info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة الثالثة عشرة "

 

 

لم يتسنَّ لي أن أكون رفيق المؤلف في رحلاته ؛ ولكن أُتيح لي أن أكون مودِّعاً له عند ارتحال، أو مستقبلًا عند إياب . كما أتيح لي أن أكون شاهداً لاهتماماته قبيل سفره، ومُستمعاً إليه بُعَيد عودته يقصُّ على زائريه ما يشوِّق من أخبارِ رحلته أو يقرأ عليهم بعض ما جاد به قلمه من سرد أحداث وإطلاق أحكـام وتـدوين أحـاسيس الـوجـدان . ولعمري، فقد كانت كلّها دروساً وعبراً. ولعلَّ العبرة الأبقى والأهم هي أن العمر فرصة قصيرة يحسن أن تُملاْ سعياً إلى المعرفة وعملاً للخير والحقّ . وفي قناعتي أنّ ليس ثمة ما يعوض التعويض التَّام عن مرافقة المؤلّف وملازمته لتبين أهدافه وتتبع نشاطاته وقراءة مشاعره الأولى أمام لوحة فنية اجتذبته، أو منظر طبيعي سحره، أو مشهد من مشاهد الرذيلة أثار استياءه ونقمته . مرد ذلك إلى أننا أمام شخصية مُميَّزة لا يُغني شيء عن معايشتها في شتى أحوالها ونشاطاتها .

 

فالدكتور داهش مُرهف الإحساس، سريع الملاحظة، يصوّر دقائق الأمـور وتفاصيلها. وهو مُتبصّر في شؤون الحياة، عالم بأسرارها، خبير بنفـوس البشـر وغاياتهم . وهو، إلى ذلك، صلب العود، جبَّار العزيمة، بالرغم من السنين الكثيرة والتبعات العظيمة المُلقاة على كاهله. وبالرغم من حنينـه إلى المـوت وشوقه الدائم للرحيل إلى عالم الروح، تراه بعيد المطامح، يقضي أيامه جَدَّا وجهاداً حتى لو كان يوماً واحداً كل ما تبقى له من عمر. فكأن ما يعمله إلى بقاء، وما يزرعه سيكبر مع الزمن . يدأب على السهـر والمطالعة والكتابة مهما أرهقه السير الطويل، ومهما أضنته الآلام الجسديَّة المُبرحة، ومهما قامت بوجهه العوائق . إنه يتعالى عليها لتحقيق ما يبتغيه . والكتاب والقلم من خُلصائه في حلِّه وترحاله .

 

ولئن فاتتني مرافقته في رحلاته، فإن إسهامي بنصيبٍ من العمل الكبير في طبـع كتبـه ونشـرها قد عوَّضني بعض ما فاتني . فالقراءات المتكرِّرة لمخطوطاته هي من مستلزمات ذلك العمل. وكم كنت آنسُ إليها بشغفٍ وشـوقٍ حتى رسخت تعابيره في أعماقِ وجداني، وصرت أشعر أنني في رفقته، أفرح لفرحه، وأحزن لحزنه، وأخشع لخشوعه .

 

وكنتُ أتـزوَّد بتـوجيهـاته، وأستزيد من ذوقه الفنّي الرفيع وهو يختار الصور واللوحات الفنية المناسبة لموضوعات كتبه، بما فيها سلسلة رحلاته . كما أمضيت إلى جانبه أياماً وليالي، فكان يُعيد قراءة مخطوطته، ويتوقف في أكثر من فصل فيها سارداً أمامنا بعض الأحداث المُهمَّة التي قد تكون مثيرة لضحكه، أو لاستيائه. وبعضها كان دروساً وعبراً في شؤون الحياة .

 

وهذه الرحلة الثالثة عشرة هي، في الحقيقة، سفرتان : الأولى إلى كيبك، والثانية إلى فرجينيا. وأغرب ما فيهما الدافع المميَّز لكلٍّ منهما. أشار الدكتور داهش إلى الأول بقوله إنّها «رحلة 3500 كيلومتر لأجل الحصول على تأشيرة سفر.» ويتَّضح من مُجمـل نشـاطـاتـه في سفرته الثانية أنها استهدفت البحث عن الكتب النفيسة وابتياعهـا لضمِّهـا إلى «المكتبـة الداهشيَّة التي أسَّسها رديفاً «للمتحف الداهشي» .

 

تلك التأشيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية سعى الدكتور داهش إليها مُحتملاً المشقَّات، احتراماً منه لقوانين البلاد ونظمها، فكانت سبباً في ولادة كتاب ، فهي التي قادته إلى مونتريال، ومن ثم إلى تورنتو وشلالات نياغرا وبافلو. فإذاه يرود المتاحف الفنية والكنائس والمقابر والأسواق التجارية، فينقل صوراً عنها. فالمنزل المأهول المشيّد من الثلوج المتراكمة أثار استغرابه والزخارف الفنيَّة التي وُشيت بها كنيسة نوتردام في مونتريال أثارت إعجابه، وكنيسة القديس يوسف التي ضمت 600 عصاً للمقعدين الذين شفـاهم الأخ أنـدره ـ كـمـا يزعمـون ـ أجَّجت ثورته على رجـال الإكليروس وأضاليلهم واحتيالاتهم . ومقبرة بافلو التي زارها عام 1969 مع المرحوم الدكتور جورج خبصا، رفيق رحلته الأولى حول العالم، بعثت فيه كامن ذكرياته في مرافقة هذا «الصديق الوفي»، فكتب قطعة وجدانية رفعها إليه، وأسماها: لِتَنسَني يميني إن نسيتُك» .

أما رحلة فرجينيا، فقد حفلت بأسماء المكتبات التي ارتادها، وبأعداد الكتب التي ابتاعهـا منها، وبنشاط الإخوة الداهشيين في تدوين أسماء الكتب المُشتـراة وأثمـانهـا وتـواريخ ابتياعهـا وتنظيمها حسب الحروف الأبجديَّة تمهيداً لإقامة «فهارس منظَّمة للمكتبة الداهشيَّة » وكالعادة، يسعى الدكتور داهش إلى بعض معالم الولاية المهمَّة، الفنيَّة منها في الدرجة الأولى ، فللفنّ هواه الأول ، يسعى إليه، ويشبعه وصفاً وتقييماً. وهو حجّة فيه، وأحكامه الفنيَّة لا غبار عليها، تصلح قدوة للباحثين في الفنِّ، وحكمه على متحف كوركوران بواشنطن ومتحف فاین آرت برتشموند وسام شرف رفيع لهما. وزيارته لمطعم هاوسنر في بلتيمور قد تمَّت لمشاهدة اللوحات والتماثيل والقطع الفنيَّة التي تميَّز بها . أما جسر خليج تشيسابيك فقد اعتبره «أعجوبة الجسور بهندسته الرائعة وبنيانه المُذهل فوق مياه البحر. »

 

وإذا كانت الشفرة الأولى قد طبعتهـا سمـة الفـرحة بالحصول على التأشيرة، فسجّل مشاعره في قطعة وجدانية بعنوان : «وتمَّت الفرحة»، فإن السفرة الثانية ما إن تشارف نهايتها حتى يعكّرها حادث مشؤوم . فقد سقط صندوق كتب على كتف المؤلّف، فتعطَّلت يُمناه، وتسبَّب ذلك له بآلام فادحـة زادت فداحتهـا معاملةً بعض الأطباء الأمريكيين الذين لا يرعون للمواعيد حُرمة، ولا يشعرون بآلام المُعذَّبين . وتنتهي هذه السَّفرة بشاحنة ملأى بكنوز الفكر ونتاج العقول، واكبتها آلام الرجل الفريد الذي يتمنَّى أن تصبح لديه «مكتبة تحوي لا أقلَّ من مليون كتاب . »

 

وينتهي الكتـاب . لكن سؤالاً واحداً يظلّ يبحث عن جواب : أليس حرياً بالدول المتحضِّرة التي تقدّس الحريَّات وتقدِّر الفكر أن تفتح صدورها للنوابغ الأفذاذ الذين يشقّون درباً جديدة للحياة، وأن تشرع لهم الحدود والسدود دون الآخرين؟

 

تُرى ، لو عاد سقراط وغاندي إلى الحياة ثانية، هل كانت تُطلب إليهم تأشيرات سفر، بعد كل ما سجّله التاريخ عنهم من أحداثٍ وعبر؟ إذا كان لا بدَّ من ذلك، فالمُصلحون والعباقرة هم إذاً والأنبياء سواء، كتب عليهم الشقاء والعناء. وهم لا يَحيون ولا يُخلَّدون إلا بعد أن تغيّبهم ظلماتُ القبور.

نيويورك 2 كانون الأول 1991

ماجد مهدي

 

٢٦ شباط ۱۹۷۸

التأهب لرحلتنا إلى فرجينيا

 

غادرت فراشي في السـاعـة الثـانية عشـرة والثلث فجـراً، وكنتُ قد اضطجعت في الحادية عشرة ليلاً؛ لكن نومي كان مُضطرباً. إتجهت إلى المطبخ، فوجدت فوته ورئيفة ناشطتين في إعداد الأطعمة التي سنصطحبها في سفرتنا، فطلبت إليهما أن تضعا في كل سندويش قطعة من الفلفل الحار. وقد ساعدهما إيليا وفارس في عملهما هذا . في الساعة الواحدة إلا خمس دقائق ، عدت لاستكمال مطالعة القرآن ، فقرأت 99 صفحة منه خلال ساعة كاملة .

 

في الساعة الثانية والربع ، أويت إلى فراشي محاولاً الرقاد عبثاً؛ فعدتُ وغادرته، وقصدت المطبخ . فوجدت الجميع نائمين، فأخرجت بطيختين صفراوين صغيرتين وأكلتهما؛ والاثنتان تعادلان نصف بطيخة عادية .

 

في الساعة الثالثة والثلث، عدت لاستتمام مطالعة القرآن ابتداء من الصفحة 307 ، فقرأت منه منه 85 صفحة، ثم لجأت ثانية إلى فراشي .

عندما غادرت مضجعي ، كانت الساعة الثامنة والنصف ، ولكنني كنت ناعساً للغاية، فعدت إلى فراشي . وعندما غادرته مجدداً، كانت الساعة العاشرة إلا عشر دقائق قبل الظهر.

 

وقُرعِ جرس التلفون ؛ فإذا ديانا على الخط تُعلمني بأن رياضاً زوجها قد وضع الزيت في السيارة، وهو في طريقه إلى منزلنا . في السـاعـة الحادية عشرة، وصل رياض، ونزلت فوته من غرفتها، وباشرت مع رئيفة وضع الأطعمة بالعلب .

 

إرتـديت ثيابي، وسألت عن الصُّـْدرة (جرسه) لألبسها، فقالت لي كريمة فوته الكبرى إنها مُبتلة، لأنها غسلتها متأخرة. فسألتها: «لماذا لم تُغسل ليلاً؟» فقالت فوته : «لقد أوصيتها ليلاً بأن تغسلها، ولستُ أدري لماذا لم تفعل!» فأجابت كريمتها: «لقد نسيتُ إذ كنتُ نعسى . » فاستأت للغاية من هذا الإهمال، وقلتُ لفوته : «كان يجب أن لا تُغسل؛ وقد أبلغتك ذلك، فأبيتِ . »

 

وكـانت تصفُّ في العلب ورق العنب المحشي؛ فقلتُ لهـا: «لا أريدها، فلا تضعيها في العلب، بل أبقيها عندك . » وارتديت الصُّدْرة مع أنها كانت مُبتلة قليلاً.

 

في السـاعـة الحـادية عشـرة والربع، وضعنا الحقائب في السيارة، وودعت الجميع وأنا مستاءٌ ممَّا حصل .

 

في طريقنا الطويل إلى فرجينيا

 

في الساعة الحادية عشرة والنصف قبل الظهر، انطلقت بنا السيارة في طريقها إلى فرجينيا بسرعة 110 كيلومترات بالساعة . وقد قطعنا نيوجرسي بمدة ساعتين ونصف .

 

في الثـالثـة إلا ربعاً، كانت السماء تُمطرنا الثلوج، والشمسُ تُرسلُ