info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة الثامنة"

 

 

 

يمتاز أدب الرحلة عن غيره من الفنون الأدبية بأنه أكثرها واقعية والتصاقاً بالناس والعمران والطبيعة، وأوفرها إفادة وإمتاعاً للراغبين في الترحال استكشافاً لمعالم الأرض المتنوعة ووجوه الحضارة المختلفة، ذلك بأنه يمدهم بشتى الفوائد الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .

ومن المُجْمَع عليه أنه بقدر ما يكون أدب الرحلة أميناً ودقيقاً في وصفه الموضوعات التي يتناولها، تزداد قيمته، ويتعاظم حظُّه أن يصبح مصدراً موثوقاً ومجدياً لكل من يودُّ الترحال والتجوال . وهذه المزية المهمَّة افتقر إليها معظم رحالة العرب القدامي ؛ فالفوائد التي تمدنا بها رحلاتهم كثيراً ما اقترنت بشوائب المبالغات والادِّعاءات والأوهام الخرافية .

 

هذا العيب لا أثر له في رحلات الدكتور داهش التي يُعدُّ الصدق والأمانة والدقَّة فيها أولى مزاياها. فإذا أضفت الى ذلك شمولية موضوعاتها، ورحابة آفاقها، وما يتمتع به صاحبها من قيم روحية عليا تمدُّه بالنظرة النافذة الى الأمور، لسوَّغت إحلال سلسلة رحلاته في موقع مميز من أدب الرحلة العالمي .

 

أما هذه الرحلة الثامنة فتمتد على عشرة أيام (من ٢٣ أيلول حتى 3 تشرين الأول ١٩٧٢ ) أمضاها المؤلف متنقلا في ثلاثة بلدان أوروبية هي بلغاريا ورومانيا وبولونيا.

 

ولعل أول ما يسترعي انتباهك من فوائد هذا الكتاب السياحية حرص المؤلف على زيارة المتاحف المهمَّة في كل بلد ، وذكره أبرز ما تمتاز به من محتويات .

 

فقي صوفيا ـ بلغاريا، استهواه «متحف الزوولوجيا» الذي يضم عدداً جدّ كبير من الحيوانات المُحنَّطة، وكذلك المتحف الفني، ومتحف الصناعات البلغارية الذي يضم آلات الطرب المختلفة، والأواني الخزفية، وأدوات الحياكة، وغيرها. .. ولم تفته زيارة بعض الكنائس الأثرية، ومنها كنيسة تحولت الى جامع في العهد العثماني، وكنيسة صوفيا ذات القبة الشامخة الموشاة بالرسوم الرائعة .

 

أما رومانيا، فمما زاره فيها القصر الملكي في مدينة سينايا، وهو يشتمل على قاعات كثيرة مختلفة المعروضات، وبينها قاعة الأسلحة .

 

وأما بولونيا، فقد اجتذب انتباهه فيها، فضلاً عن متاحف الفنون، «متحف النـازي» الذي يعرض صور العنف التي تمثل الجنود النازيين وأعمالهم، عندما اكتسح هتلر بولونيا «بجيوشه ودباباته وطائراته، وسحق الملايين من شبانها كما يحصد الحاصد سنابل القمح بمنجله . »

 

وأمر آخر استوقف المؤلف في هذه الرحلة هو بعض الجوانب الاقتصادية في البلدان الثلاثة. فهو يذكر كثيراً من مصنوعاتها ومنتجاتها الزراعية، ويقارن بين أسعارها وأسعار ما يماثلها في بلدان أخرى؛ كما يقارن بين الأجور التي يتناولها أصحاب بعض المهن فيها، مثل الحلاقين والسائقين . . . أو أجور الفنادق وما يقابلها في بلدان غيرها .

 

كذلك استرعت انتباهه حدائق الحيوان في البلدان الثلاثة، فكان حريصاً على تعداد الأنواع والأصناف التي تضمُّها.

 

لكن أدب الرحلة لدى الدكتور داهش لا تقتصر فائدته على هذه النواحي السياحية أو ما يماثلها، بل يشتمل أيضاً على فوائد كثيرة تتعلق بشخصيَّة المؤلف ونفسيته. فالرحلة عنده تنطوي دائماً على سيرة ذاتية، بل على تجربة نفسية استبطانية؛ الأمر الذي يجعل «رحلاته» معرضاً لا للشعوب وبلدانها وحضاراتها فحسب، بل معرضاً أيضاً لأفكاره وعواطفه، وأحزانه وأفراحه، وآماله وآلامه. فكتب الرحلات من هذه الناحية كنز ثمين لدارسة شخصية المؤلف .

 

ولئن كان عمل العقل الصافي يتمثل في هذه الرحلة بدقَّة الوصف الواقعي لمشاهداته، كما بالإحصاءات وذكر الأسماء والأرقام والمسافات والساعات بل الدقائق بأمانة صارمة، فهو يتجلّى أيضاً بأحكامه النقدية والتقويمية التي يرسلها، كما بالمقارنات التي يجريها سواء على الصعيد الفني أم الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي .

 

أما عمل العاطفة الجياشة الصادقة، فيبرز في نفثاته الوجدانية على أتمِّ صورة. فتارةً تسمعه يناجي الموت مناجاة الحبيب لحبيبه؛ فيه ينشد العزاء، ويرجو الرحمة والسعادة:

 

«تعال أيها الملاك الرحيم وخذني معك .

تعال ولا تكن قاسياً، يا من أتمنَّى قربك .

تعال وضمَّني إليك، وكن صديقي ورفيقي .

تعال واحصد روحي بمنجلك الرهيف! (...)

آه! ما أجمل عالمك، أيها الموت العادل!

وما أسعدني وأنا أتجول في حدائقه الغناء الإلهية!»

(«أيها القلب المتعب»، ۷۲ /٩/٢٦)

 

وطوراً تسمعه يجلجل جلجلة الرعود فوق رؤوس المجرمين الذين تآمروا عليـه واضطهدوه من أجل رسالته الروحية («ثلاثة مجرمين مرتكبين»، .(۷۲/۹/۲۹ .

 

وأناً يتذكَّر من رحلوا من الداهشيين والداهشيَّات ، ويتفطر قلبه لوعة وأسى عليهم تائقاً إلى الاجتماع بهم («ذكريات محزنة»، ۷۲ /۹/۳۰). وأونة يناجي شقيق روحه وجهاده الطبيب النطاسي جورج خبصا، فيعدِّد مناقبه من شهامة، وإباء، وسخاء، وشفقة على البؤساء، وإحسان لهم، كما يذكر المحبَّة الخالصة والثقة العظيمة اللتين كان يمحضه إياهما؛ أو يناجي شهيدة الداهشيَّة الأولى الحمامة الذبيحة ماجدا حداد التي انتحرت بإطلاقها الرصاص على رأسها، علَّ صوت دمائها الصارخ يسمعه الرأي العام اللبناني الأصم، وذلك احتجاجاً منها على تمادي الدولة الغاشمة في اضطهاد من آمنت به وبرسالته السماوية؛ فيرثيها مؤسس الداهشيةَّ ذاكراً إيمانها الراسخ ، ومواقفها الشريفة الصلبة ، وبراءتها الطفولية، وبسمتها الحلوة الدائمة، وصباها الغضّ الذي قصفته المنون :

 

«ذكرت براءتك وكأنك طفل لم يتعدَّ الخامسة . ذكرت بسمتك التي كنت تقابلينني بها،وإذا بالأسى يغمرني . ذكرت تلهفك للقائي، فقلتُ: «تبَّاً لك أيها الردى، ما أصلد فؤادك!»

(«الى الشهيدة الراحلة»، ۷۲ /۱۰/۲).

 

فتتعجب لهذا القلب العظيم المحبّ كيف يجد الموت عطوفاً رحيماً إذا أقبل عليه، وظالماً قاسياً إذا أقبل على من يحبّه من تلاميذه وتلميذاته !

أما عمل الخيال فتلمسه في وصف رؤاه وأحلامه وتخيلاته، سواء انطلاقاً من الواقع الطبيعي أم الواقع الإلهامي ، وإليك مثلين على ذلك : في أثناء تحليق الطائرة به ، يرنو إلى الشحاب والضباب ، فتطالعه صور إثر صور، فيقول :

 

«ها امرأة راقدة ، وقد أغلقت عينيها ، وهي تسند رأسها بيمناها. وها هو السيد المسيح بقامته الفارعة وجسمه النحيل ، وكأنه يخطب للضباب ! وفجأة ارتعشت أسوار مدينة منيعة في هذا الضباب ، فحجبت المدينة وقاطنيها عن العيّان ! وها هي جبال شامخة من هذا الضباب العجيب ، وأودية سحيقة ، وطيور أسطورية ، وحيوانات متعدِّدة تبدو لعينيّ المشدوهتين لما تنظرانه ! »

 

وفي أثناء ذكره تلميذه الحبيب الراحل الدكتور خبصا، تنقله الرؤيا الإلهامية إلى الفردوس الذي يرتع فيه، فيقول :

«هناك وراء المجرات والشدم والعوالم

الموغلة في الأبعاد الدهرية،

وفي العوالم التي لم ترها عين

أو تسمع بها أذن بشرية ،

يوجد فردوس إلهيّ غارقٌ في المُتع والبهجات ،

طيوره أبدية التغريد العجيب ،

وأنهاره سرمدية الخرير الغريب ،

وأشجاره ذات أثمار جنية ،

وأزهاره ووروده ذات ألوان سحرية! . .

(«روح اممرتها الأحزان»، ۷۲ /۱۰/۲)

 

ومن خصائص هذه الرحلة تناوب الرزانة فيها مع الفكاهة والظرف. ومردُّ  ذلك إلى ان المؤلف يُصوِّر لنا مشاهداته وكذلك حياته اليومية تصويرا طبيعياً دقيقاً. فأنت تتبعه دقيقة فدقيقة، منذ يقظته الباكرة حتى نومه المتاخر، في تدوينه الفوري لوقائع يومياته، فكأنك ترافقه في أكله وشربه ولبسه ومخابراته الهاتفية، كما في معاناته من زكامه وألم صدره وتهدُّج نبضات قلبه، كما في تنقلاته ومشاهداته وما تبعثه فيه من مرح وسرور أو حزن وسخط، فتشعر أن الحياة التي ينقلها لك هي الحياة الواقعية حقاً بتنوعها وتناقضها .

 

وبينما أنت تعايشه في خيالك على أرض الواقع اليومي العادي، إذا به ينقلك فجأة إلى عالمه الباطني العجيب الحافل بالرؤى والتأملات في الحياة والموت، والفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم، فيتأكد لك أن نسيج الحياة مزيج من مألوف الأمور وأغربها، وتوافه الأشياء وأعظمها، وأن الإنسان الأديب الحساس المتوهج الضمير لا مناص له من أن يصاب بالحزن والخيبة، بعد أن

يوغل في اعماقه وفي أعماق الحياة نافذاً من القشور إلى اللباب، وذلك مهما أحيط بما يبهج النظر ويمتع الحواس .

 

ولیس نادراً انتقال المؤلف بك فجأة إلى عالم المرح والفكاهة انتقالاً وإعياً؛ ذلك لإدراكه حاجة القارىء «لأن يروح عن نفسه بضع دقائق . فالحياة كلها ألم، ويحتاج المرء أحياناً إلى الترويح عن نفسه بقراءة قطع مرحة كهذه، ولكنها واقعية وليست خيالية . )

 

والطرائف الظريفة المسلية غير قليلة في هذه الرحلة. ومن أمثلتها «الحلاق المجنون» الذي سلم المؤلف رأسه إليه . فقد تتبع بالوصف حركات يديه، وانفعالاته النفسية، وجولة الموسى وصولتها على وجه المؤلف منذرة بالخطر الشديد، ثم تمريغ الحلاق وجهه بالصابون مراراً وتكراراً دونما حاجة، وفركه الشديد المرهق لمساحات وجهه وعينيه، فإعـادة الكرة عليه بحدِّ

الموسى . . حتى أصيب المؤلف بالجراح، وبات همُّه النجاة بنفسه، لكنه كان كلما ظن أن الحلاق فرغ من عمله، يفاجأ بكرَّةٍ جديدة على وجهه! . . .

ومن نوادر المؤلف أيضاً تصويره لـ «مجنون النافذة». فقد شاهده واقفاً نصف جسمه في الفضاء، ونصفه الآخر وسط النافذة ، وبيده تُرابة ومسطرين ؛ فكان يطلي دوائر النافذة الخارجية، ثم يتوارى داخل المنزل . لكن ما إن يحمد المؤلف الله على نجاة هذا المجنون، حتى يعود فيظهر وبيده شيء جديد! . وقد ختم استعراضه الطويل بقضيب حديدي أخرجه من النافذة، وراح يحركه  في مختلف الجهات مهولا به! . . .

 

والأسلوب الساخر يعتمده المؤلف حتى في مواقف سخطه. فاقرأ «ثلاثة مجرمين مرتکبین» (۷۲/۹/۲۹) تدرك أنَّ السخرية مُحبَّبة لديه، تميل نفسه إليها، وينجح بعرض صورها في مختلف المواقف .

 

ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن هذه «الرحلة» تمدُّ القارىء بفوائد كثيرة ، على صغرها. فهي تقدم إليه إيضاحات سياحية جمَّة عن معالم العمـران والحضارة في البلدان الثلاثة، كما عن الروائع الفنيَّة فيها، والمنتجـات الزراعية، والمصنوعات، والأسعار، والأجور، وحدائق الحيوان . . . كذلك فهي تمد القارىء بفوائد كثيرة عن شخصية الدكتور داهش الفذَّة في تواضعه وصدقه، وتعلقه بإخوانه وتلاميذه وتلميذاته، وآلامه وأحزانه، وغربته الروحية ، كما في حبه الظرف والفكاهة، وتمتعه بقدرة روحية خارقة يجد القارىء في الكتاب مثلا عجيباً عليها.

غازي براكس

 

٢٣ أيلول ۱۹۷۲

التأهب للسفر إلى بلغاريا

 

اليوم هو الثالث والعشرون من أيلول لعام ١٩٧٢ ، والساعة الآن الثالثة بعد منتصف الليل،  وقد نهضت في هذه الساعة الباكرة ، لأنّ كان عسيراً للغاية . فالألم الشديد برأسي يلازمني منذ يومين ، إذ أُصبت بالزكام الشديد . وها إني أستقبل فجر هذا اليوم الثالث من زكامي ، وأنا متضايق الضيق كله من هذا الزكام المفاجيء . وفور تهوضي ، رتَّبت حقائبي ، لأنني مزمع السفر برفقة هادي حجار إلى بلغاريا ، فرومانيا ، فبولونيا .

 

لقد غادرت موسكو في صباح 8 أيلول عام ١٩٧٢ ، ونحن اليوم في ٢٣ أيلول . إذاً ، يكون قد مضى خمسة عشر يوماً على وصولي إلى بيروت من ليننغراد وموسكو . واليوم هو اليوم السادس عشر . وسأغادر لبنان في رحلة سياحية إلى بلاد البلغار ورومانيا وبولونيا .

 

الحقائب رُتِّبت مثلما يجب . وإيليا حجَّار وصل إلى منزلي في الساعة الرابعة والنصف . كما أن الأخت أوديت كارا اتَّصلت تلفونياً لتأتي بقصد توديعي ، فأرسلتُ لها إيليا حجَّار ، فأحضرها بسيارته إلى منزلي في تمام الساعة الخامسة صباحاً .

 

لقد طلبتُ ، أمس ، من الإخوة والأخوات أن لا يأتوا كالعادة لوداعي في يوم سفري ، وخصوصاً أن الطائرة ستحلّق في تمام الساعة السادسة والثلث صباحاً .

 

إلى مطار بيروت

 

وصل هادي في الساعة الخامسة إلى منزلي . وفي تمام الساعة الخامسة وعشر دقائق ، غادرنا المنزل بعد أن ودعت الأخت ماري( 1 ) وكريمتها زينا .

 

ورافقني في الذهاب إلى المطار السيدة الكريمة فوت وأنجالها حفظهم الله ، كما رافقني الأخوان الداهشيان شكري وجورج شگور. وقد وصلنا إلى المطار في تمام الساعة الخامسة والثلث صباحاً

وبعد أن أنجزنا معاملات الجوازات والجمرك ـ وكان هادي يقوم بهذا العمل ـ ودَّعت الإخوة والأخوات الذين رافقوني . وهبطنا إلى صالون المطار ، ومنه خرجنا إلى باحة المطار ، واستقلينا الأوتوبيس الذي أوصلنا إلى الطائرة .

صعدت إليها ، وبرفقتي أوديت كارَّا الداهشيَّة ، وهي موظفة بشركة الميدل إيست . وقد عددت درجات السلم الموصل إلى الطائرة ، فإذا هي 19 درجة.

كانت الطائرة فخمة حقاً وبادية النظافة . وفي كل جهة من جهتيها ثلاثة مقاعد ، فيكون في الجانبين ستة مقاعد ، ومجموع ما تستوعبه في الدرجة السياحية مئة مسافر ؛ كما يوجد خمسون مقعداً ، في الدرجة الأولى.

 

وحلقت بنا متجهة إلى صوفيا

في تمام الساعة السادسة والربع ، دوَّت محرِّكات الطائرة ، وارتفع

 

(۱) هي الأديبة والفنانة ماري حداد الداهشية