info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة السادسة عشرة "

 

 

 

إن الوقوف على شخصية الدكتور داهش الغريبة، في شتّى جوانبها ، هو من الصعوبة بمكان . فقد أسَّس عقيدة إنسانيَّة روحيَّة مدعومة بظاهراتٍ خارقةٍ مُذهلة تستدعي النظر فيها. ومن أجل ذلك ، اضطهدته دولة عاتية ، فقاومها، وانتصر عليها .

 

لم يتعدَّ تحصيله المدرسي أشهراً قليلة. ولكنَّه، مع ذلك، ألَّف أكثر من مئة وخمسين كتاباً في أبوابٍ أدبيّة مُختلفة . وهو عاشق ثقافةٍ وفنٍّ لا يثنيه عن بلوغهما مرض أو إرهاق . فقد أسَّس مكتبة خاصة يزيد عدد كتبها على المئة ألف كتاب عربي وأجنبي، كما أسَّس مُتحفاً فنيَّاً عظيماً يضاهي كبار المتاحف الخاصَّة . وهو، على كلِّ ما هو عليه، جمُّ التواضع ، وصديق وَدود تودُّ أن تراه دائماً، وأن تستمع إليه لطيب حديثه وعمق فكره .

 

والدكتور داهش، إلى ذلك كلّه، رحَّالة لا يكلُّ. جاب الأرض شرقها وغـربهـا للوقوف على حضارات الشعوب المختلفة، ودرس تقاليدها، ومقارنتهـا بعضها ببعض . ولقد أتيح لي أن ألتقيه بضعة أيام في إحدى رحـلاتـه، وأن أرافقه في رحلة ثانية . وقد كنتُ سعيداً في صحبته . ففي شخصـه اجتمعت حكمة الشيوخ، وعزم الشباب، وصفاء الأطفال. وقد يطول الكلام، ولا أَفيه بعض حقّه.

 

تندرج كتابات الدكتور داهش في عدّة أبوابٍ أدبيَّة، من أبرزها أدب الرحلة. فقد الَّف فيه سلسلة تقع في عشرين جزءاً. ولا أحسب أنَّ في الأدب العربي المعاصر من أفردَ مثله هذا القدر الكبير من المؤلَّفات في ذلك الباب . والسبب أنه زار معظم أقطار الأرض، ودوَّن وقائع رحلاته يوماً فيوماً .

 

والواقع أنَّ أدب الرحلة عنده اقترن بأدبِ اليوميات، فإذا رحلاته أشبه بسيرةٍ ذاتية تنطوي على ملامح من حياته الشخصيَّة لا تقلُّ أهميَّةً عمَّا تكلَّم عليه من حضارات الشعوب وتقاليدها وعاداتها ومعالم عمرانها.

 

زد إلى ذلك أنَّه ابتكر أسلوباً خاصاً في كتابة أدب الرحلة ينفرد بميزات كثيرة أهمّها الدقَّة، والأمانة، والمقارنة، والنقد، وإطلاق الأحكام، واقتباس العبرة الأخلاقيّة والفائدة الاجتماعيَّة .

 

وبين يدي القارئ الآن الجزء السادس عشر من سلسلة «الرحلات الـداهشيَّة حول الكرة الأرضية». وهو يضمُّ رحلتين : الرحلة الأولى (وقد أتيح لي فيها أن ألتقيه بضعة أيام) استغرقت ثلاثة عشر يوماً، منطلقها بيروت إلى جدَّة، فالرياض التي زارها للمرة الأولى، فجدَّة مرَّة ثانية، ثم العودة إلى بيروت . أما الرحلة الثانية (وقد تسنَّى لي فيها أن أكون في رفقته) فلم تتعـدَّ الأيام الخمسة، منطلقهـا مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمـريـكـية إلى مدينـة بوسـطن وبعض المـدن الأخـرى في ولاية ماساتشوستس، ثم العودة إلى نيويورك .

 

 

والمؤلف، في هاتين الرحلتين، لا يختلف في نهجه عما انتهجه في سواهما. فكلُّ ما يمرُّ به من وقائع وما يطالعه من مشاهدات، منذ أن ينهض من فراشـه فـجـراً حتى يأوي إليه ليلاً، مدوَّن فيهـا تدويناً أميناً : مواقيت النهوض والرقاد؛ عدد الجرائد والمجلاَّت التي قرأها، وأسماؤها، والوقت الذي استغرقته قراءتها ؛ زيارة الأسواق التجارية، والسلع التي ابتاعها منها ، وثمن كل سلعة؛ متاجر الذهب والتحف والرسوم الفنية والسجاد، وأثمانها - وقد يقارنها مع مثيلات لها؛ من ذلك، مثلاً، أن بعض لوحات الإستامپ التي شاهدها في بوسطن ذكَّرته بلوحاتٍ مُماثلة شاهدها في اليابان لاثنتي عشرة سنة خلت.

ومـمـا يثير العجب أنَّ المؤلّف على بيِّنـة من قيمـة شتى السّلع والمشتريات ، سواء منها المصنوعات الفنيَّة أو أصناف الخضر والفواكه! ولا تسل عن استيائه الشديد كلَّما وجد فارقاً كبيراً في أسعار السلع نفسها : «إنه غش فظيع ، واحتيال مفضوح، وتدجيل قذر. »

 

أما ولعُ المؤلف بالفنّ، فحدّث عنه ولا حرج. وقد تمثَّل، ههنا، في زيارته لعدّة متاحف في بوسطن وضواحيها. ومما أذكره جيداً أنه كان يسير في قاعـاتها مُسرعاً ـ والسرعة، لا التسرع، من خصائص شخصيَّته ـ فلا يقف إلا إذا استهوته لوحة زيتيَّة جميلة أو تمثال رائع . وعندئذ تراه يتملَّى ذلـك الأثـر الفنّي مُعبراً عن إعجابه، وعلى مُحياه ترتسم أمارات «النشوة الفنيَّة»، إذا جاز التعبير. وكأنّي بالمؤلّف قد بلغ من الثقافة والخبرة الفنيتين ما يخوِّله ألاَّ يقفَ طويلاً عند الأثر الفنيّ حتى يحكم على مستواه من الجودة.

 

وكما أعطى الدكتور داهش الأدب والفنّ حقّهما من العناية، فقد مجَّد العلم أيضاً حتى إنه عبَّر عن إعجابه باختراع الطائرة النفَّاثة بالقول : «إن عقلاً أنجز صنع هذا المارد ذي الضوضاء لا شك بأنه مستمدٌّ من ربِّ السماء ..

وبالرغم من قصر المدة التي رافقته فيها، فقد تكشّفت لي فيه صفات أظنّها لا تجتمع كلّها في شخصٍ سواه. كان مرحاً، يقظاً، محبَّاً ، مؤنِّبا مُرشداً، ساخراً، ُمتواضعاً، رؤوفاً، صادقاً. وحسبي ههنا ان اشير إلى نزعته الإنسانيَّة التي تجلَّت في حادثة اصطدامه بالضرير، وذلك في اعتذاره منه بعد أن تأكَّد له أنَّ ما مُنِيَ به الضرير أقسى جداً مما يعانيه هو من آلام .

 

لمَّـا قام الـدكتـور داهش بهـاتين الـرحلتين كان قد تعـدّى الواحدة والسبعين من العمر. ومع ذلك، فقد كان شديد العزم، لا يحول بينه وبين السَّفر مرضٌ أو ألم. ذلك أنه أصيب، في خريف أيامه، بحوادثٍ مؤلمة استطاع الصبر عليها، واحتمالها. وبالرغم من أن الرحلتين لم تتجاوزا الثمانية عشر يوماً، فهما غنيتان بالوقائع . فكأنهما صورة مصغَّرة عن حياة المؤلّف في حيويَّتها ونشاطها .

 

والجـدير ذكره أن وراء أسلوب المؤلّف في بساطته وسلاسته معاني عميقـة وآراء في الحياة والمـوت والثـواب والعقاب استوحاها من عقيدته الروحيَّة، من جهة، ومن خبرته الواسعة في شؤون الحياة، من جهة ثانية . ويحسن بالقارئ ألا يمرُّ بها مراً عابراً. وعسى أن يهيب به هذا الجزء من «الـرحـلات الـداهشية» إلى الاطلاع على أجزائها الأخرى ، وعلى سائر المؤلَّفات الداهشيَّة . ولا ريب عندي في انه عائد، من سياحته تلك، بوافر الغلال .

 

نيويورك، في ۱۹۹۱

أمين الشاويش

 

۲۰ حزیران ۱۹۸۰

التأهب للسَّفر إلى جدَّة بالسعودية

 

غادرت فراشي في الساعة الخامسة بمدينة بيروت ، وفي الحال ابتدأت بمطالعة الصحف التي لم أطالعها يوم أمس ؛ واستغرقت قراءتها ساعة.

في السادسة، وصلت صحف الصباح «النهار»، «الأنوار»، «السفير»، وجريدة «الشرق الأوسط» التي تصدر بلندن، فطالعتها بخلال ساعة .

 

وفور فراغي من قراءتها، ابتدأت بترتيب كتابي «قيثارة الآلهة» الذي ما يزال مخطوطاً، إذ إنَّني سأصدره بجزءين مزينين بـ150 رسماً فنيا. وبما أنني سأغادر بيروت اليوم إلى السعودية، وهذا الكتاب سيطبعه الإخـوة بأثناء وجودي بمدينتي جدَّة والرياض، لهذا ابتدأت منذ الساعة السابعة بترتيب انتخاب الرسوم الفنية التي كنتُ أضعها بأمكنتها. واستغرق عملي فيها حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، أي ستَّ ساعات كاملة .

 

وودعوني

 

وكان حشدٌ كبير من الإخوة والأخوات قد وصل لتوديعي . وكنت ابتداء من الساعة الواحدة قد انهمكت بترتيب الحقيبتين اللتين سآخذهما معي ؛ وقد استغرق تجهيزهما ساعة كاملة .

 

وإذ ذاك ودَّعتُ الجميع وهبطت الدرج ببطء وتثاقل بسبب ألم ظهري وكنتُ قد استعملت الدواء ابتداء من يوم أمس، وهو دواء اسمه «بروفين» : حبَّة بعد الغداء، وأخرى بعد العشاء . وهذا الدواء هو ضد التهاب عصب السلسلة الفقارية .

 

وصعدتُ إلى سيارة هادي حجَّار يصحبني الدكتور فريد وميرلا، قرينة حجار. ورافقتنا سيارة شكري شكور وفيها إيليا حجَّار وأخٌ داهشيٌّ مكتوم .

وكان الإخوة والأخوات يريدون مرافقتي وتوديعي ، ولكنّني فضلت عدم ذهابهم منعاً لِلَفْت النظر.

 

في مطار بيروت

في الساعة الثانية والنصف وصلنا إلى المطار، والتقط لنا الدكتور فريد بضع صور فوتغرافية ؛ ثم فضَّلت أن أنتظر بصالون المسافرين، فودَّعت من صحبني ، ودخلتُ برفقة الأخ المكتوم إذ سيصحبني إلى جدَّة . جلسنـا بـصـالـون الانتظار، وكان يموج بالمسافرين، وأخرجت من الحقيبـة غلافاً مملوءا بالمشمش اللبناني الكبير الحجم اللذيذ المذاق، والـدراق الشهي الـذي لوحته الشمس فإذا هو موشّح بالحمرة، ثم التين المُسمى دافور وهو ضخمُ الحجم .

 

 

 

وتوجهنا إلى الأوتوبيس

 

في الساعة الثالثة والثلث، أذيع أنَّه يجب على المسافرين إلى جدَّة