info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "قصص غريبة و أساطير عجيبة" الجزء الرابع

قصص غريبة و أساطير عجيبة

الجزء الرابع

 

 

غربة

 

ما أبعدني عن هذه الأرض الحقيرة،

حينما أحلق بخيالي إلى ما وراء الهيولى،

حتى أصل إلى عوالم أخرى

لا تعرف شيئاً عن شقاء هذا العالم وأتراحه الكئيبة!

و هناك في ذلك الملأ البهي الحالم الساهم

أعيش لحظة واحدة و أتذوق فيها السعادة الفائضة،

و أشعر بالغبطة القدسية الهانئة تحتل جوارحي

و تضفي عليّ بردة النعيم الإلهي الشامل!

و لكن وا أسفاه!

فإن تلك اللحظة سرعان ما تنقضي مخلفة إياي وحيداً،

فأعود مكرهاً إلى دنيا شقائي، و محط كربي و بلائي.

 

داهش

من كتاب" كلمات"

 

أنا أؤمن بأنه توجد عدالة سماوية ؛ و أن جميع ما يصيبنا

 في الحياة الدنيا من منغصات و اكدار

عن هو إلا جزاء وفاق لما اجترحنا في أدوارنا السابقة

من آثام و شرور، ولهذا أيجب علينا أن

نستقبل كل ما يحل بنا من آلام الحياة ومآسيها،

غير متبرمين ولا متذمرين، بل قانعين بعدالة

السماء و نظمها السامية.

 

داهش

 

 

مقدمة

بقلم طوني شعشع

 

ما تزال الأساطير أفقاً رحباً للتأملات الفكرية، الممعنة فيها تعليلاً و تأويلاً... و ما تزال النفوس البشرية- على ذيوع الثقافة العلمية-مولعة بها، و بكل غريب فيها، فكأن ثمة حاجة، فيها، لم يشبعها العلم، بالرغم من عظيم مآثره؛ أو كأن ثمة آثار ما برحت كامنة فيها منذ طفولة الشعوب!...

 

و إذا رأى بعضهم أن زمن الأساطير قد تولى، فإن الأسطورة ما فتئت، في مجال الفن، باباً مشرعاً لبثّ فكرة أو عقيدة،و لا سيما إذا تعلقتا بموضوعات روحية. ولعل الفكرة، متشحة بالخيال، أفعل، في النفس، منها مجردة من كل صورة.

و لا يخرج كتاب الدكتور داهش" قصص غريبة و أساطير عجيبة"- في أجزائه الأربعة-عن هذا المنحى. فالرجل صاحب عقيدة روحية، لها أشياعها و مؤيدوها، همه الحقيقة التي بها يؤمن، والقيم التي بها يدين، يجلوها سافرة بلا أصباغ و لا مساحيق، و إن هي آلمت نفوساً أو تنكرت لها نفوس...لنسمعه يقول، في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب: " الحقيقة أحق أن تذكر دون أن يسدل عليها رداء الرياء...إن على الكتاب واجباً مفروضاً هو قول الحقيقة دون سواها."

و عليه فليس القارئ،ههنا، مدعوا إلى رحلة في دنيويات الخيال، فحسب.ثمة ما بين السطور، فكرة روحية أو عبرة خلقية، وإن كان بعض ما في الكتاب لا يخلو من متعة الفن!

و الحق أن مطلب الحقيقة ليس شأناً عارضاً في أدب الدكتور داهش. فمن يرجع إلى حياته الأدبية، لا يصعب عليه الاهتداء إلى هاجس"الحقيقة" الذي لازمه واستولى على كيانه."الإلهات الست" – وهو من بواكيره-نشيد روحي حزين يصعده شاب غريب الأطوار، برزت له الدنيا بمفاتنها، فأشاح عنها الطرف،رغبة منه في الحقيقة المطلقة التي لا موطئ قدم لها على هذه الفانية!

على أن ما يميز"قصص غريبة و أساطير عجيبة" صفة الغرابة فيها. و قد يصعب على العقل البشري، أول بدء، قبول ما تشتمل عليه من آراء. و ربما ظن القارئ أن هذه الآراء بعيدة عن التصديق، بحجة أنها " غريبة" أو غير مألوفة لديه، فيسبق إلى روعه أنها نسج خيال. و الحق ان نظرة خاطفة إلى تاريخ البشرية كافية لتؤكد له أن الحقائق التي كانت، أولاً غريبة على الأفهام، فجبهت بالرفض الصارخ، أمست من بديهيات الأمور. ومن يدري؟! لعل أغرب الأشياء أقربها إلى الحقيقة!!

و لعل الغرابة تتصل وثيقاً، عند الدكتور داهش، بالغربة. فما أكثر ما تظلّم و تألّم من غربته الروحيّة على هذه الغبراء، يحدوه الحنين القاهر إلى وطن روحيّ بهيّ بعيد. وليس إلجافه في نشدان الموت-حتى أهدى إليه أول مؤلّفاته المطبوعة:"ضجعة الموت"- و مناجاته إياه بأرق الألفاظ و أعذبها  إلاّ صدى لازماً لتلك الغربة الروحية:"نعم!أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عني!...غريباً أتيت إلى هذا العالم... و غريباً أغادره!" ترى، ألا يسوغ القول، و الحالة هذه، إن تلك الغربة الروحية هي التي  أتاحت له أن يرى الأمور   ما يبدو غريباً؟ ألا يلزم من كونه غريباً في وجوده، أن يكون غريباً في آرائه؟ فكأن تلك الغربة شقت له نافذة يطلّ منها على آفاق لا عهد لعقول البشر بها!

***

و يا أيها القارئ، ثمة مصباح تستطيع به ان ترتاد عالم داهش، و تستبين آراءه في كثير من مناحي هذه الدنيا ، و ما بعد هذه الحياة؛مصباح لا يصعب حمله على أحد، و الطواف به، و ربما انكشف لبعضهم، في ضوئه ما خفي على سواه، بيد أن أسوأ القارئ، طرّا، من اتخذ أداة سلوة أو متعة،فحسب.

و إذا ولجت،أيّها القارئ،عالم داهش، فقد يخالجك شعور بأن الأشياء من حولك تضج بالحياة، و ان م الحيوان ما تفوق ملكات إدراكه ملكات إدراكك، و أن بينك و بين الكائنات و شائح أكثر مما يخيّل لك،و أوثق: فقد ترنو على الحجر المهمل، فلا ترى إليه شيئاً جامداً، بل دنيا صغيرة لها نظامها، ولها ثوابها و عقابها؛ و قد تنظر إلى الزهرة النامية، في زاوية الدار، فتستغرق في لحظات تأمل عميق، و تسأل نفسك: أتراها تعي ما يراودني من ذكر؟ و هل بيني و بينها أسباب لا اعرف منها غلاّ إنها، الآن، نبتة في داري؟! و قد تصادف كلباً هزيلاً عليلاً، عند عطفة شارع، فتحملك أجنحة الحياة إلى أدوار حياة سابقة، و تتساءل: ما الذي اجترحه هذا المخلوق حتى استحق هذا المصير الذريّ؟!....

و من جراء ذلك، و قد تستبدل بقيم السلوك، عندك، قيماً جديدة، فتحترم الأشياء، إذ عن لكل موجود معنى وجوده، و لا محلّ  للمصادفة في العالم، بل ثمة أسباب تضرب جذورها في تربة الزمن البعيد، عبر تقمصات متعددة معقدة.. كل ذلك وفقاً لقانون العدالة الإلهية: فلا عقاب او ثواب إلاّ له أسبابه القريبة أو البعيدة . و لعلّ بعض ما يحسب شراً، منقلب ،يوماً إلى  خير عميم.

و لا بد من إن يستوقفك، في عالم داهش، شأن المرأة في الأرض  وسلطانها على القلوب و مطلب السلطة عندها؛ و تستوقفك ثورته الطاغية على خيانتها، و على خرافة حب، و إكباره اللذين تجسدت فيهم قيم الصدق و الإخلاص  والوفاء...و قد أشاطره الإيمان بأن زنبقة الحب البيضاء لا تنمو في تراب الأرض، و إن المرأة-الحلم أجمل من المرأة- اللحم و الدم، و أن أنقى الحب و أبقاه ما لا يحقق على الأرض مرتجاه!...

و لعلك واقع، في الكتاب على قصص معروفة ، منها التاريخيّ أو الأدبيّ او الشعبيّ... غير أن يراعة المؤلف أضفت عليها، بصياغتها ثانية، و بما حذفت منها أو أضافت عليها، رونقاً فنياً جديداً. هذه اليراعة لا بد أن تأسرك بسردها الحوادث، ودقة وصفها، حتى كأنك ترى المشهد رأي العيان؛ و لا بد أن تملك عليك مشاعرك و أنفاسك، فتجري في إثرها، يرفدك شوق ملحاح إلى الخاتمة التي غالباً ما تأتي غير متوقعة؛ فكأنك، مع تلك اليراعة تسير على أرض المفاجآت.

و بعد، لا غرو أن التأمل في النجوم المتألقة عينها، خير من النظر إلى ظلالها المرتسمة على وجه البحيرة! ثم، أما حان موعد الرحيل في عالم داهش، أو في بعض أرجائه؟.!...

طوني شعشع

في 3/8/1983

 

 

حقيقة مفزعة

 

أحبها منذ كانت طفلة، و كان حبه لها عظيماً؛ فهي له كل شيء، ويدونها هو حيّ ميّت!

كان يترصد الساعات التي يتاح له فيها الاجتماع بها، فيهبها حبه العارم و شوقه الحميم.

و راحت الأيام تزحف و الأعوام تفنى... و إذاها صبية رائعة الفتنة، متأججة العاطفة، ذواقة، فضلاً عن ثقافتها الواسعة و حبها للفنون الجميلة.

أما عائلتها فمن اعرق العائلات حسباً و أوطدها نسباً.

و أحب حبيبها أن يربط حياته بحياتها، فهي له كالشمس التي تبعث الحياة في الجماد و النبات.

إنها معبودته الوحيدة الفريدة؛ فحياته يدوّنها ظلام دامس رهيب الدجنات!

و دارت الأيام دورتها و إذا بمعبودته قد غادرت مع والدتها المدينة التي يقطن فيها من أحبته حباً عارماً، و إذاها تدخل جامعة تستأنف فيها علومها.

وحدث، ولا حرج عن حبيبها الذي أضناه بعدها و أسقمه فراقها؛ فشدّ رحاله إليها. و كان لقاء بعد فراق قصير ذاقا فيه من لوعة البعاد أشكالاً و ألواناً.

واستضافته والدة حبيبته بمنزلهم الرحب...

وكم كانت سعادته عظمى! إنه يشاهد معبودته كل يوم، و هذا غاية ما يطمح إليه و يتمناه.

ومكث في ضيافتهم مدة طويلة ،ثم اضطرته الظروف ان يسافر واعداً حبيبته أن يعود ثانية  ،تحمله أشواقه بلقائها المرجّى.

***

مضى عام منذ غادرها مضطراً ، لكنها كانت لا تفارق خياله، فهي ماثلة أمامه ليل نهار.

إنها حلمه المرجّى و أمله المبتغى، و أمنيته التي يتوق ان تتحقق. و يا لأحلام الإنسان ما أبأسها وما أقصى ما تبطنه لمن يظنّ أن السعادة هي قريبة إليه قاب قوسين.

وأمضّه الشوق...فاتصل بها، و اعملها بأن مشاغلهم تسمح له بالسفر إليها، ،فطلب منها ان توافيه. و هذا ما كانت ترغب فيه. فإذاها وقد وصلت للمدينة التي يقطن فيها.

التقى الحبيبان بعد افتراق عام و نيّف،فتبادلا أكؤس الحب و الغرام و الجوى و الضرام...

أربعة عشر يوماً منذ وصولها...

و في هذا اليوم الرابع عشر شعر حبيبها بألم في رأسه وضيق بصدره، فلجأ لفراشه باكراً.

و في تمام الساعة الواحدة في فجر 18/!/1980 غادر فراشه دون أن يستطيع النوم، وذهب إلى المطبخ ليشرب، فدهش إذ وجد الباب الموصل غليه مغلقاً؛ وهذه هي المرة الأولى التي يشاهده فيها مقفلاً، فهو أبداً مفتوح على مصراعيه، و مثبت بخيط كي لا يغلق. كما شاهد درفتي باب المطبخ مغلقتين أيضاً، فدفع إحداهما و دخل.

و إذاه يشاهد حبيبته جالسة أمام المدفأة، و بجوارها ينتصب صديق حبيبها الحميم! فذهل لمشاهدتهما في هذه الساعة المتأخرة من الليل البهيم بمفردهما!..

ومن عادة صديقه أن يكون غارقاً بنومه في هذه الساعة من الفجر. و صديقه هذا هو عنوان الشهامة و الصدق و الإخلاص و المفاداة بنفسه لأجل صديقه... فكيف به يجده،الآن، بهذا المكان في هذا الفجر البارد؟!...

إنها المرأة!...المرأة التي تضعضع العقول، و تسلب النهى، و تعصف بالصداقة و الأصدقاء، فإذا هم أضداد!...

***

 

وران صمت عميق، صمت أخرس شامل عام...فلا حركة أو نأمة إطلاقاً! إنه إله الصمت قد أقى سياله على الألسنة الثلاثة،فلم ينبس أي منهم بلفظة ما.

إذ إن الموقف أملى عليهم هذا السكوت المخيف، و الصمت المرعب! ثلاثون دقيقة تسربت و الثلاثة مسمرون في أماكنهم دون حركة إطلاقاً.هي تصطلي أمام المدفأة، و حببها جالس على كرسيه دون ان تبدر منه نأمة ما، و صديقه منتصب كالرمح، و ثابت بمكانه دون أن تطرف له عين!...

إنه موقف عجيب غريب! بل قل إنه موقف مضطرب رهيب!...

لقد كشف القناع، و هتكت المخبّات،وانجلت الحقائق سافرة!

إنها لحظة كافرة تحمل بمضامينها أرهب وأرعب ما يتصوره فكر أو يصل إليه خيال!

و كانت تعمل في صدر حبيبها شتى العوامل ومختلف المتضاربات!

-واهاً للسنين الماضية! وواهاً لظني الحسن بمن كنت أحب! و تعساً لما وصلت إليه!...

وصمم أن يخلع عنه هذا النيّر البغيض، النيّر الذي كان يظنه نعمة سماوية و سعادة فردوسية!

فإذاه يكتشف أنه كان يخوض موطن اللعنات السرمدية.

لقد اعتزم أن يكون حراً طليقاً منذ الدقيقة التي دخل فيها إلى المطبخ و شاهدهما معاً!

لقد أصبحت الدنيا بأسرها بنظره أضيق عليه من سم الخياط.

لقد كفر بالمرأة، و شكك بالوجود و الموجود. و تأكد له أن وجود الإنسان في عالم المادة ما هو إلاّ جزاء رهيب لا يخلصه منه سوى الموت الحبيب!

ونهض،ثم غادرهما معاً...ودخل إلى غرفته، و أمسك قلمه، و شرع بكتابة هذا الحادث الذي غيّر ماجريات حياته.

واعتزم أن يضع حداً لعلاقته نعها، فهي حرّة بتصرفاتها التي باتت لا تعنيه بكثير أو بقليل إطلاقاً.

و دوّن الحادث المفاجئ المزلزل تحت عنوان:

 

"الحقيقة المفزعة"

بيروت،الساعة الثالثة من فجر 18/8/1980.