info@daheshism.com
مقدّمة إلى "جحيم"

جحيم

 الدكتور داهش بك

               

فاتحة

من شاء أن يرى مظهراً عجيباً من مظاهر الله في عباده . فلينظر إلى خطرات الفكر في الإنسان . إذا جال جولته ميادين البيان . فما الفكر إلاّ قبسٌ من روح الله العليّ بل لمعة من لمعات نوره الإلهيّ وما الكتب التي تنشرها المطابع وتكتحلُ بها العيون وتتغذّى بنتاجها العقول سوى مصابيح هداية للسارين في ظلمات هذه الحياة .

وكلّما كان المصباح منيراً زاد عدد المستنيرين وقلَّ عدد الضالين والمضلّلين . وكلّما توفّرت لأمّة من الأمم مصابيح الهداية حملت أمام أبناءها الراية . وبلغت الغاية . وكان مجدها في النهاية خيراً من البداية .

 

 

حول مؤلّف الجحيم

أمامنا الآن من الدكتور داهش بك خمسة مصابيح نورانيّة من كتبه الأدبيّة : أوّلها ضجعة الموت وآخرها عشتروت وأدونيس ... ثم (الجحيم) هذا . إلى أن يظهر سواهُ وسواهُ تباعاً بعون الله وهدايته .

وهذا المؤلّف الجديد يصدر اليوم بحلّة قشيبة . في فترة هائلة مرعبة من فترات الحرب الرهيبة . وسنقوم بتحليله بعد أن نحلّل سواه من الكتب التي ظهرت على شاكلته .

أمّا مؤلّف الجحيم هذا فهو مثابرٌ على نشر سلسلة كتبه تأديةً لرسالة أدبيّة روحيّة سامية سيزحزح الستار عنها عاماً فعاماً . والمستقبل كشّاف .

نظرةٌ إلى الوراء

إذا رجعنا بعين الفكر إلى الوراء وقلبنا صفحات التاريخ من حديث وقديم تبيّن لنا أن عدداً ليس بقليل من أدباء وشعراء حاولوا وصف (الجحيم).

فهنا (أبو العلاء المعرّي) الفيلسوف العربي في رسالة الغفران ورسالة الملائكة .

وهناك (دنتي) الشاعر الإيطالي في (روايته الإلهيّة)

وهناك (رسلان البني) في كتابه (يوم القيامة)

وهناك (الحارث بن أسد المحاسبي) في كتابه (التوهّم)

وهنالك الشاعر العراقي (جميل الزهاوي) في دواوينه الشعريّة . وعمر الخيام في بعض رباعيّاته المشهورة إلى ما هنالك من سلسلة أقوال وملاحم ومؤلّفات نثريّة وشعريّة كمشكاة المصابيح للمقريزي في باب الفتن ومصابيح السنة للبغوي والفصول والغايات لأبي العلاء والمهابرتا السنسكريتيّة وأمثالها من المؤلّفات القديمة والحديثة .

 

تعريف الجحيم

الجحيم في اللغة : النار الشديدة التأجّج وهي مرادف لكلمة جهنّم أي مكان الأشرار بعد الموت .

وتسمّى أيضاً سقر أو صقر ولظى والسعير والدرك الأسفل أو الدركات السفليّة .

وعرّفوا الجحيم بقولهم : إنّها مقرّ الخطأة الهالكين .

وقال آخرون : إنّها الهاوية البعيدة القعر من وقع فيها هلك .

وقال بعض العلماء : الجحيم أو (جهنّم) علمٌ لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار .

وفي معاجم اللغة : كلُّ نار عظيمة في مهواة هي جحيم .

والجحيم كجهنّم دار العقاب الأبديّ بعد الموت وتسمّى أيضاً : (الهاوية) حيث يقاسي الهلكى العذابات الشديدة بعد انتقالهم من هذه الحياة الدنيا .

والجحيم نقيض النعيم أو الجنّة أو الفردوس أو جنان النعيم . أو دار الخلود ومقرّ الصالحين وديار المتّقين .

وجاء في دائرة المعارف : إذا تصوّر الناس أن الجنّة في السماء فوقنا والنور فيها دائم السطوع ، فليتصوّروا أن (الجحيم) في مكان يقابلها أي في الأسفل حيث الظلمة لا تزول . وهذه الأماكن المظلمة عبارة عن سجون معدّة لمن يموتون بدون أن يتوبوا عن آثامهم .

وقد ورد ذكر (الجحيم) كثيراً في الكتب المقدّسة المنزلة وهكذا (النعيم).

 

آراء في الجحيم والنعيم

نشأ الناس من قديم الزمان وهم في شغل وتشوّق قاتل لمعرفة ما وراء الموت .

ولما كانوا يعتقدون بخلود النفس ويؤمنون بالحياة الآتية المعروفة بالآخرة كان من الطبيعي أن يتصوّروا أنّ هناك مكانين رئيسيّين :

الأوّل – لراحة الأبرار وثوابهم وهو (النعيم).

الثاني – لعذاب الأشرار وعقابهم وهو (الجحيم).

ومن راجع التاريخ في جميع أدواره ولا سيّما تاريخ الكلدان واليونان والرومان والمصريّين والفرس والهنود والصين والمجوس وسواهم من الأمم والشعوب تبيّن له أنّهم اهتمّوا كثيراً بالأرواح الشرّيرة والأرواح الصالحة .

 

خلود النفس والثواب والعقاب

وقد تنبّه الناس إلى خلود النفس وبقاء الأرواح ووجود الجحيم والنعيم بدليل مخاطبة شاول لروح صموئيل النبي إذ قالت له :

  • لماذا أزعجتني ؟

ونهى (موسى) عن استشارة الموتى وهذا أيضاً دليل وجودها في عالم الأرواح .

وفي المزامير يعبّر النبي داوود عن فرحه (لأنّ الله لم يترك نفسه في الهاوية) فقد بُشّر روحياً أن نفسه ارتفعت من هوّة الجحيم .

وكذلك قال سليمان الحكيم في بعض أسفاره :

" إنّ الجسد يرجع إلى الأرض التي أُخذ منها . أمّا الروح فترجع إلى الله الذي خلقها ".

وهكذا تبيّن للمؤمنين من أقوال إشعياء النبي والسيّد المسيح أنّ في الجحيم (دوداً لا يموت وناراً لا تنطفئ).

وقال الربّ في التوراة :

إنّ النار تشبُّ بغضبي فتتوقّد إلى الهاوية (السفلى) وما الهاوية السفلى إلاّ مقرّ عذابات الجحيم .

وذكر كلمة (سُفلى) دليل واضح على وجود دركات عديدة في ذلك المكان الرهيب

ومن راجع سفر أيّوب النبي تأكّد له وجود (الجحيم) حيث ذكر (مقرّ الأموات) وشبّهه بأرضٍ (يغشاها الظلام) وسمّى الهاوية بمحل شقاء مملوء من الأحزان الأبديّة .

وهكذا أشعياء النبي فقد جاء على ذكر الأشرار الذين يوبّخون ملك بابل في الجحيم ويهزأون به .

وهو الذي قال في سفره قبل السيّد المسيح أو دود الكفّار لا يموت ونارهم لا تُطفأ :

ومن راجع صفحات الكتب الصينيّة والهنديّة والمصريّة وسواها من قبل بوذا ولاوتزي وكونفوشيوس وبرهما والفراعنة قرأ أقوالاً خالدة تحوم حول النعيم والجحيم وفي القرآن الكريم كما في التوراة والإنجيل المقدّس آيات بيّنات في هذا الشأن فليراجعها طلاّب المعرفة وعشّاق الحقيقة .

 

آراء الفلاسفة والعلماء

وهناك فئة كبيرة من فلاسفة الزمان وعباقرة العصور تقول بوجود الآخرة وتعتقد بخلود النفس . وبالثواب والعقاب بعد الموت .

وقال شيشرون الفيلسوف الروماني :

"إذا كنّا نقبل تنبيهات الطبيعة ، وإذا كان الناس يُجمعون على وجود شيء بعد هذا الوجود ، فيجب علينا أن نقبلَ هذا المذهب المعقول ".

قال سينيكا الحكيم :

"أمّا في ما يتعلّق بخلود النفس فيجب أن نعتبره كأمر ذي أهميّة عظمى ويجب تسليم الأمم به ، ولا سيّما الذين يتفقون على الخوف من عذاب الجحيم "

وقد أجمع العلماء المفكّرون على أنّ وجود (الجحيم) إنّما هو أعظم رحمة للحائرين في صحراء هذه الحياة الفانية .

قال العلاّمة الإفرنسيّ فولتير :

" انزع عن الناس الرأي القائل بوجود إله يجازي ويعاقب ترى القاتل يلتذّ بالاستحمام بدم قتيله . وترى الابن يقتل أباه أو أمّه بطمأنينة وراحة "

 

آراء علماء النفس

وقد أجمع علماء النفس أنّ البشير عندما شكّوا بوجود الجحيم تهدّمت من بينهم أركان الاستقامة . وفسدت الأخلاق الصالحة . أصبحت الهيئة الاجتماعيّة فريسة الطمع والشهوات الدنية والرغبات الدنويّة .

ومن تعاليم الكنيسة الأوليّة أنّ السيّد المسيح الفادي نزل إلى الجحيم :

ومعنى ذلك أنّ نفسه حينما كان جسده في القبر نزلت إلى المكان الذي فيه نفوس الأبرار لتعزيهم وتبشّرهم بالخلاص . وقد وعد بالمجيء الثاني إلى الأرض . ولا ريب أنّه سيمسح بمنديل حنانه دموع أبناء هذه الفانية أو أبناءَ تلك الهاوية ...

 

الأساطير القديمة

وكثيراً ما جاء ذكر (الجحيم) في أساطير الأقدمين وميثولوجيا اليونانيين والرومانيين . فعرّفوا (الجحيم) أنّها المكان الذي تنزل إليه الأموات لتكفّر عن الذنوب التي ارتكبتها أثناء وجودها على الأرض .

أمّا الصينيّون والبرهميّون وأمثالهم فرأيهم أنّ مدّة العذاب ليست بدائمة . فكلّ شخص عندهم يعاقب أو يكافأ حسب أعماله فإمّا في درجات نعيم وإمّا في دركات شقاء مقيم . وهذا يطابق قول سيّد الأطهار :

(عند أبي منازل كثيرة )

أمّا (الصدّوقيّون) فينكرون وجود الجحيم والجنّة كأن أبا العلاء المعرّي من مذهبهم حين قال :

ما جاءنا أحدٌ يخبّر أنّه             في جنّة من مات أم في نار

 

التناسخ أو تقمّص الأرواح

وهناك آراء لفئة من الناس تعتقد اعتقاداً أكيداً أنّ (الآخرة) إنّما هي تتمّة لهذه الحياة الدنيا .

فالصاعد إلى السماء يكمل سيره صعوداً حسب أعماله الصالحة . والهابط إلى الهاوية إمّا يندم رويداً رويداً فيصعد . وإمّا يزداد انحداراً حسب أعماله الطالحة ...

وهناك فئة تقول بالتقمّص أو التناسخ وهو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر والذين يعتقدون ذلك يسمّون (التناسخيّة) وهم يقولون أنّ التقمّص هو الرحمة الوحيدة لبني البشر . إذ بعودتهم إلى الأرض مراراً تتطهّر أرواحهم وترتقي رويداً رويداً من الدركات إلى الدرجات .

وقد ورد ذكر التقمّص مراراً في الكتاب المقدّس دون أن ينتبه إليه أحد خصوصاً عندما كان السيّد المسيح مع تلامذته وسألوه عن (يوحنا المعمدان) فأجابهم أنّه (إيليّا النبي) أي أنّ روح إيليّا النبي متقمّصة بيوحنا المعمدان .

ومهما يكن من الأمر فإنّ الناس منذ تأسيس العالم إلى اليوم ما برحوا يتحدّثون عن الجحيم والنعيم وهم بين تحليل وتعليل وتأويل !

بل بين تحاليل وتعاليل وتآويل !

ولو هم انصفوا وعقلوا لآمنوا بوجود الاثنين .

بل آمنوا بالعالم الروحاني بعد هذا العالم الحقير الفاني

وعندئذ يبتعدون عن نيران الأوّل ويحنون إلى التمتّع بالثاني !

وقد قال لسان الدين الخطيب في إحدى مواعظه :

ولو أنا إذا متنا تُركنا              لكان الموت راحة كلّ حيّ

ولكنّا إذا متنا بُعثنا                ونُسأل بعده عن كلّ شيء

 

الشعراء والجحيم !

لا أظنّ أنّ شاعراً نشر ديواناً في اللغة العربيّة أو سواها إلاّ جرى على فلتات لسانه أو أسلات بنانه ذكر الجحيم أو النار أو جهنّم .

وبين الشعراء الذين ذكروا جهنّم ببلاغة وحسن ديباجة إسماعيل باشا صبري حيث قال :

يا ربّ أينَ تُرى تُقامُ (جهنّم)                  للظالمين غداً وللأشرار

لم يُبق عفوك في السماوات العلى             والأرض شبراً خالياً للنار

يا ربّ أهّلني لفضلك واكفني                  شطط العقول وفتنة الأفكار

ومُر الوجود يشف عنك لكي أرى         غضب اللطيف ورحمة الجبّار

يا عالم الأسرار حسبي محنةً              علمي بأنّك عالمُ الأسرار

وقال من أبيات وجدت مكتوبة بخطّه :

خشيتُك حتى قيل إنّي لم أثق            بأنّك تعفو عن كثير وترحم

وأمّلتُ حتى قيل : ليس بخائفٍ         من الله أن تشوي الوجوه (جهنّم)

وقال عنترة :

كأسُ الحياة بذلّة (كجهنّم)             و(جهنّم) بالعزّ أفضل منزل

وقال أحد الشعراء

وإذا مررت على الأبالس قل لهم :    لاقيت ناراً مثل نار (جهنّم)

ولعمر الخيام أبيات عديدة في الجحيم والنار والعذاب منها بيتان ترجمها إلى العربيّة العلاّمة سليمان البستاني ناظم الياذة هوميروس اليوناني وهما :

قضيتَ إلهي بالعذاب ويا ترى             بأيّ مكان بالعذاب تدينُ

فليس (عذاب) حيثما أنت كائنٌ             وأيّ مكان لستَ فيه تكونُ

وقال إيليّا أبو ماضي شاعر المهجر من قصيدة عنوانها (الطلاسم)

كلّما أيقنتُ أنّي               قد أمطتُ السّتر عني

وبلغتُ السرّ سرّي           ضحكت نفسي مني

قد وجدت اليأس والحيرة     لكن لم أجدني

فهل الجهل (نعيم)            أم (جحيم) لست أدري ؟!

 

رسالة الغفران لأبي العلاء

هي رسالة خالدة من عبقريّ زمانه أبي العلاء المعرّي بعث بها إلى صديق له يسمّى (ابن القارح) وقد أذاعها إلى الناس الأستاذ كامل كيلاني الموظّف في الأوقاف المصريّة وحللها ونقدها وقرّظها عدد من المفكرين بينهم الدكتور طه حسين ومحمّد فريد وجدي ومحمّد كرد علي وسليمان البستاني معرب الإلياذة وجرجي زيدان مؤسّس الهلال والدكتور شبلي شميل . وجريدة الأهرام . وسيّد إبراهيم الساعي وجلد زهير وسواهم وقد خدم الأستاذ الكيلاني أبناء وطنه بنشر هذه الرسالة بحلّة قشيبة .

وقال عنها الدكتور طه حسين أنّها (آية الأدب العربي . كما أنّ صاحبها آية كتّاب العرب . وهي آية التفكير العربي . وآية الخيال العربي . وآية السخرية العربيّة . وآية الحريّة العربيّة . بل آية العرب في هذا كلّه )

وقال عنها أحد الأدباء (إنّ رسالة الغفران كوميديا إلهيّة مسرحها الجنّة والنار )!!