدّكتور داهشْ

                                                الولاياتُ المتحدة الأميركيَّة

                                                السَّاعة السَّابعَة من صَبَاح 24/12/1982

 

 

الفَصْل الأَوَّلْ

على أَنقاض أُورْشَليمْ

 

النَّبيّ إِرْميَا جَالِسَاً على أَنْقَاضِ أُورْشَليم المُهَدَّمَة رَاثِياً نَادِباً

 

كيفَ مَكَثَتْ بمُفرَدهَا

المدينة ذاتُ الرّبوَات؟!

كيفَ أصْبَحَتْ كثَاكِل،

الجبَّارَة في صَوْلَتهَا بينَ أُمَمِ الأَرْضِ وَقَبَائِلهَا؟!

العَظِيمَةُ بينَ المُدُن

أصْبَحَتْ تَئنُّ تحتَ النَّيْر!

تُهرقُ عَبرَاتِهَا،وتُصعِّدُ زَفَراتِها،

منْذُ الفَجْر حتى ظَلام الليل!

دموعُهَا قدْ شقَّقتْ خدّيهَا!

ليْس لهَا منْ (تَعْزِيَة)،

ولا يُوجَد محبٌّ وَاحِدٌ يمْسَحُ دُموعَهَا المِهْرَاقَة.

جميع أصْحَابَها بَطَشُوا بهَا،وانقَلَبُوا عَليْهَا أَعْدَاءَ ألدَّاء!

قد سُبِيَتْ(المَدينَة المقَدَّّسة)!

أَذلَّها أَعْدَاؤهَا الأَجْلافْ،

وَوضَعُوهَا تَحْتَ نيرْ العُبوديَّة!

هيَ تَقْطنُ بَيْنَ أُمَم الأَرْض ولكنَّ رَاحَتَها مَفْقُودَة.

مُطَارِدُوهَا أدْرَكوهَا،وأَوْقَعوهَا في المَهَالِك.

طُرقُ صهيُون تَنوحُ بمَرارَة،وتَتَفجَّع بانْسِحَاق

لانفِضَاض المُهَروليْن إلى أَعيادِهَا المقَدَّسَة.

جَميع مَعَابرهَا قَد دُكّتْ وتَقَوّضَتْ!

كَهَنتهُا يَسْكبُون الدَّمَ،

عِوَضاً عَن الدَّمْع،

ويَتَمرَّغُون على الرمَاد

بذُلٍّ وانكِسارٍ شَديْدَين.

قَد أَصْبحَ أَعدَاؤهَا أَسْيَادهَا

لأَنَّ إرَادَةَ الرَّبِّ قَد قضَتْ بإذْلالهَا

من أَجْل كثْرةِ معَاصيهَا.

أُخِذَ أَوْلادُهَا إلى السّبْي،

فأَرْهقَهُم العَدُّو البَطَّاشْ.

لقَد فَقَدتْ ابنَةُ صهيُون كُلَّ بَهَائِها.

لقَد زَالَ منهَا جمَالهُا،وامّحى عنفُوانُهَا.

لقَد انْدَثرَ رُواؤهَا.

أمّا رؤسَاؤهَا فقَد أَصْبَحوا كأَيائِل هَزيلةٍ

لاَ تَجدُ مرعىً تلتجئ إليْه!

هم يَسيْرونَ،دون وعْي،

أمَامَ قُوّة مُطَارديْهمْ.

الذكرَياتُ قَد عَاوَدَتْ أُورْشَليمْ،

في أَيَّامِ مِحْنَتهَا وذلِّهَا،

إِذ تَذكَّرَتْ أَيَّامَ مَجْدِهَا وَعزّهَا،

وعَاوَدَتْها خيَالاتُ ماضِيهَا،

ومَا كَانَتْ تغُوصُ فيْه منْ مُشْتهَيَات.

لقَد سَقَطَ شَعْبُهَا بيَدِ عَدوٍّ عَنيْد،

ولَيْسَ من مُسَاعِدٍ أَورَاثٍ!

الكلُّ ضَحِكوا على هَلاكِهَا،

وسُرُّوا من آلامهَا!

قد أَخطأَتْ أُورْشَليمُ خطيْئةً شَنيعَة،

لهذا أَصْبَحَتْ رَجسَة.

جميعُ مَن كَرَّمَها عَادَ فاحتَقَرهَا؛

لأَنَّ عَورَتهَا أَصْبَحَتْ مكشُوفَة!

لهَذا تتنهَّد بفجيعَة،

وَهِيَ تتَراجَعُ إلى الوراء.

نجاسَتهَا في أَذْيالهَا.

لم تعتَبِرْ من مَاضِيهَا.

لقَد انحطَّتْ انحطَاطاً معيْباً

فابتَعدَ عَنْهَا(المُعَزِّي).

              ***

إِرحَمْ يا رَبّ مَذلّتي؛

لأَنَّ عَدوِّي قَد تَمجَّد.

سَيْطر(الغازي)على أُورْشلِيمْ،

واجتَاز قُدسَ أَقدَاسِهَا!

وأَنتَ الذيْ أَمرتَ

أَنْ لاَ يلجَهُ إلاَّ أبنَاؤك.

الشعبُ،بأكمَلِهِ،يبْتَهلُ مُتَنهِّداً،

يطلبُ الخبزَ الجَافّ.

وفي سَبْيلهِ،يا الله!

قدَّموا العَذارى للغَاصبْ،

كي تُردَّ إِليْهم نفوسُهُم.

أنظُرْ،يا ربّ،وأَشْفِقْ،

فقَد أَصْبَحَتُ مُحتَقَرة.

وأَنتم،يا من تَعْبرونَ الطّريق،

أُنظروا إلى وَجْهي،وَقولوا

إِنْ كنْتم قَد شَاهَدتم حُزناً قتَّالاً

كحزني!

اللهُ قَد صَنَعَ بي هَذا،

واللهُ قَد أَذلَّني،

في يَومِ غضَبهِ الشَّديد.

من السَّماءِ أَرسَل ناراً

فسَرَتْ في عُروقي وشرَاييني،

ثمَّ التهَمَتْ عِظَامي.

وقَد وضَعَ شَبَكةً أَمَامي،

كي تعثُر بهَا رِجْلي.

لقَد ردَّني إِلى الورَاء،

جعلني عِبرةً لكُلّ مُعْتَبِرْ.

سَلَّطَ عليَّ الهمُوم،

وبَسطَ فوْقي الغموُم.

أَوثقَ نَيْر ذنوُبي بأَنَامِلِه،

وشَدَّ عُنُقي بوِثَاقِ رغبَتِه.

بدَّدَ قُوَّتي،ونَزعَ قُوْتي،

ثمَّ دَفعني إِلى أَيْدٍ حَديديَّة،

لاَ أَسْتَطيع منهَا خلاصاً.

أَبَادَ كُلَّ مَن كُنْتُ أَعْتَمِد عليْه.

حطّمَ شبَابي وهشَّمَ أَيّامي.

سَحقَ عَذَارى يَهُوذا،

وهَصَر أَغْصَانهَا،فَذَوتْ.

لهذا، أَنا أَبكي وأنوح.

عيْني...يا عيْني أسْكبي مياهَكِ،

لأَنَّ(المُعَزّي) قَد خذلكِ.

لقد هلكَ أَوْلادي،

ولنْ تقومَ لهُم قائِمَة.

صَهْيونُ تسْتَغيث...

وليسَ مِنْ مُغيثْ!

ليْسَ مَنْ يَمسَح لها دَمعَهَا.

أَمرُ الرّبِّ على يعقوبْ

أَنْ يكونَ تحتَ رحمَةِ أَعدائِه.

أُورْشَليمْ أَصْبَحَت رَجِسَةً نَجِسَة!

صَالِحٌ هوَ الرَّبِّ العظْيم،

لأَنّي قد خالفتُ إرَادتَه.

أَصْغوا،يا جميع الخلائق،

وانْظروني في حزْني.

العَذَارى والشّبَّانُ

قَد سبَاهم الأَعداء.

أَمَّا مُحِبّيَّ

فقَد خَدعوني!

كَهَنَتي وشيُوخي

قد مَاتوا في سبيلِ كسْرة،

وليسَ مَن يَدفنهُم!

أُنظرْ،يا ربَّ الأَربابْ،

إِلى ضِيْقي العظْيم.

أَحشائي قد اضطَرَبَتْ،

لأَنّي قَد عصَيتُك بتمرُّد.

يا جميع شعوب الأَرضْ،

اسْتمتعُوا إلى صُراخ روحيْ.

وَيلاَه!ليْس منْ مُعزٍّ!

كلُّ أَعدائي سَمِعُوا بمصيبَتي.

هم فرحوا لأَنَّ اللهَ ضرَبَني.

ولكن،سَيَأْتي يَومٌ قريبْ

يُصَابونَ بمَا أُصِبْتُ بِه.

ليأْتِ كلُّ شرّهم أَمامكْ،

ولْتَفْعلْ بهم مَا فعلتَ بي،

منْ أَجل ذنُوبي الرّهيبَة.

آه!يا الله!

أنظرْ إلى تَنَهُّدات قلبي الكسير...

(فقَد غُشِيَ عليَّ).