info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة التاسعة عشرة "

 

يضم هذا الكتاب بين دفتيه وقائع رحلة قامَ بها المؤلّف في ربيع عام ۱۹۸۲، وقادته يوم ٢٧ آذار من نيويورك إلى لندن، ومنها إلى إيطاليا حيث زار فينيسيا وفلورنسا وميلانو وپيزا وروما. ومن العاصمة الإيطالية انتقلَ إلى باريس. وبعد أن أمضى زهاء شهر في مدينة النور، قفل عائداً إلى نيويورك يوم 16 حزيران .

 

وصاحب الرحلة، الدكتور داهش، رجلٌ لا يعرف السكون والاستراحة والاستقرار. فهو في حركة دائمة، كأنَّما في داخله نار الحيوية التي لا تنام . وقد أولع بالأسفار منذ حداثة سنه، بل يمكن القول إنه على سفرٍ دائم وإذا حلَّ بمدينة، طافها سيراً متواصلاً على الأقدام ساعات كثيرة يومياً، دون كلال أو ملال. وطالما أتعب مرافقيه دون أن يتعب . وقد «يستهلك» في مشوار واحد أكثر من مرافقين اثنين يتناوبان على مرافقته . فهو يحبُّ أن يرى كل شيء، ويعرف كلّ شيء. وقبل هذه الرحلة قام بعشرات الأسفار زار خلالها معظم بقاع الكرة الأرضية.

 

وبالإضافة إلى ذلك، فهو صاحبُ رسالةٍ روحيَّة جعلت من حبِّ الفنّ، كمـا من حبِّ المعرفة، قيمة من قيمها الأساسيَّة. وهذا ما تجلَّى في تأسيسه المكتبة الداهشيَّة، والمتحف الداهشيّ الذي يضمُّ مجموعةً من الروائع .

ولئن قال الإمامُ عليّ : «مَنهومان لا يَشبعان : طالبُ علم، وطالبُ مال»، فقد أضاف الدكتور داهش إلى هذا القول، قاصداً نفسه : «وطالب فن . »

وبالفعل، فمؤسِّس الداهشيَّة مولعٌ ولعاً عجيباً، منذ نعومة أظفاره ، بالفنون الجميلة عامَّةً، وبفنِّ الرسم خاصّة، ولعاً جعله من جهة يزور معظم متاحف العالم في الشرق والغرب، ويصرف من جهة أخرى قسماً عظيماً من وقته وماله في اقتناء اللوحات والتحف الفنيَّة. وقد كان منزله في بيروت أشبه بالمُتحف .

كما دأب منذ مطلع شبابه على تزيين مؤلَّفاته الأدبيَّة ـ وكان يُصرُّ على إخـراجها إخراجاً أنيقاً وطباعتها طباعة فاخرة ـ باللوحات والرسوم الفنيّة ؛ ومنها ما كان يوحي به إلى الفنانين، فينشئونه خصيصاً لكتبه . ولم يقطعه عن ذلك الاضطهاد العنيف الذي نزل به في لبنان، في عهد رئيس الجمهورية السابق بشاره الخوري . ،

 

فمع أنَّه اضـطرَّ طوال سنوات طويلة إلى الاستتار تيسيراً لردِّ حملة الطغيان عليه، فقد كان يراسل عدداً من الفنانين العرب والأوربيين والأميركيين طالباً منهم إنشاء لوحات فنيَّة تتناسب مع موضوعات كتبه .

 

وقد نجح في زرع حُبِّ الفنّ في نفوس الداهشيين. وقلَّما تجد منزلاً داهشياً خالية جدرانه من اللوحات، وخالية غرفه من خزائن الكتب .

 

فهذه الرحلة يمكن القول إنها كانت رحلة فنيَّة. إحدى غاياتها المهمَّة البحث عن الكنوز الفنيَّة من لوحاتٍ وتماثيلٍ وطرائف ، واقتناؤها بقصد إغناء المتحف الـداهشي . لذا، فالمؤلّف سيرتـاد، في المدن التي يزورهـا، المؤسَّسات المختصَّة ببيع اللوحات كمؤسستي كريستي وساذبي في لندن ، وأوتـل دروو في باريس، إضـافـة إلى الغـاليريهـات والمتاجر والأسواق المختصَّة، ومنهـا معامل الزجاج المُصنَّع فنيَّاً في مدن إيطاليا، ومشاغل مدينة كرارا الإيطالية الشهيرة بنحاتيها الذين يصنعون من رخامها أجمل التماثيل .

 

ويمكن القول إن الرحلة قد استوفت غرضها، إذ عاد السندباد إلى نيويورك وسُفُنُه ملأى بشتَّى أنواع التحف والطرائف واللوحات والتماثيل مما يقدَّر ثمنه بمئاتِ الآلاف من الدولارات .

 

وكـمـا ذكـرنا، فالمؤلف، هذه المرة، لم يقصـد المدن التي زارها للسياحة والفرجة فقط. فهو، من جهة، في الثالثة والسبعين من عمره، كثير الأوجـاع والآلام، مريض بروماتزم المفاصل، ومُصابٌ بانزلاقٍ غضروفيٍّ وبـانـحـرافٍ عظميٍّ في السلسلة الفقرية وبتـأكـل العـظام، تؤذيه أدنى الصّـدمات، وترهقه التنقلات، ويصيبه السير بالإعياء الشديد، فيستعين على سيره بالعصا. وهو، من جهة أخرى ، قد رأى هذه البلدان مراراً عديدة من قبل، وزار معالمها وآثارها ومتاحفها ومقابرها وملاهيها وحدائق الحيوان فيها، وتعـرَّف على عاداتِ أهلهـا وتقاليدهم، وتفرَّس في وجوه رجالها ونسـائـهـا. وكتب عنها ملاحظاً ناقداً، راضياً أو غاضباً، مقارناً، متندراً، ساخراً أو معجباً.

 

من هنا خلا كتابه هذا، أو كاد، مما نجده لدى السائح الذي تطأُ قدماه للمرة الأولى بلداً من البلدان من تصوير المعالم البارزة، ووصف غرائب المشاهدات، وذكر المميِّزات الجغرافيَّة والبشريَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة ، وإبـداء الرأي، وإطلاق الحكم، وعقد المقارنات، وتسجيل المواقف . وجـاء الكتـاب أقرب إلى المذكرات التي تحصي تفاصيل الحياة اليومية الخاصَّة منه إلى أدب الرحلات ؛ بل هو أشبه بـ«الأجندة» التي تدون فيها الأحداث مُختصرة مرتبة على جدول الساعات : مواعيد النهوض، فتناول الطعام، فالخروج من الفندق، فذكر المتاجر المقصودة وعناوينها، فالعودة إلى الفندق، فالمخابرات الهاتفية، فموعد الطعام ونوعه، ثم الرقاد. كل ذلك مُستهلاًّ بذكرِ الساعة والدقيقة، ومختوماً بذكر الساعة والدقيقة .

 

مفـكِّـرةٌ ذاتُ طابـع تسجيليٍّ تُحصي كل شيء عدداً: الأوقـات والمسـافـات والكميّات والمقـادير والفواتير والأثمان والمصروفات، وعدد القاعات في المتاحف، وعدد اللوحات في القاعات ، بل عدد الدرجات في السلالم، وعـدد الجرائد المقروءة والمخابرات، بل أعداد الدقائق التي تستغرقها المخابرة أو قراءة الصحيفة .

 

فالكتـاب ، باختصـار، وثيقة تفيدنا في التعرف على حياة المؤلِّف اليوميَّة، وعلى شخصيتـه وعـاداتـه ومطالعاته واهتماماته وهمومه ومشاعره وأصحابه والمُحيطين به ومرافقيه والمتَّصلين به. وهذه قيمتُه الاولى : قيمة وثائقية .

لقد تناوب على مرافقته في هذه الرحلة عدد من الإخوةِ الداهشيين . وهو، في خلالها، سيبقى على اتصالٍ هاتفيٍ دائم بعددٍ من المتواجدين في بيروت أو السعودية أو أمريكا أو غيرها. فهو قطبُ الرَّحى اهتمامات الداهشيين . وحيثما كان ، كان بينهم، وتوجهت إليه أنظارهم وأفئدتهم، كما يعبِّر عن ذلك ببساطة : «اتَّصلوا بي ، واتصلتُ بهم»؛ فهو دينُهم، وهم دنياه .

 

وكما يعلم كثيرون، فإن مؤسِّس الداهشيَّة رجلُ مرحٍ ، صاحب دعابة ومزاح، على الرغم من المعاناة والآلام التي تعرَّض لها منذ طفولته، والتي تركت السُّوَيداء والتشاؤم في كتاباته وفي نَظَراته . وطالما طفحتْ مجَالسُه، في حلِّه وترحاله، بالحبور والمَرَح .

إلا أنَّه سترافقه في هذه الرحلة غيمة من الكدر والشجن بادية الأثر في بعض المقطوعات الأدبيَّة التي كتبها في أثناء سفره، والتي تستيقظ فيها ذكـرى خيبـةٍ ماضية، وتجـارب مريرة علَّمته، في حينه، أن يحذرَ البشر قاطبة، وألاَّ يثقَ بإنسانٍ، وأن يعتزلَ الناسَ جميعاً .

 

د. ملحم شکر

باریس، ۱ آب 1991

 

۲۷ آذار۱۹۸۲

يقظة يشوبها ألم رهيب

 

في السـاعـة السابعة إلاَّ ربعاً صباحاً غادرت فراشي في شقَّةٍ جميلة بنيويورك وأنا مرهقٌ للغاية، لأنَّني لم أستطع النوم إطلاقاً. لهذا نهضت وأناـ بادي التعب، منهوكُ الأعصاب، يساورني النعاسُ، ولا قدرة لي على ولوج في عالمه البهي .

 

أما السببُ فهـو الأوجاعُ المُبرحة التي ما زالت تستبدُّ بي منذ ثلاثة أعـوام . فأنـا ُمبتلَّى بروماتزم المفاصل الهائل الآلام، وبانزلاقٍ غضروفيٍ وانحرافِ عظمةٍ من سلسلتي الفقريَّة إلى الأسفل. فهذه البلايا المُجتمعة نغَّصت عيشي ، وأحالت هنائي إلى شقاء، وحرمتني لذَّة النوم .

 

اللوحاتُ الزيتيَّة حلمي الدائم

اليوم شمسه جميلة، بعكس يوم أمس الغائم والشديد البرودة . بتاریخ ۲۸ كانون الثاني ١٩٨٢ استقلّيت طائرة الكونكورد السريعة من باريس بعد أن مكثتُ فيها ثلاثة أشهر، فانطلقت بي إلى نيويورك بالغة إيَّاها بخلال ثلاث ساعات وربع . واليوم تاريخه ۲۷ آذار ١٩٨٢ . إذا لقد استمر وجودي في أمريكا، منذ وصولي إليها، 58 يوماً تماماً .

 

واليوم سأذهب بالكـونكورد إلى لندن، بقصد ابتياع بعض اللوحات الزيتيَّة من مؤسستي «ساذبي وكريستي» الشهيرتين . وفي زيارتي الأخيرة لبـاريس، كنتُ أرود، كلَّ يوم«أوتـل دروو»، وهـو يـمـاثـل «سـاذبي ، وكريستي»، لابتياع اللوحات بالمزاد العلنيّ. وقد ابتعتُ في ذَينك الشهرَين ٨٠ لوحة بلغ ثمنها 300 ألف دولار ونيفاً.

 

سنلتقي في لندن

في سفرتي الحالية هذه إلى لندن وإيطاليا، لم آخذ معي سوى 6000 دولار و ١٢٠٠ جنيه إسترليني . إنه مبلغ تافه لا يستطيع أن يبتاع لوحة واحـدة. لكن صديقي وأخي جوزف شكُّـور يحمـل معه 60 ألف دولار مخصَّصة لابتياع تماثيل ولوحاتٍ فنيَّة .

 

وجـوزف سيوافيني من مدينـة الـرياض في السعـودية إلى لندن، إذ اتصلت به هاتفيًا أمس ، واتفقنا على أن نلتقي غداً في لندن . وهو سيصل قبلنا بثلاث ساعات، إذ سنصل أنا ورفيقي إلى لندن في الثامنة ليلاً.

 

إلى مطار كندي في نيويورك

 

بتمـام السـاعـة التاسعة والنصف غادرنا شقَّة الأخ العزيز (م) الذي استضافنا فيها الليلة الفائتة . واستقلينا سيارته «الستايشن» أنا والعزيز المخلص (ر)، فتوجَّه بنا إلى مطار كندي في نيويورك.

وصلنا إلى المطار في الساعة العاشرة تماماً. وإذا بي أشاهد الأخ