info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة التاسعة "

 

بعـد صدور تسعـة مجلَّدات من «الـرحـلات الـداهشيَّة حول الكـرة الأرضية»، يترتَّب السؤال : لماذا يقوم مؤسس الداهشية برحلاته شرقاً وغرباً؟

بين الرحالة من ينشدون المتعة والسّلوى ، ويستزيدون من أفانين اللهو في حواضـر العـالم المـوَّار بالمغريات والشهوات ؛ لكن رجل الظاهرات الروحية العجيبة ليس من هذا المعدن . فحيثما حلَّ، كانت الكآبة رفيقته ، والغربة الروحية حليفته ؛ ذلك بأنَّ ما يبهج نفسه ليس من طينة الأرض، ولا من نزوات اللحم والدم .

 

وبين الرحالة من يقصدون درس الأوضاع الاجتماعية والسياسية وغيرها من مظاهر الحياة والعمران، ليصدروا نتائج ملاحظاتهم وتقصّياتهم في ما يشبه الوثائق والدراسات العلمية؛ لكن الدكتور داهش لم يكن يدفعه مثل هذا المطمح العلميّ، إذ إنَّه يعرف أن مثل هذه الأبحاث جمٌ وافرٌ في هذا العصر المُستنير. ذلك فضلاً عن أن مؤسس الداهشية زودته العناية الإلهية بعين  روحية خارقة تسبر من الأعماق والأسرار ما لا تبلغه عين الإنسان ولا تطاله مختبرات هذا الزمان .

 

لقد كان الدكتور داهش في هاتين الرحلتين إلى فرنسا وإيطاليا ـ كما في أخواتهما السابقات ـ سائحاً غير عادي ، يحييه ولع بالجمال الفني كما بالاستكشاف، وبصيرة نفاذة نقادة، وتشبث بالقيم الروحيَّة العليا يجعل منه نذيراً لأبناء هذا العصر المادي . وهذه العناصر الثلاثة، بتفاعلها مع عناصر البيئـات المختلفة التي كان يحـلُّ فيها، هي التي حبكت نسيج هاتين الرحلتين، ومهرتهما بطابعين من الواقعية الصادقة والوجدانية الشفافة .

،لقد زار الدكتور داهش فرنسا، ولاسيما متاحفها ومعامل الصنائع الفنية فيها تكراراً. أما «اللوفر» العظيم فزيارته له هذه المرة هي الرابعة؛ والأولى كانت عـام 1930، يوم قصـد باريس، وحصـل من أحـد معاهدها Institute Sage دكتوراه في العلوم النفسية.

 

فولـعُ مؤسّس الداهشية بالجمال الفنيّ دفعه إلى سعيٍ دائب لتملِّي روائعـه في المتاحف والمعـارض والقصـور وغيرهـا، وإلى تجميع كنـوز «المتحف الداهشي» العتيد، كما شكَّل خطا متَّصِلا انتظم رحلاته جميعاً . فحيثما حلَّ، اجتذبه وجه الجمال الفني الذي يرى فيه ملمحاً من ملامح الفراديس يلتقطه المُبدعون في كوكب الأرض .

وسعيه للظفـر بالروائع الفنيَّة مَدعاةٌ للعجب . فهو يطلبها، مهما تكبّد من مشقـات، مباشرة من مبدعيها تارة، وطوراً من متاجرها الخاصّة أو من المزادات العلنية التي تقيمها المراكز المشهورة . وإذا غلاله عشرات وربما مئات من اللوحات الـزيتية ولـوحـات «الإستامپ»، أو من تماثيل العاج والخشب والـرخـام، أو غير ذلك من بدائع صنـاعـة الپورسلين والميناء والكرستال والبرونز والكانفا وغيرها .

 

 

 

 

وهـو إذ يزور المتاحف، لا يكتفي بتملي روائعها وذكر مُبدعيها، بل يمـذك أيضـاً بالفـوائد التاريخية ؛ فتعلم مثلا أن قصر فونتنبلو قد دون فيه ناپوليون وثيقـة تنازله عن العرش، وأن في أحد أجنحته سُجن البابا طوال عامين كاملين، إذ احتجـزه الإمبـراطـور فيه لأنه رفض منحه الطلاق من جوزفين، ولم يفرج عنه إلا بعد أن أذعن لمشيئته . كذلك عندما يزور قصر «المـالميزون» الـذي ساكن فيه ناپوليون جوزفين، يصف غرفـه واحـدة واحدة، ويعطينا نبذة عن سيرة الإمبراطورة .

 

وفي البانتيون، مدفن العظماء الفرنسيين، يقف المؤلف عند أضرحة المشاهير من الأدباء كروشو وهيغو وزولا، ويصفها؛ ثم يعطيك من الفوائد التاريخية ما قد يفوت السائح العادي ، كأن يذكر لك أن جان مولان ، رؤساء المقاومة الفرنسية سنة 1943، كان آخر من دفن في البانتيون، وأن زوجـة پ . أ. مارسلان برتلو كانت أول امرأة دفنت فيه، وقد توفيت بعد خمس دقائق من موت زوجهـا عام ١٩٠٧ . كما يفيدنا أن الرجل الملوَّن الـوحيد الذي يضمه الپانتيون مع العظماء هو فيلكس إيبوه، وذلك لفضل بلائه الحسن في مقاومته الاحتلال الألماني، وأن البانتيون يضم 57 عظيماً وستة قلوب .

 

وبين الفـوائـد التي يجنيهـا القـارئ من هذه الرحلة ما يعني السائح الفطين بتحصيله عادة . مثاله أن الدكتور داهش يذكر لك المتاجر الكبرى وما ابتاعه منها، ويصف لك معروضات السوق الكبرى للخضر والفواكه في باريس، مقارناً بين أسعارها وأثمان الأصناف نفسها في لبنان، بلد المؤلف . كما يسمي المناطق والقرى والمدن التي يتنقل بينها، مُسجِّلا المسافات ، وأحياناً كمية الوقود المستهلكة . ،

 

وكان المؤلف يحرص ، من حين إلى آخر، على تحصيل معرفة ما يريده واختاره الشخصي، كان يعدد بنفسه إلى قياس أحد الأعمدة في البانيون، فإذا بمحيطه ستة أمتار و ٤٠ سم ؛ أو يستخلص طول النقق الذي اجتازه بالقطار، في طريقه بين ميلانو وروماء من سرعة القطار والزمن الذي استغرقه لقطع النفق.

 

وترى المؤلف يُشبع رغبتة الاستكشافية بزيارته لا المتاحف والمعارض الفنيَّة فحسب، بل كثيراً من الأمكنة الطريفة ومصادر الصناعات الفنيَّة أيضاً، كالمطعم العجيب في ميلانو الذي زين بكل ما يختص بالبحر وما يأهله، ومصنع اللفاعات، ومصنع «الاليك» الفنّي لصنع الطيور والأسماك والحيوانات من البلَّور، ومتحف الحيوانات المصبَّرة وأمكنة تصبيرها ...

 

ويمدُّ الدكتوراهش القارئ بفوائد سياحية كثيرة يستخلصها من ملاحظته الدقيقة لحياة الشعب الفرنسي وطرق معيشته. فسيارة الأجرة يعسر العثور عليها سريعاً في باريس ؛ والصعود إليها يكون بالترتيب ، فالسابق له حقُّ الأفضلية. واهتمام المواطنين بالمحافظة على هذا النظام كبير. وقد وصف المؤلف كيف أن امرأة فرنسية عرفت سائق سيارة وراكبين فيها خرقوا هذا القانون، ثم أحضرت لهم رجل الشرطة بسرعة، فأعاد العمل بالنظام المفروض. لكنك تعجب مع المؤلف من أن بعض شرطة السَّير بقدر ما هم يحافظون على النظام يجهلون الأمكنة السياحية!

 

كذلك تعـرف أن اللصوصية محترفوها غير قليلين، سواءٌ في شوارع باريس أم في متاجر اللوحات الفنية. ويقدم المؤلف مثلاً عن الناحية الأخيرة مفادها أنه سأل صاحب متجر عن لوحة فنيَّة تمثل «ديانا في الصيد» هل هي نسخة أم أصلية، فأكد له أنها أصلية. فكان ردُّ الدكتور داهش : «بل هي نسخة، والأصلية موجودة في متحف فيرنزه بإيطاليا . » فالتزم البائع الصمت المطبق .

 

ونظراً للاحتيال التجاري المتفشي، ينصح المؤلف السُّيّاح بضرورة مساومة البائعين في الأسعار التي يعرضونها، وبألا يبتاعوا اللوحات الفنية ما لم يكونوا على خبرة واسعة في الفن وأصحابه .

 

وقيمة هذه الرحلة لا تنحصر في فوائدها الفنية والسياحية، بل تتعدّاها إلى إيضـاح جوانب جُلَّى من شخصية المؤلف. فالقارئ يعطى فكرة عن الظاهرات الروحية العجيبة التي اشتهر بها مؤسس الداهشيَّة والتي أهرقت الصحافة العربية فيها من المداد ما لم يهرق في أي موضوع آخر. كما يعلم القارئ أن الغاية من تلك الأعمال الخارقة إنما هي إثبات وجود العالم الروحي الخالد لمن شكك فيه أو كفر. ولذا لا تعجب ممن يحمل مشعل الهداية الروحية إلى العالم الحديث، إذا دخل أحد الملاهي الباريسية، ثم قال : «وما دخولي إليه وإلى سواه من هذه الأمكنة إلا لكي أدون مشاهداتي عمّا وصلت إليه هذه المدنية الفاسدة، مدنية القرن العشرين ـ والعياذ بالله - ولكي يقـرأهـا كل من يرغب فيها. ولا شك بأن الكرة الأرضيَّة ستحلّ بها النقمة الإلهيَّة، بعدما تنطلق الأبالسة ومردة الشياطين عند انطلاق القنابل النووية من عقالها. وهذا أقل ما تستحقّه هذه البشرية . » إنّها كلمات رجل خارق وقف من العصر وقفة شاهد عياني وأطلق فيه صيحة النذير المؤدب .

 

ومن ملامح شخصية المؤلف التي تُستفادُ من هذه الرحلة، و الفلذات الـوجـدانية التي توضّحها شعراً منثوراً، من حين إلى آخر، حسُّ بعجائب الله في خلقه الذي يدفعه إلى تمجيد بارئ الأكوان حيال مشاهد الروعة والعظمة في الطبيعة، وضراعته لله في كل موقف حرج ، وسخطه على من يدَّعـون تمثيل الـدين وفي الوقت نفسه يخرقون تعاليمه، وحنينه إلى الموت للعودة إلى وطنه الروحي .

كذلك يقف القارئ على جوانب من عادات المؤلف وطباعه وهواياته . فمن عاداتـه أنـه قليل الـرقاد؛ فإن طلب بعض النّوم، فلينسى فيه همومه ويدفن غـمـومـه، وليطل من نوافذه العجيبة على عرائس أحلامه في جنان النعيم . وهـو باكر اليقظة؛ مذ يفتح عينيه، يكبُّ على الكتابة والمطالعة، فيدوّن وقائع يومياته بدقَّة وأمانة، ويقرأ جميع الصحف العربية التي تتهيأ له في البلد الذي يحل فيه .

 

ومن طباعه أن أحداث الحياة العادية التي قد تقع له، كانكسار ساعد نظارتيه تكـراراً مثـلاً، لا يقف منهـا موقف المتشائم، بل يراها طبيعية في مجرى الحياة العادي .

 

ومن هواياته المُساجَعة ؛ فهو ميَّالٌ إليها، يمارسها مع مقرَّبيه وأنصاره , ومن نفثاته الوجدانية المترقرقة في ثنايا هذا الكتاب تتحصل شهادة منه على بؤس حياتـه في حداثته، إذ كان الإمـلاق رفيقـه؛ كمـا يتهيأ بعض التفاصيل عن حياة والدته وطباعها، وعن اضطهاده من قبل الحكم اللبناني الغاشم في الأربعينات .

 

أخيراً لا بد للقارئ من أن يستهويه أسلوب المؤلف بسهولته وسلاسته ، ووصفه الواقعي الدقيق الذي تشيلُ به أحياناً أجنحة الخيال، فيتنسم القارئ عبـره نفحات من الوجدانيات تهبُّ عليه كما النسائم المُعطّرةُ الأردان، أو تستوقفه في مسيرة الجدِّ طرائف تنتزع الضحكة من فمه عالية .

 

غازي براكس

نيويورك، في 1991

 

 

9 تشرين الثاني 1973

الإخوة والأخوات يهرعون لتوديعي

 

اليوم هو التاسع من شهر تشرين الثاني ، وأنا مزمع على السفر فيه إلى باريس، وبرفقتي إيليا حجَّار الداهشيّ . وها قد مضى علي سنة كاملة وستة وثلاثون يوماً منذ قيامي برحلتي الأخيرة في سياق رحلاتي حول العالم . لقد نهضت في الساعة الرابعة والنصف بعد منتصف الليل، وابتدأتُ أجهز الأشياء التي تلزمني في سفرتي هذه إلى باريس، وربما إلى غيرها من البلدان الأوروبية، وبقيت مُنهمكاً بترتيب ما سأحمله معي حتى الساعة السابعة صباحاً.

 

ساعتذاك، ابتدأ الإخوة والأخوات بالقدوم لتوديعي . وما وافت الساعة الحادية عشرة والنصف حتى بلغ عددهم واحداً وخمسين أخاً وأختاً. وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، ودَّعتهم ورجوت منهم أن لا يرافقوني إلى المطار؛ فنزلوا على إرادتي .

 

إلى مطار بيروت

 

استقليت سيارة الأخ فريد فرنسيس، ورافقني كل من شقيقتي أنتوانت وكريمتها ليلى ؛ كما واكبتنا بضع سيارات تقل عدداً من الإخوة الذين أصرُّوا