info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة الرابعة عشرة "

 

 

 

الدكتور داهش بطبيعته توَّاق للسفر والترحال . وهو ـ كما ذكر عن نفسه في مقـدمـة رحلته الثانية - «يحبُّ السَّفر إلى الصحارى، والتجوال في شعاب الجبال؛ كما يحبُّ الهبوط إلى الأودية السحيقة، ويرغب مشاهدة العواصم الكبرى والقرى النائية الهاجعة بأحضان الغابات الظليلة»، وارتياد المتاحف العالمية.

وكيف لهـذا النّسـر أن لا يتنقـل ويطير في أجواء الأرض، وطموحه التحليق إلى ما فوق النجوم؟ لقد ذرع الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وعاد منها بأروع الجني . وكانت هديته لنا ولخزانة الأدب العربي والعالمي هذا الكنز الثمين والتحفة النادرة الفريدة في مثل هذا العصر اليباب ، سلسلة «الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية» في عشرين جزءا .

 

وكـان سروري عظيمـاً حينمـا عاودت قراءة ما طُبع من أجـزاء هذه السّلسلة، فوجدتني وقد أسدل النسيان بعض أجفانه على شيء منها، وذلك بسبب الحوادث الجسام التي مرَّت بلبنان . وإني لأتمنى الآن أن يُمحى من ذاكرتي ما قرأت لأعود فأستمتع بقراءتها مجدَّداً استمتاعي بالقراءة الأولى .

الرحلة التي بين يدي الآن هي الرابعة عشرة من سلسلة «الرحلات الداهشيَّة». وقد اقتصرت على فرنسا، وتحديداً على باريس، واستغرقت 48 يوماً. وهي ، ولا شكَّ، سوف ترتدي حلتها الأنيقة مثل اللواتي سبقنها إلى المطبعـة، مزيَّنة بالصـور الجميلة ومطبوعة طباعة متَّقنة على ورقٍ صقـيل .

 

ثمانية وأربعون يوماً زاخرة بالنشاط والحركة نعيشها مع المؤلف وهو يحـاذر أن تذهب دقيقة واحدة من غير فائدة. هذا الرجل الذي وهبه الله تعالى قوَّة روحيَّة خارقة، وصفات ومزايا لا تجتمع في إنسان : ذهن مُتوقّد مُضيء، وحساسية مُرهفة، وذاكرة حادَّة تلتقط وتحتفظ بأدقِّ التفاصيل - نراه يلتفت لكلّ شيء، ويحسب حساب كلّ شيء. قنديله بيده يسلط ضوءه الكاشف على مشاهداته، فلا يترك فيها مكاناً للظلام أو الإبهام . ثم يزينها بملاحظاته واستنتاجاته القيِّمة المُمتعة، وذلك طيلة أيام الرحلة وساعاتها . فلا التعب يثنيه أو المرض، ولا الكـلال أو الملل يعـرفان طريقهما إلى عزيمته ونفسه رغم مشقّة السَّفر، ومرارة الغربة وقسوتها، حتى لتشعر وكأنَّه يقـدم حسـابـاً عن أعمـالـه، وينفّذ واجباً مقدَّساً يحسّ من خلال تأديته بمسؤولية عظيمة .

 

نرافقه في هذه الرحلة منذ يقظته من النوم واستعداده للرحيل. ندخل معه المطار، ونجالسه في الطائرة، فإذا به يسجّل كل شاردة وواردة : نوع الطائرة، عدد مقاعدها؛ وهو يقارن بينها وبين طائرة أخرى سبق له أن سافر على متنها. ثم يذكر سرعتها وارتفاعها في الفضاء، وكل ما يعلنه قائدها حتى ساعـة هبوطها، ويقيس المسافة بين المطار والفندق، وكم تقاضى السائق من الأجر، وهل كان صادقاً أم محتالا شأن معظم السائقين في البلدان السياحية . . . تفاصيل في غاية الدقّة تتطلَّب منه اليقظة الدائمة، ، ، وتكلفه من الجهد والوقت ما يستحيل بذله على أيِّ رحالة أو سائح سواه يفضل أن يستغل الترحال من أجل الراحة والاستمتاع .

إن هذه الرحلة، كمـا شقيقـاتـهـا الثـلاث عشـرة، تسير في خطين متـوازيين : خط اكتشـاف أحـوال الشعوب والبلدان، وخط اكتشاف ذات داهش حيث يجعل من أدب الرحلة مسرحاً لعرض أفكاره ومبادئه، وبتُ لواعجه وإحساساته، فنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الرجل الذي ملأ الدنيا وأدهش الناس منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، وما يزال . . .

وكثيراً ما تأخذنا من هذا المسرح مشاهد مؤثرة حين نراه يحنُّ إلى من يفارق، فيكتب لهم قطعاً من القلب؛ ويتذكّر من توفي من الأحباء، فيذرف عليهم دمع الحنين والـوفـاء . ثم يشهـر سيف نقمته على طليعتهم الطاغية بشاره الخوري والخائن الخليلي . وبين الحين والحين،

 

يتصدى لكُتَّاب زاغوا عن الصواب ، فيفنّد مزاعمهم التي تنشرها الصحف المرتزقة، ويدحض افتراءاتهم، ويجعلهم كالعصف المأكول .

وهو، في هذا المجال، يعالج مسألة في غاية الأهمية، ألا وهي مسألة حملة الأقلام من كتَّاب وصحافيين، إذ إنّهم يخشون السلطان في إبان حكمه، فيُسلِسون له القِياد ويكيلون له المديح . . . حتى إذا خُلع أو انزوى انفضّوا عنه ، وانقلبوا عليه، بل انقضوا عليه تقرباً من السلطان الجديد . فيعلق على مقال كتبـه نـاصـر الـدين النشاشيبي يهاجم فيه شاه إيران المخلوع : «ترى أما كان الأفضل لو كتب ناصر الدين النشاشيبي مقاله قبل أن تعلن ثورة الشعب الإيراني على الشاه؟ ! . . . »

 

وأكثر ما يلفتنا في اهتمامات الدكتور داهش ذلك الميزان الدقيق الذي يضع في كفتيه كل الأمور ، فنراه يدافع عن الحقّ إذا حيد عنه حتى قيد أنملة، ولا يتهاون في أخطاء مرافقيه . يُعطي الرأي الفصل في مسائل ما زالت حتى الآن تتأرجح بين كفتي الخطإ والصواب ، فنسمعه يعلن بانفعال شديد رأيه في الفن السريالي : «والحقيقة أنه من المؤسف أن تعرض لوحات كهذه لا قيمة لها إطلاقاً في مبنى بلغت نفقات إنشائه عشرات الملايين»؛ ورأيه في الإخـلاص البشـري، عنـدمـا مرّ أمامه شاب وشابة يتخاصران ويتبادلان القبلات : «فضحكت بسرِّي لهذا التدجيل المفضوح؛ فالإخلاص كلمة سخيفة سقيمة لا يؤمن بها إلا المعاتيه . فخبرتي بالحياة أكَّدت لي أن الإخلاص ما هو إلا سرابٌ بسراب ودخانٌ يتسرَّبُ ويذوب مُتلاشياً في الفضاء . »

 

كذلك لا يخلو مسـرح هذه الرحلة من بعض الـظـاهـرات الروحيَّة والمعجزات التي تحصل على يديه ممَّجدة عظمة الخالق، ومؤكِّدة خلود الروح ووجود العالم الآخر حيث يُجزى كل إنسان على ما سعى .

 

وهكـذا نرى كيف أن الـدكتـور داهش، في خلال رحلاته المشوقة المُمتعة، يدرس ويوثّق ويصوّر ويكشف ويصحّح من جهة، ويُطلق العنان لخيالاته وأحاسيسه من جهة ثانية، فتنساب رقيقة صافية، وتشف عن نفس كبيرة شاعـرة تصطخب خلالها شئى الأفكار والأسرار والمشاعر. فهو إذ يصور أحوال الشعوب ومظاهر العمران ومعالم الحضارة، فإنَّه لا يفعل ذلك من أجل العلم والمعرفة وحسب، أو لإبراز الجوانب المشرقة في الحضارة فقط، وإنَّما أيضاً لإظهار حالة انهيار العصر وما وصل إليه الإنسان من تبذُّلٍ وانحطاطٍ وجشعٍ وانحلالٍ أخلاقي مريع بلغ حداً يُنذر بحرب ذرية لا تبقي ولا تذر، مُعلناً سخطه على هؤلاء البشر الأدنياء، وإحساسه بتفاهة الحياة ، ورغبته الشديدة في الانعتاق من هذه الأرض الحافلة بالشرور.

 

وهو في كل ما يعمل ويقول لا يخطو في الفراغ، ولكنه يعلم تمام العلم كيف وأين يسير .إنه الرجل الخبير المجرِّب الذي حلب من الدهر شطريه ، والمُطَّلع مُسبقاً على خفايا القلوب والنفوس . وإذا أضفنا إلى ذلك ما كتبه في بداياته الجميلة في غير كتاب، أدركنا أن في الأمر سرا. والسرُّ هو أنَّه جاء ليشاهد ويشهد. فهو شاهدٌ للعصر، وشاهدٌ عليه، وكتاباته هي الحجة والإثبات

ياسر بدر الدين

مونتريال، ٢٦ آب ۱۹۹۱

 

 

٢٦ تشرين الأول 1978

التأهب لمغادرة الولايات المتحدة إلى فرنسا

 

الساعة الآن الثانية فجراً ولما ننته من عملنا المرهق.

 في الساعة ٢ و35 دقيقة اتصلت بسركيس ، وأعلمته بأنني سأكون عنده في باريس في ليلة هذا اليوم ، وأعطيته رقم الرحلة .

الساعة الآن 3 إلا 13 دقيقة فجراً، وقد ذهبت إلى فراشي وحاولت النوم، ولكن عبثاً كان ذلك ؛ وهذا الأمر أزعجني للغاية .

 

في الساعة الثامنة والدقيقة الثالثة قرع جرس التلفون ، وكان المتحدّث الأخ شكري من بيروت ، وقد أعلمني بعدّة أمور تتعلَّق بالإخوة والأخوات . ثم حادثني بولندو فأعلمته بأنني سأذهب، اليوم، إلى مطار كندي ، ومنه أتجه بطائرة الكونكورد إلى باريس، وبعدئذ إلى بيروت ؛ وأوصيته بكتمان الأمر. وأعلمتُ شكري، أيضاً، بسفري اليوم، وأوصيته بأن لا يعلم أحداً سوی شقیقه جورج الموجود بمنزل رباب . ثم تحدَّثت مع زينا وسألتها عن بعض الأخوات . وقد استغرقت المخابرة عشرين دقيقة .

وفور انتهائها، أبلغتني فوته أن نجلها الأكبر وصل في الساعة السادسة والنصف من جامعته ليودعني . ،

الساعة الآن 8 و35 دقيقة . في هذه اللحظة خابرني الأخ غازي براكس هاتفيًا من محـطة القطار التي وصل إليها مع الأخ فارس زعتر، وأعلمني بأنهما سيستقلًان تكسيا ويأتيان إلى منزل فوته حيث أقيم الآن . وقد وصلا الساعة التاسعة وسلّما إلي رزمتين فيهما عدّة مجلاَّت وصحف .

 

ثم قدمت هدهد 138 دولاراً لصندوق الرسالة.

وفي العاشرة والربع تحدثت هاتفيا مع رياض، وأعلمته بأنني سأذهب إلى المطار لأستقل الكونكورد إلى باريس .

 

الى مطار كندي

 

في  الساعة 11 إلا 13 دقيقة صعدت إلى سيارة كريمة فوته الكبرى التي قادتها والدتها، وقد رافقتني هي وشقيقتها الصغرى . واستقل شقيقها الأكبر سيارته، وبرفقته إيليا الذي سيصحبني إلى باريس، وكذلك فارس ونقولا وغازي براكس الذين سيستقلُون القطار إلى نيويورك، بينما يبقى إيليا مع نجل قوته الأكبر ليذهبا إلى مطار كندي .

 

في الساعة الحادية عشرة تلفنتُ لرياض وطلبتُ إليه أن يعدَّ لي دفتر التلقيح ضد الجدري والكوليرا، إذ إن هذا الدفتر سيطلب منَّا في بيروت . وبطريقنا إلى مطار كندي كنتُ أطالع مجلة «الوطن العربي»، تاريخ ۲۷ تشرين الأول 1978، وقد أنجزت قراءتي لها حال وصولنا، ظهراً، إلى المطار.

 

في المطار

 

ما إن أوقفنا سيارتنا أمام شركة «إير فرانس» حتى قدم رياض، فأَدخل